رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الثالث 3 - بقلم ندى محمود
(( ميثاق الحرب والغفران ))
_ الفصل الثالث _
بظرف لحظة واحدة ودون تفكير ركض عمران خلف الصغير وقبل أن تصل السيارة له كان هو يمسك به ويجذبه إليه بعيدًا عنها .. تركت آسيا الاكياس على الأرض غير متكرثة لها وركضت تجاه ابن اخيها ثم انحنت عليه وجذبته لصدرها تضمه برعب وهي تهتف :
_ أنت كويس ياحبيبي ؟
ابتعد الصغير عن عمته واماء لها بالإيجاب وهو أيضًا تعتلي ملامحه الطفولية الفزع ثم وجدها توبخه بغضب وقلق :
_ أحنا مش نبهنا مية مرة متعديش الشارع وحدك ياعمار
تمتم الصغير متعذرًا :
_ أنا آسف ياعمتي
كان عمران يقف صامتًا يتابعها بصمت ، في نظرات ثاقبة يتمعن تلهفها ورعبها على ابن أخيها وكأنه ابنها .. لوهلة تعجب أن تلك الساحرة تمتلك قلب من الأساس ولكنها لم تمهله المزيد من الوقت ليتمعنها حيث انتصبت في وقفتها وطالعته بشراسة وعنجهية امتزجت بالقرف ثم امسكت بكف ابن اخيها وقالت محدثة إياه بجدية :
_ يلا ياعمار عشان نروح البيت
لم يبدي الطفل أي اعتراض فقط التفت تجاه خاله الذي ابتسم له وانحنى عليه يلثم شعره بحنو هاتفًا له :
_ خد بالك من نفسك واسمع الكلام زين ياعمار
اماء له الصغير بالموافقة ثم سار مع عمته في طريق عودتهم للمنزل .. وخلال الطريق تطلع لعمته وسألها بعفوية:
_ عمتي أنتي ليه مش بتحبي خالي عمران وكنتي متعصبة منه
رمقته آسيا بقوة وقالت في حدة وغضب :
_ وانا احب خالك ده ليه .. كمان بناقص مفضلش غيره اللي احبه وابص في وشه
تعجب عمار من عصبية عمته بسبب سؤاله البريء كما يعتقده .. بينما هي فتابعت بصوت خفيض تتوعد له :
_ أنا لو اقدر كنت قتلته بيدي هو وچدك .. بس قريب قوى هاخد حق ابويا
***
فور وصولهم للمنزل ركض عمار لأعلى حيث غرفته هو وشقيقه ، بينما آسيا فتوجهت نحو المطبخ تضع به الخضروات والطعام الذي قامت بشرائه ، ثم جذبت كأس ماء فارغ وفتحت البراد واخرجت منه زجاجة مياه باردة ثم سكبت في الكأس ورفعته لفمها تشرب بتأني شديد ، وإذا بها فجأة تجد يدًا تنتشل الكأس من فمها بعنف .. لوهلة صابها الفزع لكن حين التفتت ورأت وجه ابنة عمها التهبت نظراتها بغيظ .
كانت خلود تمسك بكوب المياه في يدها وعيناها ثابتة على آسيا تتطلع إليها شرزًا في نظرة تنبض بالشر والحقد ، وعلى الرغم من غضب آسيا المتمثل في نظراتها إلا أنها قررت التصرف ببرود وعدم خلق مشكلة ، حيث زفرت النيران من فمها ومدت يدها لكي تجذب كوب الماء لكن الأخرى عادت بيدها للخلف مانعة إياها من أخذه ! .
انفجرت آسيا بها وهتفت بلهجة قوية :
_ اتچنيتي في نفوخك ولا إيه ياخلود .. هاتي كوباية المايه وبعدي عني واصل
ابتسمت خلود بخبث يضمر البغض :
_ مش لما تبعدي عني أنتي الأول !
جاهدت آسيا في التحكم بزمام انفعالاتها وقالت مغتاظة :
_ لا إله إلا الله
هدرت خلود بهمس مريب وبنظرة مشبعة بالنقم :
_ اوعاكي تكوني فاكرة نفسك حاچة ولا ليكي قيمة .. عمي الله يرحمه هو اللي عمل منك قيمة ، لكن أنتي حية فضلتي تلفي على كل رچالة البيت وتبلفي فيهم لغاية ما بقى محدش قادر عليكي ولا حد بيتنيلك كلمة ، لو عرفوا حقيقتك والسواد اللي چواكي محدش هيبص في وشك
سكون تام اشبه ببرود أعصاب مستفز كان يهيمن على آسيا التي تبتسم بعدم اكتراث لكلماتها .. تظن أنها ستبعث تأثير سيء في نفسها وتدفع بثقتها في نفسها للهاوية ، لكنها لا تدرك أن من أمامها تستطيع تدميرها نفسيًا بلحظة إن ارادت .
