رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الحادي والاربعون 41 - بقلم ندى محمود
(( ميثاق الحرب والغفران ))
_ الفصل الحادي والأربعون_
مر أكثر من نصف ساعة منذ شجارهم وحتى الآن لا يسمع لها أي صوت وكأنه بمفرده داخل المنزل، رغم نفورها منها في ذلك الوقت وعدم رغبته برؤية وجهها حتى إلا أنه لم يستطع كبح مشاعر القلق التي تغلغلت في ثناياه، ودفعه فضوله لمعرفة مالذي تفعله أن ينهض ويغادر الغرفة متجهًا نحو الصالة متصنعًا أنه سيكمل حديثه المستأنف معها أو ربما شجارهم!.
لكنه تصلب بأرضه عندما رآها فوق الأرض فاقدة وعيها، وبثواني معدودة كان يسرع نحوها ويجلس بوضعية الاندفاع بجانب رأسها ثم يرفع رأسها عن الأرض ويضرب فوق وجنتها برفق هاتفًا:
_آسيا.. آسيا
عندما لم يجد استجابة منها اعتدل في جلسته واستقام منحنيًا ثم حملها فوق ذراعيه واتجه بها لغرفة نومهم بالداخل ليضعها فوق الفراش بحرص شديد ويعود يبدأ محاولاته مرة أخرى في إفاقتها، تقريبًا قام بتجربة كل الطرق الممكنة وجميعهم لم يجدوا بنفع معها فتسارعت نبضات قلبه والخوف هيمن عليه فالتقط هاتفه بسرعة وكان سيهم بالاتصال بالطبيب لكن توقف وانزل الهاتف ببطء من فوق أذنه عندما وجدها تفتح عيناها وتأن بألم وهي ترفع يدها لرأسها ممسكة بها وتهمس:
_آاه ياراسي
استقرت نظراته الجافة لها وهو يرد عليها بلهجة رجولية غليظة:
_شوية والوچع يروح، أكيد حاسة بألم عشان وقعتي عليها
انتفضت على أثر صوته فلم تكن مدركة لوجوده وعندما سمعته اعتدلت في نومتها ونظرت له بقلق وخوف دون أن تتحدث، تدرس تعابير وجهه هل كما هي أما هدأت قليلًا، لم تختلف نظراته المخيفة لها لكن مظهره يبدو أقل هدوءًا مما كان عليه منذ قليل، ودت أن تتحدث لكنها ترتعد كلما تتذكر العواقب الوخيمة التي واجهتها عندما ردت عليه وكيف تحول لوحش كاسر يدمر كل شيء.
دام ذلك الصمت القاتل بينهم وهي تحاول عدم التركيز على عيناه المرعبة وهو يستمر في التحديق بها في كل غضب وغلظة، خشيت أن ينهض ويفتك بها في لحظة مباغتة من شدة حدة نظراته لها.
كانت تتصارع مع عقلها الذي يلح عليها في التحدث وطرح سؤال بسيط فقط، لكنها كانت تلبي الطبيعة التي فطرتها الشعور بالخوف لكن مع الإلحاح الشديد من ذلك الصوت المزعج تحدثت بصوت بالكاد يُسمع:
_أنت هديت شوية؟!
طال تحديقه المريب فيها والذي كان يزيد من شعورها بالندم أنها تحدثت، ثم سمعته يجيب أخيرًا بكل هدوء لكنه يضمر في ثناياه غليان دماءه:
_على حسب.. يعني لو قفلتي خشمك ده ومقولتيش حاچة تعفرتني هفضل هادي إكده أو متمالك أعصابي بمعنى أصح
هزت رأسها بالموافقة وهي تضم سبابتها وابهامها وتسير بهم على طول شفتيها المغلقة تريه أنها لن تفتح فمها أبدًا، فسيطر الصمت عليهم مجددًا وهذه المرة هي كانت لا تنظر له أو تتحاشى النظر إليه بالمعنى الأدق حتى سمعته يقول بصوته الرجولي:
_بما أننا مكملناش كلامنا.. فأنا سامعك دلوك يلا قولي ال*** ده قالك إيه؟
التفتت له وتمعنته للحظة قبل أن تسأل ببلاهة:
_اتكلم وارد عادي ولا ممنوع؟!
ارتفع حاجبه اليسار بنظرة مريبة فتنحنحت هي بتوتر وقالت له في خوف:
_ما بلاش النهاردة خليها بكرا نكمل كلامنا.. أصل أنا تعبانة وأنت كمان أكيد مرهق فنتكلم بكرا ودلوك ننام.. أنا بقول ده رأى حلو قوي يلا عاد تصبح على خير
أنهت عبارتها واعتدلت في الفراش تهم بالتمدد عليه وتوليه ظهرها حتى تنام أو تهرب منه في المعنى الأصح، لكنها ارتجفت قبل أن تكمل اعتدالها حتى في الفراش على أثر صيحته بها:
_آســيــا
عادت لوضعها الأول مجددًا وهي ترسم ابتسامة خوف على ثغرها وترد عليه بخفوت محاولة إقناعه بوجهة نظرها التي في صالحها قبل صالحه:
_ما هو أنا لو اتكلمت دلوك وحكيت هتتعصب تاني وأنا هتعب وهيچلي هبوط تاني وأنت هتخرب الدنيا كيف ماعملت من شوية
عمران بانزعاج حقيقي وغيظ:
_آسيا مستنفذيش صبري أنا قولت اتكلمي يبقى اتكلمي من غير لت وعچن كتير
ازدردت ريقها بتوتر واستغرقت برهة من الوقت محاولة التفكير في طريقة مناسبة لتبدأ بها الحوار حتى لا يستيقظ ذلك الوحش مجددًا، فقالت في خفوت:
_قبل كل حاچة أنا مكنتش اعرف أن ده هيحصل وأنها إكده ولو كنت أعرف مكنتش أبدًا غلطت الغلطة دي بس للأسف وثقت فيها ودي أول مرة أعملها وآخر مرة أثق في حد
رفع يده يمسح على وجهه ولحيته وهو يتأفف بنفاذ صبر ويهتف في حدة:
_هو مش موضوع تعبير وبتبدأيه بمقدمة اخلصي اتكلمي أنا سألتك قالك إيه؟
تحلت بالشجاعة المزيفة وقالت بصوت منخفض دون أن تنظر لوجهه خوفًا من ردة فعله:
