Ads by Google X

رواية هواها محرم الفصل الثاني و الثلاثون 32 - بقلم آية العربي

الصفحة الرئيسية

      

رواية هواها محرم الفصل الثاني و الثلاثون 32 - بقلم آية العربي



بسم الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِكَ وكُن مِنَ السَاجِدِينْ واِعْبُد رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينْ .
اللهم إنا نستودعك أهل غزة وكل فلسطين ، اللهم
كن لهم عونا اللهم إنا لا نملك لغزة وفلسطين إلا الدعاء
الفصل الثاني و الثلاثين من ( هواها محرمٌ )
( ثري العشق والقسوة 2)
❈-❈-❈
سقط الخبر على رؤوسهم كسقفٍ خرساني لم ينجُ من تحته أحد .
الجميع وقفوا عاجزين عن استيعاب ما قاله الطبيب .
دخلت قرة عينه في غيبوبة ، ابنته التي لو طلبوا روحه لأعطاها لها بكل حبٍ ورضا .
ابنتها نور عينيها دخلت في غيبوبة بعد معاناة دامت لأشهرٍ من الحزن والاكتئاب ، شقيقته الحنونة ذات الابتسامة الرائعة قررت التخلي عن الحياة والمكوث داخل غيبوبة لا يعلم متى ستستيقظ منها .
زوجته ، وثاق نجاته وسكينته وظله وركنه الآمن ، جوهرته المكنونة وحرمه المصون قررت اللجوء لعناق غيبوبة قاسية بدلًا من عناقه ، أولم تعده ألا تتركه وحده ؟ ، أولم تعلم أن وعدها دين ؟ ، إن كان تسبب لها بالألم بكذبه فهي تسببت له بتمزق روحه وسحق قلبه بفعلتها ، آلامه لا توازي أي آلام ، لا في الماضي ولا في الحاضر ولا يمكنه تحمل ما يمر به الآن .
يريدها أن تستيقظ في الحال ، لم يحتمل دقيقة أخرى دونها لذا نزع عقله وقذفه بعيدًا وهو يتقدم من الطبيب ويستجديه بنبرة مستغيثة :
– ستستيقظ ، فقد دعني أراها وأعدك لن أرهقها قط ، سأتحدث معها فقط وبعدها سترى أنها استيقظت ، هي تنتظر سماع صوتي أرجوك .
نظر له بأسفٍ وهز رأسه رافضًا فتحولت نظرة الاستغاثة في عينيه إلى نظرة ذئبٍ بشري وتشنجت عضلاته وبات على استعداد تام للقـ.تل قائلًا بنبرة تهديدة :
– لا سأراها وأرِني كيف ستمنعني .
اقتحم الغرفة والطبيب يمنعه ولكن أسرع صقر يتدخل ويبعد الطبيب عن محيطه ويخبره بألا يعترضه فجنون ماركو الآن لن يوقفه إلا رؤيتها فيمكنه بسهولة قتل أحدهم ورؤيتها حتى لو أعدموه غدًا .
وقفوا جميعهم يتابعون ما يحدث ببكاء وأدعية وقلوبٍ منفطرة باكية على خديجة ، انهار بهجت وكاد أن يسقط بعدما شعر أن قدميه باتت كالهلام لذا أسرع مازن يسنده قائلًا بنبرة حزينة مواسية :
– خديجة هتفوق يا بابا ، هتفوق بإذن الله وهتبقى زي الفل .
اتجه معه ليجلسه على المقعد بينما أسرعت نارة نحو نسرين بعدما أصابها العجز وباتت تلقي على مسامعها كلمات الأمل ولكن كأن نسرين قد فقدت السمع فباتت تتطلع حولها بغير هدى .
*****
تجلس تحمل الصغيرة نيللي بين يديها وتداعبها بابتسامة لم تصل لعينيها حزنًا على خديجة ، تجاورها آسيا شاردة تردف بمَ خطر على عقلها :
– ياترى عملت إيه دلوقتي ؟ ، ماتكلمي نارة تاني يا مايا !.
تنهدت مايا ثم عادت تمسك بهاتفها وهي تحمل الصغيرة وتحاول الاتصال على نارة التي لم تجب كالعادة لذا زفرت وتحدثت بهدوء :
– مش بترد بردو يا مامي .
تحدث عمر الذي يجلس مقابلهما :
– أقوم اروحلهم أفضل ؟ ، يمكن يحتاجوا حاجة ؟
تحدثت آسيا بتريث والحزن مرتسمًا على ملامحها :
– لا يا عمر خليك ، كفاية نارة وصقر هناك وهي أكيد هتفتح تليفونها وتطمنا ، ربنا يعديها على خير .
– آمين يارب .
أمنا خلفها لتعاود مايا تبتسم للصغيرة ببراءة والأخرى تبادلها بملامح بشوشة رائعة سبحان من صورها لتكن خليطًا من والدها ووالدتها فباتت تشبه ست الحسن والجمال .
***
بصعوبة بالغة رضخ لرغبتهم في تعقيمه قبل الدخول إليها خاصة وهو يبدو في حالة مزرية بائسة .
دلف الغرفة التي تتمدد بها ومن حولها طبيبين انتهيا للتو من تضميد جراحها ونظرا متعجبان من وجود هذا هنا ولكن مجيئه مع الطبيب الأساسي جعلهما يلتزمان الصمت .