تمتمت ببسمة ماكرة كلها ثقة وعنجهية :
_ اطمني كلهم عارفين إني حية وبرضك بيحبوني ، الدور والباقي على عامل فيها الملاك الطاهر والمظلوم وهو شيطان .. اصل دايمًا بيقولوا ياما تحت السواهي دواهي مش إكده ولا إيه يابت عمي ، چربي إكده تشيلي السواد والحقد اللي في قلبك ده وصدقيني هترتاحي لكن أنتي اللي مصممة تثبتي للكل أنك وحشة مع أني معملتلكيش حاچة واصل لكن أنتي اللي غيرانة مني
احتقن وجه خلود بالغيظ وقالت بوعيد حقيقي :
_ مسيرك تقعي ومحدش يسمي عليكي يا آسيا
ضحكت بقوة وقالت بجبروت وغمزة خبيثة وهي تسير مبتعدة عنها :
_ اطمني لما اقع هسند نفسي واقف من تاني .. مش هستنى حبيب القلب اللي هيسندني
بقت خلود مكانها تحدق في أثرها بتوتر ملحوظ ، كانت تلقي الغاز مريبة وهي متعمدة لكي تثير شكها وتقذف الرعب في قلبها ، وللأسف نجحت ! ..........
***
داخل منزل إبراهيم الصاوي .........
خرج بشار من غرفة الصالون الكبيرة وقاد خطواته تجاه الطابق العلوي حيث غرفته لكن استوقفه صوت انثوي ناعم يهتف :
_ بشار !
التفت برأسه للخلف فسقطت عيناه على ابنة عمته التي تبلغ من العمر عشرون عامًا ، ترتدي عباءة سوداء وفوق شعرها حجاب من اللون السكري .
ملامح وجهها البريئة والهادئة مع بسمتها الرقيقة تبعث في نفسه الراحة ، لكنه سيطر على فيض مشاعره وتصرف بطبيعية وهو يجيبها :
_ اهلًا يارحاب كيفك ؟
أجابت بوداعة :
_ زينة الحمدلله .. چيت اسلم على چدي وخالي إبراهيم وخالي عبد العزيز
بشار بإيجاز :
_ هتلاقيهم قاعدين في اوضة الجلوس روحيلهم
اماءت له بالموافقة ومازالت معالم وجهها الدافئة محتفظة ببسمتها ، وحين وجدته سيرحل ليكمل طريقه استوقفته من جديد وهي تسرع نحوه تقطع المسافة الكبيرة التي بينهم ثم رفعت يديها الحاملة لقِدر متوسط الحجم وهمست :
_ امي عاملة ورق العنب ده مخصوص عشانك وبعتاني بيه
اتسعت بسمة ثغره ينقل نظره بين القِدر وبينها وهمس مداعبًا :
_ حاسة بيا عمتي والله ، ربنا يديها الصحة ويخليها لينا
ضحكت بخفة وتمتمت :
_ بالهنا والشفا يارب .. هديها لمرات خالي واقولها تشيله ليك عاد
اماء لها بالإيجاب وطالت نظرته الحزينة لها قبل أن يسألها مترددًا :
_ كيفك أنتي وخطيبك ؟
لمعت عيناها وهمست باسمة ببعض الخجل :
_ الحمدلله كويسين وقريب قوي كمان هنحدد الفرح أن شاء الله
زينت وجهه بسمة مزيفة لم تصل حتى لعيناه وتمتم باختصار لينهى ذلك الحديث الذي لا فائدة منه :
_ ربنا يسعدكم .. أنا هطلع اريح وأنام عايزة حاجة
_ لا عايزة سلامتك ، تصبح على خير
بشار بوجه خالي من المشاعر :
_ وأنتي من اهله
قاد خطواته يصعد الدرج قاصدًا غرفته واثناء سيره اعترض طريقه عمران الذي حدق في معالم وجهه البائسة وسأله بتعجب :
_ مالك في حاجة حصلت ولا إيه ؟
بشار بحدة وضيق :
_ مفيش ياعمران تعبان وعايز انام فيها حاچة دي كمان وأنا معرفش !
انهى عباراته واندفع نحو غرفته فالتفت عمران برأسه للخلف يتابعه بعدم فهم ، لكن فور سماعه لصوت رحاب بالأسفل ارتخت عضلات وجهه وتنفس الصعداء ثم اكمل طريقه إلى حيث هو ذاهب ! ..........
***
بصباح اليوم التالي داخل منزل خليل صفوان .........
وقفت أمام باب غرفة الصالون الواسعة ثم استندت برأسها على الباب تحاول التقاط أي صوت من الداخل ، لكن السكون كان يملأ الغرفة مما اثبت لها أنه بمفرده بالداخل .
انتصبت في وقفتها واخذت نفسًا عميقًا قبل أن ترفع يدها وتطرق طرقتين فوق الباب ثم فتحته بحذر دون أن تنتظر إجابة منه ، دخلت تدريجيًا وهي تبتسم بإحراج بسيط أمام نظراته الثاقبة لها ، احفضت نظرها لكوب القهوة الساخن الذي تحمله فوق يدها وتقدمت منه وهي تهمس :
_ صباح الخير ياسيد الرچال عملتلك القهوة اللي بتحبها
استمر الصمت هو رده الوحيد على محاولاتها التي يفهم مبتغاها جيدًا بينما هي فبقت واقفة وهي تبتسم بلطف رغم حدة الأجواء ، فخرج عن صمته أخيرًا وهو يلتقط كوب القهوة ويرتشف منه رشفتين ثم يتمتم بجفاء :
_ شكرًا
ظلت مكانها تتابعها وهو يشرب قهوته بكل هدوء غير مكترث بوجودها ، عقلها شارد وتفكر كيف ستصلح علاقتهم .. كيف ستعتذر منه عن سوء تصرفها معه ومع الجميع ، بالأخص أنها تدرك طبع أخيها الصارم وأن مهمتها ليست بسيطة .
تنحنحت بلطف ثم اقتربت وجلست بجواره ودام صمتها للحظات أخرى حتى هتفت أخيرًا بعزم :
_ چلال أنا آسفة ياخوي حقك عليا
لم يجيبها بل استمر بتجاهلها لكنه في الواقع كان ينتظر متابعتها للحديث حتى يسمع مبرراتها كاملة ، وبالفعل أكملت هي بأسف :
_ أنا عارفة إني غلطت في اللي قولته ليك سامحني .. بس أنا مش غلطانة في رفضي للصُلح ده ، وحقي ارفضه لأن اللي مات ده أبويا زي ما هو أبوك ، وإن چيت للحق أنا مش مصدقة ولا قادرة افهم أنت كيف وافقت على الصلح ده
التفت برأسه لها وقال في حدة :
_ وافقت عشان ده اللي المفروض يحُصل ، على الأقل دلوك
آسيا بصلابة واعتراض تام :
_ لا يا چلال اللي المفروض يحصل أنت عارفه زين ، وهو اننا ناخد حق ابونا وتارنا ، إبراهيم الصاوي وولده هما اللي قلتوا أبويا أنا عارفة زي ما أنت عارف زين قوي كمان ومتفتكرش إني معرفاش ، عشان إكده أنا ممصدقاش إنك وافقت على كلام چدي وعمي ومستغربة
رمقها جلال بنظرة نارية ثم قال بلهجته الرجولية :
_ قولتلك هو ده اللي المفروض يتعمل .. بعدين أنتي چاية تعترضي على كلام الرچالة وتقولي ده صح وده وغلط ولا چاية تعتذري على عملتك السودة
اجفلت نظرها عنه باحترام وقالت مؤيدة كلامه :
_ عندك حق ، معدش له لزمة الكلام في الموضوع ده دلوك اللي حُصل حُصل مش إكده ولا إيه .. المهم هو أنك تسامحني ومتبقاش زعلان مني ، أنا مقدرش على زعلك ياغالي أنت سندي وضهري في الدنيا ده بعد أبويا ياچلال .. حقك عليا واوعدك مش هعمل حاجة تضايقك مني بعد إكده تاني واصل واللي حصل مش هيتكرر
طالت نظراته الساكنة لها دون أن يتحدث .. لم يعد غاضب منها لكنه يعاند فلكزته في كتفه بمرح هامسة :
_ خلاص عاد ميبقاش قلبك اسود يا واد أبوي
ابتسم مغلوبًا كإشارة على نجاح مهمتها لكن سرعان ما اختفت بسمته وحل محلها الحزم وهو يلقي عليها تعليماته الصارمة :
_ بس من إهنه ورايح مهتتصرفيش من دماغك تاني سامعة ولا لا ، وعلى الله اسمع إنك عملتي مصيبة إكده ولا إكده يا آسيا
أجابته بثقة وسعادة :
_ متقلقش مش هعمل حاچة واصل
تنهد جلال الصعداء بعدم حيلة ثم اقترب منها برأسه وطبع قبلة دافئة فوق شعرها هامسًا :
_ ربنا يهديكي يابت أبوي .. روحي يلا عاد شوفي وراكي إيه عشان اخلص أنا كمان الشغل اللي ورايا
اماءت له برأسها في إيجاب ثم استقامت واقفة وغادرت الغرفة وهي تبتسم براحة بعد أن نجحت في نيل رضا جدها وأخيها ..........
***
توقف عمران بسيارته أمام مبنى كبير مكون من طابق واحد القى نظرة يتفحصه بتدقيق قبل أن يفتح الباب وينزل من السيارة ليقود خطواته للداخل وهو يرتدي ( الجلباب الصعيدي ) ويضع فوق اكتافه عبائته الكبيرة ذات اللون البني .
فور دخوله دار بنظره في حركة دائرية حول البرادات التي تملأ المخزن وحين لم يجد أحد صاح بصوته الجهوري :
_ عم سعيد
خرج ذلك الرجل الذي في منتصف العمر مسرعًا من الداخل على أثر صيحته وفور رؤيته لعمران ابتسم وهتف مرحبًا :
_ ايوة معلش ياولدي كنت في الحمام
عمران بهدوء وهو يتقدم نحو أحدى البرادات :
_ ولا يهمك ياعم سعيد .. أمال فين بقية العمال مش في شحنة سمك چاية بليل ولا إيه ومحتاجة تتنضف زين قبل ما تتحط في التلجات
سعيد بإيجاب :
_روحوا عشان يريحوا شوية في بيوتهم يا ولدي وشوية بليل قبل ما توصل الشحنة هيكونوا إهنه
لم يعقب على رده بل بدأ بتفقد البرادات واحدة تلو الأخرى وهو يفتحهم ويلقي نظرة متفحصة على الأسماك المثلجة التي بها ، جميع أنواع الأسماك البحرية .. لاحظ أنه متبقي فقط كميات قليلة جدًا فقال مبتسمًا :
_ ماشاء الله التلاجات فاضية ياعم سعيد
_ الحمدلله بشار كان بيچي كل يوم الفترة اللي فاتت وفي طلبيات كتير طلعت للمطاعم والمراكب وده اللي فضل زي ما أنت شايف .. يدوبك خمس كيلو جمبري على كام كيلو ماكريل وسالمون والباقي كله سمك بلطي
ابتسم وتمتم بجدية :
_ الحمدلله .. الشحنة اللي چاية بليل في طلبيات كتير حاجزة من قبل ما توصل ، وصي العمال ينضفوا كويس وبعدين السمك يتحط في التلاجات على درجة حرارة زينة عشان يفضل سليم وطازة لغاية ما يتوزع أن شاء الله
هدر سعيد بالموافقة :
_ حاضر متقلقش ياولدي .. وابقى سلملي على الحچ إبراهيم قوي
عمران بإيجاز :
_ يوصل ان شاء الله .. أنا همشي عاوز حاچة ياعم سعيد
_ عاوز سلامتك يا ولدي ، طريق السلامة
***
خرجت آسيا من غرفة الصالون بعدما انتهت من حديثها مع أخيها وكانت بطريقها لغرفتها لكن استوقفها صوت أمها وهي تتحدث مع أحدهم وتضحك ، فتقدمت نحوها حيث غرفة الضيوف لتجدها جالسة مع امرأة من نفس عمرها وبجوارها ابنتها اليافعة .. لوت فمها بخنق فور رؤيتها لتلك المرأة وابنتها، أدركت غرض أمها جيدًا من تلك الزيارة وتحديدًا بوجود الفتاة واختيار اليوم المناسب لأجازة أخيها .. وما صابها بالضحك هو رؤيتها فريال تجلس معهم وتتبادل اطراف الحديث بكل عفوية وود وقد اندمجت كثيرًا مع تلك الفتاة.. تلك الساذجة لا تعرف ما تحيكه والدة زوجها من دون علمها وأنها جلبت تلك الفتاة خصيصًا لتعرضها على زوجها محاولة إقناعه بالزواج مرة أخرى.. لو علمت كل هذا بالتأكيد لن تبقى هادئة بهذا الشكل.
ربما هي لا تحب زوجة أخيها وتريده أن يطلقها لكن بالطبع لن يسرها أمر زواجه للمرة الثانية على زوجته.. خصوصًا أن تلك الحمقاء تعشقه وهو كذلك، انتبهت جليلة لوجود ابنتها أخيرًا فهتفت تحثها على الانضمام لجلستهم :
_ تعالى يا آسيا سلمي على الحچة نعمة ومنيرة ، واقفة عندك إكده ليه !!
تقدمت نحوهم آسيا وهي ترسم ابتسامة متكلفة فوق ثغرها وقامت بالترحيب بالسيدة وعند انتقالها للفتاة ابتسمت لها باتساع وقالت ساخرة :
_ ماشاء الله يامنيرة كبرتي وبقيتي عروسة
قهقهت الفتاة وردت بمرح وخبث :
_ أه ادعيلي عاد يا آسيا ربنا يكرمني بـ ابن الحلال
رتبت على ذراعها بقوة بسيطة وهي تبتسم باستنكار :
_ يارب ياحبيبتي .. يكرمك ويكرم البنات كلها
ابتعدت عنها وسارت نحو فريال تجلس بجوارها وعيناها ثابتة على الفتاة التي تتصرف بدلال مبالغ فيه، وكأنها تحاول إثبات شيء يفهمه الجميع معادا فريال.
خرج صوت فريال الرقيق مثلها وهي تسأل منيرة بعذوبة:
_ خالتي قالتلي إنك بتدي دروس في البيت يامنيرة والكل بيشكر فيكي
أجابتها منيرة بتيه ومكر دفين :
_ آه ده أنا مفيش حد إلا وچاب عياله عندي اديله دروس
فريال بابتسامة هادئة:
_ ما شاء الله عليكي .. خلاص هچيبلك معاذ وعمار عاد تديلهم درس في العربي والحساب ، مطلعين عنيا فيهم ودورنا كتير قوي أنا وچلال على مدرس زين ملقيناش
انطلقت منها ضحكة خافتة كلها عنجهية وهي تجيبها :
_ هاتيهم طبعًا هو أنا افديكي الساعة لما ادي دروس لولاد المعلم چلال دول زي عيالي
كانت جليلة ممنونة وسعيدة جدًا بالحوار الدائر بين زوجة ابنها الحالية وزوجته المستقبلية ( كما تعتقد ) ، أما آسيا فكانت نظراتها المشتعلة ثابتة على تلك الفتاة ذات الوجهين التي تتلون كالحرباء أمامهم.. لم يرتاح داخلها لها أبدًا بل وتخشى مجرد اقترابها من أخيها حتى، ولسوء حظها أنها سجلتها بقائمتها السوداء! .
بنفس الوقت كان جلال مارًا من أمام الغرفة بمحض الصدفة ، فلمحته جليلة وصاحت منادية عليه بسرعة :
_ چلال تعالى ياولدي
توقف عند سماعه لصوت أمه وقاد خطواته نحوها دون أن يدري الكمين المنتظره بالداخل، وفور دخوله نقل نظره بينهم جميعًا باستغراب لكنه تدارك الأمر بلحظة ورحب بالسيدة هاتفًا :
_ كيفك يا أم محمد والحچ ياسر كيفه ؟
أجابته بود وابتسامة واسعة :
_ زين يا ولدي بيسلم عليك
عدلت منيرة من جلستها لتصبح أخرى كلها غنج ونظراتها تحولت للرقة والخجل ، حتى أن ذلك المكر الذي كان يملأ عيناها لم يعد له وجود وباتت تختلس النظرات لجلال بإعجاب.
اسرعت جليلة قبل أن يغادر وأشارت بيدها على منيرة تقدمها له بإبتسامة تشق طريقها حتى أذنها دون اكتراث بردة فعله أبدًا بل تصرفت بقوة وتجبر يليق بامرأة مثلها:
_ دي منيرة بنت الحچ ياسر .. لساتها كانت عيلة صغيرة، دلوك كبرت ونورت وبقت عروسة كيف القمر ما شاء الله
لم يكلف نفسه عناء الالتفات لمنيرة بل رمق أمه بنظرة نارية تحمل في ثناياها الكثير واستدار بعدها دون أن يتفوه ببنت شفة أخرى ليغادر الغرفة وهو يشتعل من فرط الغيظ، رغم تحذيره لها بعدم التدخل بينه هو وزوجته لكنها لم تنصت له ونفذت رغبتها.
لم تكن آسيا حالها أفضل من شقيقها حيث تطلعت لأمها بقوة وغضب يشابه لجبروتها تمامًا، وما أشعل غيظها أكثر رؤيتها لفريال تجلس بجوارها بكل هدوء وسذاجة فرمقتها شزرًا وانحنت عليها تهمس لها بلهجة صارمة :
_ ما تقومي ياختي روحي ورا چوزك شوفيه ليكون محتاچ حاچة إكده ولا إكده بدل ما أنتي قاعدة تلكي وتعچني كيف حريم المصاطب
اتسعت عيني فريال بدهشة من طريقة آسيا معاها وكلماتها الحادة فقالت لها بغضب :
_ في إيه يا آسيا چرالك حاجة في نفوخك بتكلميني إكده ليه !!
ضحكت وردت عليها ساخرة :
_ أنا خايفة عليكي أنتي لتچرالك حاجة بعد إكده في نفوخك وتتچني .. قومي روحي ورا چوزك يافريال وشوفي عيالك
طالعتها فريال بخنق وقرف من أسلوبها الفظ واستقامت واقفة لتغادر الغرفة قبل أن ينشب شجار بينهم من دون داعٍ بسبب سخافتها .........
***
فتحت باب غرفتها ودخلت فوجدته يجلس فوق مقعد هزاز أمام الشرفة وقدميه تهتز بعنف من فرط الغضب، ضيقت عيناها باستغراب من تغير حالته المفاجئة، قبل قليل كان مزاجه جيد معهم بالأسفل! .
اقتربت منه برقة ثم وقفت خلفه ووضعت كفيها على كتفيه وراحت تدلكهم بلطف هامسة :
_ مالك ياچلال في حاچة ضايقتك ؟
التفت لها برأسه وطالعها مطولًا بنظرات غامضة لم تفهمها ثم استقام واقفًا ورفع كفه يمرر أصابعه بدفئ فوق وجنتها متمتمًا بقلق:
_ أمي قالتلك حاچة ضايقتك يا فريال ؟
غضنت حاجبيها بحيرة وردت بعدم فهم :
_ لا مفيش حاچة أنا زينة الحمدلله .. بس حاچة زي إيه قصدك ؟!
تنفس الصعداء براحة وابتسم لها بحب ثم انحنى عليها يلثم جانب ثغرها برقة مردفًا :
_ متاخديش في بالك
ابتسمت له بنعومة رغم شعورها بأن هناك شيء يخفيه عنها لكنها لم تعقب وتجاهلت ذلك الاحساس تمامًا لتقول بنبرة طبيعية :
_ صحيح بت الحچ ياسر منيرة اللي كانت تحت بتدي دروس والكل بيشكر فيها وبيقول عليها شاطرة قوي.. إيه رأيك نوديلها معاذ وعمار
انكمشت ملامح وجهه واختفت ابتسامته ليجيبها بحزم رافضًا :
_ لا يافريال قولتلك أنا هشوف مدرس زين ليهم
قالت محاولة إقناعه :
_ تمام بس خلاص احنا لقينا مدرسة زينة يا حبيبي ليه تتعب نفسك
جلال بغضب ونظرة قوية :
_ فريال وبعدين عاد
التزمت الصمت وتنهدت بيأس ممتثلة لقراره بينما هو فطالعها بضيق وحزن.. والدته تحيك المؤامرات من خلفها وهي لا تدري وبسبب طيبة قلبها حتى لم تلحظ شيء إلى الآن وفوق كل هذا تريد إرسال أولادهم للدروس الخصوصية عند تلك الفتاة! .
التقط يدها ورفعها لفمه يلثم باطنه بمشاعر جيَّاشة ويهتف :
_ عملت إيه في دنيتي عشان ربنا يكرمني بست كيفك يافريال .. مفيش في چمالك ولا حنانك وطيبة قلبك ربنا يخليكي ليا ياروح قلبي
لمعت عيناها بسعادة امتزجت بغرامها به لتجيبه بدلال يليق بها :
_ ويخليك ليا ولولادك يا سندي وضهري وحبيبي وچوزي
ضمها لصدره وراح يقبَّل شعرها وجبينها بقبلات متتالية وسط همسته المفعمة بمشاعر العشق :
_ بحبك قوي يافريالي
ابتسمت باتساع وزادت من حميمية عناقهم تتشبث به أكثر بحب واطمئنان وشعور يفوق حتى الراحة بل هو الآمان بحد ذاته! ........
***
داخل منزل إبراهيم الصاوي بتمام الساعة الثامنة مساءًا .......
قاد عمران خطواته تجاه غرفة الصالون حيث يجلس أبيه .. فوجده يتحدث بالهاتف مع العم سعيد وانهى حديثه بعبارة:
_ شيل عشرة كيلو من السمك البلطي اللي وصل ياسعيد
ضيق عمران عيناه باستغراب من طلب أبيه ليقترب ويجلس على المقعد المقابل له ينتظر انهائه لمكالمته الهاتفية ، وفور انتهائه سأله بجدية :
_ عاوز تشيل العشرة كيلو دول لمين يا بوي ؟
أجاب إبراهيم بكل بساطة :
_ لناس خليل صفوان.. كيف ما أنت عارف هما مبقوش يشتغلوا في السمك من وقت موت خليل وبقى شغلهم كله على معرض الأجهزة الكهربائية اللي معاهم
رفع حاجبه مستنكرًا إجابه أبيه ليهتف بلهجة رجولية قوية :
_ اممم عارف.. وأنت هتديلهم السمك ده ليه عاد ؟!
إبراهيم بنبرة حكيمة وهادئة :
_ الصلح تم يا ولدي وفضينا العداوة اللي بيناتنا ( بينا ) خلاص، چه وقت عاد نرچع الود زي ما كان وترچع المايه لمچاريها من تاني
ضحك عمران ساخرًا وقال بنظرة مريبة :
_ أنت عارف زين إن المايه عمرها ما هترچع لمچاريها تاني ولا الود هيرچع لا من ناحيتنا ولا من ناحيتهم كمان
_ ادينا بنحاول يا ولدي !
اخذ عمران بتطلع بأبيه بشك، الاسئلة التي تدور بحلقة ذهنه ولا يجد لها إجابه تشعره بوجود أمر مريب، بينما إبراهيم عندما لاحظ نظرات ابنه له هز رأسه بعدم فهم يحثه على التحدث وإفراغ ما بعلقه، ليخرج صوت عمران الغليظ وهو يهمس :
_ أمرك عچيب يا بوي ، لو في حاچة مخبيها عني قولي قبل ما يكون الآوان فات
إبراهيم بثبات تام يحسد عليه :
_ وأنا هخبي عنك إيه يا عمران ؟!
أجابه بنظرات مريبة وصوت اشبه بفحيح الأفعى :
_ معرفشِ .. بس چايز مثلًا تكون عارف حاچة عن اللي قتل خليل ومخبيها عني، أو ليك يد في قتله صُح مثلًا !!
انفعل إبراهيم بشدة وخرج عن طور ثباته وهدوءه ليصيح بابنه في عصبية :
_ إيه اللي بتقوله ده اتخبلت في نفوخك ولا إيه ياعمران .. بتشك في أبوك وأنا اللي بقول ولدي هيقف في ضهري ويقطع لسان أي مخلوق يقول كلمة عشفة على أبوه ، وأنت جاي تقولي قتلت خليل .. خسارة تربيتي فيك ، أنا طالع أنام واريح چسمي شوية
استقام واقفًا من مقعده وقاد خطواته لخارج الغرفة مستاءًا من ابنه.. بينما عمران فبقى مكانه يعلق نظره على أثر أبوه بجمود تام وكأنه لم يقتنع بحرف واحد مما تفوه به!! .............
***
قاد إبراهيم خطواته تجاه غرفة زوجته الثانية بعد انتهاء جلسته هو وابنه .. وكان عقله مشغولًا بما قاله عمران وشكوكه حول أن كان هو المتسبب في قتل خليل أم لا، لوهلة شعر أن عقله سينفجر من فرط التفكير والخنق فقرر اللجوء لزوجته علها تخفف عن همه قليلًا، وفور دخوله الغرفة وجدها تجلس فوق الفراش وبيدها إبرة وخيط وملابس قديمة تقوم بإعادة حياكتها من جديد.
لم يعلق أو يتفوه بكلمة بل أكمل طريقه نحو الفراش والقى بجسده فوقه متأففًا بصوت عالي، فالتفتت عفاف تجاهه وسألته بتعجب :
_ مالك ياحچ تعبان ولا إيه ؟!
هدر بصوت مكبوت :
_ كنت بتكلم مع عمران تحت
فور مرور اسم عمران من أذنيها ولت كل اهتمامها للحديث وسألته بفضول :
_ حصل إيه ؟
تنهد الصعداء وقال بقوة :
_ شاكك فيا وبيقولي أنا اللي قتلت خليل!
شهقت عفاف بصدمة وقالت بغضب :
_ وه، ولدك باينله اتچن يا إبراهيم.. بيشك في أبوه
لم يجيبها وبقى صامتًا يتطلع في الفراغ بشرود حتى وجدها تكمل بحقد مضمور في نبرة صوتها الجافة :
_ قولتلك مليون مرة ده واد أمه إخلاص .. مهيوقفش في ضهرك ولا يسندك لكن أنت اللي مفيش على لسانك غير ولدي عمران وبلال معاوزشِ تدخله في حاچة واصل بحچة أنه لسا صغير وبيدرس
حدجها شزرًا واعتدل في جلسته بسرعة يهتف بها في انفعال :
_ اوزني كلامك يا ولية ومتنسيش أن بلال ولدي كمان وأنا عاوزه يركز في دراسته عشان يطلع حاچة تشرف أبوه وعيلته كلها بعدين.. عشان إكده أنا مشيل عمران المسئولية كلها لكن بعد ما بلال يخلص هو وأخوه هيبقوا ماسكين كل حاچة مع بعض.. عمران الكبير إهنه في البيت من بعدي أنا وعبد العزيز وعمره ما كره الخير لأخوه ، اوعاكي ياعفاف تدخلي بيني وبين ولادي ولا تحاولي تكرهيني في ولدي .. اصلًا العيب عليا أنا أني بحكيلك همي وبفضفض معاكي
هب من الفراش واقفًا وسار باتجاه الباب وهو يتأفف بغضب فاوقفه صوتها وهي تهتف بغيرة حارقة :
_ رايح لإخلاص مش إكده !
رمقها بقسوة وهتف بتأكيد :
_ إيوة على الأقل مش هتعكر مزاجي بزيادة كيف ما عكريته
بقت تتابع خطواته السريعة حتى غادر الغرفة بأكملها فقالت مستهزئة بأعين تلمع بالضغينة :
_ ارمح عندها أما نشوف بعدين هي وولدها الغالي هيقفوا معاك ولا هيرموك للسمك اللي في البحر عشان ياكل جتتك
***
خرجت آسيا من باب منزلها مرتدية عباءة سوادء فوق ( جلابيتها المنزلية ) ذات اللون الأصفر ويعلوها وشاح كبير من نفس اللون تلفه فوق شعرها الأسود والغزير بإحكام .
قادت خطواتها الثابته مبتعدة عن المنزل، تسير بكل تباه وقوة غير مبالية بأي حد، كانت نظراتها مظلمة ومخيفة تمامًا كساحرة تستعد لإلقاء تعويذتها السحرية، استمر سيرها لدقائق طويلة حتى توقفت بأحد الشوارع الجانبية الذي لا يمر منها أحد سوى نادرًا وظلت واقفة وتتطلع يمينها ويسارها تتفقد وصول الشخص الذي تنتظره، وفور وصوله أخذت نفسًا طويلًا وانتصبت في وقفتها بكبر لتوبخه بصرامة :
_ أنا مش نبهت عليك آچي الاقيك مستنيني
أجابها الشاب معتذرًا :
_ حقك عليا ياست البنات
آسيا بحدة ونظرات مريبة :
_ قصره ، هتعمل اللي اتفقنا عليه الليلة وبكرا تبلغني أن كل حاچة تمت وزي الفل وحسك عينك حد يسمع بالكلام اللي بيناتنا ده ياخالد وإلا قول على نفسك يارحمن يارحيم .. أنت عارفني زين وعارف اقدر أعمل إيه
هز الشاب رأسه بالإيجاب وقال باسمًا بتوتر :
_ طبعًا وهو مين ميعرفش يا ست الكل ده أنتي الكبيرة
_ چدع وأصيل ياخالد
انهت عباراتها وهمت بالانصراف لكنه اوقفها بعبارته المتهكمة :
_ والحلاوة ياست آسيا ميتا هاخدها
رمقته بحدة وقالت بنبرة مهيبة :
_ لما تنفذ اتفاقنا حلاوتك هتاخدها
القت عباراتها واستدارت تكمل طريقها عائدة إلي منزلها وكذلك الشاب غادر المكان مسرعًا .
اثناء سيرها في طريق عودتها مرت من أمام منزل إبراهيم الصاوي فرفعت رأسها للأعلى تلقي بنظرة مشمئزة على ذلك المنزل وإذا بها تجد عمران يقف بشرفة غرفته.. التقت عيناهم مع نظرة جامدة وثاقبة منه تقابلها نظرة كلها شر ووعيد منها، وباللحظة التالية فورًا انزلت رأسها وتابعت سيرها نحو منزلها ..........
***
بتمام الساعة الثالثة عصرًا من اليوم التالي داخل وكالة العطارة الخاصة بعائلة إبراهيم الصاوي ........
كان عمران يجلس على مكتبه الخاص يراجع الحسابات الأخيرة بالوكالة وفي تركيز شديد حتى قطع لحظات عمله رنين هاتفه الصاخب فالتقطه وأجاب على المتصل دون أن يرفع نظره عن الأوراق التي أمامه :
_ الو
أتاه صوت بشار بصوت رجولي غليظ :
_ وينك ياعمران ؟
رد باختصار شديد :
_ في الوكالة يابشار
بشار بجدية تامة :
_ تعالى دلوك علطول على مخزن السمك
انتبهت جميع حواسه على أثر عباراته ولهجته المريبة فهتف :
_ إيه اللي حُصل ؟!
ظهر الغضب والانفعال في صوت بشار وهو يجيبه :
_ شحنة السمك اللي لسا واصلة أول امبارح لقيناها كلها معفنة في التلاچات والسمك كله بايظ
............نهاية الفصل ...........
•تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية