رواية هواها محرم الفصل الثالث و الثلاثون 33 - بقلم آية العربي
بسم الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِكَ وكُن مِنَ السَاجِدِينْ واِعْبُد رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينْ .
اللهم إنا نستودعك أهل غزة وكل فلسطين ، اللهم
كن لهم عونا اللهم إنا لا نملك لغزة وفلسطين إلا الدعاء
الفصل الثالث و الثلاثين من ( هواها محرمٌ )
( ثري العشق والقسوة 2)
مرحبًا بك
مرحبًا بالتائب ، مرحبَا بالعبدِ النادم
مرحبًا بتضرعك وسجودك وخشوعك
ومحوًا لكفرك وشرورك وذنوبك
مرحبًا بك أتاك وعدي اسكن جنتك يا عبدي
مرحبًا بك في رحمتي وكنفي
وسلامًا على الدنيا .. سلام
بقلم آية العربي
❈-❈-❈
في منطقة تعد هي الأعلى في القاهرة وتسمى بـ ( المقطم ) يقف عمر أمام سيارته منتظرًا مجيء طه الذي أخبره أن ينتظره هنا .
في الحقيقة هو لم يثق به بمقدار ذرة فمن المؤكد هو يشبه أباه ولكن مع ذلك أتى ليرى ماذا يريد منه المفترض أن يكون … شقيقه .
ابتسم بسخرية وألم ، كلمة شقيقه تمر على عقله غريبة بصعوبة يستقبلها ، أشقاءه فقط هم أولئك الأولاد في الدار أما هذا فعجيب أمر ما يحدث ، والأعجب أنه علم بتخليه عن دينه ليكون رؤية واضحة وعادلة عن عائلة سمير العدلي ولكن كيف عاد طه وكيف علم به ؟ ، هناك أسئلة كثيرة أتى ليعلم إجابتها .
لم يمر سوى بضع دقائق حتى ظهرت سيارة أجرة وترجل منها شابًا طوله مناسب ، رفيعًا إلى الدرجة التي تؤكد لعمر أنه يعاني من نقص الغذاء ، ملامحه وسيمة ولكنها باهتة يتجلى عليها الإرهاق .
غادرت السيارة ووقف طه ينظر من مكانه نحو عمر الذي بدوره ينظر إليه أيضًا ، نظرات متبادلة دامت لعدة ثوانٍ جعلت قلبيهما ينبضان سريعًا ، قرر طه التقدم نحوه حتى بات أمامه ليتنفس بقوة وهو يطالع شقيقه الذي لم يحتَج إلى دليل ليتأكد فليقل ما عنده وكفى .
لم يجد طه الأحرف فوق لسانه حاضرة بقوة فلذا نطق عمر أولًا بترقب :
– إنت طه مش كدة ؟
أومأ طه بصمت وعينيه لا تفارقه ، يتفحصه جيدًا ويحاول الوثوق به ، ليتابع عمر وهو يضع كفيه فوق بعضهما أمام معدته ويتساءل بعيون ضيقة يخفي خلفهما تأثره برؤيته :
– خير ؟ ، عايزني في إيه ؟
تنفس طه مطولًا وضغط على مافي يده حيث كان يحمل ملفًا أزرق اللون وجهاز لاب توب لينظر عمر نحو ما يحمله ويلاحظ ضغطه عليهما وللحظة ظن أنه سيعطيه جزءًا من أملاك العدلي لذا تجهمت ملامحه وتساءل بضيق :
– ماتتكلم فيه إيه ؟
توتر طه ونظر حوله بقلق ثم أشار نحو السيارة وتحدث بترقب :
– ممكن نقعد في العربية ؟
تعجب عمر ولكنه في نهاية المطاف وافق واتجه يفتح باب السيارة ويصعد وطه يتبعه للجهة الأخرى ، ود عمر لو باستطاعته أن يتعامل معه بالقليل من اللطف ولكن لا إراديًا يصدر منه هذا الأسلوب كلما تعلق الأمر بسمير العدلي أو ما يخصه .
لم ينتظر طه طويلًا بل شرع في بدء الحديث قائلًا باستفاضة وتوتر ولكن الوقت ينفذ وهو بحاجة لفعل ما نواه :
– الموضوع اللي أنا محتاجلك فيه مهم جدًا ، ومش سهل أبدًا وحقك طبعًا ماتقبلش بس أنا مش عارف إيه اللي ممكن يحصل معايا الساعات الجاية ولازم المعلومات اللي معايا أأمنها عند حد .
شعر عمر بالريبة في حديثه لذا تنبهت جميع حواسه وقطب جبينه متسائلًا :
– موضوع إيه ومعلومات إيه ؟ ، ادخل في الموضوع على لطول .
فتح طه الملف وبدأ يلتقط إحدى الأوراق ويمدها نحو عمر وهو يشرح باستفاضة :
– دي منظمة مقرها الرئيسي في بريطانيا بس ليها فروع في كل بلد حتى هنا في مصر ، تحت إيدها شغال ملايين ، بتجند الشباب لحسابها ، شباب كتير جدًا وبنات للأسف اتبعوها ومشيوا وراها بسبب المغريات اللي بتقدمها وأنا كنت واحد من الشباب دول ، لكن مش بعد ما ربنا نور بصيرتي تاني ، لازم أفضحهم وأفوّق عدد كبير من الشباب بس خايف ماقدرش أعمل كدة .
كان يتحدث وعمر يقرأ ما في الورقة بذهول ، لا يصدق ما يقرأه ولا يصدق كلمات طه ، يعلم جيدًا أن هذه المنظمة موجودة بالفعل ولكن هل هي بهذا القرب ؟ لم يكن يتوقع أبدًا أن إلحاد طه له علاقة بتلك المنظمة لذا رفع عينيه إليه وتحدث بصدمة :
– يعني إيه ؟ ، إنت كنت شغال تبعهم ؟ ، إزاي تعمل في نفسك كدة ؟
نكس طه رأسه خجلًا وتحدث بحزنٍ شديد :
– هو اللي وصلني للي أنا فيه دلوقتي .
صُدم عمر وأدرك أنه يقصد والده وبدأت مشاعره تلين نحو شقيقه ، شقيقه الذي يكره والده مثله ، ماذا فعل هذا الأب ليحصل على هذا الكره من أبناءه هكذا ؟
تابع طه وهو يمد الورقة الأخرى لعمر ويشرح بعجالة :
– المهم اسمعني بس ، أنا الحكومة بتدور عليا ، عليا قضية ازدراء أديان ، ده غير إنهم هما كمان بعد ما أنشر جزء من المعلومات دي هيدوروا عليا وهيحاولوا يتخلصوا مني ، بس مش ده المهم ، المهم إنهم هيحذفوا أي حاجة أنا هنشرها ومحدش هيستفاد منها ، لازم النشر يتم عن طريق شخص مجهول ومن كذا موقع جغرافي زي المنطقة دي وغيرها بس تختار أماكن مش مأهولة بالسكان ، لازم كل المعلومات دي توصل لأكبر عدد ممكن من الشباب ، هما مخططين كويس هيعملوا إيه وهيمشوا إزاي ، يمكن المعلومات اللي جمعتها دي مش قوية كفاية بس على الأقل هكون عملت حاجة وأتمنى إن الشباب ربنا ينور بصيرتهم زيي .
كان عمر يستمع ويقرأ وقد ارتفع الأدرينالين في جسده وبات متحمسًا لهذا الأمر فهو لديه عداوة قوية مع أولئك القوم ، لقد شهد منذ أشهر على المجـ.ازر والد مار الذي خلفه أتباعهم الصـ.هاينة في حق الشعب الفلسـ.طيني الكريم لهذا فهو لن يتردد عن هذا العمل قائلًا ببعض الحيرة :
– يعني إنت عايزني أنشر الحاجات دي على المواقع ؟
– مش أي مواقع ، لازم المواقع اللي بيستخدموها في تجمع شباب واللي ليها رمز موحد هقولك عليه .