_أنا حكيت لسندس اللي حُصل معايا وكيف اتچوزنا وهي قالتله وهو چه وكان فاكرني لساتني مچبورة على الچواز منك وعايزة أطلق وكان بيعرض عليا يساعدني بس أنا مسحت بكرامته الأرض وطردته
صمت مميت هيمن عليه وعندما رفعت رأسها له رأت ملامح وجهه عادت لذلك المنظر المرعب مجددًا فحاولت الثبات وتابعت في محاولة فاشلة لامتصاص جموحه:
_أنا مكنتش اتوقع أنها تقوله ياعمران
صر على أسنانه بغيظ واغلق عينيه للحظة يتخيل أن ذلك الوغد كان يعرف كل تلك التفاصيل عن حياتهم وعلاقته بزوجته وكيف تزوجها ففقد صموده المزيف وفتح عينيه مجددًا يصرخ بها بصوت جهوري:
_وأنتي كيف تحكي لحد الكلام ده وتقولي لها أسرارنا
انتفضت مكانها رعبًا لكنها التزمت الصمت ولم ترد خشية من أن تسوء الأوضاع أكثر بينهم، أما هو فهب واقفًا وهو يغلي من الغضب ويغلق على قبضته بعنف ويتمتم وهو يمسك بدفنه ويشد على لحيته:
_وال***** عرف أننا اتچوزنا عشان نداري على فضيحة فافتكرك كيف ***** اللي يعرفهم.. يا**** يارتني فرغت السلاح في نافوخك وخلصت عليك واصل وطفيت ناري، لا وأنتي فتحتيله الباب ودخلتيه
ردت بصوت خافت محاولة الدفاع عن نفسها:
_مكنتش أعرف أن قذر للدرچة دي
اندفع نحوها وانحنى عليها يصرخ بأنفاس ملتهبة ووجه مرعب:
_تعرفي ولا متعرفيش أنتي اتخبلتي في نافوخك عشان تدخلي راچل البيت وأنا مش موچود، ومش أي حد ده كان مدمن وراچل **** كل ليلة مع حرمة شكل يعني كان ممكن يعملك إي حاچة
اتسعت عيناها بصدمة بعدما اكتشفت حقيقته بينما هو فرفع قبضته المغلقة وهو يصر على أسنانه من فرط غيظه وجموحه ثم ضرب بقبضته على الحائط وهو يصرخ بها:
_قوليلي أنا دلوك اعمل فيكي إيه عشان ارتاح
انكمشت على نفسها في الفراش ودون أن تشعر وجدت دموعها تسيل على وجهها غزيرة وهي ترد عليه بصوت مرتجف ومبحوح:
_بزيادة ياعمران هو انا كنت اعرف أن كل ده هيحُصل ولا أنه إكده وكنت قاصدة اعمل كل ده يعني، أنا بس لما لقيته بيقول الموضوع مهم ويخصك ويخصني الفضول هو اللي خلاني ادخله واتكلم معاه
هدأت نبرة صوته لكن بحته ومظهره المرعب لم يختفي:
_وهو أنتي أي راچل هيخبط عليكي ويقولك عاوز اتكلم معاكي في موضوع مهم وأنا مش قاعد هتدخليه!!
استمرت في البكاء الذي تحول لنحيب مرتفع دون أن تجيب عليه أو حتى تنظر لوجهه، وراحت تحني وجهها وتدفنه بين ثنايا كفيها تخفيه عن أنظاره القاتلة تمامًا دون إن تتوقف عن البكاء، فتمعنها بعيناه القاسية والغاضبة دون أن يحرك ساكنًا ثم هتف بلهجة صارمة لا تقبل النقاش أبدًا:
_من إهنه ورايح البت دي تنسيها وتقطعي علاقتك بيها على الآخر ومشوفكيش بتتحدتي معاها واصل وإلا أنتي المسئولة عن ردة فعلي، أنا مندمتش على چوازي منك قد ما ندمت إني چبتك معايا القاهرة، يومين ونرچع البلد تاني
كانت منغمسة في نوبة بكائها فكرر أوامره عليها مرة أخرى حتى يتأكد من أنها استوعبت:
_سمعتي قولتلك إيه!.. مش عاوز اسمعك بتچيبي سيرة البت دي تاني ولا ترمي السلام عليها حتى فاهمة ولا لا
هزت رأسها له بالموافقة امتثالًا لأوامره دون أن ترفع وجهها عن كفيها، بينما هو فاعتدل في وقفته واستدار ثم غادر الغرفة ليتركها بمفردها تقضي الليلة كله وحيدة بعد أن قرر النوم بغرفة عمله الخاصة على الأريكة.
***
بصباح اليوم التالي داخل منزل ابراهيم الصاوي......
كان الجميع ملتف حول طاولة الطعام ويتناول وجبة الإفطار، وكان بلال جالس الجهة المقابلة لأمه ووالده وزوجة أبيه وكانت نظراته الثاقبة مستقرة على والده يتابعه وهو يتحدث مع أمه بكل طبيعية وهي تبادله الحديث في كل لطف وابتسامة عذبة، على عكس إخلاص التي كانت لا تنظر لابراهيم أبدًا كأنها لا تطبق النظر في وجهه وقمساتها عالية ومنزعجة، فضيق بلال عينيه مستغربًا وللحظة ظن أنها تعرف بزواج والده لكن سرعان ما استبعد ذلك الاحتمال فمن المستحيل أن تظل بهذا الهدوء إذا عرفت، ربما تكون منزعجة بسبب آخر مجهول.
لاحظت عفاف نظراته المريبة لهم وأنه لا يأكل بل يستمر في مراقبتهم والتحديق في والده بغضب.. فسألته بحيرة:
_بلال مالك ياولدي في حاچة مضايقاك ولا إيه؟!
انتبه لتصرفاته المريبة ونفر برأسه وهو يزفر بخنق ثم راح يجيب على أمه بحنو مبتسمًا:
_لا ياما مفيش حاچة أنا سرحت شوية بس
استقرت نظرات ابراهيم الساخطة على ابنه بعدما فهم سبب حالاته الغريبة هذه، فترك الطعام الذي بيده وهب واقفًا فجأة وهو يوجه حديث الصارم لبلال:
_تعالى ورايا
تنفس الصعداء بضيق ثم استقام واقفًا هو الآخر ولحق بوالده وسط نظرات الجميع المستفهمة وفضول عفاف الذي سيقتلها لمعرفة ما الذى يحدث بينهم.
