رواية هواها محرم الفصل الخامس و العشرون 25 - بقلم آية العربي
بسم الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِكَ وكُن مِنَ السَاجِدِينْ واِعْبُد رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينْ .
اللهم إنا نستودعك أهل غزة وكل فلسطين ، اللهم
كن لهم عونا اللهم إنا لا نملك لغزة وفلسطين إلا الدعاء
الفصل الخامس والعشرون من ( هواها محرمٌ )
( ثري العشق والقسوة 2)
أمرًا ممتعًا أن تحب وتجد من يحبك ويحب هدوءك وعقلانيتك وقهوتك وردود أفعالك الرزينة
ولكن ماذا إن حَظيت بحب إنسان قرر أن يصارع من أجلك!
إنسانًا مخلتفًا كليًا عنك ولكنه أحب عيوبك وسعى ليجملها وقرر المضي قدمًا في دربٍ ممتلئًا بالأشواكِ ليصل إليك وينقذك؟
هل يستوي الذين يصارعون والذين هم فقط يحبون ؟
بقلم آية العربي
❈-❈-❈
ليت كل الحروب تنتهي
ليت كل الصعاب تمر وكل الأحلام تتحقق وليتنا نسكن في عالمٍ سويٍ آمن
لا سواد فيه ولا قسوة
ليتنا حين نتألم فقط نغمض أعيننا فيزول الألم
ليتنا حين تضيق صدورنا نملس عليها بكفوفنا فتتسع وتنشرح
ليتنا حين تنزف قلوبنا دمًا نسرع بتضميدها فتشفى
ولكنها تظل هذه دنيا ويظل سبيل الوصول إلى الجنة شاقًا والسير فيه للأكثر يقينًا بأنه يستحق .
تنام متكورةً على نفسها في هذا السرير الذي هو أحن عليها من قلوبٍ اتشحت بالسواد .
تحمي جسدها بذراعيها فقط ولا يوجد أي حماية هنا غيرهما .
تغمض عينيها وتنام ولكن عقلها يأبى النوم لحظة ، فصوص مخها تعمل بضراوة خشيةً من النوم وعدم الأمان .
لذا حينما طُرق الباب انتفضت بفزع جاحظة عينيها تنظر حولها كأنه هجم عليها ، ثوانٍ فقط جلست على السرير تتلفت حولها كما لو كانت دجاجة تنتظر نحرها من قبل من رباها وأطعمها .
لم يهدأ قلبها ولكن هدأت أفكارها بعدما ارتخت وتذكرت أين هي لذا وضعت وجهها بين كفيها تتمتم بهمس :
– استغفر الله العظيم وأتوب إليه ، استغفر الله العظيم وأتوب إليه .
عادت الطرقات فنهضت بخطى متعثرة ثم تحركت نحو الخارج ووقفت خلف الباب تنحني برأسها في توجس وتساءلت بريبة وقلبٍ يعنف نبضاته :
– مين ؟
– أنا يا مدام أميرة ، محمد باشا قلنا نطمن عليكي دايمًا ونشوفك لو محتاجة أي حاجة ، ماتقلقيش إحنا حواليكي هنا .
أطلقت زفرة قوية كانت تخشى الخروج ولكنها اطمأنت قليلًا وتحدثت بامتنان وهدوء لا يعرف طريقه إلى قلبها :
– لا شكرًا ، أنا تمام ، بس ماتبعدوش .
كأنها تود التمسك بهم كي لا يبتعدوا وهم بالأساس لن يبتعدوا لذا تحدث الحارس مطمئنًا بنبرة لينة بعدما استشعر خوفها ووهن صوتها :
– اطمني خالص إحنا هنا لحمايتك ومافيش أي مخلوق هيقدر يقرب منك .
وضعت كفها على قلبها كأنها أرادت أن تبث فيه الطمأنينة بينما ابتعد الحارس وتحركت وعيناها تنظر نحو الهاتف الموضوع على الطاولة .
وصلت إليه وانتشلته ثم اعتدلت وأكملت طريقها نحو الغرفة وجلست على طرف الفراش تعبث بالهاتف الذي وضع صقر عليه برنامج حماية عالي الجودة .
لاحظت وجود اسمين فقط وهما نارة ومحمد لذا زفرت بامتنان لذلك الرجل الذي خطط ونفذ وصدق وعده معها .
وضعته على الفراش ونهضت نحو الحمام لتتوضأ وتصلي ثم ستجلس تقرأ بعض السور من خلال الهاتف ليطمئن قلبها بذكر الله وليمر هذا الوقت البطيء جدًا عليها .
❈-❈-❈
أحيانًا نسمع جيدًا ما يقال ولكننا إما أن نتجاهله عمدًا أو أن يرفض عقلنا سماعه وإدراكه رفضًا باتًا .
لذا حينما نطق صقر آخر كلامه لم يحرك عمر ساكنًا بل ظل فقط يحدق به لثوانٍ مرت كالدهر .
حقًا لا يستوعب ما يقوله صقر ، وكذلك هذه التي تجاوره وكان رد فعلها مطابقًا تمامًا لرد فعله ولكنها خرجت من بلاهتها أسرع منه وتساءلت بعيون محدقة :
– إيه الجنان ده ؟ ، إنت بتقول إيه ؟
سليطة اللسان ولسانها يحتاج للبرد ولكنه يقدر حالتها جيدًا حتى هو أيضًا يشعر بثقل في لسانه ولكنه مجبر على الإكمال لذا نظر لها بثقب وعاد يكرر حديثه :
– بقول إن عمر يكون ابن سمير العدلي ، وابن عم نارة الحقيقي .
هب واقفًا ، إلى هنا وكفى فلم يعد العقل يسمح بالمزيد لذا باغت صقر بنظرة تحذيرية ونطق باندفاع أهوج لا يمت له بصلة ولا يعلم سبب ظهوره :
– إيه الكلام البايخ ده ؟ ، إنت هتهزر يا صقر ، كل ده علشان مسألة البنت اللي اسمها إيمان يعني ؟ ، يا أخي مش للدرجادي إنتوا شايفينني غبي قدامكوا ؟ .
التفت صقر ينظر إلى نارة ليمتص منها الهدوء والتروي فطالعته بعيون ملتمعة وهزت كتفيها بقلة حيلة حالها كحال آسيا تمامًا لذا نهض صقر وخطى يقف أمام عمر ليصبحا في مواجهة بعضهما وتحدث وعيناه في عيني عمر التي أصبحتا ككرتين تطفو حائرتين بين أمواج الخوف والترقب :
– الموضوع مالوش علاقة باللي حصل مع البنت دي ، أنا كنت براقب وكالة العدلي من فترة وهناك الراجل اللي تبعي لاحظ حاجة غريبة من ست على أد حالها بس كانت بتراقب وبتتصنت على سمير العدلي وإنت عارف إن عيني عليه علشان كدة قلت لازم أعرف فيه إيه بينها وبين سمير ، روحت للست دي بيتها بس هي أول ما شافتني وسألتها عن سمير العدلي قالت حاجة غريبة أوي .
تهاوى قلب عمر ، يبحث عنه في سائر جسده ولكنه اختفى ، ليقف يطالع صقر بعقلٍ يأبى استكمال تلك القصة ولكنه أيضًا مقيدًا بسلاسل الصدمة لذا تنهد صقر وتابع بنبرة هادئة مبطنة بالحزن على حال هذا الشاب :
– قالت هو عرف حاجة عن ابني ؟ .
وقف مذهولًا بجسدٍ متصلبٍ بعدما بدأت تعمل لديه مراكز الإحساس والاستشعار وهنا تساءل ولسان حاله يردد ( سيدة مسكينة تراقب سمير العدلي ورأت صقر فقالت ابني ) هل هذه والدته ؟
وأخيرًا نطق عمر بنبرة مستنكرة مبطنة بالرجاء وجسده على وشك الانهيار :
– يعني إيه ؟ الكلام ده مستحيل يكون حقيقي ، إنتوا بتعملوا كدة علشان خاطر مايا صح ؟
التفت إلى مايا واسترسل بنبرة متعثرة يغلفها الرجاء :
– إنتِ يابنت الناس معندكيش ثقة فيا ؟ ، قلتلك إيمان دي ماليش أي علاقة بيها ، قوللهم بقى مالوش لزوم كل ده .
هزت رأسها مراتٍ متتالية وخطت نحوه تتمسك بكفه بقوة ونظرت إلى صقر شزرًا وتحدثت بهجوم عنيف لأجل سلامة حبيبها وسلامة قلبه وروحه :
– أيوة أنا واثقة في عمر جدًا ، والبنت دي هي اللي بتألف وعمر ساعدها والموضوع انتهى ومحدش ليه دعوة .
تطلع صقر إليها بعمق وبرغم تهور كلماتها في حقه وهو لم يسمح بذلك من قبل إلا أن تشبثها بعمر أسعده وأراحه قليلًا لذا تجاهلها وعاد ينظر إلى عمر قائلًا بتروٍ :
– عمر خلينا نقعد ونتكلم ، أنا مش جاي هنا علشان أألف حكاية عبيطة زي دي ، أنا في حقيقة تقيلة عرفتها من أيام وكنت شايلها ومستني الوقت المناسب علشان أحكيها ، اقعد واسمعني للآخر .
ابتلع عمر لعابه بحسرة فملامح صقر ونبرته تؤكد له أنه لا يكذب وأن كل ما قاله جزءًا من حقيقة مُرّة بل سامة .
تجهمت ملامح مايا وتركت يد عمر وتحدثت معنفة باندفاع :
– حقيقة إيه وبتاع إيه ؟ ، اللي إنت بتقوله ده مستحيل يحصل ، عمر مستحيل يكون ابن الراجل ده أو أخو البنت دي ، أكيد بيكدبوا عليك .
لم يعد يحتمل صقر تهورها في الحديث لذا تحدث بملامح صارمة يشير بإصبعه على الأريكة :
– لما الرجالة يتكلموا يبقى الصغيرين يسكتوا ، اقعدي مكانك .
كادت أن تفتح فمها تعترض فتابع بصرامة أقوى :
– اقعدي يا مايا .
نظرت نحو عمر فوجدته يترك يدها ويومئ لها أن تطيعه ففعلت بغيظ برغم صدمتها مما يحدث بينما عاد عمر يطالع صقر متسائلًا بعدما مسح على وجهه واعتصر عيناه كي يحصل على القليل من التركيز :
– كمل يا صقر سامعك .
زفر صقر واستغفر سرًا ثم بدأ يسرد ما قالته له تلك السيدة وعمر يستمع له بحالة من الضياع والتشتت و … عدم الاستيعاب .
❈-❈-❈
غفت بين يديه وهو يتابع التلفاز ولم يلاحظ نومها إلا حينما تدلى ذراعها وسقطت واحدة من حبات الفشار من بين إصبعيها .
مد يده يلتقط ذراعها ويعيده لمكانه وهو يحتضنها كطفلته ثم انحنى يقبل جبينها شاعرًا بهيمنته التي يريدها دومًا قائمة .
تمسك بجهاز التحكم وبات يقلب القنوات بترقب إلى أن رأى مجددًا قناة تعرض الرقص الشرقي لذا حدق بها بتعمن وتباطأت أنفاسه ليزفر بعدها متمتمًا باستمتاع وعينه لا تفارق تلك التمايلات :
– أوه ، نامي شهيتي نومًا هنيئًا .
ظل يتابع الحركات بدقة وانبهار وعقله ينسج خيالاتٍ وقحة باتت جزء لا يتجزأ منه ، لما لا ترقص له خديجة بهذه الطريقة بدلًا عن هذه الشاشة التي لا تسمن ولا تغني جوعه ؟
شعر بمشاعر ثائرة تجتاحه وبات ينظر للتلفاز تارة ولخديجة تارة أخرى ليرسم عقله هيأتها وهي تتمايل أمامه .
يريدها أن تستيقظ ويكملان سهرتهما في الأعلى وهي ترقص له ولكن الجزء الحنون داخله يحثه على تركها تنام بأريحية .
أجفل حينما رن هاتفها ليسرع في التقاطه قبل أن يوقظها وأغلق صوته ثم نظر للمتصل فوجدها حماته الحنونة لذا زفر بارتياح والتقط جهاز التحكم يغلق التلفاز وأجابها بصوتٍ خافتٍ ونبرة مرحة لينة :
– هماتي الجميلة ، آملة إيه ؟
تعجبت من رده هو بدلًا عن ابنتها ولكنها أجابته بنبرة حنونة :
– الحمد لله يا حبيبي ، خديجة نايمة ولا إيه ؟ ، أنا قلت أطمن على رجلها .
تحمحم بخفة وتحدث وهو يضع الهاتف بين صدغه وكتفه وحرر يده لتتحسس ساقها من حول الجرح بلمساتٍ ناعمة حنونة :
– تمام تمام ، آلجتهالها ماتقلقيش يا هماتي .
زفرت بارتياح وتحدثت بحرج :
– طيب يا حبيبي سلم عليها .
قبل أن تغلق أسرع يناديها بترقب ويردف بحروف منكسرة :
– هماتي استني ، آيز أسألك أن هاجة .
– حاجة إيه يا خالد ؟
تساءلت فنظر لهذه النائمة وفاجأها بسؤال جرئ يشبه شخصيته العبثية وقال بنبرة هامسة :
– هي خديجة بتأرف ترقص ؟
صدمت نسرين من سؤاله المفاجئ وتجمدت لثوانٍ بحرج حتى أن وجهها تشبح بالحُمرة خاصةً وأن بهجت يجلس أمامها منتظرًا أن تطمئنه على ابنته لذا تحدثت بتلعثم :
– يـ يعني ، اسألها يا خالد .
زفر بإحباط وأومأ يتحدث :
– تمام ، مئا السلامة .
أغلق ووضع الهاتف ثم عاد ينظر لها ولسان عقله يردد ( هل تجيد الرقص ؟ ) إن كان الجواب نعم فهو يريد أن يفاجئها بشيءٍ ما ، وإن كان الجواب لا فلتتعلم إذا كما تسعى أن يتعلم ما تريده .
زفر بقوة وتبدلت دفة أفكاره حيث عاد يتذكر حديثها عن الصلاة والعبادة وانتظامها بهما ، يتعجب من دقتها في ذلك وبداخله يتساءل هل يمكن أن يصبح يومًا كما تريد ؟ ، من المؤكد أنه حينها سيرى حبًا بقدرٍ أكبر في عينيها فلم لا يحاول ؟
إلى هنا وكفى وهكذا أخبره الجزء الأسود داخله يحثه على عدم الغوص في أفكارٍ متراكمة ثقيلة عليه لذا قرر النهوض وحملها بين يديه فتململت وواربت عينيها تتطلع حولها ثم عادت إليه وتعلقت به متسائلة بنعاس :
– خالد إحنا إمتى دلوقتي ؟
ابتسم عليها وانحنى يداعب أنفها بأنفه وهو يخطو بها نحو الأعلى متحدثًا بخفوت وعتاب :
– قاربنا على منتصف الليل يا شهية ، أي مازلنا باكرًا وأنتِ تتركيني وتنامين .
عادت تغفو وتستكين برأسها على صدره وتتمتم بهمس :
– مش عارفة عايزة أنــــام .
التعمت عيناه على لطافتها وتساءل مجددًا بترقب وحماس وهو يقرب رأسه منها وقد صعد الدرج :
– خديجة هل تجيدين الرقص الشرقي ؟
لم تجبه بل غفت مجددًا ليتأفأف كالأطفال ويخطو نحو غرفتهما يمددها بحنانٍ على السرير ثم اعتدل ينزع قميصه الخفيف وعاد يتمدد جوارها ثم سحبها إليه يعانقها وانحنى يقبل شفتيها ليثار على الفور ما إن لامسها لذا عاد يتمتم بحنق :
– خديجة هل يمكن أن تستيقظي ؟
انكمشت ملامحها بانزعاج وتمتمت بهمس وهي تحاول التململ من بين يديه العابثتين :
– خالد بس بقى ، يالا نام .
لم يكن يومًا مستسلمًا لذا تحدث بنبرة مترجية بينما يده تستمر في العبث :
– هيا خديجة ، ألم تشتاقي لي ؟
زفرت وفتحت عيناها تطالعه بنعاس لا تعلم سببه فابتسم وأسرع يقتنص شفتيها في قبلةٍ قادرةٍ على تفتيت نومها وإغراقها وسط بحرٍ من المشاعر الممتعة ، وهل لها ألا تستمتع ! .
❈-❈-❈
أخبره صقر بمَ في جبعته ، سرد كل ما قالته له تلك السيدة .
انتهى ووقف يطالع عمر الذي شعر كأنما الأرض تميد به بسرعة قاسية لم يتحملها عقله .
أمه تراقبه طوال تلك السنوات خفيةً بعدما ألقت به أمام دار الأيتام .
أمه الجبانة تعرفه ولم تفكر يومًا في الظهور أمامه ؟
والدته أنجبته وتخلت عنه ولم ترضعه بل تركته للحليب الصناعي ويدًا غريبة تحمله وتهدهده وتلاعبه .
والده وآهٍ من هذا الأب وآهاتٍ من أفعاله وكأنه شيطانٌ بشريٌ .
غدر بوالدته وخدعها واستحل شرفها وتخلى عنها وأكمل حياته كأنها لم تمر بها يومًا وفي الختام تدور الدائرة لتضع ذاك الراجل أمامه ويكون عدوًا له .
أي قدرٍ هذا الذي يواجهه ولمَ الآن ؟
ذهول واستنكار وحزن وتبعثر وضياع ، هذا ما يشعر به ولولا تسمر جسده لكان فاقدًا للوعي مستنكرًا كل ما سمعه .
ينظر للوجوه من حوله خاصةً هي ، هي التي تطالعه بصدمة بعدما سمعت اعترافات صقر التي لم تحتمل الشك ، أدركت أن حبيبها وعشقها الأول والأخير يكون شقيق غريمتها والوحيدة التي تكرهها .
نهضت آسيا نحو عمر وربتت على ذراعه تردف بعيون لامعة تتجمع فيها الدموع :
– عمر ده مجرد أب بيولوجي إنما مالوش أي علاقة بيك ، إنت عمر جوز بنتي وابني ومكانتك في قلبي كبيرة أوي .