قالها طه بترقب وهو يحدق في عمر الذي لم يبعد عينيه من على الورق ليقول متسائلًا بعدما رفع نظره إليه :
– طيب المفروض نعمل إيه دلوقتي ؟
ابتلع طه لعابه وتحدث بترقب :
– هننزل أول منشور ، بس ركز معايا علشان لو حصل معايا أي حاجة لازم تكمل زيي ، وزي ما قلتلك لازم من كذا مكان مقطوع ، وأول ما هيتم النشر هتقفل الجهاز تمامًا وتبعد عن هنا فورًا .
❈-❈-❈
منذ أن أحضر مازن المصحف المترجم وأعطاه له بهجت وهو يجلس في زاوية المسجد منغمسًا في قراءة الآيات التي لم يقرأ مثلها من قبل ، هل هذا هو الدين الذي اتهموه بالإرهـ.اب ؟ ، هل هذا هو الكتاب الذي كذبوه وأساءوا إليه على مدار سنوات ؟ ، هذا الكتاب يعلم المرء كيف يكون إنسانًا ، يعلمه الصبر على مصائبه ، يغمر قلبه بالسكينة التي لن يجد مثلها في أي كتاب .
كان يستمع للآيات التي تقرأها خديجة وكان يطلب تفسير بعضها نظرًا لقراءتها بالعربية ولكن الآن المعنى واضحًا له ، الآيات وحدها سحبته من حزنه ليغطس داخلها ويتعمق فيها متناسيًا أين هو كأن بها قوة جذبٍ عالية .
تركه بهجت حتى ينتهي ولكن طال انتظاره وكأنه أقسم ألا يتركه أبدًا ، معالم وجهه منغمسة كليًا والذهول متجليًا في عينيه التي تسافر عبر الآيات والسور ، يتابعه من بعيد ويجاوره مازن الذي نطق بنبرة حزينة هادئة :
– أروح أناديه يا بابا ؟ ، بيقرأ من زمان وأكيد محتاج يرتاح شوية .
لكزه بهجت بخفة وتحدث وهو يومئ بهدوء وشعورًا من الراحة يتوغل حزنه القائم على ابنته :
– سيبه يا مازن ، سيبه يقرأ ، ده معناه إنه معجب باللي بيقرأه ، سيبه يابني ربنا ينور بصيرته .
ابتلع مازن لعابه وتنهد ثم تساءل بهدوء :
– هو إنت ليه معاملتك معاه اتغيرت يا بابا ؟ ، أنا كنت خايف من المواجهة بينك وبينه بس لقيت العكس ، فكرتك هتتهمه باللي حصل مع خديجة وقلت لصقر يفضل هنا علشان لو حصل بينكم أي تاتش ، هو حضرتك بتفكر إزاي ؟
تنهد بهجت تنهيدة طويلة وتحدث والدموع ترقرقت في عينيه وبات يشعر بصدره يختنق :
– لاء يابني ، مش هكرر الغلطة تاني خصوصًا وأختك بين إيدين ربنا ، ده تنبيه وكان لازم آخد بالأسباب ، أنا غلطت أوي في حق بنتي وجوزها لما خالفت وعودي قدام نفسي واتعاملت مع خالد على إنه دخيل وكنت مستني اللحظة اللي هيخرج فيها من حياتنا علشان نرتاح ، ماكنتش حابب وجوده معاها أبدًا ، كنت دايمًا حاسس إنه هيبعدها عننا وعن دينها وهيتعبها ، كنت خايف عليها أوي وخوفي خلاني أغلط ، نومة بنتي بينتلي اللي ماكنتش شايفه ، ده واحد مالوش حد وعرف يخرج هو وصاحبه من عالم كله فساد وساعد العدالة إنها تتحقق ، يعني كان عايز إيد تتمدله علشان يبدأ صح ، اللي شاف ده بنتي إنما أنا خبيت إيدي ورا ضهري وبعدت ، فكرت إنه زيه زي اللي جاي منهم وتغييره ده حاجة مستحيلة لإن زمن المعجزات انتهى ، بس الحب اللي بيحبه لأختك مستحيل يطلع من قلب واحد أسود أو ظالم ، اللي يبكي كدة ويتبهدل بالشكل اللي هو فيه ده مايخوفش .
تحدث مازن ليخفف وطأة الذنب من فوق كتفيه قائلًا بنبرة لينة وهو يربت على كفه :
– هون على نفسك يا بابا ، إنت قبل ما تكون معيد فقه حضرتك أب ، ودايمًا كنت لينا ونعم الأب ، خوفك علينا جاي من غريزتك ، وبعدين خالد في أول مقابلة قالك إنه أسلم علشان خديجة بس وأنا عارف إنك كنت قلقان من نظراته ووشومه ، صعب عليك بعد كل التربية اللي حضرتك زرعتها جوانا تتقبله كزوج لخديجة اللي هي أغلى حد عندك ، ده غير إنه محاولش يحسن من نفسه بجد ، ده خطفها من وسطينا ودي حاجة عملت بينك وبينه حاجز ، والحمد لله إن الحاجز ده اتشال وحضرتك نويت تاخد بإيديه ، وهو كمان أنا شايف إن عشرته لخديجة غيرته للأحسن كتير .
أومأ بهجت متأثرًا وأردف وعينيه تعود نحو خالد قائلًا بتضرع :
– ربنا يقومهالنا بألف خير وسلامة وترجع تنور حياتنا وأنا مستعد أشيله جوة عنيا العمر كله ، تقوم هي بس يا مازن .
– هتقوم بالسلامة إن شاء الله يا بابا .
❈-❈-❈
عاودت الاتصال به للمرة التي لم تعد تحصيها ولكن عبثًا ، هاتفه مغلق مجددًا ، دب الخوف في أوصالها وباتت تتحرك بفوضوية داخل الفيلا وآسيا تجلس تداعب الصغيرة تارة وتحاول تهدئتها تارة أخرى ولكن كيف تهدأ وهو قد أخبرها منذ ساعات أنه سيعود باكرًا كي يذهبا إلى المشفى ولكنه لم يعد .
حتى أنها هاتفت السيدة لبنى لتسألها عنه ولكنها أخبرتها بأنه لم يأتِ إليها .
كورت فمها ثم نفخت بضيقٍ يقبض على صدرها وتحدثت وهي على وشك البكاء خوفًا عليه :
– هيكون راح فين بس ، يوووووه بقى .
تحدثت آسيا بتروٍ بعدما نامت الصغيرة على يديها :
– ماتقلقيش يا مايا إن شاء الله خير ، يمكن بس حصل حاجة في الشغل وموبايله فصل شحن .
هزت رأسها بلا وقالت وهي تخطو لترتد على الأريكة بضيقٍ ودموع :
– لاء ، كلمتهم قالوا مشي ، وأنا مش هينفع أفضل قاعدة كدة وماعرفش عنه حاجة ، أنا هقوم أدور عليه .
قالتها وهي تنهض مجددًا وتتحرك نحو الأعلى لتبدل ثيابها ولكن نادتها آسيا قائلة بجدية :
– استني بس تدوري عليه إيه هو طفل صغير ؟! ، اقعدي وانا هكلم صقر .
زفرت بقوة ثم عادت لأريكتها تنظر لوالدتها التي مدت يدها تتناول هاتفها ثم باغتتها بنظرة عتاب وهي تضغط للاتصال بصقر لتخبره بما حدث .
❈-❈-❈
بعد أن عقدا قرانهما وغادر الجميع اتجهت إلى مكتبها الذي أعجبت به خاصةً وأنه منفصل يمتاز بالخصوصية ولهذا باتت تشعر بالامتنان مجددًا نحو صقر ونارة ولم تعد تعلم ما عليها فعله كي ترد هذا القدر من الجميل .
جلست تحاول الاندماج في العمل ولكن عقلها يحتله يوسف الذي صدق وعده لها ، لم تكن تتوقع أبدًا أن تصبح زوجته بعدما حدث معها ، لم تكن تتوقع أن يعقدا قرانهما اليوم .
كانت مفاجأة سعيدة بالنسبة لها ، سعادة مختلفة وجديدة احتلت قلبها ، عشق يوسف عاد إليها بعدما ظنت أنها أضاعته ، بداخلها الكثير من المشاعر التي تريد أن تظهرها له فقط ، تريد أن تعبر عما بها بالكلمات ولكنها حقًا تخجل منه .