بينما في الداخل فور انعزالهم عن أنظار ومسمع الجميع هتف ابراهيم ساخطًا:
_أنت عاوز تعمل مشاكل وخلاص ولا أيه!
اقترب بلال من المقعد وجلس فوقه وهو يجيب على أبيه بغضب مماثل:
_أنا مش عايز حاچة يابوي بس كمان مش قادر افضل ساكت إكده وأنا شايفك مخبي علي أمي، أظن كفاية قوي ست سنين وچه الوقت عاد أن عيالك وحريمك يعرفوا
هتف ابراهيم ساخرًا في انزعاج:
_أنت بتهددني يعني يابلال أني لو مقولتش لأمك أنت اللي هتروح تقولها
هز رأسه بالرفض التام مجيبًا على والده:
_لا يابوي أنا مقولتش إكده ومتقلقش أنا مش هقولها حاچة، أنا عاوزها تسمع منك أنت مش مني، أنت اتچوزت وده حقك أظن من حقنا وحقها كمان أننا نعرف
لوى ابراهيم فمه بخنق قبل أن يجيب على ابنه مغلوبًا في نبرة هادئة:
_الكل هيعرف يابلال اهدى ياولدي.. أنت مش هتعاديني وتقف قصادي عشان اتچوزت على أمك
طالت نظرة بلال المقتضبة لوالده قبل أن يستقيم واقفًا ويقول بلهجة مهذبة وهادئة متجاهلًا ما قاله للتو:
_عن أذنك يابوي أنا همشي عشان ورايا مشوار ضروري
انهى عبارته واندفع لخارج الغرفة فوجد أمه في وجهه وهي تسأله بقلق:
_في إيه يابلال مالك أنت وأبوك؟
تنهد في وجه فاتر ورد بإيجاز:
_مفيش ياما موضوع تبع الشغل
ولم يترك لأمه مجالًا لطرح المزيد من الأسئلة حيث ابتعد عنها وسار لخارج المنزل بأكمله وبينما كان في طريقه للسيارة ارتفع صوت رنين هاتفه فرفعه لمستوى نظره وحدق في الشاشة لاسم المتصل الذي جعله يغضن جبهته باستغراب لكن الفرحة تغلغت في قلبه وبسرعة دون تفكير أجاب على الهاتف في وجه مشرق:
_الو
وصله صوتها المرتعش والخائف وهي تهتف:
_ايوة يابابا تعالالي بسرعة
اختفت بسمة ثغره وتقوست ملامحه للقلق والجدية وهو يقول يجيبها:
_أنا بلال ياحور.. مال صوتك إكده أنتي كويسة؟
انزلت الهاتف عن أذنها تنظر في الشاشة تتأكد من الاسم الذي قامت الاتصال به فوجدته بلال بالفعل، لقد كان اسمه يتبع اسم والدها بضبط في قائمة الاتصالات بسبب تشابه أول حرف في الأبجدية وبسبب تلهفها ضغطت على اسمه دون وعي، رفعت كفها ومسحت على وجهها بغيظ ثم عادت بالهاتف لأذنها مجددًا تجيبه باعتذار:
_انا آسفة يابلال اتصلت بيك بالغلط كنت عايزة اتصل بـ بابا
لم يبالي بما قالته للتو وأعاد سؤاله للمرة الثانية في اهتمام:
_قوليلي الأول أنتي كويسة.. في حاچة حُصلت معاكي؟!
أجابت بالرفض المزيف حتى لا تزعجه بمشاكلها رغم أن صوتها المرتعد لا يلائم كلماتها أبدًا:
_لا يا بلال مفيش حاچة أنا كويسة.. معلش ازعجتك
خرج صوته الحاد وهو يسألها للمرة الثالثة:
_حور مالك اتكلمي.. أنتي فين طيب؟
تنهدت في الأخير بقلة حيلة وردت عليه تصف له مكانها فأخبرها أن سيأتي لها حالًا وانهى الاتصال معها واسرع نحو سيارته لكي يستقل بها وينطلق نحو موقعها.
***
بمدينة العين السخنة داخل منزل خاص بجلال......
كانت فريال تقف في شرفة غرفة نومهم تتأمل في مياه البحر أمامها وهي مبتسمة ونسمات الهواء الباردة تلفح صفحة وجهها، كانت الشقة في الطابق السادس ورغم خوفها من المرتفعات إلا جمال المنظر الذي أمامها كان لا يقاوم، أغلقت عيناها ببطء تترك الهواء يرسم لوحته الرقيقة على صفحة وجهها المبتسم.
رعشة جميلة اجتاحت جسدها عندما أحست بقبلته الدافئة من الخلف على رأسها وهو يهمس:
_هتبردي وتتعبي يافريال
هزت رأسها بالنفي وهي مازال متحفظة بابتسامتها:
_ مش بردانة.. والمنظر ده وحشني قوي لينا سنين مچيناش إهنه
تحرك ووقف بچوارها وهمس بحب وهو يتأمل مباح البحر أمامه:
_آخر مرة چينا كنتي حامل في عمار برضوا واختارنا هنسميه إيه هنا
هزت رأسها بالإيجاب وهي تضحك وتكمل وسط ضحكها بمرح:
_أنت كنت عاوز تسميه حمزة على اسم جدك وأنا كنت عاوزة عمار وأنا اتخانقت معاك ولغاية ما ولدت واحنا كنا بنتخانق وأنت بعدين عشان ترضيني كتبته عمار وعملتها مفاجأة ليا
مال ثغره ببسمة دافئة وعاشقة ثم التفت لها ورمقها مطولًا بعبوس متمتمًا:
_وقتها كان في بينا مشاكل كيف دلوك ولما چينا إهنه وانتي ولدتي نسينا كل الزعل ورچعنا كيف ما كنا، وقتها أنا مندمتش إني سميته عمار لأن كان ليه نصيب من اسمه وهو اللي چمعنا من تاني
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه وراحت تتأمل منظر المياه مجددًا مجيبة عليه بحزن:
_مكنتش مشاكل كيف المشاكل اللي احنا فيها دلوك ياچلال
جلال ببسمة دافئة كلها عاطفة:
_كيف ما عدينا اللي فات نعدى ده كمان طول ما احنا چار بعض
رمقته مطولًا بأسى وعينان دامعة ثم تنهدت في قلة حيلة واستدارت تدخل للغرفة وتتجه نحو الأريكة تجلس عليها بوجه عابس، بينما هو فأكمل مراقبته لأمواج البحر الهائجة مثل روحه.