التفت يطالعها بحسرة فوقفت نارة وخطت أمامه هي الأخرى تطالعه وتلتصق بزوجها ثم قالت بنبرة مختنقة داعمة :
– أنا وأنت كان مصيرنا واحد يا عمر وعرفنا بعض في مكان واحد وتلف الأيام ونكتشف إن اللي عملوا فينا كدة عيلة واحدة وإن تعلقنا ببعض زمان ماكانش من فراغ ، رابط الدم اللي في عروقنا كان أقوى من دم عيلة العدلي اللي اتحول ميه .
التفت يطالع نارة بذهول وأدرك للتو أنها ابنة عمه ، نارة التي اعتبرها دومًا شقيقته الصغرى وسعى لحمايتها ورعايتها لم تكن سوى ابنة عمه ، لذا نطق بنبرة أمل من بين سائر آلامه وتخبطاته :
– إنتِ بنت عمي ؟
أومأت له تكرارًا ودموعها تتساقط ليسرع صقر إليها قائلًا بغيرة مبطنة :
– اقعدي إنتِ يا حبيبتي علشان ماتتعبيش .
تحمحمت وأدركت مقصده لذا تنهدت بعمق تومئ له وعادت تجلس بينما تحركت أخيرًا مايا من مكانها ووفقت أمامه يطالعان بعضهما .
يخبرها بعينيه أنه يتألم ، قلبه ينزف بعدما سحقته كلمات صقر ، يخبرها أنه كان يعلم أن أبواه تخليا عنه وفي بعض الأحيان ود لو يتعرف عليهما ولكن لم يصل سقف توقعاته إلى ما يحدث وأن سمير العدلي يكن سوى ذلك الأب وإيمان العدلي تلك التي عانت منها حبيبته لم تكن سوى شقيقته .
أسرعت دون التفوه ببنت شفة ترمي بنفسها داخل أحضانه وتبكي ، تبكي بحرقة وتهز رأسها استنكارًا مرددة على مسامعه بعدما لف ذراعيه حولها :
– لا يا عمر إنت مش ابنهم ، لا إنت ابنهم ولا نارو بنتهم ، نارة أختي أنا وإنت جوزى وحبيبي والعيلة دي لازم ننساها ونبعد عنها ، لازم نعمل زي صقر وماركو ونبعد عن الناس القاسية دي ، مستحيل تكون منهم يا عمر مستحيل .
ابتلع لعابه ولا يعلم هل يهدئها أم يربت على قلبه ولكنها تبكي بحرقة وقميصه امتص دموعها لذا بات يربت عليها ويواسيها وهو في أشد حاجاته للمواساة قائلًا بنبرة ضائعة :
– اهدي يا مايا ، اهدي وبطلي عياط .
رفعت وجهها عن صدره تطالعه وتتعمق في عينيه فرأت حزنًا قويًا وصراعًا تدرك جيدًا أنه سيختلي به لذا أسرعت تهز رأسها بجنون وتردف بهستيرية عشقٍ :
– لا مش ههدى ، إنت مش ابنهم ، إنت حبيبي ، خلينا نتجوز حالًا يا عمر .
ابتعدت عنه والتفتت إلى والدتها التي بكت عليها واتجهت تتمسك بذراعيها وتتراجاها قائلة بقلبٍ منفطر لأجله :
– مامي بليز نعمل الفرح ، أو بلاش فرح بس خلونا نتجوز أنا وعمر ، عمر مش هينفع يفضل لوحده دقيقة .
هزت آسيا كتفيها ولم تعلم بمَ تجيبها أو تهدئها لذا تركتها وتحركت نحو صقر تطالعه وتترجاه قائلة بانهيار بات واضحًا عليها :
– صقر بليز قول لمامي توافق ، يفرق إيه دلوقتي عن الشهر الجاي ؟ ، بليز يا صقر وافقوا وأنا وعمر هنسافر نغير جو .
وقف يطالعها وهي تترجاهما والوهن باديًا عليها ليسرع إليها يتمسك بها ويلفها لتقابله قائلًا بتعقل :
– اهدي يا مايا ، أنا كويس .
عادت تحدق به وتتأكد من حديثه ولكن مازالت نظرته كما هي يسكنها الألم ويغذيها التشتت فتحدثت مستعطفة :
– إنت مش عايزنا نتجوز ؟ ، غيرت رأيك يا عمر ؟ ، عمر أنا أموت من غيرك .
تلك الجملة هي الوحيدة التي بدلت نظرته إلى نظرة حبٍ خالصة وقبل أن يتحدث قالت آسيا مؤيدة بعدما لاحظت حالة ابنتها :
– أنا موافقة على كلام مايا يا عمر ، خلونا نعمل فرح هادي وتسافروا تغيروا جو في أي مكان .
ليؤكد صقر على حديثها هو الآخر مرددًا بعدما لاحظ انحراف تفكير عمر وهذا ما يريدونه :
– فعلًا يا عمر أنا كمان موافق على كلام مايا .
– وأنا كمان موافقة .
نطقتها نارة بابتسامة هادئة فنظرت مايا له وارتسمت الفرحة على ملامحها ونطقت من وسط دموعها وهي تطالعه :
– وافق يا عمر ، وافق وهنسافر سوا في أي مكان .
نظر إليها ثم وزع نظراته عليهم وتحدث بصراعٍ تملك منه وهو يهز رأسه رفضًا :
– مش هينفع ، مش هينفع أبدًا .
تحرك بعدها على الفور يغادر قبل أن يخونه جسده وينهار لتقف مايا تطالع أثره بذهول وصدمة لذا نهضت نارة مجددًا تسرع إليها وتتمسك بها وتحدثت إلى صقر :
– صقر لو سمحت روح وراه .
أومأ لها وتحرك خلفه بينما هي حاولت سحب مايا التي تجمدت كأنها أصبحت تمثالٌ بلا روح فتمتمت بتروٍ :
– مايا اهدي عمر بس مصدوم سبيه وصقر هيقنعه .
تحركت معها طواعية حتى جلستا على الأريكة وتبعتهما آسيا لتواسيان مايا .
❈-❈-❈
في الخارج تحرك عمر مندفعًا يغادر على قدميه فأسرع صقر يستقل سيارته وتبعه حتى لحق به خارج حدود الفيلا ففتح نافذته يردف بنبرة هادئة :
– اركب يا عمر .
كان يشعر بالاختناق ، الاختناق والحرقة اللتان تتجسدان في دموعٍ تأبى السقوط وتأبى أن يراها أحد لذا تحدث دون النظر نحو صقر بنبرة مختنقة :
– سيبني دلوقتي يا صقر .
لم يتركه صقر بل انحرف بالسيارة يسد أمامه السبيل ومال برأسه قليلًا يقول بنبرة آمرة يتبعها تنفيذ فعلي إن لم يستمع :
– اركب يا عمر مش هسيبك .
زفر عمر زفرة قوية ورفع رأسه عاليًا يمنع غيومه من الظهور بل أرادها أن تأخذ جيوشها وتعود من حيث أتت .
لثوانٍ ظل هكذا حتى لبت طلبه الدموع واختفت ليسحب شهيقًا قويًا ثم اعتدل ومد يده يفتح باب السيارة يستقلها ويغلق خلفه ليغادر صقر بعدها متجهًا إلى مكانٍ هادئٍ كي يتحدثا .
❈-❈-❈
في فيلا بهجت
تحديدًا غرفته
يجلس مستندًا على وسادته وتجاوره زوجته تقرأ وردها بينما هو يفكر شاردًا في أمر ابنته وما حدث اليوم .
صدقت نسرين بعدما انتهت ووضعت مصحفها على الكومود ثم عادت تنظر نحوه وتساءلت بترقب :
– مالك يا بهجت سرحان في إيه ؟
زفر وتحدث باستفاضة يخبرها عما يشغل باله :
– في خديجة يا نسرين ، النهاردة بسبب ضيقي من جوزها وعمايله وقعت عليها الشوربة وحرقتها من غير قصد .
امتدت يدها تتمسك بكفه وربتت عليه بكفها الآخر ثم قالت بحنان وتروٍ :
– إنت بتغير على خديجة من خالد يا بهجت ، وهو ده اللي عامل الفجوة دي بينك وبينه ، بس من هنا ورايح لازم تغير معاملتك معاه .
زفر والتفت يعتدل ويطالعها بعمق ويشرح لها ما به قائلًا بنبرة قلقة :
– مش مسألة غيرة يا نسرين ، لو بنتي اتجوزت أي إنسان تاني كنت بردو هغير عليها غيرة أب بس أنا مشكلتي مع جوزها إنه مش راكز ، همجي ومندفع وتصرفاته غلط ، لو زيه زي صقر صاحبه كنت هقول إنها هتقدر تساعده ينصلح ويلتزم ويبعد عن الفوضى اللي كان عايش فيها ، بس هو أطباعه مختلفة عن صاحبه ، خايف عليها تتعب معاه .
شعر بوخزة في صدره فابتلع لعابه وسحب شهيقًا لم يكتمل حيث الوخزة مستمرة لذا توقف عن التنفس لثوانٍ أسرعت فيهما نسرين تترك يده وتميل نحو الكومود تلتقط كوب المياه وتعود تناوله له قائلة بحنو :
– اشرب شوية ميه .
تناول منها الكوب وارتشف القليل منه ثم انحنى يضعه على الكومود المجاور له وعاد يطالعها ويكمل حديثه بعد أن حل الألم عن صدره :
– أنا بدعيله وأنا بصلي وبدعيله في كل وقت ربنا يهديه ، بس مش قادر أعمل أكتر من كدة ، مجرد ما بشوفه قدامي بحس إني عايز آخد بنتي واهرب .
ملست على صدره بكفها ثم اعتدلت تبتسم له وتحدثت بروية وحكمة :
– بالعكس هو ده بالتحديد اللي لازم تعافر معاه ، لإن سعادة خديجة كلها مرتبطة بالتزام خالد ، خالد لازم يحس وسطنا بالمحبة والأُلفة ولازم يلاقي عندنا الحاجة اللي افتقدها في عيلته ، ده واحد جواه حاجة كويسة يا بهجت والدليل إنه ساعد صقر يخرجوا برا العالم المجرم اللي كانوا فيه ده ، ودليل كمان إنه أسلم وده معناه إنه مش متعصب ناحية فكر معين يعني نقدر نقنعه بالإسلام بس واحدة واحدة ، ماتنساش إنه عايش أكتر من ٣٥ سنة في الضلمة والعنف جاي إنت وعايزه كدة بسهولة مسافة كام شهر يتغير ويبقى ملتزم ؟ ، ماينفعش يا بهجت ، ربنا عرفناه بالعقل ولازم ناخد بإيده علشان خاطر ده واجبنا أولًا وخديجة ثانيًا .
حدق في زوجته بعمق يردد حديثها الذي يقتنع به ولكن يعيق تنفيذه شيئًا بداخله لا يفهمه ، أيعقل أن هذا الشيء يكون عملًا من صنع الشيطان ؟
لذا تمتم مستغفرًا ثم أومأ وأراد المراوغة إلى أن يجد حلًا حيث تحدث بترقب :
– شوفتي النهاردة عمل إيه ؟ ، لعننا كلنا وشال البنت وخدها ودخل الحمام ولا عمل احترام لأي حد .
ابتسمت حينما تذكرت وابتسمت أكثر حينما تذكرت سؤاله منذ قليل لذا قالت بتنهيدة مستكينة :
– بيحبها ، متعلق بيها ، ربنا علق قلبه بيها علشان ربنا عايزه وعايز يديه فرصة ، وإحنا كمان لازم نديه فرصة يا بهجت وناخده في حضننا .
كان يومئ لها ولكن جملتها الأخيرة جعلته يطالعها بغيظ ويتحدث مستفيضًا بعبوس :
– تاخديه في حضنك إيه ؟ ، إنتِ مالك إنتِ يا نسرين ، مش كفاية النهاردة عمالة تأكليه ومهتمية بيه ونسياني أنا وبنتك وابنك .
ابتسمت حتى أشرقت وشعرت بحبه يتجدد لذا قالت بنبرة لومٍ وتشفي :
– عرفت إنك بتغير ، جربت نار الغيرة يا بهجت ؟ ، لازم تحاول تفهمه وتحط نفسك مكانه وتفكر بدماغه هو وقتها هتتقبله .
ابتسم لها فهو تعمد أن يشعرها بحبه ويرضي أنوثتها لذا مد يده يسحب رأسها إليه ويقبل مقدمته ثم أدخلها في حضنه يعانقها بحنو ويردف ممتنًا :
– ربنا يبارك لي فيكِ يا نسرين ، مهونة عليا الحياة كلها .
لفت ذراعيها حوله بحب واستراحت على صدره بصمتٍ وسكينة .
❈-❈-❈
يقفان أمام النهر يستندان على جانب السيارة وكلٍ منهما شاردٌ في أفكاره .
بعد ثوانٍ قطع صقر الصمت بسؤاله قائلًا :
– إيه اللي مضايقك يا عمر ؟ .
ابتسم عمر ابتسامة ساخرة ومتألمة ثم تحدث وعينه على النهر :
– لا أبدًا ، مافيش أي سبب يخليني أضايق .
زفر صقر وتكتف يتابع حديثه بشرود :
– علشان يعني طلعت ابن سمير العدلي ؟
التفت عمر يطالعه بتعجب وهو يراه يبسط أمورًا وقعها مدمرًا عليه فالتفت صقر يطالعه بابتسامة ألم قائلًا :
– هتفرق إيه إنك طلعت ابن سمير العدلي عن أي واحد تاني ، في النهاية فيه أب اتخلى عن جزء منه يعني مايستاهلش يبقى أب .
شرد عمر فيه ثم تحدث متسائلًا حيث الفوضى داخل عقله لم تهدأ :
– إنت متأكد يا صقر ؟ ، مش يمكن الست دي بتكدب ، إيه دليلها إن الراجل ده أبويا ؟
عاد صقر ينظر أمامه وتحدث وهو يهز منكبيه :
– وهتكدب ليه ؟ ، وهتراقبك طول السنين دي كلها ليه ، وهتكون عايزة تنتقم من سمير العدلي ليه ؟ .
أطرق عمر رأسه بخيبة فكل الطرق المعروضة أمامه تؤدي في نهايتها إلى حقيقة باتت مؤكدة ، أنه بالفعل ابن ذلك الرجل بيولوجيًا .
تابع صقر وهو يتنفس بعمق وعينه منكبة على المراكب السابحة في النهر :
– ملكش حق تضايق يا عمر ، ملكش حق تتخنق وتدور على مكان فاضي تروحله ، إنت المفروض تسجد وتشكر ربنا على حياتك كلها .
لم يتحدث عمر بل يستمع وهو يتابع بألم يخفيه أسفل غطاءٍ من الثبات والبرود :
– حياتك كانت في ملجأ بس لقيت فيه إيد حنينة انتشلتك من حياة ماكنتش تستحقها وقدرت تزرع فيك أطباعك اللي بيتميز بيها أي راجل .
زفر وصمت لثانيتين ثم تابع وهو على نفس حالته :
– خلتك سوي نفسيًا بتحب دينك وعندك أمل وثقة ، مهما كان أهلك مين صدقني مش هتفرق أبدًا ، المهم إنت مين .
تنهيدة عميقة خرجت منه وهو يتابع بعيون حادة تخفي حزنًا لم يزُل :
– صدقني أنا كنت اتمنى إني أتربى على إيد ناس ماعرفهمش ولا إني أكبر في وسط عيلة موراكو وأضيع من عمري سنين في العالم المجرم اللي كنت جزء منه ، الحاجة الوحيدة اللي أنا محظوظ بيها ومخلياني متقبل حياتي هي نارة ، نارة وبس .
التفت يطالعه وتابع بنبرة رخيمة بعدما أخفى ما به :
– أنتوا ربنا بيحبكوا أوي ، ربنا بيحبكوا لدرجة إن استخدمكوا علشان تسحبوا ناس تانية بعيدة عنه وتقربوها ليه ، افرح يا عمر ووافق على اقتراح مايا وانسى اللي عرفته وسافر ولما ترجع يبقى لكل حادث حديث ، وماتنساش إن نفس الناس دي بإيدهم اتخلوا عن بنتهم وحرموها من أبسط حقوقها ، ودلوقتي راجعين علشان ينهبوا منها أي حاجة ، سمير ده لعنة وإنت من النهاردة لازم تحمد ربنا كل لحظة إنك ماتربتش معاه .
التفت عمر له يحدق به بعدما استقر حديث صقر داخله كالمرطب على روحه الجريحة ، فبرغم صعوبة تقبله لهذه الحقيقة إلا أنه يجب أن يرى الجزء الممتلئ من كوبه ، الممتلئ فقط .
تحدث بعد صمتٍ يقول بنبرة معتدلة إلى حد ما عن سابقتها :
– ماشي يا صقر ، هسمع كلامك وكلام مايا وكلام آسيا هانم ، والحاجة الوحيدة اللي ممكن تهون الحقيقة المرة دي هي صلة قرابتي بنارة .
شعر صقر بالغيرة فهذا العمر يصمم على استفزازه لذا رفع يده ونزل بقسوة على كتفه كأنه يربت عليه ولكن جاءت كلكمة وليست مجرد ربتة وتحدث بعيون حادة وابتسامة ماكرة :
– طب يالا نرجع علشان فيه واحدة أكيد قالبة الدنيا عليهم دلوقتي ، واعمل حسابك شهر العسل عليا ، حجزتلك تذكرتين لليونان علشان مايا كان نفسها تزورها ، وهناك اليخت بتاع نارة تقدروا تستعملوه بس ملكوش دعوة بأوضتنا خالص .
رفع عمر يده يدلك كتفه الذي آلمه ولكنه نظر إلى صقر وتحدث بامتنان صادق :
– تسلم يا صقر ، وشكرًا على وقفتك معايا دلوقتي .
زفر صقر وتحرك ليغادر فهو لا يحب هذه الأمور العاطفية ولا يحب أي نوعٍ من العاطفة سوى معها هي ، معها فقط يصبح عطوفًا معطاءًا يريد الحب والدلال .
استقل السيارة وتحدث بعلو :
– يالا اركب علشان تلحق تجهز للفرح .