أما هو فمنذ أن دلف الغرفة ولم يعد يرى سواها ، ممدة على سرير بين أجهزة تصدر أصواتًا وجسدها مغطى بقماشٍ أزرق وشاشٍ أبيض ملطخان ببعض بالدماء ووجهٍ ممتلئ بالكدمات وعينان مغلقتان وأنفٍ متصلة بخراطيم رفيعة وشفاهٍ زرقاء .
هز رأسه بلا وسقطت عبراته ، هذه ليست خديجته ، لا يجب أن تكون هنا وتنام هكذا ، يجب أن تكون في سريره الآن وبين أحضانه .
خر جالسًا على ركبتيه أمامها وهو ينادي بصوتٍ هامس يكاد يخرج من حنجرته :
– خديجة افتهي أيونك ، أرجوكِ خديجة متناميش هنا ، تئالي نروه ننام في بيتنا .
ارتفع قليلًا وامتدت أصابعه تتحسس ملامحها بلمساتٍ تشبه نسمات الهواء وعاد يردد بالقرب من أذنها ويتمنى أن تسمعه :
– هتنازل أن كل الفلوس ، ومش هأمل وشوم تاني ، وكل اللي تقوليه هأمله ودي آخر فرصة بس فوقي يالا .
لم يسمع سوى صوت الأجهزة ليعاود التحدث بتوسل أكبر وهو يسحب راحتها إليه وتسقط دموعه بغزارة خاصةً وأنها لم تحرك ساكنًا :
– أنا آرف إني إنسان وهش، آرف إنك أهسن مني، وآرف إنك ماتستاهليش كل ده وآرف إني آذيتك كتير بس أديني فرصة خديجة ، آخر فرصة ليا ، هصله كل هاجة أوْئدك ، افتهي أيونك وقوليلي إنك مسمهاني .
أيضًا لا رد ولا حركة ، سكون تام من طرفها كأنها ترفض الوثوق به فغزاه شعورًا بالوحدة وشعر بالبرودة تقتحم فؤاده لذا نهض ينحني عليها ويلف يده حولها يحاول عناقها بهدوء ليشعر بالدفء ، بل أنه أراد تقبيلها ربما شعرت بوجوده ، أكثر ما يكره أن يحدثها ولا تجيبه لذا انحنى يطبع شفتيه على خاصتها ويقبلها قبلة تحمل رجاءً وتوسلًا من نوعٍ خاص ، ساكنة لا تبادله ولكنه يقبلها ويهمس عند شفتيها بترجٍ حتى لاحظه الأطباء الذين لم يبتعدوا عن محيطهما لذا اتجهوا نحوه ينزعونه من فوقها ونجحوا بصعوبة في إبعاده وبات يهتز بعنف كأنه يعاني من صدمات كهربائية وينادي باسمها وقد بات يتحرك معهم بغير جهد نحو الخارج وهو يردد :
– استـــيقــــــــظي خــــــــديـــــــــــجـــــــة .
أخرجوه وحاولوا فحصها مجددًا بينما لحق به صقر ينتشله قبل أن يسقط وهو يراه في حالة لم يسبق لها مثيل بل أصبح يعانق صقر ويشتكي ما يشعر به مرددًا :
– أنا سيء للغاية ، حياتي كلها عبارة عن مسخ ، فلنذهب أنا وحياتي للجحيم ولتستيقظ هي ، أنا سيء مثل ميشيل يا صقر ، هو كره والدتي وقتـ.لها وأنا أحببت خديجة ولكنني قتلتها أيضًا ، أنا أكرهه بشدة ولكنني أشبهه ، لم أستطع إخراج نفسي من وحله كما فعلت أنت يا صقر ، أنا أستحق العقاب ولكن هي لاااااا ، هي لااا يا صقر كيف سأنام بدونها الليلة .
لأول مرة يتأثر صقر بعناقه له ولأول مرة يدرك معاناته الداخلية ، أدرك أن ماركو سجين آلام الماضي التي لم تمُت بعد بل كانت مغطاة تمكث في جرةٍ وما إن نُزع الغطاء عنها حتى خرجت تبخ سمومها في روحه .
ابتلع صقر لعابه وربت على ظهره بقوة يحثه على الصمود قائلًا بنبرة جعلها قوية :
– اصمد يا أخي سيمر السيء ، تذكر ما ممرنا به والآن بات ماضٍ لذا فهذا أيضًا سيمر وزوجتك ستستيقظ ، كن على يقين من ذلك .
ابتعد عنه ماركو يطالعه بتحديق ، يتأكد من نظرته فدومًا كان حديث صقر بالنسبة له ثقة لذا تساءل بترجٍ :
– نعم ستستيقظ أليس كذلك ؟ ، أم أن الله يعاقبني بهما ؟ ، هل سأفقدها مثلما فقدت صغيري ؟
– لندعو الله أن تنجو يا خالد .
قالها صقر فوقف الآخر يطالعه بتيه وضياع ، لا يعلم ماذا عليه أن يفعل كي تستيقظ ، إن كان المطلوب دعاءً فليدعوه إذًا .
سجد بشكلٍ مفاجئٍ صدم صقر وبات يتوسل إلى الله أن يردها إليه ، تذكر كلماتها وتذكر كيف كانت تنادي ربها حينما ظنته غرق في المسبح آنذاك إذا فهو الوحيد القادر على ردها .