قطع تلك الأجواء الكئيبة بينهم دخول عمار ومعاذ ليهتف معاذ بضيق:
_مش هننزل البحر عاد ولا إيه يابوي!
رد عمار مازحًا متعمدًا إضحكاهم:
_أيوة أنا حران قوي وعاوز انزل اعوم
رفعت فريال كفها تضعه على وجهها وهي تضحك مغلوبة، وكذلك جلال الذي دخل من الشرفة وهو يجيب على ابنه الصغير ضاحكًا:
_روح املى البانيو چوا وعوم فيه براحتك
قهقهوا بقوة باستثناء عمار الذي تصنع الضيق والغيظ من سخرية أبيه عليه، بينما معاذ فأسرع نحو أمه يجلس بجوارها ويحتضن كفها يهتف متوسلًا:
_قولي لأبوي ياما خليه ياخدنا وننزل عشان خاطري
رد جلال بلطف ونبرة تحمل الجدية:
_احنا لسا چايين من سفر طويل وتعبانين وأمكم كمان تعبت نريح النهاردة وبكرا ننزل ونروح المكان اللي تحبوه
زموا شفتيهم بعبوس وظهر اليأس على محياهم فلم تتمكن من مقاومة الحزن الذي في عيناهم وابتسمت لهم بحنو أمومي وهتفت لجلال برقة:
_خلاص ياچلال بعد الغدا خدهم خليهم يلعبوا شوية وأنا هقعد استناكم إهنه
قفزوا فرحًا صارخين وارتموا على فريال يعانقوها بقوة وكل منهم يلثم وجنة من وجنتيها بقبلات متتالية وسط ضحكها القوي وهي تحاول إبعادهم عنها وتهتف:
_طب خلاص كفاية
لم ينقذها من هجموهم اللطيف عليها سوى صوت رنين هاتف جلال فأشارت لهم بحزم أن يلتزموا الصمت حتى يتمكن والدهم من التحدث فابتعدوا عنها ببطء وهم يضحكون في هدوء ثم غادروا الغرفة.
***
تقف في المطبخ منذ ساعة تقريبًا تقوم بتحضير الفطار، فليلة الأمس كانت مرعبة وانتهت بأنه تركها بمفردها في الغرفة لكن النوم لم يمر على عيناها حتى لثانية واحدة وظلت الليل كله مستيقظة حتى ظهر ضوء النهار وارتفعت الشمس في السماء وأشعتها ملأت كل مكان فهنضت من فراشها مبكرًا ووقفت في المطبخ تحاول الهاء نفسها عن الحزن والتفكير بتحضير الطعام.
كان السبب الحقيقي وراء عدم قدرتها على النوم هو تفكيرها المستمر وحالة العتاب والتعنيف لنفسها على أفعالها بداية بتصرفها الأهوج مع صديقتها عندما سردت لها حياتها الخاصة نهاية بسماحها لسليم أن يدخل المنزل ثم عنادها وردودها المستفزة على زوجها، رغم أنها تشعر ببعض الضيق من الذي فعله وحالة الهياج المخيفة الذي استحوذت عليه لكنها تعطيه الحق بالأخص بعدما أخبرها بحقيقة سليم المريضة.. ويبدو أن الأمر لن يتوقف عند الليلة الماضية فقط بل سيكون له آثار أكثر سلبية ومهمتها هي الآن إصلاح ما أفسدته.
سمعت صوت باب الحمام ينفتح فعرفت أنه انتهى للتو من حمامه الصباحي وكانت ستتجه له لكن توترها منه منعها وظلت مكانها في المطبخ تكمل تحضيرها الطعام في عبوس، انتظرته أن يخرج هو من الغرفة لكنها لم يخرج فضيقت عيناها باستغراب فقذت بذهنها احتمال وبسرعة تركت ما بيدها وتحركت للغرفة في خطوات سريعة قدر الإمكان وعندما دخلت ورأته كان شكها صحيح حيث وجدته ارتدي ملابسه ويستعد للرحيل، فوقفت خلفه وهتفت بهدوء:
_أنا چهزت الفطار مش هتاكل؟
رد بنبرة خالية من المشاعر:
_لا
لوت فمها بأسى ثم تقدمت إليه ووقفت أمامه مباشرة تهتف بندم وحزن:
_أنا آسفة
رمقها بطرف عينيه في جمود ثم ازاح نظره عنها وتجاهل آسفها دون أن يرد عليه حتى، لكنها لم تيأس وتابعت تقول بصدق:
_حقك عليا واوعدك أول وآخر مرة بعد إكده مش هتصرف من دماغي أبدًا غير لما آخد أذنك الأول، ومش هعمل إكده تاني أبدًا غير لو كان بعلمك
خانها التعبير في آخر عبارة لها، وكأنها تخبره أنها ستكرر فعلتها لكنها ستخبره أولًا حتى لا يكون الأمر تم خفية دون علمه، اضطربت بشدة عندما رأت نظرته الحادة لها واسرعت تقول في توتر تنقذ الموقف وتصحح السذاجة التي تفوهت بها:
_لا مقصدش والله.. قصدي يعني مش هعمل أي حاچة تضايقك تاني واللي تقوله هيتنفذ من غير ولا كلمة
لانت نظراته مجددًا لكن تعبيرات وجهه الجافة كما هي وحتى الآن لا يرد عليها يستمع فقط لمحاولاتها في الاعتذار ونيل رضاه بصمت، ابتعد عنها والتقط عباءته لكي يرتديها وبينما كان سيهم بارتدائها بنفسه وجدها تتولى هي عن المهمة وهي تهمس ببسمة رقيقة:
_أنا هلبسهالك
التفت لها بوجهه ورمقها بانزعاج وهو يهتف:
_بعدي يدك
انزلت يدها ببطء ووجه مقتطب وتركته هو يرتديها بنفسه كما أمرها للتو إن تبتعد عنه، ورغم هذا لم تتوقف بل تابعت وهي تسأله بوجه يلمع بالأمل وبسمة واسعة:
_طيب أنا عملت الكنافة اللي بتحبها مش عاوز تاكل منها قبل ما تطلع؟
لم تحصل على رد منه فقد تجاهلها مجددًا، هذه المرة تحول حزنها لغيظ وعناد في الوصول لمبتاغها، فظلت محافظة على بسمتها وعندما التفت لها بجسدها وكان يهم الانصراف اعترت طريقه وقالت بغطرسة:
_هتاكلها وتاكل صوابعك وراها.. أنا محدش كان بيقدر يقاوم الكنافة بتاعتي.. چربها بس قبل ما تطلع ومش هتندم
رد عليها بلهجة حازمة وصوته الرجولي:
_بعدي من طريقي يا آسيا
تجاهلت تحذيره وأكملت مبتسمة بحماسة غريبة:
_اچبلك قطعة ومعاها كوباية الشاي هتظبط مزاجك طوالي
تأفف في نفاذ صبر ثم هتف بلهجة صارمة ومنزعجة:
_قولتلك بعدي يا آسيا متخلنيش اتعصب
زمت شفتيها بيأس واردفت في خنق:
_يعني مش عاوز كنافة؟!!