زفر عمر بقوة وفتح باب السيارة يستقلها ثم أغلق الباب ونظر إليه قائلًا بتروٍ :
– مش هينفع أبدًا فرح بكرة ده ، يعني على الأقل الأسبوع الجاي نكون جهزنا أمورنا .
أومأ صقر مؤيدًا وتحدث وهو يقود :
– تمام لما نوصل نتفق .
❈-❈-❈
بعد يومين
انشغل عمر ومايا في تحضيرات زفافهما وبالفعل كانت تلك التحضيرات جيدة لكليهما حيث لم يجدا وقتًا للتفكير في شيءٍ آخر أو ربما يحاول عمر التظاهر بذلك حتى لا يثبط فرحة مايا الظاهرة للعلن ولكن ما خفي بداخله من صراعات كان أعظم .
أما إيمان فاستطاعت أخيرًا فتح خزنة والدها بعدما ظلت تراقبه إلى أن علمت الرقم السري الخاص بها وانتشلت منها مبلغًا ما .
صحيحٌ أنه أقل بكثيرٍ مما طلبه ذلك الأيمن ولكنها تأملت أن يخرسه وتستطيع جلب صورها منه .
ولكنه كان حقيرًا بالقدر الذي جعله يعاود ابتزازها وطلب المزيد منها مع زيادة خمسين ألفًا عقابًا لها نسبةً لفشلها في الإيقاع بين عمر ومايا وإلا لن تحصل على الصور بعدما أرسلت له المال عبر حسابه البنكي ولكرمه فقد أعطاها مهلةً أخرى حتى تجلب له بقية المال وهذا ما جعلها تأكل الأرض غيظًا ولكن ليس أمامها إلا الرضوخ .
أما خالد فهو يستمتع ويستمر في عبثه في كل لحظة ، استطاع انتشال أوقاتًا ممتعة من الحياة خاصةً معها ، تعلق بها بشكلٍ أحيانًا يخيفه ولكنه يسرع في سحق هذا الخوف بقربها والعيش معها .
ولكن ها قد انتهت أجازته وعليه أن يعود إلى عمله .
وكأنه طالب مل من دوامه ولا يريد الذهاب إليه حيث تقف خديجة تهندم له ملابسه بعناية ثم ربتت بكلتا كفيها على صدره وقالت بتباهٍ :
– أيوة كدة تروح الشركة وإنت عشرة على عشرة .
نظر لهيأته في المرآة وقد راق له اختيارها لملابسه واستطاعت عقد ربطة العنق بشكل احترافي حتى خصلاته هندمتها بعناية كأنه طفلها الذي يعود لمدرسته بعد إجازة العام .
زفر بضيق حينما تذكر أنه سيبتعد عنها وقال متأفأفًا وهو يحدق بها ويده سبقته والتفت حول خصرها :
– ما رأيك أن أهاتف صقر وأخبره أنني لا أود العمل هذا الأسبوع أيضًا ، لنبدأ الأسبوع المقبل .
حاولت أن تبعد يداه عنها وطالعته بصرامةٍ قادرًا على سحقها بسهولة وقالت وهي تشير بسبابتها محذرة :
– خالد مينفعش كدة ، بجد لازم ترجع شغلك بقى .
زفر بإحباط وابتعد عنها قليلًا برغبته فهو يدرك أنها محقة لذا تساءل بترقب :
– حسنًا هل ستظلين هنا بمفردكِ ؟
نظرت حولها وشردت لثوانٍ في منزلها ، يمكنها المكوث بأريحية فيه وخلق أمورًا جديدة تفعلها لحين عودته ولكنها استغلت سؤاله وعادت تطالعه بنظرة ماكرة وهي تقترب منه حتى التصقت به مجددًا وبدأت تتلاعب في ربطة عنقه في مبادرة ربمَا عادت عليها بنتيجة عكسية ولكنها اختبرت حظها وقالت بهمس وهى تخفض رأسها :
– ممكن أروح اقعد مع ماما لحد ما ترجع بالسلامة ؟
كان يدرك جيدًا استعمالها لسلاح المكر الأنثوي ولكنه لم يرفض بل هذا ما يفكر فيه خاصة وأنها ذكرت والدتها ولم تذكر غيرها لذا ملس على ظهرها يحثها على التحرك قائلًا :
– حسنًا هيا ارتدي ثيابكِ يا شهية سأنتظركِ لأوصلكِ .
ارتفعت تقبل صدغه بفرحة ولهفة ثم أسرعت تركض من أمامه لعلمها جيدًا ما يمكن أن يفعله بعد تلك القبلة وبالفعل كاد أن يلحق بها لولا رنين هاتفه برقم صقر ليلعن ويخطو نحو الخارج وهو يلتقط الهاتف ويجيب .
❈-❈-❈
كان صقر في سيارته يقود بعد أن تحدث إلى خالد يخبره بأنه سيتأخر قليلًا في ذهابه إلى الشركة حيث سيذهب هو ونارة التي تجاوره في زيارة إلى المشفى التي وضعت بها زينب جنينها فجرًا بعدما جاءها ألم الولادة المفاجئ .
صف سيارته أمام المشفى وترجل هو ونارة يخطوان نحو الداخل مكبلان أيديهما ببعضها .
سأل عن رقم الغرفة وصعدا سويًا إليها .
طرق صقر الباب ففتحت له عفاف وما إن وقعت عيناها عليه حتى تسمرت تحدق به بتبلد ، رأته مرتين وفي السابقتين أيضًا ظلت لثوانٍ متجمدة تحدق به فقط .
هو يشبه والده إلى حدٍ كبير ولكن لا ، هي تحب ناصر ولم تكرهه يومًا بينما هذا الماثل أمامها لا تحبه ولا تكرهه ، فهي قد ألقت عليه ذنب ما حدث معها وانتهى الأمر ، خاصة بعدما ماتت والدته فلم تجد أحدًا آخر تلقي اللوم عليه غيره هو .
تحمحمت نارة تتساءل حينما وجدتها تحدق في زوجها :
– صباح الخير ، ممكن نشوف زينب ؟
ابتلعت عفاف لعابها ونظرت لها قليلًا قبل أن تومئ بملامح باردة وتفسح لهما المجال .
دلفا فوجدا زينب تجلس مستندة على السرير الطبي وتطالعهما مبتسمة بوجهٍ بشوشٍ قائلة بترحاب :
– إيه النور ده .
أسرعت نارة إليها تعانقها بخفة بينما تقدم صقر بتمهل حيث بحثت عيناه عن شقيقه فلم يجده لذا وقف بجانب نارة يطالع زينب بهدوء ويردف بصوتٍ رخيم :
– حمدالله على السلامة .
ابتسمت له بودٍ تجيبه :
– الله يسلمكوا ، اتفضلوا اقعدوا .
تحركت نارة نحو مقعد تجلس عليه بينما تساءل صقر وعيناه تنظر حوله متجاهلًا عفاف التي تقف تطالعه بوجوم :
– أومال ريما فين ، أو البيبي ؟
تحدثت زينب بهدوء :
– ريما عند أهلي بس سامح أخد ريان وراح مع الممرضة لدكتور الأطفال يفحصه ، هييجوا حالًا .
أومأ لها متفهمًا ثم اتجه يجلس مجاورًا لزوجته التي بدأت تتحدث مع زينب بودٍ بينما صقر كان يحاول تجاهل تلك التي لم تنظر لسواه وحينما لم يجد فائدة من التجاهل سلط أنظاره عليها .
يطالعها بعينيه الثاقبتين الحادتين لتتوتر وتبعد نظراتها عنه متحمحمة حيث تلعثمت وقالت وهي تنظر نحو زينب :
– ه هروح أشوف سامح وجاية .
أومأت لها زينب فأسرعت تغادر بعدما أخافتها نظرته التي تختلف تمامًا عن نظرة ناصر لذا ما إن خرجت حتى تمتمت بتجهم وهي تخطو في الردهة :
– أعوذ بالله منك ومن عيونك ، ما إنت قتال قتلة بصحيح ، إنت وأمك وعيلتك كلها مجرمين هستنى إيه منكوا .
❈-❈-❈
يجلس في مكتبه داخل شركته يدخن لفافة تبغه وينفس دخانها بملامح متجهمة .
عيناه حمراء محتقنة والهالات السوداء وجدت طريقها أسفلهما ، فهو لم ينم منذ أن هربت.
بحث عنها في كل مكان يعرفه ولا يعرفه ولم يجدها كأنها تبخرت تمامًا من حياته ، ليته فقط يعثر عليها ثم يقتلها ثم يدفنها و بعدها سيشعر بالراحة فلن تصبح ملكًا لغيره .
أما الآن فهو يشعر بغليان يقوده إلى الجنون ويتماسك بكل ما أوتي من طاقةٍ حتى يجدها .
رن هاتفه فتناوله ينظر له بثقب ليجد نفس الرقم الذي يحاول الاتصال به منذ يومان .
زفر بضيقٍ يلتهم صدره وأجاب يتحدث باللغة الانجليزية قائلًا :
– كيف حالك سيد سبستيان .
تحدث المذكور قائلًا بهدوء مخيف :
– الآن أريد منك جوابًا واضحًا ، هل ستأتي إلى كندا ومعك المطلوب أم لا ، ننتظرك منذ عدة أيام وطول الانتظار لكلينا ليس جيدًا ، تذكر أنك من أردت الحصول على فرصة للعمل معنا وأراك تماطل وهذا ليس من مصلحتك .
ابتلع عاطف لعابه وبات يجز على أسنانه حتى كاد أن يسحقهم ليقول بعدها وعيناه مسلطة أمامه :
– حسنًا سيد سبستيان تأخيري هذا سببه ظرف طارئ حدث معي ، يومان فقط وستجدني عندك .
تحدث الآخر بصرامة قاسية :
– يومان تأتي ومعك ما نريده وإلا فأنت تعلم جيدًا ما سيحدث .
أغلق معه وتركه يجلس يقضم فمه وشفتيه بهستيرية بينما يده نزعت علبة السجائر وباتت تقطعها وتفركها بجنون .
المطلوب معه وحصل عليه منذ أسبوعٍ ولكن كيف سيغادر دون إيجادها ؟
❈-❈-❈
دلف سامح يحمل صغيره ويبتسم بسعادة حينما علم بوجود صقر في الداخل .
أسرع يضع الصغير بجوار والدته ثم تحرك نحو صقر الذي وقف يعانقه ويبادله بسلامٍ حافلٍ ثم ابتعد يسلم على نارة ليتحدث سامح بودٍ وهو يشير على الصغير :
– شوفتوا ريان باشا الجارحي .
تحركت نارة تسرع نحو الصغير الذي يستكين بين ذراعي والدته باطمئنان لتبتسم وتلتمع عيناها له قائلة بملامح مشرقة ونبرة ناعمة وهي تملس وجنته القطنية بيدها :
– ياروحي بسم الله ماشاء الله اللهم بارك .
تبعها صقر ينظر للصغير نظرة أمل وحب وتمنى لو تمر الأيام سريعًا ويرى صغيرته ، يجزم أنه حينها يمكنه التخلي عن أي شيء مقابل نظرة أو لمسة منها كهذا الصغير الذي يتمسك بإصبع والدته .
مال على نارة وهمس لها بنبرة خافتة :
– الهدية يا نارة .
كادت أن تنسى من بين زحام هذه المشاعر الجميلة التي اجتاحتها لذا أومأت له وأسرعت تدس يدها في حقيبتها وتخرج منها علبة مخملية ثم فتحتها تحت أنظار زينب وسامح وتناولت منها آية قرآنية صنعت خصيصًا لهذا الصغير من الذهب والماس لتمد يدها وتعلقها في ملابسه وهو تقول بحب :
– ربنا يحفظك يا حبيبي .
نظرت زينب إلى زوجها بحرج ثم عادت توزع أنظارها بين صقر ونارة قائلة بنبرة امتنان :
– تعبتوا نفسكوا كدة مالوش لزوم بجد .
ابتسم لها صقر بهدوء بينما تحدثت نارة معاتبة :
– هو مش صقر عمو وأنا خالتو يبقى مالوش لازمة الكلام ده أصلًا ، وبعدين أنا عايزة أخده معايا وأنا مروحة .
قالتها بابتسامة وهي تعاود النظر للصغير الذي بدأ يتململ ويفتح عيناه منكمشًا وكأنه شعر بالضيق من الإضاءة ويريد أن يحتد عليهما بأن يغلقوا تلك الأنوار ويتركوه ليستريح بعد عمله الشاق لتبتسم نارة وتلكز صقر بخفة قائلة وعيناها عليه :
– بص يا صقر الطعامة .
نظر صقر مجددًا للصغير وابتسم يغمز له وكأن هذه الغمزة هي كل ما تعلمه صقر عن مشاغبة الصغار بينما وضع سامح ذراعه على كتف شقيقه يردف بسعادة :
– عقبال ما تشيل ابنك يا صقر وتفرح بيه يارب .
التفت صقر يطالعه بهدوء ويردد بثبات :
– آمين يارب .
عاد ينظر إلى نارة المندمجة مع حركات الصغير وتحدث بترقب :
– يالا يا نارة ؟
تنفست بعمق ثم أومأت له فتحدثت زينب بلطفٍ :
– انتوا لسة جايين ، اقعدوا لما تشربوا حاجة طيب .
شكرتها نارة وودعاها وتحركت مع زوجها وسامح للخارج ليجدا عفاف تجلس تنتظر مغادرتهما .
لم ينظر صقر نحوها بل التفت لشقيقه يردف بهدوء :
– خليك إنت علشان لو زينب احتاجت حاجة ، وألف مبروك .
– الله يبارك فيك يا صقر ، ومتشكر على الهدية وعلى الزيارة .
عاد يبتسم له صقر ويتحرك بينما نارة ودعته وأشارت برأسها تبتسم لعفاف حيث خجلت من تجاهلها ولكن عفاف لم تبادلها بل لفت وجهها إلى أن غادرا المكان ليشعر سامح بالضيق منها ولكن ليس هذا المكان المناسب للنقاش لذا تنفس يطالعها بنظرة عتاب ثم عاد يتحرك نحو الغرفة وتركها تتبعه .
❈-❈-❈
بعد وقتٍ
توقف خالد بسيارته أمام منزل بهجت وقبل أن تفتح خديجة الباب وتترجل أوقفها بيده التي تمسكت بكفها فالتفتت تطالعه بترقب فحدق بها قائلًا بنبرة صارمة :
– خديجة ، تعلمين ما عليكِ فعله وما لا عليكِ فعله .
زفرت بعمق تستغفر ثم أومأت له قائلة بهدوء :
– تمام ، وأصلًا بابا ومازن أكيد مش جوة دلوقتي ومش هييجوا قبل الساعة اتنين .
أومأ لها ثم رفع كفها يلثمه وتركها تترجل وتخطو نحو الداخل ليتأكد من دخولها لذا زفر بقوة وعاد يقود مضطرًا يتمنى لو ينتهى العمل قبل أن يبدأ ويعود إليها .
❈-❈-❈
مرت الساعات حتى باتت الساعة الواحدة والنصف وفي هذا الوقت كانت خديجة تجلس مع والدتها تتجاذبان أطراف الحديث في أمورٍ كثيرة .
تحدثت نسرين متسائلة وهي تنظر إلى ساعة الحائط :
– بهجت ومازن زمانهم على وصول ، هو خالد قالك هييجي إمتى ؟
تحدثت خديجة وهي تحتضن الوسادة وتمط شفتيها :
– هو قال هيتأخر يا ماما علشان كدة وافق آجي هنا ، الغريبة إنه مش بيرد عليا .
نهضت نسرين تربت على ساقها ثم قالت قبل أن تتحرك للخارج :
– ماتقلقيش أكيد مشغول في حاجة ، أنا هروح أجهز الغدا عقبال ما ييجوا وحاولي كمان مرة يمكن يرد وييجي يتغدا معانا .
نهضت خديجة معها تردف وهما تتحركان نحو المطبخ :
– استني يا ماما هاجي أجهز معاكي .
كادتا أن تدخلا المطبخ لولا رنين جرس الباب لتتجه نسرين تفتح حيث ظنتهما بهجت ومازن ولكنهما تفاجأتا بخالد يقف يطالعهما ثم ثبت أنظاره على خديجة وابتسم بهدوء يخفي مكرهُ قائلًا :
– أزيكوا ، يالا يا خديجة !
تعجبت خديجة وتساءلت بعيون ضيقة وهي تحدق في ملامحه :
– أنت كويس يا خالد .
أومأ لها وتحدث وهو يهز كتفيه :
– كويس جدًا ، يالا نروه يا خديجة أنا تئبان وآيز أنام .
تحدثت نسرين بحنو ولم تفهم خبث كلماته :
– مالك يا خالد سلامتك؟ ، ادخل بس علشان نتغدا زمان بهجت ومازن على وصول .
وهذا تحديدًا ما جعله يترك عمله ويأتي باكرًا حيث شعر بالغيرة تنهشه وهو يتخيلهما يجلسان ويضحكان معها وهو هنا بدونها لذا نهض يغادر الشركة ليصل قبل وصولهما وها هو يدعي التثاؤب والإرهاق قائلًا :
– آيز أروه يا هماتي آخد شاور وانام .
– بس أنا عاملة بامية ورقاق باللحمة علشانك .
ابتلع لعابه وصرخت معدته فيه ليطيعها سريعًا ويتراجع قليلًا عن قراره متسائلًا بترقب وهو يضيق عيناه :
– وآملة هلويات ؟
– بسبوسة بالمكسرات .
قالتها وهي تتلاعب بحاجبيها كي تحمسه فمسح بكفيه مرارًا ودلف يبتسم وظهر نشاطه الذي كان يخفيه وهي تفسح له المجال وتضحك عليه بينما هو اتجه إلى خديجة التي قهقهت ووقف أمامها يقول بملامح راقصة متحمسة :
– أنا بئشق أمك .
مالت من كثرة ضحكاتها عليه فابتسم ومد يده يضمها ويقبل رأسها بسعادة جديدة عليه ، ضحكاتها تسعده ولمعة عينيها تسحق قراراته ، تودد نسرين له يسعده ويشعره بالطمأنينة التي كان يبحث عنها في طرقات حياته وبين أزقة سنينه .
دقائق وعاد بهجت ومازن ودلفا حيث يجلس خالد فاتجه مازن يرحب به بودٍ ولم يعانق خديجة خاصةً بعدما أخبرته والدته بحقيقة الأمر وبرغم صدمته إلا أنه التزم به لحين إشعارًا آخر .
أما بهجت فقد وقف أمامه يبتسم قائلًا ببشاشة يراها خالد للمرة الأولى :
– أزيك يا خالد ، منور .
تجلت الدهشة على معالم خالد يطالعه بصمتٍ لثوانٍ ثم التفت ينظر إلى خديجة التي تبتسم له وكأنه يتأكد منها هل هذا الرجل والدكِ أم تم استبداله بآخر ؟
عاد له يردف ببساطة برغم تعجبه :
– شكرًا يا همايا .
دقائق وتجمعوا حول مائدة الطعام والغريب هنا أن هذه المرة بهجت هو من بادر بوضع الطعام أمام خالد وليست نسرين لذا لم يأكل الآخر بشهية ، فحتى وإن عامله بهجت بطيبة هو لم ينسى ما جعله يعيشه وخاصة رفضه له .
❈-❈-❈
بعد أن أوصلها صقر إلى المنزل تقف في المطبخ تعد كعكة البرتقال بعدما أصابها الملل نوعًا ما .
وضعتها في الفرن الكهربائي واتجهت تستند على حافة الرخامة ثم نزلت بنظرها إلى رحمها وتحسسته بكفها بحنوٍ وبدأت تحدث صغيرتها قائلة بنبرة حنونة :
– نونو قلب مامي ، شامة ريحة الكيكة حلوة إزاي .
زفرت وعادت تتذكر ملامح ابن سامح وزينب لتبتسم بحنين وتردف باشتياق :
– تعرفي إني نفسي الأيام تمر بسرعة وأشوفك .
تعجبت من حالتها التي تلازمها منذ أن رأت الصغير لذا تنهدت تصبر نفسها وتحركت لتتابع الكعكة من خلف الباب .
في خارج الفيلا وعلى بعدٍ مناسب يجلس عاطف في سيارته وخلفه سيارة أخرى يوجد بها حراسة أتوا معه بتعليمات منه .
يقف يراقب بانتباه فمنذ أن غادر صقر وهو هنا ينتظر رؤيتها أو ظهورها بأي شكل .
لو ترك الأمر له لكانت الآن بين قبضتيه ولكنه لا يريد إشعال فتيل الحرب خاصةً وهو يسعى للحصول على الهدوء ليمرر أعماله الخفية هذه الفترة .
كل ما يسعى إليه هو معرفة مكان أميرة ليحل مسألتها قبل سفره إلى كندا .
❈-❈-❈
بعد وقتٍ
نهض خالد وخديجة ليغادرا وقبل أن يتحركا للخارج نظر بهجت لابنته وتحدث بتنبيه :
– خديجة إن شاء الله يا حبيبتي يوم الأربع عيد ميلادك ، هنستناكي إنتِ وخالد علشان نعمل الإطعام اللي بنعمله كل مرة .
ابتسمت له بسعادة حينما تذكرت ذكرى ميلادها حيث تحتفل مع عائلتها وأقاربها بطريقة خاصة وهي كالتالي
يقوم بهجت بشراء شاهةٍ ثم يذبحها ويقوم العمال بطهيها وعمل وجبات متنوعة توزع للفقراء وللأقارب ويكون يومًا مميزًا وسط تجمع عائلي ممتع .
تحدثت بامتنان وهي تجاور خالد الذي يتابع بصمتٍ وهدوء :
– أكيد مش ناسية يا بابا .
التفتت تنظر نحو خالد واسترسلت مترقبة :
– إن شاء الله أنا وخالد هنيجي يومها بدري .
ابتسم لها خالد ثم نظر إلى بهجت نظرة غضب أخفاها وهو يقول ببرود ومغزى :
– ده أول إيد ميلاد لخديجة وهي مئايا .
أومأ بهجت مجيبًا بنبرة رتيبة برغم ضيقه من نظرات خالد :
– أيوة ، إن شاء الله دايمًا مع بعض في الخير يابني
أومأ خالد بصمت ثم نظر لخديجة وحثها على التحرك نحو الخارج قائلًا :
– يالا يا خديجة .
❈-❈-❈
تجلس تتناول الطعام الذي أتى به رجال صقر منذ قليل برغم عدم شهيتها لأي طعام ولكنها مجبرة على سد جوعها كي تقوى وتستعد للمرحلة القادمة من حياتها .
طرقات على الباب جعلت الطعام يتحجر في حلقها وباتت تسعل لذا أسرعت تمد يدها وتلتقط زجاجة المياة وتشرب منها القليل حتى هدأت ولكنها في كل مرة يطرق فيها هذا الباب تشعر بانقباض في صدرها وخوفٍ يجتاحان داخلها كغابةٍ مليئة بالأدغال .
نهضت تتجه نحو الباب مجددًا ونطقت متسائلة وهي تتمنى أن يجيبها الحارس ككل مرة :
– مين .
– أنا محمد يا مدام أميرة .
اتسعت عيناها بتعجب ولكنها أسرعت تنتشل حجابها من فوق المقعد وتلفه حول خصلاتها ثم مدت يدها تفتح الباب لتجده أمامها يقف يطالعها بترقب ثم سألها بهدوء :
– إنتِ كويسة ؟
أومأت له مرارًا ثم تساءلت بلهفة مذعورة :
– حصل حاجة ؟ ، عرف مكاني ؟
ربت على الهواء بكفيه يهدئها قائلًا :
– اهدي إنتِ في أمان ، مايقدرش يوصلك هنا ، بس فيه معايا حد عايز يتكلم معاكِ .
مالت برأسها بملامح تجلى عليها الخوف وتساءلت بحروفٍ مبعثرة :
– حـ عـ حد مين ؟
أشار برأسه لليمين فأخرجت رأسها قليلًا تنظر نحو الجهة التي أشار إليها فوجدته ، يقف على بعد خطوات ينظر لها وينتظر موافقتها ليتقدم .
ما إن رأته حتى جحظت وتجمدت لثوانٍ تطالعه بصدمة أما هو فسحبته رمال ذكرياته ليغرق بذكرياتها التي تجسدت أمامه كأنه يعيشها مجددًا .
ظلا يطالعان بعضهما لثوانٍ يخبرها بأسفه وندمه الظاهران في عينيه بينما هي صفحة وجهها بيضاء وعيناها خاليتان من أي تعبير ، لم تعد قادرة على العودة للماضي ، لا تريد أي ماضٍ لذا ما إن تقدم خطوة حتى باتت تهز رأسها برفضٍ قاطع ليتوقف ولكنه لم يتوقف بل تقدم أكتر وكاد أن يصل إليها فأسرعت تغلق الباب في وجهيهما وتردف ببكاء وصراخ :
– مش عايزة أشوف حد ، امشي من هنا ، مش عايزة أشوفك ، ابعدوا عني ، سيبوني في حالي .
أخذ قلبه يعتصر ألمًا من حديثها لكنه يريدها أن تطمئن ، لقد أتى ليطمئنها لا ليخيفها لذا تنحى صقر جانبًا وتركه يحاول معالجة ندوب أحدثها الزمن فبات يردف بنبرة حنونة معتذرة :
– أميرة افتحي خلينا نتكلم ، أنا آسف أنا ماكنتش أعرف عن حياتك أي حاجة ، أنا بجد آسف ، افتحي الباب وهسمعك وهساعدك صدقيني ومش طالب منك أي حاجة .
سقطت أرضًا تجلس القرفصاء وتحتضن رأسها التي تهتز يمينًا ويسارًا ترفض حديثه بينما هو لم يتوقف عن التحدث والشرح مسترسلًا :
– طيب اعتبريني المحامي بتاعك ، سيبيني أساعدك بس تخلصي منه وبعدها أعملي اللي إنتِ عايزاه ، أوعدك مش هضايقك بس افتحي ، لازم اسمع منك .
لم تتحرك بل تجمدت تهز رأسها وتستنكر كلماته ، لا يمكن أن يساعدها هو ، لا يمكن أن يكون هو نفسه محاميها ، تعلم جيدًا عواقب هذا لذا رفعت رأسها ونظرت للأمام بحزنٍ جلي وتحدثت بنبرة مترجية وعيناها تنزف دموع القهر :
– امشي يا يوسف من هنا ، مستحيل اللي بتقوله ده يحصل ، امشي من هنا .
ربما هي في حالة وهنٍ لا تسمح لها بالجدال ولكنه لن يتخلى عنها هذه المرة ، لن يتخلى عنها مهما كلفه الأمر من عواقب لذا صرخ بحدة أفزعتها وجعلت صقر يزفر بضيق :
– مش همشي ، مش همشي وهطلقك منه ، أنا معنديش ثقة في أي محامي تاني ممكن بسهولة يرشيه ، أنا الوحيد اللي ليا تار معاه ، هطلقك منه وبعدها مش هتشوفي وشي تاني .
تشوش عقلها من كلماته وبعدما كانت توصد أقفال التفكير باتت تفتح واحدًا تلو الآخر وتفكر ، المسألة الوحيدة التي تفكر بها هو قدرته بالفعل على كسب الأمور لصالحه لذا فهل حقًا ستقبل بدفاع يوسف عنها ؟
❈-❈-❈
صف خالد سيارته وترجل بعدما سحب كيسًا ورقيًا كان يحتفظ به في الخلف دون أن تلاحظه خديجة التي قطبت جبينها بتعجب وترجلت تتحرك نحوه متسائلة وعيناها على ما في يده :
– إيه دي يا خالد ؟
غمزها بطرف عينه ثم مد يده فناولته يدها فتمسك بها وهو يخطو نحو الداخل ويردف بنبرة حماسية :
– مفاجأة يا شهية .
دلفا وتحركا معًا للأعلى وهي تفكر هل أحضر لها هدية ؟
وصلا إلى غرفتهما فدلفت والتفتت تقابله قاطعة خطواته ثم تساءلت بملامح ماكرة ويداها تتحس ذراعيه قائلة بابتسامة مترقبة :
– إنت جايب لي هدية صح ؟
ابتسم لها ثم ابتعد خطوة عنها ودس يده في الحقيبة يخرج منها قطعةٍ من القماش الدانتيل بلونٍ أحمر قاني وتملؤه من كل الأطراف زينة معدنية على شكل عملات .
أمسك بهذه القطعة بين يديه وعرضها أمامها وبات يهزها يمينًا ويسارًا مبتسمًا بسعادة وهو يقول بنبرة متحمسة :
– هيا لنرقص خديجة .
جحظت عيناها بصدمة مما تراه وفرغ فاهها لثوانٍ قبل أن تشير بيدها قائلة باستنكار :
– إيه ده ؟ ، إيه اللي إنت شاريها دي ؟ ، بدلة رقص ؟ ، اشتريتها إزاي ومنين .
رسم التباهي على ملامحه وهو يردد ويستمر في هز القطعة يمينًا ويسارًا :
– هذا السؤال خطأ ، ألا تعلمين زوجكِ ، لقد وضعتها في رأسي خديجة وها قد أحضرتها ، هيا الآن أريدك أن ترتديها لي وترقصين .
تحولت الصدمة على ملامحها لدهشة ثم لضحكة وهي تهز رأسها وكتفيها مردفة ببساطة :
– بس أنا مش بعرف أرقص .
انهارت آماله وأطرق كتفيه بإحباط وهو يطالعها بملامح حزينة كأنه رسب في امتحان الثانوية العامة للحظاتٍ ثم تحدث مردفًا بنبرة يأسٍ :
– كيف لا تجيدين الرقص ؟ ، حسنًا لتتعلمي خديجة .
وضع القطعة جانبًا ثم أمسك بكفها مسترسلًا وهو يحثها على التحرك :
– هيا تعالي معي سنشغل تلك القناة لنصف ساعة أنا أتابع وأنتِ تتعلمين ثم نعود هنا مجددًا أنا أشاهد وأعبث وأنتِ ترقصين ، حسنًا .
أوقفته قبل أن يعبرا الغرفة وسحبت يدها تطالعه بعيون متحدية وهي تتكتف وتردف بنبرة قوية لتسقطه من برج أحلامه :
– مسحتهم ، مسحت كل القنوات دي ، مش هتلاقيها ولا هتعرف ترجعها تاني .
أصابه اليأس وزم شفتيه كالأطفال وهو يطالعها تارةً ويطالع تلك القطعة التي كان يتخيلها بها تارةً أخرى بينما هي تقدمت منه خطوةً حتى وقفت أمامه وتحدثت مترقبة :
– عايزني أتعلم ؟
تعمق في عينيها واستشف مساومة في طريقها إليه لذا تكتف وتساءل قاطبًا ما بين حاجبيه :
– هناك مقابل ؟ ، أليس كذلك ؟
أومأت له مبتسمة بفخر فهز رأسه يردد بهمس :
– بدأتي تتعلمين العبث خديجة وهذا ليس جيدًا .
هزت كتفيها ومطت شفتيها وهي تلتفت مبتعدة وتردف بمماطلة :
– لا أبدًا ، بس كل حاجة ليها مقابل ، عايزني اتعلم الرقص وأرقص .
التفتت تقابله بعدما باتت على بعد خطواتٍ منه وتحدثت بجدية وثبات :
– يبقى إنت تبدأ تصلي معايا .
توقف يطالعها لثوانٍ ثم قرر اللعب على أوتار مشاعرها كالعادة لذا تقدم منها حتى بات أمامها فابتلعت لعابها خوفًا مما سيفعله .
حدق في عينيها وحاوط خصرها بذراعيه يردف بنبرة مؤثرة :
– حسنًا خديجة تعلمين أنني لا أمانع ولكن كوني منصفة ، لا يمكن وضع الأمرين في ميزانٍ واحد ، ما أطلبه هينًا وما تطلبينه مني أمرًا شاقًا يحتاج لصبرٍ .
قضمت شفتيها بقوة حتى لا تخونها دموعها التي تجمعت ووقفت تطالعه لثوانٍ ثم تحدثت بهدوء :
– صح إنتِ معاك حق ، ماينفعش أبدًا أحط الأمرين في ميزان واحد بس إنت اللي اضطريتني أعمل كدة ، كل مرة بحاول معاك يا خالد إنت بتراوغ ، المرة دي بجد لازم تلتزم لإني مهما بحاول أتعامل معاك بصبر إنت بتستنزفني ، مش قادرة أتقبل فكرة إنك مش قادر تصلي .
زفر يلف وجهه عنها وها هي تقلب الأوضاع رأسًا على عقب فبعدما كان يخطط لوقتٍ ممتعٍ معها أتت هي بأفكارها لتهدم استمتاعه .
عاد إليها يتعمق فيها فوجدها تنتظر كلماته بل تتمنى أن يطمئنها بأي حديث أو فعل لذا أومأ وتحدث بنبرة محبطة :
– حسنًا خديجة ، أعدك سأحاول الالتزام في الصلاة ، هل رضيتِ ؟
تعمقت في عينيه قليلًا تستشف صدقه فهو وعدها من قبل بتوقفه عن تناول المشروب وفعل ومن المؤكد سينفذ هذا الوعد أيضًا لذا أسرعت تعانقه وتلف يديها حوله واضعةً رأسها على صدره كمكافئة له على وعده هذا .
وكعادته ما إن تلمسه هذه الشهية حتى تتزاحم داخله المشاعر لذا لف يده حولها يشدد من عناقها متأثرًا ثم رفعها عن الأرض يضمها ويستنشق رائحتها ثم مد يده ينزع حجابها وانحنى يقضم عنقها ويقبلها ثم همس عند أذنها بنبرة متحشرجة خبيثة :
– غدًا ستتعلمين الرقص ، حسنًا .
أومأت له بعيون مغمضة من بين زحام مشاعرها ليعود وينزلها أرضًا ولم يفك حصارها بل انحنى يقبلها ويضمها باشتياق لا أحد يعلم هل سيقل منسوبه أم سيزيد حتى يفيض .
ولكنها فجأة شعرت بنفورٍ مفاجئ أجبرها على الابتعاد من بين قبضتيه لذا تفاجأ ورفع رأسه يطالعها بعيون راغبة قاطبًا جبينه بتعجب فتوترت لا تعلم ما الذي أصابها لذا أخفت توترها خلف ابتسامة خافتة ثم قالت وهي تخطو نحو الحمام :
– هروح الحمام ثواني .
غادرت من أمامه ووقف هو متعجبًا من رد فعلها المفاجئ ثم زفر بضيق بعدما خرج من دوامة مشاعره والتفت ينظر نحو ما اشتراه ليزفر بقوة ويتجه خلفها ليخبرها بأنه يريد الوضوء وتأدية صلاة العصر معها بثقل ولكن ربما إن فعل هذا فرحت .
❈-❈-❈
قطعت الكعكة في أطباق ووضعتهم على صينية بعدما قررت أن تذيق الحراس في الخارج .
حملت الصينية وتحركت نحو الخارج تخطو بحذر حتى وصلت إلى البوابة فنادت على أحدهم قائلة بهدوء :
– معتز تعالى خد مني .
انتبه لها معتز فأسرع يتحرك نحوها حتى توقف أمامها باحترام فتحدثت وهي تناوله الصينية :
– دي حاجة بسيطة ليك وللباقيين .
أومأ لها وتحدث شاكرًا بامتنان بعدما تناول منها :
– شكرًا يا مدام نارة .
أومأت له والتفتت لتعود ولكنها تجمدت حينما سمعت أحدهم يردف بصوتٍ عالٍ من خلف بوابة فيلتها :
– ثانية واحدة يا مدام نارة .
دب الرعب في قلبها حينما عرفت صوته وشعرت بأن قلبها يهوي أرضًا ولكنها تحاملت تسحب نفسًا قويًا ثم التفتت إليه تطالعه بعيون ثاقبة ليتجمع الحراس حولها في مشهد جعله يبتسم ساخرًا ويرفع يداه قائلًا بملامح درامية خبيثة :
– اهدوا يا شباب أنا بس حابب اتكلم مع مدام نارة كلمتين .
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية هواها محرم) اسم الرواية