توسل بدموعٍ صادقة ومعها شعر أن أثقالًا تسقط أرضًا من عقله لينحني صقر ويلتقفه ليوقفه قائلًا بثقة ويقين وهو يلكمه في كتفه كوسيلة لبث القوة والصمود :
– كن قويًا ، كن قويًا كما عهدتك يا أخي ، لا يجب أن تستيقظ خديجة وتراك بهذا الضعف ولا يجب أن تدعو الله لتنجو زوجتك فقط ، حان الوقت لتتخد المسار الصحيح .
❈-❈-❈
مرت الليلة بصعوبة ، بل ببالغ الصعوبة
استيقظت منيرة على طرقات هادئة فنهضت بتكاسل تخطو نحو الباب بتعجب فلم يزرها أحدٌ في هذا الوقت من الصباح من قبل ولكن ربما كان يوسف هو الزائر لذا وقفت خلف الباب تترقب السمع وتساءلت :
– مين ؟
– أنا يا ماما .
كان هذا صوت ابنها طه الخافت لتندفع وتفتح الباب على مصراعيه وتطالعه بذهولٍ ودموعٍ أسرعت ترتكز في مقلتيها وهي تردد اسمه قائلة بلهفة :
– طه .
أسرع إليها يعانقها بقوة فباتت تبادله بقوة أمٍ انفطر قلبها لرؤيته وازداد بكاؤها ونشيج صدرها بسعادة لم يسبق لها مثيل ، يقبل خدها تارة ورأسها تارة أخرى مرددًا بلسانٍ نادم :
– حقك عليا يا أمي ، أنا آسف سامحيني .
يا إلهي هل عاد صغيري إليّ ، هل عاد تائبًا نادمًا وعاد الإيمان يتغلغل قلبه ؟ ، ما ألطفك ياربي وما أوسع رحمتك يا عظيم ، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه .
كان هذا لسان حالها حينما اعتذر وطلب السماح لذا ابتعدت تحدق به وبعيون تملؤها اللآلئ تحدثت بانفطار وتأثر :
– مسمحاك يا عمري ، مسمحاك يا نور عيني ، حمدالله على سلامتك ، ادخل تعالى .
سحبته ودلف معها يتطلع حوله للبيت الجديد حتى اتجها يجلسان على الأريكة وتحدث وهي تلثم يده التي حاوطتها بين كفيها بحنان :
– عرفت من يوسف المكان هنا ، ليه سبتي الفيلا ؟
هل يسألها ؟ ، هذه لم تكن فيلا بل كانت لعنة أصابتهم وأودت بحياة ابنتهم لذا أومأت برضا وتحدثت موضحة وهي تحرر إحدى يديها وترفعها متلمسة صدغه بحنانٍ :
– ماقدرتش أعيش فيها بعد موت أختك ، المال الحرام يابني كان لعنة وأكل مال اليتيم مابيمرش كدة على اللي أكله ، حسبي الله ونعم الوكيل في اللي كان السبب .
الآن بات يفهم جيدًا مغزى كلامها ، الآن عاد الألم لموت شقيقته يوخزه فلم ولن ينساها قط لذا أومأ يردد بألمٍ وحزن :
– صح يا ماما ، ربنا يرحم إيمان ويسامحني على اللي عملته ، أنا مقهور أوي يا ماما كل مابفتكر اللي عملته في حق نفسي وفيكي ، نفسي ربنا يسامحني .
– هيسامحك ، هيسامحك يا حبيبي ، مافيش أرحم منه علينا ، المهم إنك رجعت ، أنا كل ليلة بدعيلك في صلاتي وسجودي ، ألف حمد وشكر لله .
ابتسم لها بعينين لامعتين وتذكر أمر القضية التي رفعت ضده ، ثم تذكر أمر تلك المنظومة الشيطانية ونهش الخوف قلبه ولكنه سريعًا عاد يتسلح بإيمانه وتحدث بتروٍ :
– الحمد لله يا ماما ، كنت في غفلة وربنا نور بصيرتي ، إدعيلي يا ماما كمان ، إدعيلي أقدر أفضح المنظومة الشيطانية دي وأقدر أكفر عن ذنبي ، لازم أفضحهم وأعرف الناس خطتهم اللي بيضحكوا بيها على عقول الشباب .
التهم الخوف قلبها المنفطر وتساءلت بقلقٍ :
– منظومة شيطانية إيه يا طه ؟ ، وتفضحهم إزاي يابني ؟ ، بلاش لاحسن يؤذوك ياطه وابعد عنهم وخلاص وكفاية اوي إنك رجعتلي .
ابتلع لعابه وحدق بها ، هل إذا ابتعد عنهم سيبتعدون هم عنه ؟ ، هل بهذه السهولة ؟ ، عليه أن يفضح خططهم في أقرب وقت ولكنه لم يرد إضافة المزيد من القلق على قلب أمه المتآكل لذا تحدث بابتسامة جعلته يستعيد وسامته وإشراقة وجهه قائلًا :
– ماتقلقيش ، أنا لازم أعمل كدة علشان أحس إن توبتي حقيقية ، أنا ضليت غيري يا أمي ومش هقدر أسامح نفسي غير لما أعمل اللي في دماغي ، بس مش لازم اظهر كتير علشان القضية اللي اترفعت ضدي ، أهم حاجة دلوقتي أعملها إني أفضح الناس دي بأي شكل .
لم ترتح لكلامه ولم يطمئن قلبها خاصةً حينما تذكرت أمر القضية بعدما أنستها رؤيته لذا بحثت في قاموس عقلها عن شخصٍ يساعده فتذكرت يوسف لذا قالت بلهفة ورجاء :
– طيب كلم يوسف ، هو هيقدر يساعدك ، ماتتعاملش معاهم لوحدك .
شرد يفكر قليلًا هل حقًا عليه أن يقحم يوسف في الأمر أم لا ، وهل سيخاطر بيوسف إن تدخل أم لا يستطيعون أذيته ، هو بحاجة لشخصٍ لا يدركونه .
قفز فجأة إلى عقل منيرة تلك السيدة التي أخبرتها عن ابن سمير العدلي لتضغط بكفها على يد ابنها الذي انتبه يطالعها بعيون متسائلة فنظرت له لثوانٍ ثم أردفت بترقب وتمهل شديد :
– فيه حاجة لازم تعرفها .
قطب طه جبينه ومال قليلًا يتساءل :
– حاجة إيه يا ماما خير ؟
تنهدت بقوة تستدعي الثبات ثم تحدثت بنبرة مترقبة ودون أي تمهيد :
– إنت ليك أخ من أبوك .
صدمة جعلته يطالعها ببلاهة كأنه لا يستطيع تفسير ما قالته لتزفر وتعاود التحدث متابعة بملامح حزينة تقص عليه جزءًا من الماضي الذي علمته :
– أخ أكبر منك ، أبوك اتخلى عنه وأمه كمان اتخلت عنه واتربى في ملجأ مع بنت عمك شريف الله يرحمه من غير مايعرفوا بعض ، يوسف قالي إنه إنسان محترم يعتمد عليه ، اتجوز من كام شهر من بنت العيلة اللي اتبنت بنت عمك ، حاول توصله يا طه وتتعرف عليه .
صدمات تسقط فوق رأسه واعترافات تهجم عليه من كل حدبٍ وصوب فبات يحاول ترتيب وفهم ما قالته والدته لذا نطق متعجبًا بحيرة بالغة :
– إنتِ بتقولي إيه يا ماما ؟ ، واحدة واحدة علشان أفهم بس ، يعني إيه ليا أخ ؟
أومأت منيرة وتحدثت بهدوء تغمرها السعادة من عودة ابنها :
– هفهمك كل حاجة يا طه .
***
حجز لهم صقر غرفة في نفس المشفى ، فلم يقبل بهجت لا هو ولا نسرين أن يغادرا المشفى أبدًا بينما غادر مازن بعد إلحاح شديد وغادرت نارة لأجل صغيرتها وظل صقر يقف مساندًا لأخيه الذي يحتاجه بشدة الآن .
يقف ينازع بصوتٍ مسموع كأنه لم يعد يحتمل الاحتفاظ بالألم داخله ، صوته يجعل من يراه يبكي على حاله ليشبه طفلًا صغيرًا يعاني من حمى .
حتى صقر الذي يُعرف بثباته وتحكمه في مشاعره بات يجاوره ويطالعه بحزنٍ تجلى فوق ملامحه .
ليتفاجأ ماركو بيدٍ تربت على كتفه فانتفض يتأمل أن يراها ولكنه أحبط حينما وجد بهجت يطالعه بعيون منكسرة وروحٍ توازيها انكسارًا وتحدث بنبرة عطوفة بعدما عاش ورأى حزنه :
– تعالى يابني نصلي وندعي تقوملنا بالسلامة .
لم يصدق ما سمعه من هذا البهجت الذي ظن أنه سيكرهه أكثر وأكثر ولكنه الآن يثبت له العكس ، يؤكد له قولها حينما أخبرته ذات مرة أن رب ضرةٍ نافعة ، ضرةٍ تأتي وتصلح كل شيء ولكن لم يكن يعلم أن تلك الضرة ستكون فيها ، لو علم بذلك يومًا لما تحداه أبدًا .
– يالا يا ابني تعالى .
عاد بهجت يكرر نداءه ليخرج ماركو من شروده حيث لكزه صقر يومئ له بأن يتبعه فتنهد واعتدل يتحرك خلف بهجت ومعهما صقر متجهين نحو المسجد الملحق بالمشفى .
بعد دقائق وقفوا يؤدون صلاة قضاء الحاجة ، كبر ووقف يتذكرها ويتذكر كيف علمته طريقة الصلاة ، علمته ما يقوله وما يفعله ، يتذكر ضحكاتها وحنانها عليه وهي تشرح له بلطفٍ عن فوائد الصلاة للنفس والجسد والروح ، بات ينفذ تعاليمها ليقف بين يدي الله راجيًا من صميم قلبه أن تستيقظ .
سجوده أرضًا لم يكن عابرًا ، ما إن لامس وجهه الأرض حتى تذكر سجودها مطولًا آنذاك لتخبره بعدها أنها تدعو الله بمَ تتمناه ليفعل مثلها ، أصبحت تعاليمها هي البوصلة التي يعتمد عليها .
بعد دقيقتين أنهوا صلاتهم وجلس بهجت يرفع يده ويدعو فنظر له ليشعر بالغيرة الجيدة ، لا يجب أن يدعو لها وحده الآن ففعل مثله ورفع يده يدعي مرارًا وتكرارًا ، انتهى بهجت والتفت يمينًا يطالعه وهو مغمض العينين وشفتيه تتحرك مرددة أدعية .
شعر بأنه بحاجة لمواساته لذا مد يده يربت على ساقه ويردد بثقة في ربه :
– هتفوق يابني ، هتقوم بالسلامة إن شاء الله ، بس إنت أعمل الحاجة اللي كانت نفسها تشوفك بتعملها .
نهض بهجت ونهض معه صقر وتحركا للخارج وجلس يردد كلمة بهجت على عقله ، سيفعل كل ما كانت تتمناه حتى تستيقظ وتراه بالصورة التي أرادتها ، وسيبدأ من نقوده المشؤومة ، سيتخلص منها اليوم قبل الغد .
❈-❈-❈
كانت تستعد للذهاب إلى عملها فاليوم موعدها الأول ، متحمسة وقلقة في آنٍ واحد ولكن ما يطمئنها هو وجود يوسف الذي ينتظرها في الأسفل ، لقد أتى منذ نصف ساعة ويجلس في سيارته أسفل المبنى ينتظرها .
وقفت أمام المرآة تطالع هيأتها وتتنفس بعمق لتدعم رئتيها وتقوي عزيمتها ، باتت على شفا خطوة من تحقيق أحلامها .
خطت خارج الشقة تحمل حقيبتها وترتدي زيها المحتشم الرسمي وحجابها المهندم زادها هيبةً ، توجهت نحو المصعد ودخلته لتقف بعد عدة ثوانٍ أمام يوسف الذي يبتسم لها من أسفل نظارته .
لقد ارتداها خصيصًا لينظر لها بأريحية حتى لا توقفه نظراتها الخجولة ، جميلة مفعمة بالنشاط والحيوية كما عهدها .
تعافت من الوباء الذي انقض على حياتها وستعود له وحينها سيفتح أحضانه على مصراعيهما لها ترحابًا واحتفالًا .
تحدث بعدما تحمحمت لتلفت انتباهه لتحديقه بها :
– صباح الورد يا أميرتي ، جاهزة لأول يوم شغل ؟
تجاهلت ملكيته لها وأومأت تتحدث برقي وثبات يخفي توترها :
– جاهزة ، بس متوترة شوية .
تحرك يلتف ويفتح لها الباب بطريقة نبيلة قائلًا بحب وهو يشير لها بيده :
– طيب يالا اتفضلي علشان اتأخرنا ، ومش عايز أسمع منك أي جملة فيها توتر وخوف والكلام ده خالص .
أومأت له وتحركت تستقل السيارة وعاد هو لمكانه ليبدأ في القيادة والتحدث بحماسٍ أعاده لسنواتٍ عدة حيث قال :
– تحبي نروح نفطر في أي مكان قريب ؟
رمقته بنظرة مستكشفة وتحدثت بنبرة مبهمة :
– مش قولت إننا اتأخرنا ؟
تحمحم ثم التفت يطالعها وقال وهو يغمزها مشاكسًا بمغزى :
– اتأخرنا كتير أوي يا ميرو ، مش هيؤون الآوان بقى ولا إيه .
اقتحم التوتر سكونها لتتحمحم وتلتفت تنظر أمامها ثم تنهدت وتحدثت بتروٍ وهي تعود تطالعه :
– اصبر عليا يا يوسف ، فات الكتير ومابقيش غير القليل ، خطوة واحدة بس ارتاح من مسألة أهلي ومواجهتهم ، وكمان أنا حاسة إن طنط مشيرة مش متقبلاني .
أخبرته بإحساسها دون تجمل ليزفر بقوة وهو يعلم أنها تشعر بذلك ولن ينكر ولكنه أردف مؤكدًا :
– بالنسبة لماما أنا متأكد إننا لما نتجوز إن شاء الله وتشوفني مرتاح ومبسوط مش عايز أقولك بقى هتعمل إيه ، وبعدين إنتِ عارفة إن ماما بتحبك جدًا بس اللي قالقها خوفها عليا ، أما بالنسبة لأهلك على فكرة بقى الأفضل والأحسن إننا نواجهم وإنتِ مراتي وعلى ذمتي ، كدة كل واحد فيهم هيحط لسانه جوة بؤه ومحدش هيقدر يقولك تلت التلاتة كام .
تنفست بعمق وشردت تفكر في حديثه الذي يحمل صوابًا تخشى الانجراف خلفه ليسترسل بتمني ومرح :
– إيه ؟ تيجي نطلع على المأذون ونبقى نفطر بعدين ؟
شهقت تطالعه بصدمة وقالت ضاحكة :
– إيه ده فيه إيه ؟ ، بتاخدني على مشمي ليه كدة ؟
مال قليلًا نحوها وتحدث بترجٍ يستعطفها وداخله يتمنى لو وافقت :
– يالا بقى يا ميرو ، نكتب الكتاب بس علشان نروح الشغل متجوزين ، يعني عاجبك ركوبنا مع بعض كدة في عربية واحدة وأنا بحبك وإنتِ بتحبيني والشيطان تالتنا .
– يـــــــــــوسـف .
نطقتها بدهشة من أفعاله ليردف وهو يضع كفه على قلبه تأثرًا بنطق اسمه من شفتيها :
– عيونه وقلبه وعقله ، قولي موافقة بقى وارحمي أمي .
شعرت بالحيرة والتشتت ونظرت حولها ثم قالت بغير هدى :
– نكتب كتابنا إزاي بس ؟ ، على الأقل عمو يوسف ومحمد بيه يبقوا موجودين .
– حـــــــــــــــــــــالًا .
نطقها بسعادة لا تسعه ولا يصدق أنها لانت ليستغل هذه الفرصة في الحال وهو ينتشل هاتفه ليتحدث مع والده أولًا ثم صقر ثانيًا بينما يده الأخرى تقود نحو أقرب مأذون ولا يصدق أنها أخيرًا وافقت .
❈-❈-❈
استيقظت حينما ناداها ابنها لتنتفض تطالعه بعيون ناعسة ثم تثاءبت تقول بضيق وهي تنهض لتستند على ظهر السرير :
– فيه إيه يا ياسين بتصحيني كدة ليه ؟
تحرك بعبثٍ في غرفتها وتحدث بملامح متجهمة يبصق الكلمات :
– بنتك ظهرت ، ظهرت مع الكلب اللي اسمه يوسف ، قلتلك هيطلع في الآخر هو اللي مهربها وكانوا مقضيينها مع بعض ، وديني لاقتلها ال***** .
جحظت عينيها تطالعه بصدمة قائلة بانتفاضة :
– ظهرت ؟ ، ظهرت معاه إزاي ؟ ، إنت مش قولت كنت بتراقبه وماعرفتش توصل لحاجة ؟
جلس مرتدًا على المقعد يقضم شفتيه ويقول بغضب :
– أيوة كانوا بيراقبوه وكان بيخلع منهم ، النهاردة بقى راقبوه ولاقوه رايحلها وفضل مستنيها تحت الشقة اللي قاعدة فيها واخدها ومشي ، بس هتروح مني فين ، هي وهو النهاردة هكون جايب خبرهم .
نهضت تترجل واتجهت تجلس بجانبه بعدما تبخر نعاسها وتحدثت موبخة :
– لا جدع يا ابن رضا ، وبعدها تروح ورا الشمس بسبب ابن مشيرة وخطيبتك تسيبك وتروح لغيرك ، قولي بقى تبقى استفدت إيه ؟
وضعته أمام الجهة الذي لم يكن يفكر فيها لذا نطق والكره يقطر من عينيه :
– يحصل زي ما يحصل بقى ، الواد ده مايعليش عليا أبدًا ، ومادام هي راحت وراه يبقى تحصله بردو .
زفرت انتصار بضيق ثم اقتربت منه وتحدثت بخبثٍ ودهاء :
– اهدى إنت بس كدة واعقل وأنا هقولك تعمل إيه ، وفكر في يسرا وأهلها اللي مش عايزين نخسرهم كفاية اللي حصل مع عاطف .
باغتها بنظرة حادة ينطق بانصهار :
– يعني إيه ؟ ، هنسكت على عملتها ال*** مع ال*** ده .
نظرت أمامها تفكر وبداخلها تعلم أن ابنتها لن تدنس شرفها ولكنها أخطأت بهروبها وعصيانها لهم لذا عليها أن تلقنها درسًا ما ولكن سيكون هذا بالحيلة ، لتسحبها إليها أولًا حتى لا يؤثر عليها ذلك اليوسف وينتصر هو وأمه في جولة لن تخرج منها خاسرة أبدًا .
❈-❈-❈
يقف أمام الزجاج الفاصل بينها وبينه يطالعها وهي تنام ولا تفعل شيئًا سوى النوم بعمق ، يريدها أن تشعر به ، تشعر بقلبه ، تشعر بنداءه عليها جهرًا وعلانية .
يخاطرها وليتها تعطي أي ردة فعل حتى لو أخبرته أنه أكثر من تكره على سطح الأرض سيتقبل ، سيتقبل كل شيء وأي شيء منها ولكن لتستيقظ الآن فلم يعد يحتمل .
ربت صقر على كتفه ولكنه لم يهتز فتحدث الأول بهدوء :
– فيه مشوار مهم لازم اقضيه وهرجع لك تاني .
أومأ وهو على وضعه فتحرك صقر يغادر بعدما تلقى مكالمة من يوسف بينما تقدمت نسرين من مكانه بعد ثوانٍ وتحدثت وهي تنظر لابنتها وتبكي اشتياقًا لها :
– وحشتني أوي يا خالد ، وحشتني كإنها غايبة عني بقالها كتير أوي ، نفسي تفتح عيونها وتبصلي وتكلمني بطريقتها زي ما كانت علطول بتعمل .
تنهيدة حارة خرجت من جوفه فهذا ما كان يفكر فيه ، تنهيدة أخرى أكثر حرارة تخبرها بكم اشتياقه لها ليتحدث بعدها بنبرة متحشرجة باستفاضة :
– بقالنا مع بئض كام شهر بس ، لكن قدرت تسيب جوايا أثر بؤمري كله ، كانت بتكتب في عقلي هاجات كنت شايفها مملة وملهاش لازمة في حياتنا ، كل هاجة قالتهالي اتجسدت قدامي دلوئتي وإرفْت أد إيه كل حرف قالته كان صه .
تنفس بقوة بعدما شعر بالاختناق وعاد يتابع كأنه يتحدث مع نفسه :
– أنا سيء جدًا ، أنا السبب ، خديجة إرفِت إني كدبت أليها واهتفظت بفلوس موراكو ، أملت حادثة لإني زألتها كتـــــــــــير ، ابني مات لإنها قالتلي نئمل إيه ألشانه وأنا أملت الأكس ، أنا السبب في كل اللي هصل .
وضعت كفها على فمها تكتم شهقاتها وهي تستمع لاعترافه بمَ اقترفه في حق ابنتها وكم أرهقها ، تدرك أنه أحبها وما فعله كان بحكم أجزاء من شخصيته يصعب تغييرها في أشهر ولكن كيف لها أن تواسيه وهي التي تحتاج لهذا .
شيئًا واحدًا فقط جعلها تنطق وهو شعوره بكم هذا الندم لذا تساءلت بملامح حزينة رسمت عليهما الجدية التامة :
– تمام يا خالد ، عملت كل ده ، وخديجة دلوقتي بين رحمة ربنا ، ناوي على إيه ؟ ، بنتي هتفوق بإذن الله وهتبقى كويسة ، هتقدر تواجهها يا خالد بعد كل اللي حصل ؟ ، لازم تعرف إن بنتي بتحبك أوي بس حبها لربنا ولدينها أعظم من أي حاجة في الدنيا ، وعمرها ما هترتاح طول ما إنت شايف إن اللي بتقولهولك ممل ومالوش لازمة .
لم يجبها بحرفٍ ، انتهى وقت الحديث وتصارعت الأفكار في رأسه لذا ابتلع لعابه ووقف بصمتٍ فتابعت بنبرة صارمة وهي تحدق به :
– افتكر كل كلمة بنتي قالتهالك يا خالد ، مافيش كلمة قالتهالك ولا مجهود حاولت تعمله علشانك إلا من حبها ليك .
غادرت بعدها وتتركه يعيش المشاعر التي ستكون سببًا في إصلاحه ولكن بقي سؤالها يتردد على عقله ، هل يستطيع مواجهتها بعد أن تستيقظ ؟
❈-❈-❈
بعد حوالي ساعتين
تجلس نارة في غرفة والدتها ترضع صغيرتها بشرودٍ وحزن ، تجاورها آسيا تملس بحنانٍ على يد الصغيرة وتتحدث معها في شأن خديجة وكيف حدث الحادث ونارة تجيبها بما تعلمه .
خارج الغرفة تقف مايا تتحدث مع عمر الذي ذهب لعمله لتطمئن عليه وتخبره بما علمته من نارة عن خديجة ، الجميع حزين لأجلها خاصة وأنها مشهود لها بحسن الخلق والمعاملة ، يتمنون لها السلامة والعودة .
أخبرتها نارة عن حالة خالد وكم تألم وعن أفعاله ونوبات غضبه ، كم أحبت مايا قصتهما وكم أحبت الحالة التي نشأت بينهما فهما قصة لا تتكرر دومًا وتستطيع أن تتفهم حالة خالد جيدًا ومقياس حزنه على زوجته فالجميع يعلمون أنه يعشقها .
تحدث عمر وهو يخطو في الصالة الرياضية وعيناه تجول في المكان وتراقب المتدربين :
– يالا يا مايا اقفلي دلوقتي وأنا هخلص شغل واعدي عليكِ نروح المستشفى سوا ، لازم نعمل الواجب .
أومأت مؤيدة وقالت وهي تخطو عائدة نحو غرفة والدتها :
– تمام يا حبيبي هستناك ، متتأخرش يا عمر .
– حاضر .
أغلقت معه واتجه هو إلى أحد المتدربين المستجدين هنا يعلمه كيفية التعامل مع هذه الآلة ولكن عاد يهاتفه يعلن عن اتصالٍ لينتشله ويتفاجأ برقمٍ غير مسجلٍ لذا أجاب متنبهًا :
– أيوة مين ؟
ثانيتان قبل أن يجيبه طه بترقب وخوفًا من رفضه :
– أنا طه العدلي .
❈-❈-❈
في شركة صقر
تجلس أميرة في غرفة مكتبه بعدما أخبر يوسف ألا يذهبا إلى أي مكان سوا الشركة ، تعجب يوسف ولكنه حينما أدرك مقصده أطاعه وحول وجهته .
تعجبت أميرة من تغيير مساره وسألته ولكنه أجابها أن تنتظر قليلًا ، وها هي تجلس تنتظر كثيرًا ولا تعلم ما يدور حولها .
المكوث هنا بين يوسف وصقر يزيد من تساؤلاتها ولكن ثوانٍ ودلفت مديرة مكتبه تخبرهم بمجيء المأذون .
لقد علم صقر بمراقبة رجال ياسين ليوسف لذا طلب منهما الحضور إلى الشركة كي يمر كتب الكتاب بسلام .
دلف المأذون يلقي السلام وجلس يستفسر منهم فتجلت السعادة فوق ملامح يوسف وفي نبرته ، لا يصدق أن بعد دقائق ستصبح أميرة زوجته شرعًا ، لقد بدأ يومه بأمنية لم يظن أنها ستتحقق في نفس اليوم ، إذا فليسجل التاريخ ، من شدة سعادته يخشى حدوث مالم يحمد عقباه لذا يتمنى أن ينتهى الأمر بسلام ولكن أين والده ؟
كان هذا سؤال أميرة أيضًا ، أين عمها ؟ ، هل هو أيضًا لا يوافق على هذا الزواج ؟ ، هل منعته زوجته من المجيء ؟ ، وهل ستقبل بالزواج إن لم يأتِ ؟
عبثيات من الأفكار راودتها خلال ثوانٍ ولكن تم قطعهم جميعًا حينما أعلمت السكرتيرة صقر بوصول حسن العدلي الذي ما إن دلف المكتب ورأى أميرة حتى أسرع إليها يعانقها بحبٍ وحنان افتقدتهما ، عناقه أزهق كل شحناتها السلبية وثبط عزيمة الخوف داخلها .
بعد هذا العناق باتت هي من تريد الزواج من يوسف بأسرع وقت .
ابتعد عنها يطالعها مبتسمًا وتحدث بنبرة محبة ودودة ومرحة :
– هتتجوزي الواد ده ؟ ، يظهر إن انتصار كانت بتدعيلك .
طالعته بعيون لامعة ولا تعلم أتبتسم مرحًا أم ألمًا ، لينهض يوسف ويربت على كتف والده قائلًا بتباهٍ وهو يطالعها ويهندم ربطة عنقه :
– شوفتي بقى يا ميرو بابا بيحبني إزاي .
– لا يا ابني أنا بتريق ، هي من امتى انتصار بتدعي لحد .
قصف جبهة ابنه ليتحمحم ويغمزله وصقر يجلس خلف مكتبه يطالعهم بثبابٍ ويبحث عن الفرحة داخله عبثًا ، كل تفكيره موجهًا نحو ماركو وحالته وكلماته له التي لم تزل منذ أن نطقها ، شاعرًا بالذنب ينهشه من أجله .
بعد دقيقة جلسوا حول المأذون الذي بدأ سريعًا في إجراءات كتب الكتاب وكلما نطق كلمة قرعت طبول الفرحة داخل قلبيّ يوسف وأميرة حتى تم المراد وختم كلامه بجملة :
– بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير .
لم يكن من يوسف الذي على مقياس حماسه سوى أن قفز يسرقها داخل ضلوعه ليعانقها عناق كتب الكتاب أمام والده وصقر والمأذون .
كانت مفاجأة جعلتها تتجمد مكانها والخجل حاوطها ولكن بالنسبة له كان اشتياقًا لها ، وجودها بين أحضانه الآن شعورًا تمنى تذوقه دومًا ولكن لم يكن يعلم أن مذاقه أروع من تخيله هكذا .
ابتعد حتى لا يذيدها خجلًا ورفع كفيه يحاوط وجهها بحبٍ فائضٍ ونطق بنبرة تتقافز السعادة من أحرفها :
– مبروك عليا .
ابتسمت له بعينين لامعتين تختبئ بهما الفرحة والراحة وقالت بهدوء وتوتر من وجود من حولهم ولكن لتعبر عن جزء من هذه الفرحة فلقد باتت زوجة حبيب عمرها :
– وعليا أنا كمان
❈-❈-❈
مساءًا دلف خالد المسجد الملحق بالمشفى فوجد بهجت يجلس به يتلو آيات الله وأمامه مصحفًا يرتكز على حامل خشبي .
استمع خالد إلى نبرته الجميلة التي أحبتها اذنه خاصة تجويده المتقن واتجه يجاوره بصمتٍ ويطرق رأسه بشرود ، عاد يتذكرها وهي تتلو قرآنها أمامه ، يتذكر حينما كان يشعر بالصداع فتريحه على ساقها وتتلو فوق رأسه آياتٍ تخترق رأسه كجنود الحماية وهي تذيب آلامه ولكنه كان جاهلًا ، يتذكر لمسات أصابعها حينما تتوغل في خصلاته وكأنها توزع السكينة على عقله ولكنه كان غبيًا ظن أنه تأثير الحب فقط .
عادت عينيه تتلألأ وهو يستعيد حياته التي قضاها في اللهو والتآمر ضد الأديان وخاصةً الإسلام ولكنه لم يجد السكينة ويتذوق حلوها سوى مع تلك المسلمة الملتزمة التي بدونها تعم المرارة حياته .
صدق بهجت والتفت له يطالعه فوجده شاردًا ، تأمله قليلًا ، دقق النظر فيه ، لم ينم ولم يأكل منذ أن نامت ابنته ، لم يهتم بمظهره ولا بملبسه ولا بأي شيءٍ سواها ، هل هذا ندمًا أم حبًا ؟
لقد كان أبًا أنانيًا سعى للبحث عن راحة ابنته في اتجاهٍ معاكس ، سعى لينتشل ابنته من تلك العلاقة ولم يهتم بهذا الشخص الذي لجأ إليهم .
كان أنانيًا لدرجة أنه وضعها في حيرة وحزنٍ ولم يعِنها على إصلاحه ، كان باستطاعته أن يحبه كابنه وكانت ستسعد وستتساقط الأحمال من على عاتقها ولكنه لم يفعل ، اكتفى بالتفكير في عائلته فقط وتخلى عن المبدأ الذي يدرسه لطلابه وهو الأخذ بيد من يطلب مساعدتنا ولكن هل طلب خالد ذلك ؟
الآن يدرك أن ما حدث مع ابنته اختبارًا حقيقيًا له ولخالد ، فهل سينجح فيه ؟
أشار خالد نحو المصحف ليخرجه من أفكاره وتحدث بإرهاقٍ واضح :
– ينفأ أقرأه ؟
أسرع بهجت يسحبه إليه قائلًا بترحابٍ صدر من بين حزنه :
– ينفع طبعًا يا ابني بس هتعرف ؟
أومأت خالد وتنهد بعمق وجلس يطالع المصحف بترقب وهو على يقين أنها إن رأته سترقص فرحًا وربما عانقته وهذه باتت أسمى امنياته ، عاد يتنهد ووضع سبابته على أولى الكلمات في سورة النور ثم نطق البسملة مثلها وبدأ يحاول نطق الكلمات همسًا .
انتشل بهجت هاتفه من جيبه وطلب ابنه مازن الذي أجاب وهو يستعد لمغادرة المنزل والمجيء إليهم قائلًا :
– اتفضل يا بابا سامعك !.
تحدث بهجت بترقب وعينه مثبتة على خالد الذي بصعوبة يتهجّى الأحرف :
– هاتلي مصحف مترجم من مكتبتي وإنت جاي يا مازن .

google-playkhamsatmostaqltradent