ازاحها عن طريقه بيده في لطف وابتعد وتركها وهو يستغفر ربه محاولًا تمالك أعصابه بينما هي فاستدارت خلفها تحدق في الباب على أثر رحيله وتهتف في ضيق:
_أنت الخسران على فكرة
ثم اقتربت من الفراش تجلس فوقه بانزعاج وتهتف في يأس:
_اصالحه كيف أنا دلوك يعني!
وبينما كانت عيناها تتحول بالغرفة سقطت على الخزانة أمامها، فتجمدت ملامح وجه آسيا وقذف بذهنها شيء تذكرته جعلها تهب واقفة بسرعة وتتجه نحو الخزانة لتفتح الباب وأول شيء يلتقطه نظرها كان ذلك القميص الأسود المُعلق فاستدعى عقلها مشدهم الأخير قبل الشجار"
_معرفش بس ممكن لو لبستي حاچة قصيرة ومريحة هتبقى حلوة عليكي اكتر
عقدت ذراعيها أسفل صدرها بعدما فهمت محاولاته الماكرة في الوصول لهدف معين لا تعرفه، وراحت تسأله بسخرية مبتسمة:
_حاچة كيف إيه يعني
غمز لها بعيناه في وقاحة وقال:
_كيف القميص الأسود مثلًا.. فكراه؟! "
عادت للواقع وهي تبتسم بشيطانية ولؤم ثم مدت يدها لداخل الخزانة تلتقط القميص وهي تقول له ضاحكة:
_ورانا طلعة الليلة!
***
توقف بلال بسيارته في المكان الذي وصفته له حور ونزل من السيارة متلهفًا وهو يتلفت برأسه يمينًا ويسارًا باحثًا عنها حتى وجدها تقف بمفردها بجانب الرصيف وهي أيضًا تراقب السيارات تنتظره.
أسرع نحوها وهو يهتف:
_حور إيه اللي حُصل
اشرق وجهها وابتسمت في تلقائية فور رؤيتها له حتى شعور الرعب الذي كان يتملكها لم يعد له وجود، لكن بعد سؤاله ظهر الخوف البسيط مجددًا على محياها وهي تسرد له ما حدث معها:
_حرامية حاولوا يسرقوا الشنطة بتاعتي ولما حاولت اقاومهم طلعوا سكينة ولولا أني سبتلهم الشنطة كانوا ممكن يأذوني بالسكينة دي.. والحمدلله أن موبايلي كان في إيدي وعشان كدا كنت بتصل بـ بابا عشان يچي ياخدني لاني فلوسي كلها كانت في الشنطة ومش هعرف ارجع وحدي من غير فلوس
سألها باهتمام وقلق شديد:
_طيب المهم انتي كويسة؟
هزت رأسها بالإيجاب مبتسمة:
_ايوة الحمدلله كويسة متقلقش
تنهد بلال بضيق وهتف في لهجة جادة:
_هي الشنطة كان فيها حاچة مهمة يعني؟
هزت رأسها بالنفي وهي تزم شفتيها بفتور متمتمة:
_لا لا هي الفلوس والكتب بس يعني انا مكنتش ماخدة معايا حاجة النهاردة ولا حاطة حاجة في الشنطة
التفت حوار يتفحص تلك المنطقة الهادئة والمريبة ثم سألها في انزعاج بسيط:
_انتي إيه اللي چايبك المكان ده أصلًا ياحور؟
تنهدت الصعداء وردت بخفوت:
_واحدة صحبتي بيتها هنا وهي تعبانة وجيت ازورها
هز رأسه بالتفهم بعدما زفر أنفاسه الحارة في انزعاج ثم تمتم في هدوء:
_طيب يلا عشان نمشي واوصلك البيت
استقلت بالمقعد المجاور له داخل السيارة بينما هو فتأملها للحظات في صمت ثم قال ضاحكًا بخبث:
_بس عمومًا أنا فرحت بالاتصال اللي بالغلط ده
التفتت له وطالعته بعدم فهم للحظات لكن سرعان ما احتلت مشاعر الاندهاش ملامحها بعدما فهمت تلميحه الخبيث وقالت بسرعة تثبت له خطأ معتقداته:
_أنت فاكرني كنت قاصدة.. والله بجد كنت بتصل بـ بابا وبعدين اعملك إيه إذا كنت انت حرف الباء وهو برضوا اسمه كدا وفي التلفون موجودين تحت بعض
قهقه بخفة وأجابها بمرح:
_طب أنتي متعصبة ليه أنا مش زعلان والله وبالعكس مبسوط سواء كان قصدك أو من غير قصد مش هتفرق بالنسبة ليا
هدأت حدة ملامحها واعتدلت في جلستها بشموخ وهي تردد عليه دون أن تنظر لوجهه:
_بس هتفرق معايا.. وعمومًا مش معنى أني اتصلت بيك وسمحتلك توصلني البيت ابقى أنا خلاص نسيت الكلام اللي قولته ليك في الكلية
رفع حاجبه مستنكرًا التحول الرهيب الذي يماثل سرعة البرق، ثم مال ثغره للجانب في مكر وسألها بذكاء وهو يزم شفتيه:
_انهي كلام بظبط لما اتخانقنا في الأول خالص وعنادتي ومركبتيش معايا ولا لما هددتيني أنك هترفضيني ولو اتكلمت مع أي بنت وبالأخص اللي شوفتيني قاعد معاها وعشان إكده كنتي متعصبة مني ومش عاوزة تكلميني بسبب أنك غيرانة
اتسعت عيناها بصدمة وتسارعت نبضات قلبها توترًا وخجلًا عندما ضربها بحقيقة غيرتها عليه، فدام سكونها الغريب لبرهة من الوقت تحاول فيها تجميع أفكارها وإيجاد رد مناسب عليه فوجدته يسألها ضاحكًا بنظراته الساحرة:
_إيه مالك مصدومة إكده ليه!!!