لقد دعمها وظل معها طوال الفترة السابقة ولم يتركها كلما احتاجته ، والآن تزوجها بالرغم من كم المشكلات التي تدور حولها ، لم يبالِ بأهلها ولا بطليقها الذي تخشى غدره ، حتى أنه تخطى رفض والدته وتزوجها ، يحبها ويعاملها كالأميرة ولكن حبها المكنون له ربما أقوى لذا فهي تريد أن تفصح عنه وتنتظر اللحظة المناسبة لتفعل ذلك .
طرق الباب ودلف بعدما سمحت له وقد كان يحمل في يده فنجان قهوة ليجدها قد انشغلت في عملها ، إنها محظوظة تستطيع الانشغال سريعًا في العمل أما هو فلم يستطع الانشغال سوا بها .
ألقى السلام وتحرك صوبها وعيناهما مثبتتان على بعضهما حتى جلس أمام مكتبها وقدم لها فنجان القهوة قائلًا بحب :
– قلت أفصل شوية وأشرب فنجان قهوة وأجبلك إنتِ كمان تشربي .
ابتسمت له بعيون لامعة ونظرت نحو الفنجان ثم عادت إليه تتساءل بحيرة :
– يعني القهوة دي ليك ولا ليا !
ابتسم وعاد يتمسك بالفنجان ويرتشف منه رشفة ثم عاد يمده لها قائلًا بغمزة :
– لينا إحنا الاتنين ، مهو من هنا ورايح أنا وانتِ هنتشارك القهوة سوا .
تطلعت عليه بعمق ثم أمسكت الفنجان وارتشفت منه القليل وعادت تمده له قائلة باستفسار :
– ماعنديش مانع طبعًا بس اشمعنى ؟ ،
تنهد مطولًا ثم وضح بنبرة عاشق :
– لإني بحب القهوة جدًا ، يمكن هي الحاجة الوحيدة اللي كملت معايا في الفترة اللي بعدتي عني فيها ، كانت بتواسيني وتصبرني على بعدك بالرغم من مرارتها ، علشان كدة قررت من هنا ورايح هنتشارك القهوة مع بعض ومن نفس الفنجان ، لازم أكافئها على صبرها معايا كل السنين دي .
رفعت حاجبيها في اندهاش وتحدثت باندماج وهي تتكتف أمامه بدلال عفوي نبع من معاملته لها :
– يا سلام ؟ ، طب ومكافئتي أنا فين يا أستاذ يوسف ياللي بتكافئ قهوتك ؟.
تقدم بصدره قليلًا نحوها وتحدث بهيام عاشق وبرقيٍ لم تعتد عليه قال :
– إنتِ تاخدي روحي وعمري كله ، ده كفاية الفرحة اللي أنا فيها دي ، أنا لحد دلوقتي مش مصدق إننا اتجوزنا فعلًا وبقيتي مراتي قدام ربنا يا ميرو .
تنهدت بعمق تأثرًا بكلماته وفكت قيد ذراعيها وتحدثت بهدوءٍ وخجل اختلط بمشاعرها التي ودت أن تعبر عما بها وقد بدأت تفرك أصابعها :
– وأنا كمان مش مصدقة يا يوسف ، إنت كنت حلم بعيد أوي عني لدرجة إني بطلت أحلم بيه واستسلمت للعالم المظلم اللي دخلته ، بس اللي حصل النهاردة ده حقيقي كتير على قلبي ، هفضل أشكر ربنا على نعمة وجودك ورجوعك لحياتي تاني .
تضخم قلبه ورئتيه عشقًا بحديثها وظل محدقًا بها لثوانٍ لذا تحمحمت تبتسم بتوتر ثم مدت يدها تقصد انتشال فنجان القهوة في نفس اللحظة التي مد يده لينتشله أيضًا فتشابكت أيديهما حول الفنجان ليضحكا سويًا لذا تحدثت بدلالٍ وعينيها عليه :
– لاء مش هينفع كدة ، كفاية إني سبتك تدوقها .
اندهش من تصريحها وتحدث وهو يتلمس كفها بدلًا عن الفنجان :
– هو ده اتفاقنا ؟
– أيون ، علشان من هنا ورايح مش هتشرب قهوة غير من إيدي أنا ، وكفاية أوي كل السنين المرة اللي فاتت .
نهض وانحنى يلتقط كفها ويلثمه بحبٍ ثم تنهد واعتدل يطالعها ويتحدث قبل أن يغادر :
– يبقى من هنا ورايح تحرم عليا أي قهوة مش من إيدك ، هسيبك تكملي شغلك وهروح أشوف أي حاجة أعملها لحد ما اليوم يخلص ونروح .
أومأت له تبتسم ابتسامة حقيقية تدفقت من قلبها وظلت تطالعه وهو يغادر حتى رحل فتنهدت بقوة تسحب ذرات عشقه إليها وتفكر به وبحبه الذي عاد يزهر ورود الراحة على ضفاف حياتها .
❈-❈-❈
كان عمر يتابع بتركيز ما يفعله طه والآخر يشرح له كل الثغرات .
كلاهما يدرك جيدًا أن اللعب مع تلك المنظمة لن يمر مرور الكرام ، ومع ذلك وجد طه نفسه يغامر دون خوف بعدما احتل قلبه الإيمان والثقة بالله ، يعلم أنه اختار شخصًا لا ذنب له ، شخصًا ربما عانى مثله أو أكثر ولكن كأن الله هو من وضعه في طريقه ليساعده وليكمل ما بدأه إن حدث له شيء لذا فسيحاول تأمينه بالقدر المستطاع .
أراد طه أن يوضح جزءًا مما اكتشفه مؤخرًا عن تلك المنظومة بعد بحث عبر الانترنت المظلم ليكتشف أشياءً مروعة لذا تحدث وهو يعبث بحاسوبه قائلًا بندم يختلج روحه :
– المنظومة دي حطت خطة تخريب على مدار سنين ، وأول مراحل التخريب ده هي عملية بيسموها التفكيك الأخلاقي وده بيتم على مدار 15 أو 20 سنة واختاروا المدة دي بالذات لأن الوقت ده كافي علشان يعلموا جيل واحد من الطلاب والأطفال ومن بعدها ينتشر بقى ، بيبدأوا يدمروا الدين ويسخروا منه ويستبدلوه بطوائف وميول جنـ.سية مختلفة علشان يبعدوهم عن الدين وفيه الساذج اللي مغيب وفيه اللي بيقتنع فعلًا ، وده طبعًا بيحصل لإنهم بالبطيء بيبعدوهم عن الدين والعقيدة وعن الغرض الأساسي ليهم اللي هو يفضلوا على اتصال دائم بربنا سبحانه وتعالى ، بيشغلوهم بأي حاجة تبعدهم عن العبادات ، وحتى التعليم بيحاولوا يلهوهم عن تعلم حاجة مفيدة وعملية في حياتهم وبدؤوا يعلموهم تاريخ الحروب الجديدة والأطعمة النباتية وغيره المهم إنهم يشغلوهم بحاجات تافهة ويتلاعبوا بعقولهم إنها مهمة جدًا ، ده غير الشذوذ والتحول والبدوفيليين وغيرهم من الأوبئة اللي اخترعوها على إنها طبيعة الإنسان ، بلاوي سودة بيمارسوها وحاجات العقل مايستوعبهاش .
يجلس عمر لا يستوعب ما يخبره به طه وبداخله طاقة مضاعفة لفعل ما بوسعه ، دماؤه المسلمة الحرة ترفض ما يحدث ، وليس هو فقط بل كل شاب مسلم ملتزم لن يحتمل ما يسمعه وسيسعى لفعل ما يلزم لتقف قوى الشر عاجزة عن ردعهم ولكن الأمر يحتاج إلى صحوة داخل المجتمع لذا أتت هذه الصحوة على هيئة حـ.ربٍ قاسية ومؤلمة على أهل غـ.زة .
تنفس بقوة وعاد ينظر نحو طه وهو يكتب بمهارة عبر اللوحة ليتساءل بترقب :
– وإيه اللي وداك السكة دي ؟ ، إيه اللي يوصلك للإلـ.حاد ؟ ، عمل إيه معاك لدرجة إنك تتخلى عن إيمانك بربنا ؟
استدرجه بسؤاله نحو ماضٍ مؤلم ليحاول طه تجاوزه وهو يجيب بشرود :
– ذكريات كتير أوي حصلت معايا وصلتني لسكتهم ، خلينا في المهم ، ركز معايا كويس علشان لو حصلي أي حاجة تعرف هتعمل إيه وإزاي .
أومأ عمر وهو يتمعن جيدًا وطه يواصل شرحه عن كيفية التعامل مع هذا الموقع وغيره بعدما أعلمه عن كلمة السر الموحدة .
❈-❈-❈
جلست نارة مع نسرين تحاول التخفيف عنها ، فبرغم أن الثانية تتحلى بالإيمان والرضا إلا أن هذا لا يمحو الحزن من داخلها على حال ابنتها .
تحدثت نارة بتروٍ وابتسامة هادئة بعدما لاحظت ما يحدث بين خالد وبهجت :
– تعرفي يا طنط ، خديجة لما تقوم هتفرح أوي إن عمو بهجت وخالد قربوا من بعض ، فعلًا تأتي المنح من المحن ، هي كانت زعلانة أوي من توتر العلاقة بينهم .
استطاعت انتشال نسرين من أفكارها لتومئ لها مؤيدة وتقول باستفاضة :
– أكيد هتفرح طبعًا ، إذا كنت أنا فرحانة ، بهجت ماكنش قادر يتقبل خالد وخالد كان دايمًا بيعاند بهجت وخديجة يا حبيبة قلبي هي اللي كانت في النص بينهم ، اتحملت كتير يا حبيبتي .
نطقت الأخيرة وقد عادت عبراتها تملأ مقلتيها لتسرع نارة في التربيت على كفها قائلة بنبرة مطمئنة تغزوها الثقة :
– هتقوم يا طنط نسرين صدقيني وهتبقى زي الفل وكلنا هنبقى حواليها ومش هنخليها تزعل تاني أبدًا ، خديجة غالية علينا كلنا .
أومأت لها نسرين لتجفل اثنتيهما على صوت الممرضة وهي تقول بلهفة وسعادة :
– المريضة فـــــــــــــاقت .
لا تعلم نسرين كيف صدرت منها صرخة فرحة وهي تنهض مع نارة وتركضان خلفها وكلٍ منهما تردد :
– ألف حمد وشكر لله .
تحركتا نحو العناية التي تمكث بها خديجة لترياها متناسيان نداء الآخرين .
بينما كان هو يقرأ الآيات شعر فجأة بنبضة مخالفة عكس بقية النبضات لذا توقف عن القراءة ورفع نظره للأمام ليستعيد وعيه حيث ظل وقتًا مندمجًا في القراءة ولكن كأنها تناديه ؟!
أغلق المصحف ونهض مسرعًا حتى كاد أن يسقط فهو لم يتناول شيء منذ أيام ولم ينم لذا تحامل ألا يسقط وخطا خارج المسجد باحثًا بعينيه عن أحدٍ يسأله ليجد بهجت ومازن يقفان مع صقر الذي جاء لتوه وما إن لمحهم حتى سألهم بلهفة :
– خديجة فاقت ؟
تطلعوا عليه بتعجب قبل أن يرن هاتف بهجت الذي وجدها نسرين فأجاب لتخبره بسعادة ونبرة متلهفة باكية :
– خديجة فاقت يا بهجت تعالوا بسرعة .
نظرة من بهجت نحو خالد كانت كفيلة لتجعله يركض نحو الدرج ويصعد للأعلى فلن ينتظر إلى أن يأتي المصعد بل ركض ليراها ويتبعه بنفس اللهفة بهجت ثم مازن وأخيرًا تحمحم صقر وخطا بهدوء نحو المصعد يستعمله هو .
استغرق الأمر ثوانٍ حتى وصلوا إلى العناية ووقفوا ينظرون من خلال النافذة على الأطباء وهم يحاوطونها ويفحصونها جيدًا ليطمئنوا عليها وليتأكدوا أن غيبوبتها ليس لها أعراضًا خطرة .
مال أحد الأطباء نحو أذنها يردد بهدوء :
– خديجة سمعاني ؟
تمتمت بوهن وهمس بعيد بينما الطبيب الآخر يمسك بكفها ويحرك أصابعها ليتأكد والثالث يفحص قدميها تحت أنظار خالد الذي تحول ضعف جسده إلى طاقة حامية متلهفة وهو يراهم حولها ، أحدهم يحدثها والآخر يمسك يدها والآخر قدميها وهو يتابع بترقب حالتها وردة فعلها واستجابتها معهم .
كان يحتل النافذة ومن حوله نسرين وبهجت ومازن يحاولون رؤيتها ولكنه يقف بجسدٍ محتل وكفيه يجاورانه ويستندان على الزجاج مانعين أحدًا من النظر جيدًا وما إن تحرك الطبيب ليراهم حتى قفز يبتعد عن النافذة ويتقدم من الباب ليستقبل الطبيب قائلًا قبل أن يتحدث الآخر :
– طمني أليها يا دكتور ، آيز أشوفها هالًا .
نظر له الطبيب بتعجب ثم رفع يده يضم أصابعه ويشير له أن يتأنى ويصبر ثم تحدث برسمية :
– المريضة الحمد لله فاقت ونقدر نقول الحمد لله تجاوزت الخطر ، بس ده مايمنعش إنها اتعرضت لحادثة كبيرة جدًا وعندها كسور كتيرة ، طبعًا محتاجين نطمن على ذاكرتها بس هننتظر لما ترتاح شوية لإنها لسة بتفوق ومش هننسى إجهاضها اللي أكيد هيكون ليه تأثير على حالتها النفسية .
ركز بأنظاره على خالد وتحدث بتنبيه متعمد :
– يعني نهدى كدة وواحدة واحدة علشان نعرف نتعامل صح مع حالتها .
أطرق خالد بنظرة إحباط يباغته بها ثم أومأ بهجت وتحدث بنبرة فرحة من بين حزنه :
– المهم إنها قامت بالسلامة وكل حاجة بعد كدة تهون ، بس هنقدر نشوفها ونكلمها امتى ؟
تحدث الطبيب بتريث وهو يرى لهفتهم خاصةً هذا الذي يقف مستسلمًا :
– أول ما حالتها تسمح هبلغكم ، وعامةً كلها كام ساعة بس لإنها نامت تاني ، حمدالله على سلامتها ، وحاولوا ترتاحوا شوية .
قصد بكلمته الأخيرة خالد الذي يظهر عليه الوهن والإرهاق بوضوح وبعدها تحرك عائدًا للغرفة بينما عاد خالد للنافذة ينظر منها عليها ليجدها بالفعل عادت للنوم لا للغيبوبة ، يكفيه أنها استيقظت وما بعد ذلك كله هين .
اتجه بهجت نحوه وربت على كتفه ينطق بسعادة بعدما ارتاح قلبه وبنبرة تبدلت إلى الحنان قال :
– روح يابني يالا ارتاح وكُل حاجة علشان لما خديجة تفوق تشوفك كويس .
نعم أنت محق أيها العم بهجت ، يجب أن تراه حبيبته في أفضل حال ، لذا أومأ مرارًا وتنهد بقوة وأخيرًا عرفت السكينة طريقها إلى قلبه ، سيصلح كل شيء ، لن يترك في حياته شيئًا واحدًا يحزنها .
❈-❈-❈
توقف عمر بالقرب من منزل منيرة بعدما دله طه عليه ، ساكنًا لا يعلم ما عليه قوله ليبادر طه بقول ما ورد على خاطره :
– شكرًا إنك قبلت تساعدني ، وعايز أقولك إني حقيقي فرحان إني شوفتك .
زفر وتطلع عليه يتابع بنبرة عميقة :
– وحاجة كمان طالبها منك ، لو حصلي أي حاجة وصيتك أمي .
قالها وترجل بعدها ولم ينتظر إجابته ، ترك حاسوبه في سيارة عمر وترك معه كل المعلومات التي ستساعد عمر في مهمته ، كان ينوي أخذهم ليستكمل النشر ولكن هناك شعورًا يراوده بأنه يجب أن يتركهم .
تحرك يخطو نحو المدخل ولكن توقف حينما ناداه عمر ليلتفت له متسائلًا فوجده يترجل من سيارته ويقف أمامه وبدون مقدمات أشار له بيديه أن يأتيه ، نداءً صريحًا لعناق أخوي ود أن يعبر به عن دعمه وتقبله له لذا لم يفكر طه مرتين ، هو أكثر احتياجًا منه لهذا العناق لذا أسرع بخطواتٍ واسعة نحو عمر يرتطم بصدره ليستقبله بترحاب ويربت بقوة على ظهره تحت أنظار منيرة التي وقفت عند نافذتها تشاهد ما يحدث بدموع ، برغم أنها لم ترَ عمر ولكنها عرفته على الفور ، تشعر بالراحة لأجل ابنها والقلق في آنٍ واحد ، وخزة لا تعلم مصدرها هجمت على قلبها لترفع رأسها عاليًا وتدعو الله أن ينجيه من شرور العِدى .
ابتعد عنه عمر يطالعه بعمق وعيون لامعة ليجد أن طه يبكي بالفعل ، لا يعلم هل هذه دموع الفرحة أم الندم ولكن بكاؤه أيًا كانت أسبابه فهو مفرح ، تحدث عمر بنبرة جدية قبل أن يغادر :
– خلي بالك من نفسك ، ولازم يوسف يشوف حل في القضية اللي مرفوعة ضدك دي ، إنت خلاص رجعت واللي نشرته من شوية خير دليل علشان تعرف تتحرك بحرية .
أومأ له طه وتحدث يوصيه مجددًا بنبرة متحشرجة :
– ماتخافش عليا ، المهم وصيتك أمي ولازم كل المعلومات اللي عرفتهالك تتنشر ، أنا سبتلك اللابتوب في العربية ، بكرة إن شاء الله لو عدى على خير هنتقابل في نفس المكان ونكمل نشر .
أومأ عمر ونظر له نظرة أخيرة ثم تحرك طه يلتفت ويتحرك نحو الداخل بينما وقف عمر يطالعه إلى إن دلف لذا تلقائيًا رفع أنظاره للأعلى فوجد منيرة تطالعه بدموع فشرد بها لثوانٍ ثم أشار لها برأسه في تحية ردت عليها بنفس الحركة ليلتفت بعدها يستقل سيارته ويغادر عائدًا إلى زوجته التي لن يخبرها ما حدث معه .
❈-❈-❈
لم يمر ما نشره طه مرور الكرام ، بالرغم من استطاعتهم حذفه بعد عدة دقائق ولكن كان قد وصل إلى العديد من الشباب قبلها ، والذين بدأوا في طرح التساؤلات وآخرون احتفظوا بالمعلومات والبيانات الموثقة لذا كان الغضب مضاعفًا عند أولئك المتابعين وعلى وجه السرعة أتت الأوامر بتصفية طه في الحال قبل انتشار المزيد من الوعي ، فأكثر ما يخشونه هو الوعي الإسلامي للشباب ، هم أتوا ليصبحوا أتباع قوى الشـ.ر ويفـ.سدوا في الأرض لذا لن يتهاونوا مع من يكشف جزءًا من وجههم الحقيقي .
❈-❈-❈
أعاد عمر تشغيل هاتفه وأسرع يهاتف مايا التي يعلم جيدًا كيف هي الآن لذا ما إن فتح الخط حتى وجدها تبكي بشدة وتتحدث بتلعثم ولهفة :
– إنت فـ فين يا عمر ؟
تنفس بعمق وتحدث بتروٍ من خلال مكبر الصوت وهو يقود :
– أنا جاي في الطريق حالًا يا حبيبتي، حقك عليا موبايلي فصل شحن وقابلت أخ ليا من الدار وقعدنا مع بعض شوية ومحسيناش بالوقت ، ثواني وهبقى عندك .
شعرت بالغيظ والحزن الشديد من إجابته البسيطة وهي التي تتلوى على صفيحٍ ساخنٍ والقلق ينهشها نهشًا لذا تحدثت بتوعد وبشفتين مزمومتين :
– تمام ، مستنياك .
أغلق معها يعلم جيدًا أنها حزينة ولكنه يعلم أيضًا كيف يراضيها ، ليست من النوع صعب الإرضاء و التي تزيده همًا لذا فعشقها على قلبه واجب ولكن ماذا عمّا حدث الليلة ، وماذا عن القادم ؟ ، هذا جُل ما يشغل عقله الآن .
❈-❈-❈
يقود يوسف وتجاوره أميرة بعد انتهاء العمل ، ظنت أنه سيوصلها إلى شقتها ويغادر لذا باتت تشعر بالضيق ولكنه قاد في طريقٍ معاكس لتلتفت تطالعه متسائلة بهدوء :
– يوسف إحنا رايحين فين ؟
تنهد وقرر التوقف على جانب الطريق ليتحدث معها فيما نوى وبالفعل توقف واستدار لها يجيب بتروٍ :
– هنروح على الفيلا يا أميرة ، مش هينفع أسيبك في الشقة تاني لوحدك .
ذهلت من قراره وتحدثت بخوفٍ واعتراض :
– لا يا يوسف مش هينفع ، هروح على الفيلا إزاي بس فجأة كدة ؟ ، أول حاجة علشان طنط مشيرة لازم تتقبلني الأول ، وبعدين كدة هكون قريبة جدًا من أهلي وهخاف ليحصل مشاكل بسببي ، خليني بعيدة أحسن يا يوسف علشان خاطري .
كيف سيتحمل مكوثها وحدها في الشقة خاصة بعدما أصبحت زوجته ؟ ، مسبقًا كان يتحمل مجبرًا ولكن الآن لم يعد مجبرًا على تحمل هذا لذا تحدث بنوعٍ من الصرامة :
– ماينفعش بعد النهاردة تبقي بعيدة عني يا أميرة ، من هنا ورايح المكان اللي هبقى فيه هتكوني فيه معايا ، وماما هتتقبل ده وبالنسبة لأهلك فسواء تقبلوه أو لاء مبقاش يهمني ، يفكروا بس يقربوا منك وهيشوفوا إيه اللي مستنيهم .
نظرت له بحبٍ وامتنان ولم تخلُ نظرتها من القلق لذا تنهدت وتحدثت وهي تنظر حولها بحيرة :
– هاجي معاك إزاي بس ! ، وبعدين هدومي وحاجتي !
ابتسم ضاحكًا على اعتراضها وحيرتها الواهنة وتحدث وهو يعاود القيادة متجهًا نحو شقتها :
– خلاص هنروح نجيب حاجتك ونرجع سوا ع الفيلا ، وياستي حالًا هكلم ماما وأبلغها علشان تكون في استقبالنا .
❈-❈-❈
مر الوقت على خديجة .
غرفة مظلمة تمامًا تسكن فيها وتبحث عن أي شعاعٍ تهتدي به فلم تجد ، جسدها ممزقًا فلم تشعر حتى بأطرافها ، رأسها يدور كدوامة تستهدف عقلها الذي عاد يعمل لتوه ، لا تميز شيئًا ولا تتذكر شيئًا وكل ما تراه هي صراعات وأشخاصًا وأحداثًا متداخلة تجعلها على وشك الصراخ مستنجدة بأن تتوقف هذه الدوامة .
هناك أصواتًا بعيدة وطيفًا باهت اللون مر من أمامها لذا تحاول اللحاق به بصعوبة حيث أن كل ما بها يئن ولكن عليها أن تنهض .
أطلقت سراح أهدابها ببطءٍ شديد تفتح عينيها بثقل وتبصر بترقب لترى إضاءة خافتة ليلية وبرغم خفوتها إلا أنها اعتصرت عينيها تأثرًا بها ، حاولت تحريك أصابعها ولكن تألمت ليصدر عنها تأوه ناعمة جعلتها تعاود الإبصار والبحث عن مساعدة .
أين هي ؟ ، وماذا حدث معها ؟ ، ابتلعت لعابها بصعوبة حيث تألمت مجددًا لتتعجب مما يحدث معها ، لهذه الدرجة تتألم من مجرد ابتلاعها للعابها ؟ ، جاهدت لتعصر عقلها وتتذكر أي شيء باحثة عما أصابها وأين ولما ومتى حدث هذا ؟
شخصًا واحدًا فقط تذكرته بل رأته بوضوح يمر أمام عين عقلها ، رجلًا كان تأثيره عليها قويًا للدرجة التي جعلتها تتذكره حتى في ثقل معاناتها ، رجلًا بقدر ما استأمنته على نفسها بقدر ما خذلها لذا فكيف لها ألا تتذكره ؟
بصعوبة بالغة وبألمٍ ينهش كامل جسدها تحدثت بنبرة شبه مسموعة تنطق اسمه :
– خالد .
استمع الطبيب الجالس على بعدٍ منها إلى همسها لذا تحرك نحوها ليراها فوجدها تطالعه بتعجب وريبة فابتسم مطمئنًا وتحدث بلطفٍ :
– حمدالله على سلامتك يا مدام خديجة .
عادت تبتلع لعابها بصعوبة وتعلقت في عينيه تسأله بصمتٍ وليته يفهم عليها فهي تتألم حقًا ولكنه تحدث بروية :
– أكيد حاسة بألم وده نتيجة إنك عملتي حادثة صعبة بس الحمد لله رحمة ربنا كانت أقوى وإنتِ عديتي مرحلة الخطر وواحدة واحدة هتبقي أفضل بكتير ، تحبي أجبلك حاجة ؟
نعم ، حادث ، ماحدث معها كان حادثًا قويًا بعدما تلقت صدمة أقوى ، لم يمتها الحادث ولكن الصدمة أودت بقلبها إلى سابع أرض ، الآن باتت تستعيد بئس الذكريات لذا عادت تكرر بنبرة متقطعة هامسة من بين شفتيها الجافتين :
– خالد .
– جوزك ؟ عايزة تشوفي جوزك ؟
سألها الطبيب بترقب بعدما التقط اسمه منها لتنظر له بعيون مجهدة وكأنها تسأله عن رأيه ، تخشى رؤيته وتريدها في آنٍ واحد ، كل ما يستحوذ على عقلها الآن هو وكيف هو وأين هو وهل ما حدث حقيقة أم كابوسًا سينتهي ما إن تراه لذا عادت تبتلع لعابها وتحاول ترطيب شفتيها بلسانها وقالت ببطءٍ وعذاب :
– عايزة أشوفه .
أومأ لها الطبيب وتحدث بابتسامة لطيفة :
– تمام ، هخليكي تشوفيه بس ارتاحي خالص ، هو هنا معاكي من أول ما جيتي وماسبش المستشفى خالص ، وكمان أهلك كلهم هنا ، يعني اطمني خالص وارتاحي وكل اللي عايزاه هيتنفذ ، تمام ؟
أومأت بعينيها فقط ليتحرك ويتركها تفكر وتجهد عقلها ، والدها ؟ ، والدتها ؟ ، شقيقها ؟ ، كيف لم تفكر بهم إلا بعدما ذكرهم الطبيب ، لما لا يحتل عقلها سواه ؟
ولإنها استنكرت ذلك وكادت أن تبكي سحبها النوم سريعًا إلى قوقعته ليريحها مما تنوي فعله في نفسها .
تحرك الطبيب نحو الممرضة يخبرها أن تذهب وتنادي خالد زوج المريضة والتي بدورها تحركت تبحث عنه .
لم تجده في الغرفة التي يمكث بها لذا تحركت نحو المسجد بعدما دلتها زميلتها على مكانه .
كان يصلي ، ليس وقت الفروض ولكنه بات يشعر بالراحة حينما يصلي وخاصة حينما يسجد ويهمس إلى ربه بما يتمناه ، لقاءً روحانيًا عجيبًا يأخذه من دنياه إلى عالم آخر ، كانت محقة حينما كانت تطيل السجود ، كانت محقة حينما كانت تتحدث إلى ربها .
كان يبحث عن سعادته في المكان الخطأ لذا لم يكن قلبه مطمئنًا ، أما الآن يشعر بالطمأنينة تغلف قلبه فلم يعد يقلق حيالها بل خضع عقله للتسليم .
مرت دقيقتين حتى انتهى والممرضة تقف تنتظره ، سلم عن يمينه ويساره ورأته من خارج حدود المسجد الصغير لذا نادته بترقب :
– أستاذ خالد .
التفت ينظر لها متسائلًا ثم نهض يتقدم منها بعدما أدرك أنها تناديه لأجل خديجة ، عادت الوسامة تحتل محياه بعدما استحم وبدل ثيابه وهندم هيأته لذا دون قصدٍ منها حدقت به وهو يتقدم منها ويسألها بلهفة :
– خديجة صهت ؟
لم تجبه على الفور إلا بعدما انتشلت نفسها من سطوة وسامته لذا توترت تجيبه بحرجٍ :
– أيوة صحت وطالبة تشوفك .
تركها وتحرك راكضًا نحو الأعلى ومجددًا لم يستعمل المصعد وتبعته هي تضع كفيها في جيبيها وتبتسم على هذا الحب وجماله خاصةً وإن كان الزوج مثل ذلك الوسيم لذا نطقت متحسرة على حالها :
– إيــــــه ألاقي زيه فين ده بس يااااارب .
أما هو كان قد وصل إلى العناية ووقف يتحدث مع الطبيب الذي يرشده للتعليمات من أجل سلامتها ، ألا يعلم هذا الطبيب أن سلامتها هي جل ما يسعى إليها ؟
تجهز ودلف إليها ليجدها غافية ، رأسها محاطًا بغطاء قماشي ووجهها شاحب والكدمات تتوزع به وضماد جبينها يخفي جرح رأسها بينما يدها اليمنى مجبرة كحال ساقها اليمنى أيضًا .
وضعها الصحي في أسوء حالاته ولكنها ستكون بخير ، سيعمل على أن تظل بخير دومًا .
توقف أمامها يتفحصها بعينيه ثم جلس بالقرب منها وتنفس بقوة وانحنى قليلًا نحوها ينطق اسمها باشتياق وصل لذروته :
– خديجة ؟
توغل صوته إلى أعماق عقلها وقلبها الذي انتفض لتفتح عينيها ببطء باحثة عن صاحب الصوت ولم يدم بحثها ثوانٍ حتى وجدته أمامها يحدق بها بعيونٍ لامعة بوميض السعادة كأن الألعاب النارية انفجرت بهما تعبيرًا عن فرحته بعودتها ، ملامحه ذابلة قليلًا ولكن هذا لم يعق وسامته أن تنتشر ، رائحته كانت اختبارًا ناجحًا لاستعادة حاسة الشم عندها ، لم يضع عطرًا بل رائحته ذاتها تميزها ، ضحكته ما زالت تدغدغ مشاعرها ونبرته ما زالت تطرب أذنها لذا تحدث بسعادة لا توازي غيرها :
– حمدالله ألى السلامة ، وهشتيني أوي .
ابتلعت لعابها مجددًا لذا تألم حلقها وظهر ذلك في عينيها لذا التقط كفها الأيسر بين راحتيه وانحنى يلثمه عدة قبلاتٍ ثم عاد يحدق بها ويتحدث بتنهيدة معذبة ويده تضم راحتها :
– كنت هاسس إني وهيد في الدنيا ، إنتِ كل هاجة في هياتي خديجة ، أنا آسف .
اعتذاره كان كرصاصة استهدفت قلبها ،( أنا آسف ) لم تكن كلمة بل كانت صاعقة أنعشت عقلها لتستعيد كل شيء مجددًا وتتأكد أن هذه الحزمة من الأفكار لم تكن كابوسًا بل هي حقيقة ، هجمت عليها الذكريات من كل حدبٍ وصوب وآخر ذكرى هو صغيرها لتنتفض في حركة مفاجئة آلمتها ولكنها لم تبالِ وهي تنزع يدها من كفه وتوجهها نحو معدتها تتحسسها بترقب وما إن استشعرت خلوها حتى جحظت وتحدثت بحروفٍ متقطعة وحزنٍ بلغ حنجرتها حينما أدركت أنها خسرته :
– ابني ؟
انتفض هو الآخر ينهض ويحاول رفع يدها عن معدتها مرددًا على مسامعها بلهفة وحبٍ :
– اهدي خديجة أرجوكِ ، أهم هاجة إنتِ .
كان يحاول أن يوقفها عن الحركة حتى لا تتألم ولكنها باتت لا تريد لمسته وازداد الألم وتمكن منها لذا تحدثت ببكاءٍ قطع أنياط قلبه :
– ابــــني ؟ .
جاء الطبيب مسرعًا على صوتهما وأبعد خالد عنها ولم يعترض بل تحرك يقف خلفه ويطالعه وهو يحاول أن يهدئها حيث كانت تبكي وتتألم نتيجة تلويها لذا أسرع يطلب من الممرضة مهدئًا ليحقنها به ووقف الآخر يطالعها بعجزٍ استهدف قلبه وهو يجاهد ليتقبل ردة فعلها على خسارة صغيرهما بشرط ألا تتأذى .
❈-❈-❈
عاد عمر إلى الفيلا ودلف يلقي السلام على آسيا ومايا التي تجلس متحفزة تنتظره بعدما غادرت نارة منذ قليل مع زوجها وابنتها .
كانت تجاور آسيا وتطالعه بغيظ لذا زفر واتجه يجلس ملتصقًا بها ويقرص أنفها بحركة استفزازية قائلًا :
– افردي بوزك ده ، كلهم ساعتين تأخير يعني مش حاجة .
أبعدت يده عنها وتحدثت بنبرة هجومية معترضة :
– ساعتين ؟ ، بقالك أربع ساعات يا عمر وموبايلك closed وماما لبنى ماتعرفش عنك حاجة وخرجت من الجيم بدري وفي الآخر تقولي افردي بوزك !.
اندهش من حديثها وتطلع على آسيا التي هزت كتفيها بقلة حيلة لذا عاد إليها يردف باندهاش مبطن بالحب :
– إيه كل البحث ده ؟ ، هو أنا عيل يا بنتي ؟ .
زمت شفتيها وتحدثت وهي على وشك البكاء مجددًا :
– لا مش عيل طبعًا بس لو إنت مكاني هتقلق ولا لاء ؟ ، وقول بصراحة ياعمر ماتبررش اللي عملته .
فكر قليلًا ليجد أنها محقة وأنه لو تبدلت الأدوار كان سيقلب الدنيا رأسًا على عقب لذا امتدت يده يسحب رأسها ويعانقها داخل صدره مرددًا باعتذار حقيقي :
– خلاص حقك عليا ، أنا فعلًا غلطان ، بس زي ما قولتلك لما شوفت أخويا من الدار أخدنا الوقت وماحستش بيه .
هدأت وانقشع حزنها منه بعد كلامه وعناقه برغم أنها قررت منذ دقائق ألا تمرر ما حدث مرور الكرام ولكن سطوة عشقه قوية لذا ابتعدت عنه وتساءلت بتحقق :
– مين أخوك ده يا عمر واسمه إيه وكان فين ؟
هز رأسه ومسح عن وجهه يستغفر منها ومن تحقيقاتها الفيدرالية لذا ابتسمت عليهما آسيا ونهضت لتترك لهما الحرية قائلة :
– طيب تصبحوا على خير بقى أنا هدخل أنام .
– وأنتِ من أهل الخير .
قالاها سويًا واتجهت آسيا نحو غرفتها بينما جلس عمر يلتقط كفي مايا بين يديه وتحدث بنبرته الرخيمة وعينيه مسلطة على كفوفها كأنه يهرب من النظر إليها :
– ده ياستي متربي معايا وكنا أصحاب جدًا واسمه أحمد بس هو بقاله فترة شغال في أسوان وماشفناش بعض من زمان علشان كدة أول ما كلمني روحت قابلته والفون فصل وسبته يشحن في العربية .
رفع نظراته إليها بعدما انتهى وعاد يتساءل بترقب :
– ها بقى مسمحاني ولا لازم أقدم قربان ؟
تنهدت بقوة ثم تبسمت وتحدثت بحبٍ معبرة عن مشاعرها :
– أنا خوفت أوي يا عمر ، وبصراحة شكيت إنك روحت تقابل أخوك اللي قولت عليه ، وكنت هنزل أدور عليك بس مامي منعتني وكلمت صقر .
عاد يحتضنها ويدخلها بين ضلوعه ويردد أسفه قائلًا بحب :
– أنا آسف يا حبيبتي ، لو اتكررت تاني هبلغك قبلها علشان ماتقلقيش عليا .
ابتعدت عنه تردف بشراسة كاذبة :
– ده لو اتكررت بقى .
انحنى فجأة يقضم وجنتها فتألمت لذا لكزته في كتفه وتملكها الانتقام لذا نهضت تنقض عليه لترد له القضمة ولكنها لم تطل وجهه لذا قضمته في ذراعه بأسنانها الحادة ثم أسرعت تبتعد عنه وتردف بتباهٍ بعدما أخذت حقها :
– بعد كدة مش هسكت لك .
نظر لها بتوعد ثاقب كان أقوى من أي حديث لذا تحمحمت وأسرعت تخطو نحو المطبخ قائلة بتوترٍ من نظراته :
– أحم ، هروح أجهزلك الأكل .
خطواتان فقط هما ما اتخذتهما قبل أن ينقض عليها ويحملها لتصرخ بسعادة وضحكاتها تتعالى لذا أسرع يردف محذرًا :
– هشششش ، عيب كدة شكلي بقى وحش قدام مامتك .
قهقهت بسعادة وتحدثت وهي ترفع سبابتها وتستريح بين يديه وعيناها مصوبة على عينيه :
– ولو عضتني تاني هصرخ والم عليك الجيران .
انحنى نحو أذنها يقضمها ولكن تلك المرة القضمة كانت ناعمة أثارت القشعيرية في جسدها وجعلتها تميل عليه وتغمض عيناها ليتركها ويهمس بخفوت بعدما هاجمته حزمة مشاعر قوية خاصة بها :
– سكتي ليه ؟
– عمر .
قالتها بهمس متأثرة وحاولت التململ من بين يديه قائلة بترجٍ وتوتر نتج من قوة تأثرها بأفعاله :
– عمر نزلني علشان أروح أجهز الأكل ، أنا ما أكلتش على فكرة بسببك .
ثبتها لثوانٍ كان وقتًا كافيًا لينحني ويلتهم شفتيها في قبلة شغوفة يعبر بها عن حبه وأسفه واشتياقه لها ثم حررها بهدوء وقال وهو يوقفها أرضًا ويسحبها معه نحو المطبخ :
– لا يا قلبي يبقى لازمًا أأكلك بإيدي وبعدها نطلع نكمل كلامنا .
قهقهت وهي تتحرك معه وتدرك جيدًا الحديث الذي يقصده ، ذلك الحديث الصامت الذي يتوغل مشاعرهما ويسيطر عليهما بطريقة ساحرة تجعلهما يزدادان عشقًا لبعضهما يومًا بعد يومٍ .
❈-❈-❈
بعد وقتٍ وصل يوسف أمام فيلتهم ، كان يتمسك بيد أميرة ويستشعر توترها لذا تحدث وهو يشدد من قبضته الحنونة قائلًا بحبٍ :
– يالا يا ميرو ندخل ، وخليكي Relax خالص ، تمام ؟
تنفست بقوة ثم أومأت له وترجلا سويًا نحو الداخل حيث فتح لهما حسن مرحبًا بسعادة يستقبل ابنة أخيه وزوجة ابنه بحبٍ وترحاب أسفر عنه بعض الارتياح لتأتي حنان من خلفه وتسحبها معانقةً إياها بمحبة وقالت بسعادة :
– أخيرًا يا ميرو هتعيشي معانا أخيرًا .
بادلتها أميرة العناق وربتت على ظهرها ولكن عيناها تبحث عن زوجة عمها مشيرة ، لن ترتاح إلا إذا قابلتها ورأت الترحاب في عينيها لذا ابتعدت تنظر إلى حنان وتقول بهدوء وتوتر :
– يعني بشكل مؤقت بس .
– وليه بشكل مؤقت يا أميرة ، مش إنتِ بقيتي مرات يوسف رسمي ؟
نطقتها مشيرة بعدما ظهرت من جانبها واستمعت إلى جملتها لتقف أميرة متخشبة تطالعها بترقب وتبتلع لعابها خشيةً من الرفض ولكن نظرات يوسف نحو أمه كان تحمل ترجٍ وثقة لم تخذلها والدته حينما ابتسمت وتقدمت منها حتى وقفت أمامها تردف بترحاب تجاهد لتجعله صادقًا :
– نورتي بيتنا يا بنتي ، ومبروك على جوازكو ، مع إني كنت بستنى اليوم اللي هحضر فيه كتب كتاب ابني ، بس يكفي إنكوا مبسوطين .
قليلًا من الراحة وقطعة من الحيرة هذا ما شعرت به أميرة ولكنها تحدثت بذكاءٍ ممزوج باللطف والود :
– وأنا كمان يا طنط مشيرة كنت بتمنى ألاقيكي جنبي وأحضنك بس للأسف كتب كتابنا جه فجأة وكنت فعلًا مفتقداكي جدًا .
تعمقت فيها مشيرة لثوانٍ تستشعر صدق حديثها الذي ظهر في عينيها لذا لم تتردد في إظهار المحبة لها ، تلك المحبة التي كانت تغمرها بها مسبقًا لذا أشهرت ذراعيها تبتسم لها قائلة بمحبة صادقة :
– طب إحنا فيها أهو .
لم تنتظر أميرة ثانية أخرى بل أسرعت تبادلها العناق بسعادة فاقت توقعاتها ، ما كانت تخشاه انقشع ولم يعد له أثر ، الآن باستطاعتها مواجهة العالم كله بهذه العائلة التي ما تمنت دومًا أن تكون بينها وها هي تتحقق أمنيتها بعد عناء .
وقف يوسف يطالعهما بسكينة رطبت على قلبه وعقله وتنهيدة ارتياح خرجت من جوفه ليتجه ويعانق والدته مع زوجته وهو يقول بتأكيد :
– وبما إن أم يوسف نفسها تفرح بابنها يبقى لازم نعمل حفلة ونفرح .
ابتعدت أميرة بخجل تنظر له فغمز لها وابتعد عن والدته التي أومأت مؤكدة تنظر نحو زوجها وابنتها حتى استقرت عند أميرة قائلة :
– كنت لسة هقولكم كدة على فكرة .
صفقت حنان بسعادة وتحدثت وهي تهجم على والدتها تعانقها :
– أيوة بقى يا ماما هو ده الكلام .
انتشرت السعادة في المكان وهذا ما يستحقه كلًا منهم ليجلسوا بعدها يتبادلون أطراف الحديث وخاصة عن الحفلة التي ستقام والتي من الآن إلى أن تقام ستبقى أميرة بعيدة عن يوسف دون لمس وهذا كان حكم مشيرة الذي رضخ له يوسف على مضض .
منذ أن خرج من عندها وهو تائهًا متخبطًا وخائفًا ، هذا الشعور السيء جعله يريد أن يشرح لأحدهم عما به ، يريد التحدث مع شخصٍ ذو حكمة يخبره ماذا يفعل وكيف يتخطى ما يحدث ويحول هذا اليأس إلى عزيمة .
تساؤلات كثيرة داخله عنها وعن كيفية التعامل معها بعد استيقاظها ، تساؤلات عن ربه وعن الجزء الأسود من حياته وكيف يتجاوزه .
فكر في نسرين ولكن هل حقًا ستتفهمه كما يجب ؟ هل ستريحه بأجوبتها ؟
في نهاية المطاف اهتدى إلى شخصٍ لم يكن يتوقع أن يستشيره يومًا لذا اتجه إلى الاستراحة الخاصة بالمشفى حيث كان يجلس بهجت يرتشف القليل من الشاي هناك .
جلس مجاورًا له لينتبه له بهجت ويطالعه بتفحص فوجده مطرقًا رأسه لذا مد له كوب الشاي قائلًا بترقب :
– تشرب شاي ؟
هز خالد رأسه بلا وتحدث بحزنٍ دون مقدمات :
– خديجة إرِفت إن ابننا مات ، هاسس إنها مش هتسامهني أبدًا ، أنا مهتاج مسائدتك .
تنفس بهجت بقوة وحدق به لثوانٍ يفكر ثم مد يده الخالية يربت على ساقه قائلًا بتأكيد :
– هساعدك .
❈-❈-❈
فجرًا .
استيقظت منيرة على نداء ابنها طه فانتفضت تطالعه بترقب قائلة :
– خير يارب ، حصل حاجة يا طه ؟
نظر لها بعمق ثم ربت على كتفها وتحدث بهدوء وابتسامة هادئة :
– ماتخافيش يا ماما أنا بس قلت أصحيكي تصلي معايا الفجر .
شعرت بسعادة كبيرة ونهضت معه تردف بحماس :
– طبعًا يا حبيبي ، هتوضى وأجيلك حالًا .
تحركت تخطو نحو الحمام ولكنها توقفت في المنتصف تلتفت له متسائلة بترقب :
– إنت اتوضيت يا طه ؟
أومأ لها بهدوء لذا اتجهت تتوضأ بينما هو شرع في فرد سجادته ووقف ينتظرها .
جاءت بعد دقيقة تطالعه حيث كان وجهه مشرقًا ببريق جعلها تتأمله بسعادة كبيرة ، تفاجأت به يقترب منها يعانقها بصمتٍ لذا أسرعت تلف يديها حوله وتربت على ظهره بحبٍ وحنان ليبتعد بعد قليل ويطالعها قائلًا :
– هصلي بيكِ ، تمام ؟
أومأت له مؤيدة فوقف أمامها وتهيأت هي خلفه بعدما ارتدت إسدالها ووقف يكبر ويصلي بها كما كانت تعلمه في صغره ، استعادت سنوات عمرها حينما كان صبيًا ذو خمسة عشر عامًا ، حينما كان يعنفه والده على صلاته وقد أخبرها أنه كرهها ولكنها حاولت أن تعينه عليها فكانت تطلب منه خلسةً أن يؤمها ولكن ما إن علم سمير بذلك حتى عاقبهما سويًا بحجة أنه يجب عليه أن يصلي في المسجد وإلا قال عنه الناس أن ابن سمير العدلي لا يصلي .
انتهت الركعة الأولي وبدأ في الثانية ووالدته تتبعه وقلبها منشرحًا بسعادة ، ابنها يصلي ، يعود لربه وليس بعد عودته عودة ، ما أجمل أن يرضى الله عن عبدٍ تائب ويتقبله ، ما أجمل أن يحب الله لقائه .
سجد طه وسجدت معه منيرة تدعو الله بما تتمناه ، دعت أن يثبته وأن يغفر له ويتقبل توبته ، دعت أن يكون ذا شأنٍ عالٍ وأن يخلد اسمه بالصلاح ، دعت لابنتها بالرحمة والمغفرة ، دعت كثيرًا وكثيرًا خاصة وأن سجود طه طال ، طال لدقائق لذا نهضت قبله تتطلع عليه لتجده ما زال ساجدًا فأسرعت تردد التحيات ثم سلمت واتجهت تناديه بقلبٍ منفطر :
– طه ؟
لم يجبها ولم يحرك ساكنًا لذا مدت يدها بانقباضة تهزه لتجحظ حينما مال جسده يسقط أرضًا بعدما صعدت روحه إلى خالقها .
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية هواها محرم) اسم الرواية