فشلت في العثور على رد تنفي به حقيقة مشاعرها أو ربما التوتر والخجل أوقفوا عقلها عن التفكير وقيدوا لسانها فلم يكن هناك رد منها سوى الصمت وهي تشيح بوجهه عنه وتثبته على الطريق أمامهم في سكون وملامح وجه مثيرة للضحك جعلته ينفجر ضاحكًا عليها ثم يبدأ بتشغيل محرك السيارة وينطلق بها وهو بين كل لحظة وأخرى يلتفت لها مبتسمًا بحب فيجدها كما هي على وضعها تراقب الطريق بصمت دون أن تميل بنظرها نحوه سنتي واحد.
***
عودة لمدينة العين السخنة......
وقفت فريال بالشرفة تشاهد أولاها وهم يلعبون ويسبحون في المياه وجلال كان يجلس على الشاطيء يتابعهم بنظراته وهو يبتسم وكان مرتدي سروال جينز قصير ويعلوه قميص بنصف كم، هي لا تراه يرتدي تلك الملابس الرجالية المثيرة إلا عندما يأتون لقضاء رحلة قصيرة هنا، كانت تراقبهم وهي تضحك على مزاحهم معًا وخصوصًا عندما انضم لهم والدهم ليسبح معهم، كانت تلك اللوحة الدافئة بين الأب وأولاده تثير عواطفها الأمومية وتأثرت على أثرها حتى أن عيناها تلألأت بالعبرات وهي تشاهدهم، لكن تلاشت ابتسامتها تدريجيًا واختفى ذلك التأثر الامومي والمشاعر الجيَّاشة عندما لمحت فتاة متحررة تجلس على أحد المقاعد أمام الشاطيء بالقرب من زوجها وأولادها وعندما دققت النظر معها وراقبتها جيدًا لاحظت أنها لا تزيح نظراتها المعجبة عن زوجها، فاشتعلت نيران الغيرة في صدر فريال وظلت تراقب تلك الفتاة في نظراتها الوقحة حتى خرج جلال من المياه وترك الأولاد يكملون لعب وسباحة مع بعضهم واتجه هو لمقعده مرة أخرى.
رأت فريال بعيناها المتسعة تلك الفتاة وهي تهب واقفة وتسير بخطواتها المتمايلة نحو جلال، فغلت الدماء في عروق فريال وأصبح وجهها ككتلة من الدماء الحمراء من فرط غيظها، فوجدت نفسها دون وهي تندفع للداخل وتلتقط هاتفها تنوي الاتصال به لكي يعود للمنزل هو والأولاد لكنها توقفت بعدما التقطت الهاتف وتذكرت أنه لم يأخذ هاتفه معه، فأصدرت زفيرًا حارًا والقت بالهاتف على الفراش ساخطة.
بالأسفل أمام الشاطيء.....
لاحظ جلال فتاة ترتدي تنورة طويلة تبدأ بفتحة من فوق الركبة حتى الآخر من الجانب تحديدًا فوق قدمها اليسار وفوق التنورة بلوزة دون أكمام وبفتحة مثلثية في المنتصف وتترك شعرها الناعم ينسدل فوق كتفيها، كانت تقترب منه وهي تبتسم بثقة وعندما وصلت له ازدادت ابتسامتها اتساعًا وهي تسأله برقة تليق بفتاة جميلة مثلها:
_معلش كنت حابة أسألك هو أنت من المدينة هنا؟!
رفع حاجبه بدهاء رجولي بعدما فهم محاولاتها في إجراء حوار معه، فرد عليها ببرود:
_لا
ردت عليه مبتسمة وهي تبدأ بتعريف نفسها وتمد يدها لتصافحه:
_أنا شروق
نقل جلال نظره بين وجهها وبين يدها الممتدة بنظرات ساخرة ثم رد عليها بابتسامة متكلفة دون أن يصافحها:
_أهلًا وسهلًا يا أنسة شروق
اتسعت عيناها بدهشة بعدما لاحظت لهجته الصعيدية المميزة وقالت بإعجاب شديد:
_إيه ده هو أنت صعيدي؟
بدأت تزعجه حقًا لكنه لا يريد إحراجها برده القاسي واكتفى باماءة رأسه لها في الإيجاب دون أن ينظر لها متعمدًا التركيز مع أولاده وهم في المياه فتابعت هي بنفس نبرتها الناعمة:
_أصل أنا حاسة نفسي شفتك قبل كدا بس مش فاكرة فين!
ردت عليها فريال مبتسمة بقرف ولهجة استهزاء:
_في الأحلام ياحبيبتي.. دي أحلام من الشياطين ابقي اتوضى قبل ما تنامي واتغطي زين
التفتت الفتاة خلفها تنظر لفريال باستغراب وتسألها في نظرة متعجرفة:
_إيه ده مين أنتي أصلًا؟!
فغرت فريال عيناها بصدمة متصنعة وردت عليها بنفس التعبيرات السابقة:
_متعرفنيش!!.. أنا شوفتيني في نفس المكان اللي شوفتيه فيه افتكري وهتعرفي
خرج عمار من المياه وركض باتجاه فريال وهو يصرخ فرحًا:
_أما
فهمت الفتاة أنها زوجته بعدما رأت أولاده ينادونها بـ " ماما " فلوت فمها بقرف واستدارت ثم سارت مبتعدة عنها بينما فريال فصاحت عليها بسخرية:
_ابقي استري نفسك بدل ما يلفحك الهوا وترقدي على السرير وتحرمينا من طلتك
كان جلال يتابع تلك الحرب الباردة وهو يضحك بصمت وبعد عبارة زوجته الأخيرة انفجر ضاحكًا بقوة وهو يهتف:
_تعالي اقعدي يافريال أنتي إيه اللي نزلك؟
اندفعت نحوه ثائرة بعد سؤاله وجلست بجواره تهتف ساخطة:
_أنت مكنتش عاوزني انزل يعني.. ولا عچبتك البت وكنت بتسايرها في الكلام!
تنهد مغلوبًا وهو يضحك ويميل على رأسها يلثم رأسها بحنو متمتمًا:
_مفيش ست واخدة عقلي وقلبي غيرك والله يافريالي
تأثرت للحظة ولانت لكن فورًا استعادت غضبها وابتعدت عنه تقول مغتاظة:
_ما هو لازم البنات تتلزق فيك وأنت نازل بالشورت إكده
غضن حاجبيه بتعجب ثم مال ثغره للجانب في بسمة حائرة وهو بجيبها:
_وهو أنا هلبس الجلابية يعني وأنا نازل البحر يافريال!!!
عقدت ذراعيها أسفل صدرها واشاحت بوجهها أصبح في مواجهة البحر وهي ترد عليه بضيق وصوت مبحوح:
_لا أنا اتخنقت وعاوزة ارچع البلد من تاني.. رچعني مش عاوزة اقعد إهنه
لوى جلال فمه بنفاذ صبر وهو يتمتم:
_امممم بدأنا عاد في الهرمونات
اقترب منها واحاطها من كتفيها يهمس لها في لطف وحنو:
_طيب صلي على النبي كدا ياحبيبتي وتعالي يلا نطلع البيت فوق نرتاح وكفاية العيال لعبوا كتير النهاردة
دفعت يديه بعيدًا عن كتفيها بوجه عابس ومستاء:
_بعد عني أنت بتقربلي ليه.. أنا مسامحتكش
أنهت عبارتا واستقامت واقفة وهي تعود مجددًا باتجاه المنزل بينما هو فمسح على وجهه متأففًا بنفاذ صبر ومستغفرًا ربه ثم توقف وأشار لأولاده أن يخرجوا ويلحقوا بهم على المنزل.
***
اتجهت آسيا نحو الباب بعدما سمعت صوت الرنين وهي تسير مستعينة بعكازها في بطء حتى وصلت للباب وفتحت فوجدت عمران أمامها افسحت له الطريق وابتسمت وهي ترد عليه بمزاح لطيف:
_إيه رچعت تاني عشان تاكل الكنافة ولا إيه!
رمقها بطرف عيناه رافعًا حاجبه ثم دخل وأغلق الباب ورغمًا عنه تحرك ثغره للجانب مغلوبًا منها، رأته يتجه مباشرة نحو غرفة عمله الخاصة فأدركت أنه نسى شيء وعاد ليأخذه وكانت ستهم باللحاق به لكنها توقفت على أثر صوت رنين الباب مجددًا فضيقت عيناها باستغراب وعادت للباب لكي تفتح وقد كان عمران في تلك اللحظة خرج على أثر صوت رنين الباب ووجدها تفتح وكان الطارق صديقتها سندس وشقيقة سليم.
سقطت عين سندس على عمران ورأت نظراته المنزعجة والمخيفة فتنحنحت باحراج ونظرت لآسيا في حزن تهمس:
_كنت جاية اتكلم معاكي في حاجة صغيرة يا آسيا لآخر مرة لو مفيش مانع أو مشكلة
طالت نظرات آسيا الممتعضة لها ثم التفتت برأسها للخلف تنظر لعمران وتسأله بنظراتها هل يوافق أم لا، فتنهد بخنق وهز رأسه لها بالموافقة فعادت تنظر لسندس مرة أخرى وتجيبها بهدوء وهي تفسح لها الطريق للدخول:
_اتفضلي
أشارت لها بيدها على غرفة بجانب الباب مباشرة فدخلت سندس ثم لحقت بها آسيا وأغلقت الباب، تقدمت إليها وجلست على المقعد المقابل لها وهي تستمر في إرسال إشارات الخزي والغضب لها بينما سندس فتحدثت بأسف وندم حقيقي:
_أنا آسفة يا آسيا صدقيني والله أنا مكنش في نيتي أبدًا إني أذيكي أنتي معزتك عندي غالية أوي
آسيا منفعلة بعصبية:
_ده چزاتي أني حكيتلك واتكلمت معاكي على أسراري تروحي تحكيها لأخوكي القذر ده.. أنتي متعرفيش عمران عمل إيه امبارح معايا بسببك انتي وأخوكي
امتلأت عيون سندس بالدموع وردت عليها بخجل دون أن تقوى على النظر لها:
_مكنتش اقصد والله وأنا كنت فاكرة أن سليم اتغير وبقى شخص كويس واتعلم من أخطائه بس حتى أنا كنت غلطانة في أخويا وهو خد جزائه ويستحق اللي حصله يمكن يتعظ وربنا يهديه.. بس لما سألني عنك أنا كنت فكراه بيسأل وعايزة يعرف فضول مش اكتر وأنا بسذاجتي حكيتله ورغم أني نبهت عليه ميجبش سيرة لحد أبدًا بس دي غلطتي أنا فعلًا يا آسيا
أنهت عباراتها الاخيرة وهي تنهار في البكاء الشديد بحرقة وألم، فتأففت آسيا بضيق بعدما هدأ غضبها منها ولان قلبها لكنها ردت بجفاء:
_خلاص يا سندس اللي حُصل حُصل ومن إهنه ورايح معدش في بينا أي كلام وتنسي أن احنا كنا صحاب واصل
توقفت عن البكاء وهي تهتف بصوت مرتجف:
_أنا أساسًا ابن عمي جاي ياخدني شوية كدا وهروح اعيش في بيت العيلة مع جدو وجدتي في المنصورة يعني مش هتشوفيني تاني وحبيت بس اجي اعتذر منك قبل ما امشي لأن اللي حصلك ده كان بسببي
لوت آسيا فمها باقتطاب ثم تمتمت في خنق:
_جزء صغير منه كان بسببك وهو الأخير لكن الباقي كله كان بسبب أخوكي.. عمومًا خلاص يا سندس انا هنسى اللي حُصل وانتي كمان انسى وروحي عيشي مع أهلك مرتاحة بعيد عن أخوكي ده
هزت رأسها لها بالموافقة ثم استقامت واقفة وهي ترفع أناملها تمسح دموعها وتبتسم لآسيا بعذوبة وصفاء هامسة:
_شكرًا يا آسيا أنك سمعتيني وسمحتيلي اعتذر منك
هزت رأسها آسيا في بسمة خافتة دون أن تجيب بينما سندس فاستدارت وغادرت الغرفة ثم فتحت باب المنزل وانصرفت، فظلت آسيا مكانها تحدق على أثرها في الباب صامتة ولوهلة اشفقت عليها أنه كان من نصيبها شقيق فاسق كهذا.
استدارت وعادت للداخل تحديدًا إلى الصالة فوجدت عمران يجلس على الأريكة ينتظرها وفور رؤيتها لها سألها بحزم:
_قالتلك إيه؟
تقدمت نحوه وجلست بجواره تقول في صوت رزين:
_ولا حاچة چاية تعتذر مني
هز رأسه بتفهم رغم أن ملامحه كانت توحي بالسخرية والاشمئزاز، لكن آسيا تجاهلت كل شيء وراحت تستغل الفرصة وتبتسم له برقة وهي تقول:
_اديني خلاص قطعت علاقتي بيها واصل كيف ما قولت وشوفتني كيف بتسأذنك الأول قبل ما ادخلها و....
قاطعها عمران بلهجة صارمة وملامح وجه مريبة تثير الرهبة:
_أنك تستأذنيني في كل حاچة بتعمليها ده مش اختيار لا ده اچباري يعني أنتي معملتيش حاچة غريبة
ازدردت ريقها بتوتر وعادت برأسها للخلف وهي تهمس لها بخوف مبتسمة:
_أنت هتتحول تاني ولا إيه؟!
ثم تابعت بنعومة جميلة وهي تهز رأسها بالإيجاب:
_طبعًا هاخد أذنك في كل حاچة يامعلم مقدرش أصلًا.. بس خلاص مش هتسامحني عاد
حدقها بنظرة متفحصة وطويلة قبل أن يستقيم واقفًا ويتجاهل محاولاتها في نيل رضاه مجددًا ثم يجيب عليه بحدة:
_أنا طالع ومتفتحيش الباب لحد واصل فاهمة ولا لا!
تأففت بخنق أن كل محاولاتها تنتهي بالفشل معه وهو يتجاهلها في كل مرة ولا ينظر لوجهها حتى، لكن لم تستطع تجاهل تعليماته وهزت رأسها بالموافقة وهي تبتسم بتكلف.
لحظات قصيرة وكان يغادر المنزل ويتركها وحيدة مرة أخرى وهذه المرة ضيقت عيناها بعناد وغيظ وهي تقول:
_هنشوف بليل يامعلم هتفضل إكده بتتجاهلني برضوا ولا لا
***
بتمام الساعة العاشرة مساءًا داخل منزل جلال بمدينة العين السخنة......
خرج من الحمام بعدما انتهى من حمامه الدافيء، ثم قاد خطواته لخارج الغرفة لكي يبحث عن فريال فوجدها تجلس في الصالة أمام التلفاز على الأريكة تشاهد فيلمًا يبدو رومانسيًا ويتبادل فيه الأبطال العناق الحميمي يتعانق الحميمي، لم يكن ذلك هو الغريب.. بل الغريب في الأمر أنها كانت تشاهدهم وتبكي!.
وقف يراقبها وهو يبتسم في دهشة، ثم تحرك ببطء نحوها وجلس بجوارها في هدوء شديد هامسًا بنبرة حاول إخراجها طبيعية دون ضحك:
_أنتي بتبكي ليه!!!
ردت عليه بصوت مبحوح وهي ترفع أناملها لوجهها تمسح دموعها:
_المشهد چميل ومؤثر قوى ياچلال
كبح ضحكته بصعوبة وتمتم في خفوت ونبرة حانية:
_أيوة مختلفناش أنه هو چميل.. بس بصي إكده هما كيف مبسوطين وفرحانين أنتي زعلانة ليه عاد المفروض تضحكي معاهم
انهمرت دموعها مجددًا وهي تجيب بحزن شديد وسط بكائها:
_معرفش بس أنا حسيت نفسي عايزة ابكي
لم يتمكن من كبح ضحكته أكثر من ذلك لكن تمالكها قدر الأماكن وخرجت صامتة، ثم فرد ذراعه وضمها لصدره متمتمًا في حب:
_ابكي ياحبيبتي براحتك ابكي
رفعت فريال نظرها للتلفاز مجددًا تنظر لوجوه الأبطال العاشقة ومشهد النهاية السعيد وهي تقول بحسرة وشجن:
_حبهم لبعض حلو قوي.. أنا مفيش حد بيحبني إكده ده هو عمل كل حاچة عشانها من كتر حبه ليها
تقوست ملامحه وتحولت من الضحك للصدمة الممتزجة بالغيظ والانزعاج من سخافة كلماتها، ثم أبعدها عنه وقال ساخرًا:
_وهو أنا بعملك رز بلبن بس يعني ولا إيه!
ابتسمت له لكن سرعان ما قالت ضاحكة في نفس مشتهية:
_الله تصدق نفسي في رز بلبن صُح ياچلال.. إيه رأيك اقوم اعمله!
عض على شفاه السفلية محاولًا تمالك أعصابه لكنه فقد قدرته في البقاء صامدًا أمامها وهتف بلهجة مرتفعة قليلًا وساخطة:
_قومي اعملي يا فريال وابقي هاتيلي طبق معاكي ولو لقيتي في سم فران في المطبخ ابقي حطيلي منه كمان عشان اكله واموت قبل ما تچلطيني تاني
طالعته بقرف وانزعاج من عصبيته الغريبة عليها ثم هبت واقفة واتجهت للمطبخ لكي تقوم بتحضيره، وقفت في المطبخ وابتسمت بخبث ونظرات شيطانية وسط ضحكتها الصامت عليه...
***
فتح عمران باب المنزل ودخل ثم نزع حذائه بجانب الباب ووضعه بمكانه وتحرك نحو غرفته بالداخل لكنه تسمر بمنتصف الطريق عندما وجدها تجلس فوق الأريكة بالصالة وهي مرتدية ذلك الثوب الأسود القصير وتترك شعرها الأسود الطويل ينسدل على ظهرها وكتفيها بِحُرية، أما وجهها فكانت تزينه ببعض مساحيق الجمال الهادئة التي تزيد من جمالها، كان منظرها الأنثوي المثير يحبس الأنفاس ويسلب العقول.....
...... نهاية الفصل ........
•تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية