رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الخمسون 50 - بقلم ندى محمود
((ميثاق الحرب والغفران))
_الفصل الخمسون_
استقامت إخلاص واقفة بذهول بعد عبارة داليا وأخذت تتطلع إليها بعدم استيعاب لما تتفوه به، وبخطوات بطيئة تقدمت نحوها هي وعفاف ووقفت أمام الباب مباشرة تنظر لداليا بعين مشتعلة قبل أن تسألها بخفوت مريب:
_هو مين ده اللي چوزك؟!
نظرت داليا لإخلاص بثقة وقالت وهي تنظر في عيناها:
_ابراهيم الله يرحمه چوزي هو انتي متعرفيش ولا إيه!
طال سكون إخلاص المريب وهي مستمرة في التحديق بداليا مندهشة حتى التفتت برأسها لعفاف التي تقف بثبات رغم نظرات الحقد في عيناها لداليا وعندما عادت إخلاص برأسها مجددًا هبطت بنظرها لتلك الطفلة الصغيرة التي من نفس سن احفادها، وظل تتمعنها بذهول لا يستوعب عقلها أن تلك الفتاة هي ابنة زوجها، هل تزوج عليها للمرة الثانية وخانها والآن زوجته الجديدة تقف أمامها وتطالب بحقها هي وابنتها الصغيرة.
طال صمت إخلاص فوق الطبيعي مما آثار جنون عفاف وجعلها تنفجر بداليا وهي تصرخ بها بغل:
_ملكيش مكان إهنه لا أنتي ولا بتك وهترچعي من مطرح ما چيتي فاهمة ولا لا
هزت داليا رأسها بالرفض وهي تجيب على عفاف بقوة وتخطو اولى خطواتها للداخل:
_ده بيت چوزي وأبو بنتي وليا حق هنا زي ما انتوا ليكم بظبط، أنتي مش هتمنعيني ياعفاف
أظلمت عيني عفاف وبلحظة غضب انقضت على داليا تقبض على ذراعها بعنف وهي تصرخ بها:
_انا دلوك معدش عندي حاچة أخاف عليها وأنتي شوفتي كنتي هعمل فيكي إيه.. بلاش تقفي قصادي وتمشي من إهنه أنتي وبتك من غير مشاكل
خرجت إخلاص عن طورها وسكوتها الغريب أخيرًا حيث صاحت بهم هم الأثنين بعصبية هستيرية:
_انتوا بتتكلموا في إيه إهنه أنا ست البيت، أنتي لو لساتك قاعدة إهنه في البيت ده ياعفاف بعد اللي عملتيه فعشان خاطر ولدك بس يعني لولا بلال مكنتش خليتك تفضلي دقيقة واحدة تاني، أما أنتي فمين اصلا عشان تاچي لغاية إهنه وتقولي بيتي وحقي كيف ما اتجوزت في السر من غير ما حد فينا يعرف وكبرتي بتك للسن ده يبقى تكملي حياتك بنفس الطريقة.. جوزك مات خلاص ومعدش ليكي حد ولا في ليكي حاچة يعني تطلعي من بيتي ومترچعيش تاني
على أثر صوت صراخهم المرتفع وشجارهم مع بعضهم خرج عمران من غرفته وقاد خطواته الأسفل حيث الطابق الارضي لكن فور رؤيته لزوجة والده وابنتها الصغيرة معها تسمر بأرضه للحظات يحدق بهم مندهشًا، وسرعان ما اسرع نحوهم عندما وجدهم سيبدأون حرب حقيقية فيما بينهم.
امسك بأمه وأبعدها عن داليا هاتفًا:
_أما اهدي إيه الفضايح دي!
التفتت إخلاص نحو ابنها وقالت لها صالحة بعينان دامعة وصوت مبحوح يحمل المرارة:
_فضايح!!.. وهو اللي أبوك عمله وچوازه عليا للمرة التانية مش فضايح لا وكمان چايب منها بت صغيرة قد ولاد بته.. للدرچادي مكنش طايقني عشان يتچوز عليا مرتين
ضم عمران أمه لصدره وأخذ يمسح فوق ظهرها بحنو وانحنى عليها يلثم رأسها هامسًا:
_اهدي ياما أبوس يدك.. معدش الكلام ده له فائدة دلوك اللي حُصل حُصل خلاص وأبوي معدش موچود وسطينا
تمت بين ذراعيه بقهر وانهيار شديد:
_ماهو ده اللي واچعني ياولدي أنه معدش موچود يعني حتى مش هقدر اقف قصاده واعاتبه على اللي عمله فيا
على آخر السلم كانت تقف آسيا تتابع ما يحدث بصمت ونظراتها ثابتة على داليا التي كانت تنظر لإخلاص وعفاف بجحود وقسوة، بينما عمران فعيناه سقطت على شقيقته الصغيرة التي تقف ملتصقة بأمها وتحتمي بها خوفًا منهم ليتنهد الصعداء بضيق ويبعد أمه عنه ببطء ثم يوجه حديثه لزوجة والده بجدية:
_تعالي معايا هنتكلم شوية
ثم التفت برأسه نحو زوجته وأشار لها بعيناه على الصغيرة أن تأخذها معها لغرفتهم للأعلى حتى ينتهي من حديثه مع أمها، فهزت آسيا رأسها له بالموافقة فورًا دون نقاش وفور ابتعاد عمران وداليا واتجاههم نحو غرفة الجلوس الكبيرة اقتربت آسيا من الصغيرة واقنعتها بالذهاب معها للأعلى وسط نظرات إخلاص وعفاف النارية، ورغم الحقد والنقم الذي في صدورهم لم يتمكنوا من الاعتراض والوقوف أمام عمران أو عصيان أوامره.
***
داخل غرفة الجلوس....
كانت تجلس داليا على الأريكة وعلى المقعد المقابل لها مان عمران يجلس ويحدقها بعيناه الثاقبة، رغم ارتباكها البسيط منه إلا أنها حاولت البقاء صامدة أمامه حتى لا تظهر خوفها منه، أما هو فقد اخترق فقاعة الصمت أخيرًا وسألها باهتمام:
_البيت اللي كنتي قاعدة فيه كان بيت أبوي ملك يعني ولا إيجار؟
أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تجيبه بخفوت وصوت يغلبه الحزن:
_بيته.. اشتراه لما اتجوزنا
هز رأسه بتفهم ثم رفع كفه يمسح على شعره نزولًا لوجهه وهو يتأفف بقلة حيلة ليهتف في النهاية بلهجة رجولية حازمة:
_زين قوي.. بصي لو أنتي چاية النهاردة عشان ناوية تعيشي إهنه اااا....
قاطعته داليا بسرعة في انزعاج بعدما استنتجت كلماته الباقية وقالت:
_لا أنا جاية عـ....
أوقفها عمران هذه المرة لكن بلهجة وأسلوب لطيف وهو يقول بهدوء جميل:
_اسمعيني للآخر أنا لساتني مخلصتش كلامي، لو عليا أنا معنديش مشكلة تعيشي إهنه ده في الأول والآخر بيت چوزك وبتك ليها حق تعيش إهنه بس ده عشان مصلحتك أنتي وهي وعشان نتجنب المشاكل.. يعني أمي ومرت أبوي مش هيسبوكي تعيشي في راحة وأنا للأسف مش هقدر احميكي منهم، يعني مينفعش تقعدي إهنه افضل مكان ليكي هو بيتك اللي اشتراه أبوي عشانك
طالعته داليا بخنق وقالت في قهر ومرارة تظهر بوضوح في نبرتها المبحوحة وعيناها الدامعة:
_أنت بنفسك قولت ليا الحق ياعمران وبنتي ليها حق تعيش في بيت أبوها ووسط اخواتها ومتبقاش محرومة من حاجة، مش كفاية ابراهيم كان حرامها من كل ده بسبب خوفه من عفاف وإخلاص ليعرفوا أنه متجوز
أجاب بكل ثبات انفعالي ونبرة دافئة:
_وأنا محرمتكيش لا أنتي ولا هيا لو عاوزة تقعدي.. براحتك لكن أنا قولتلك لمصلحتكم عشان متوچعيش راسك بالمشاكل اللي ملهاش لزمة طالما انتي عندك بيتك الخاص بيكي ليه تتعبي نفسك بالمشاكل دي، وبنتك الصغيرة بيت أبوها مفتوح ليها في أي وقت ولو حابة تقعد بالأيام إهنه معانا محدش يقدر يمنعها وهتكون معايا أنا يعني مفيش مخلوق هيقدر يضايقها
سكون تام استحوذ على داليا بعدما سمعت عبارات عمران وبدت وكأنها تفكر فيما قاله وتحاول اتخاذ قرارها بينما هو فتابع برجولية صارمة تحمل الرفق والحنو:
_متخافيش حقكم محفوظ يعني لو ليكم حق هتاخدوه بشرع ربنا، وكمان أنا بنفسي هتهم بيتك هي مهما كانت اختي يعني لو عوزتي أي حاچة كلميني مصاريفها واحتياچاتها كلها عندي، أبوها مات بس اخواتها موچودين، يعني اطمني محدش هياكل حقكم ووقت ما بتك تحب تاچي بيت أبوها في أي وقت تچبيها
مازال الصمت هو رد داليا على ما يقوله عمران، وعقلها يحاول التفكير واتخاذ القرار الصحيح لها ولابنتها وبالنهاية حدقته به بنظرات مطولة تحمل بعض القلق وعدم الثقة، لكنها قررت الوثوق به كما وثقت بوالده سابقًا، ستوافق مؤقتًا حتى تتأكد هل هو جدير بالثقة وسينفذ وعوده لها أم لا.
بعدما أخبرته بموافقتها واقتناعها برأيه استقامت واقفة وكانت بطريقها للخارج لكنها توقفت عندما انفتح الباب ودخلت ابنتها الصغيرة وكانت خلفها آسيا التي نقلت نظرها بين زوجها وبين داليا باستفهام فأشار لها عمران بعينها بمعني أنه سيخبرها لاحقًا.
أسرعت ريم نحو أمها وسألتها بصوت منخفض دون أن تنظر لأخيها الكبير بسبب خوفها منه وعدم اعتيادها عليه:
_ماما هو احنا هنمشي بيتنا تاني؟
هزت داليا رأسها لها بالإيجاب بينما الصغيرة فعبس وجهها وقالت بحزن وهي تتوسل أمها برقتها المعهودة:
_طيب ممكن اقعد النهاردة بس مع طنط آسيا وبكرا ارجع البيت
اتسعت عيني آسيا للحظة مندهشة لكن سرعان ما ضحكت بصمت وحب على تلك الصغيرة، وبينما كانت داليا على وشك رفض طلب ابنتها خرج صوت عمران وهو يقول بهدوء:
_لو حابة تقعد النهاردة إهنه خليها، متخافيش عليها وأنا بكرا الصبح هرچعها البيت
تلفتت داليا بنظرها بين آسيا التي كانت تنظر لابنتها وبين وجه عمران الحاد فقالت بقلق أمومي طبيعي ورفض بسيط:
_لا الأفضل ترجع معايا مش هبقى مطمنة عليها وهي مش جمبي
تعلقت الصغيرة بقدم أمها وأخذت تترجاها بعينان دامعة تستعطفها من خلالهم وهي تهمس:
_عشان خاطري ياماما ارجوكي وافقي النهاردة بس
خرج صوت آسيا وهي تنظر لداليا بثقة ونظرات ترسل من خلالهم إشارات فهمتها داليا جيدًا:
_خلاص يا داليا خليها متخافيش عليها عمران قالك هيچبهالك بكرا، وبعدين هي هتبقى معايا وأظن أنتي عارفة أن مفيش حاجة هتحصل ان شاء الله طول ما هيا معايا
نقلت نظرها بينهم مترددة للحظات طويلة قبل أن تطلق تمهيدا حارة بنفاذ صبر مغلوبة أمام الحاح ابنتها وتنحني عليها تقبلها من شعرها وتهمس لها في أذنها بحزم:
_متتشاقيش ياريم وتسمعي الكلام لغاية بكرا وملكيش دعوة بإخلاص وعفاف خالص فاهمة
هزت الصغيرة رأسها لأمها بالموافقة وهي تضحك بفرحة وحماس، ثم استقامت داليا في وقفتها وابتعدت عن ابنتها تنوي الرحيل وأثناء مرورها من جانب آسيا همسات لها بنبرة امومية حقيقية لا تحمل أي من الضغينة أو الحقد الذي كان بينهم سابقًا:
_خلي بالك عليها يا آسيا
رمقتها آسيا بطرف عيناها وهي تبتسم باستنكار لتنحني عليها وتهمس بخبث:
_الحساب اللي بينا اتقفل لما أنا أخذت حقي منك، فمتقلقيش أكيد مش هدخل بتك في مشاكلنا يعني متخافيش عليها
تنهدت داليا الصعداء بضيق وهي تحدق آسيا بامتنان قبل أن تلقي نظرة أخيرة على ابنتها وتلوح لها بيدها مودعة إياها قبل أن تغادر وتتركهم.
***
خرجت حور من منزلها وقادت خطواتها نحو الدرج تنوي الذهاب للجامعة وبعد وصولها للطابق الأرضي وتحركت باتجاه باب البناية، لكن فور مغادرتها للبناية تسمرت بأرضها مندهشة عندما رأت سيارته تقف على الاتجاه المقابل لها من الطريق وهو يقف مستندًا عليها بظهره عاقدًا ذراعيه أمام صدره ويحدقها بثبات وعمق.
ظلت مكانها للحظات طويلة تتمعنه بوجه خالي من التعابير، وصراع عنيف نشب داخلها بتلك اللحظة بين تجاهلها له والاستمرار في طريقها وبين الذهاب له، كانت تستمع لذلك الصوت القاسي وتتركه لكن نظراته البائسة والمهمومة لها جعلت من قلبها يذوب عشقًا ورفقًا به، فتأففت مغلوبة وعبرت الشارع وهي تسير نحوه في ملامح قوية هذه المرة وعندما وقفت أمامها لم تتحدث بينما هو قال بغضب وعتاب ملحوظ في نبرته:
_هي وصلت للدرچة دي خلاص ليا يومين برن عليكي ومش بتردي عليا
لوت فمها واشاحت بوجهها للجهة الأخرى بعيدًا عنه مردفة:
_مكنتش حابة اتكلم ومليش نفس
اتسعت عيناه بدهشة ممتزجة بغيظه الشديد وهو يجيبها:
_مش حابة تتكلمي معايا!!!
عادت بوجهها له وقالت منفعلة بضيق حقيقي:
_ايوة يابلال مش حابة اكلمك عشان مش عايزة اسمع مبراراتك وقرارك وأنت بتتكلم عن حق أبوك.. مش عايزة احس أني مش فارقة معاك ومش بتفكر فيا وبتفكر في نفسك بس
همس لها بنبرة حازمة:
_طيب وطي حسك احنا في الشارع.. تعالي اركبي وهنروح مكان ونتكلم على رواق
أجابته بالرفض القاطع والخنق:
_لا مش عايزة اتكلم ومعايا محاضرة كمان
بلال بانزعاج شديد ونظرة مريبة:
_حور محاضرتك لسا بدري على معادها.. هنتكلم شوية وبعدين هوديكي الچامعة قبل معاد المحاضرة
طالعته بطرف عيناها في غيظ وكانت ترغب في الرفض مجددًا لكنها لم تتمكن من الاعتراض خشيت من انفعاله بعد تلك النظرات الصارمة، فاكتفت بأنها اندفعت باتجاه السيارة تلتف حولها لتستقل بالمقعد المجاور لمقعد القيادة دون أن تتفوه بكلمة واحدة، بينما هو فتنهد الصعداء بضيق وفتح باب مقعده واستقل بجوارها لينطلق بالسيارة متجهًا نحو أحد الأماكن الهادئة، وبعد دقائق طويلة نسبيًا من الصمت القاتل بينهم توقف بالسيارة أخيرًا أمام مقهي صغير يطل على نهر النيل وفتح باب السيارة لينزل بينما هي فظلت مكانها لم تنزل ليتلف إلى الجهة الأخرى وهو سلوى فمه مغلوبًا ليفتح لها الباب ويشير لها بنظراته أن تنزل، فرمقته مطولًا بعناد طفولي حتى نزلت بالأخير وهي عابسة الوجه وسارت معه للداخل، اتجه بلال نحو إحدى الطاولات الصغيرة المقابلة للمياه مباشرة وآشار لها بالجلوس أولًا ففعلت وجلس بعدها على المقعد الذي يقابلها وقبل أن تبدأ هي بأي حرف تحدث في غلظة:
_أولًا مفيش حاچة اسمها أنك مش فارقة معايا تمام، لو مكنتش بفكر فيكي ولا فارقة معايا مكنتش چيتلك لغاية البيت واستنيتك عشان نتكلم رغم أنك مطنشاني ليكي يومين ومش بتردي عليا و....
خرجت عن طور هدوئها المزيف مجددًا وانفعلت لتقول مغتاظة تمعنه من استكمال حديثه:
_أيوة مش فارقة معاك طول ما أنت عندك استعداد تضيع نفسك يبقى مش فارق معاك حد حتى نفسك مش أنا بس، وأنا قولتلك أننا لو هنكمل مع بعض مش هسمحلك تعمل في نفسك كدا وكمــ......
قطع حديثها بمنتصفه منفعلًا وهو يهتف جازًا على أسنانه ويحاول التحكم في نبرة صوته:
_ماتهدي واقفلي خشمك ده إيه!!.. خليني اخلص كلامي الأول وبعدين ابقي افتحي الراديو اللي بلعاه ده
تبدلت ملامحها من القوة إلى الارتباك البسيط بعد انفعاله المفاجيء ولهجته الحازمة لها، فسكتت مجبرة ولم تتحدث حتى وجدته يقول بجدية:
_صعب عليا انسى منظره أبوي ياحور واتصرف عادي حتى لو أنا عارف أنه غلطان من البداية، وأنا مبفكرش في حد غيرك والله ولو في حاچة ممكن تخليني اغير قراري فهي أنتي بس، أنا مش فارقة معايا.. أيوة فعلًا مش فارقة ولو على نفسي كنت عملت حاچات كتير قوي بس كيف ما أنتي خايفة تخسريني أنا كمان خايف اخسرك ومش هقدر ابعد عنك
اختفى السخط من فوق معالمها ولمعت عيناها بوميض الحب مجددًا وبسرعة انحنت على سطح الطاولة وهي تستند بساعديها فوقها وتنظر له بعمق متمتمة:
_طيب خلاص طلع الموضوع ده من دماغك ومش هقولك انسى بس اتنازل عشاني حتى لو بتحبني بجد ومش عايز تخسرني.. اوعدني أنك مش هتعمل حاچة وتضر نفسك
طال نظره لها وهو صامت لا يجيب وهي كانت تنتظر الرد منه ووعده لها بأنه لن يفعل لكنه للمرة الثانية يخيب ظنها فعادت بظهرها للخلف على المقعد ومال ثغره للجانب في بسمة مريرة قبل أن تثبت واقفة وهي ثائرة وهي تهتف:
_لا واضح جدًا أنك بتحبني الصراحة.. أنا ماشية
اندفعت بخطواتها السريعة لخارج المقهي بينما هو فأسرع خلفها يحاول اللحاق بها حتى أوقفها أخيرًا بعد خروجها وهو يقول:
_استنى ياحور
رمقته شزرًا وبغضب حقيقي وهي تهتف:
_انا ماشية يابلال قولتلك.. أساسًا اتأخرت بما فيه الكفاية
بلال بخفوت ويأس:
_خلينا نكمل كلامنا حتى
صاحت به منفعلة:
_كلام إيه مفيش حاجة نقولها ما أنت خلصت كل الكلام بردك في النهاية
مسح على وجهه متأففًا بنفاذ صبر قبل أن يهتف في لهجة رجولية:
_طيب تعالي هوصلك للچامعة يلا
حور باستياء شديد:
_مش عايزة شكرًا أنا هروح وحدي
أجابها بحدة بسيطة وإصرار تام:
_مش هتلاقي مواصلات هنا كتير يا حور يلا قولتلك بلاش عند
عنادت وظلت واقفة وهي تتلفت حولها تنتظر أي سيارة لتأخذها للجامعة لكن لم يكن بالشارع أي سيارة آجرة وهو كان يقف بجوارها يتأملها بقلة حيلة من عنادها،حتى وجدها في النهاية ترمقه بقرف قبل أن تأفف مستسلمة وتتجه نحو سيارته لكي يأخذها هو، ابتسم عليها بحب وسار خلفها ليستقل بمقعده المخصص للقيادة بينما هي فقد كانت استقلت بالمقعد الخلفي رافضة الجلوس بجواره.
***
داخل منزل خليل صفوان بتمام الساعة التاسعة مساءًا....
كانت فريال تجلس على الأريكة بالصالة وبيدها صحن ممتليء من السلطة تأكل منها بتلذذ، وبجوارها كان يجلس اولادها الأثنين وهم يشاهدون التلفاز على أحد برامج الاطفال، وعلى الجانب الآخر كانت تجلس جليلة تتابع فريال بغيظ حتى انتشلها من تأملها لفريال صوت عمار وهو يقول بحماس:
_هي عمتي آسيا هترچع تقعد إهنه تاني معانا ياچدتي
ابتسمت جليلة لحفيدها الصغير بحنو وردت بإيجاب:
_إيوة بس مش هتقعد علطول كيف الأول طبعًا خلاص خالك خدها منينا، يعني كل فترة هتاچي تقعد معانا شوية
قال معاذ بسعادة ظاهرة على ملامحه:
_أنا اتوحشتك عمتي آسيا قوي من بدري قوي مشفنهاش وكمان هي مكنتش بتاچي البيت إهنه
ردت فريال على ابنها وهي تمسح فوق شعره بحنو:
_من إهنه ورايح هتاچي كتير ياحبيبي أن شاء الله
هتفت جليلة بنبرة تحمل بعض الحزم البسيط:
_يلا الوقت أتأخر وانتوا معاكم مدرسة الصبح.. اطلعوا ناموا
ارتفع العبوس على محبتهم فور ذكر جدتهم النوم ونظروا لأمهم برجاء أن تسمح لها بالبقاء لكنها أشارت لهم بعيناها أن يستمعوا لجدتهم ويذهبوا للنوم فهي على حق والوقت تأخر، فاستقاموا واقفين في خنق وساروا نحو الدرج بالإجبار حتى صعدوا متجهين لغرفتهم وفور اختفائهم عن أنظارهم التفتت جليلة نحو فريال وقالت بحقد:
_اللي يشوفك دلوك ميشوفكيش من كام يوم!
التفتت لها فريال وفهمت تلمحايتها جيدًا فقالت بثقة متعمدة إثارة غيظها:
_الحمدلله البركة في چوزي ربنا يباركلي فيه ويحفظه ليا
ضحكت جليلة ساخرة وهي ترد عليها:
_چوزك!!.. وده من امتى الحب ده!
فريال مبتسمة ببرود وبنظرة نارية:
_من زمان قوي بس في شياطين دخلوا بينا وهما اللي فرقونا
تبدلت معالم جليلة وبلحظة انفعال وثبت واقفة وهي تصرخ بفريال ثائرة بعدما فهمت أنها تلقي بتلمحياتها المهينة عليها:
_قصدك إيه أنتي شكلك اتخبلتي في نافوخك وچلع ولدي فيكي نساكي روحك
بقت فريال مكانها ولم تتحرك لتكتفي بنظراتها القوية وابتسامتها المستفزة نحو جليلة التي هاجت عواصفها أكثر واندفعت نحو فريال تجذبها من شعرها فارتفع صراخ فريال وهي تحاول التملص من قبضتها، ولسوء حظ جليلة أن جلال وصل بتلك اللحظة وفور رؤيته لذلك المنظر اتسعت عيناه بدهشة وبسرعة صاح غاضبًا وهو يهرول نحوهم:
_أمـا بتعملي إيه!
جذب فريال من بين براثن أمه وضمها لحضنه وهو يحدق بجليلة ساخطًا ويقول بصوته الرجولي الغليظ:
_لساتك مش ناوية تتغيري ياما صُح
جليلة بغضب وهي ترمق فريال شزرًا:
_مرتك هي اللي مش ناوية تچيبها لبر معايا
كانت فريال تتشبث بملابس زوجها وهي بين ذراعيه وداخل حضنه وتحدق بجليلة في سخرية بينما جلال فصاح غاضبًا:
_تقومي تعملي إكده وتمدي يدك عليها وهي حامل
لم تجد مبرر آخر لفعلتها فاشاحت بوجهها للجانب الآخر وهي تلوي فمها بغيظ دون رد بينما جلال فهو رأسها مغلوبًا وهو يتأفف بيأس ويقول لفريال بعدما انحنى عليها ولثم رأسها:
_يلا يافريال اطلعي لفوق ياحبيبتي.. اطلعي وأنا چاي وراكي
ابتعدت عنه فريال وسارت بخطوات بطيئة للأعلى وظل جلال يرمق أمه بنظرات معاتبة حتى قال بحزن:
_معدتش لاقي كلام اقولهولك ياما غير ربنا يصلح حالك.. أنا طالع أنام تصبحي على خير
ظلت كما هي لا تنظر لوجه ابنها وفور رحيله راقبته بنظراتها وهو يصعد الدرج وقد امتلأت عيناها بالعبرات الحارقة والموجوعة...
***
بمنزل ابراهيم الصاوي....
كانت العائلة متجمعة لأول مرة منذ وفاة ابراهيم والجميع يجلس بالصالون يتحدثون بمواضيع مختلفة رغم سكوت إخلاص وعفاف وحديثهم القليل جدًا إلا أن الرجال كان يتبادلون أطراف الحديث بشكل مختلف.
توقفوا عن الحديث عندما سمعوا صوت خطوات فوق الدرج متجهة نحوهم وقد كانت آسيا وهي تنزل ببطء وسط نظراتها المعتادة لهم التي تملأها القوة، تحركت نحوهم وجلست بجوار زوجها الذي انحنى على أذنها وهمس لها بجدية:
_إيه اللي نزلك أنا مش قولتلك خليكي في الأوضة ومتنزليش وتطلعي على السلالم كتير
نظرت لها وقالت بعبوس طفولي جميل:
_زهقت ياعمران من القعدة وحدي فوق وأنت مش قاعد چاري
سألها مضيقًا عيناه باستغراب:
_امال ريم وين؟
_نامت من ساعة يمكن
تنهد الصعداء بقلة حيلة ثم لف ذراعه حول خصرها بتملك وقربها منه أكثر قبل أن يرفع نظره للجميع يعطيهم البشرى السعيدة وهو يبتسم بعين تلمع بفرحة حقيقية:
_قريب أن شاء الله هيشرف ولي العهد
ارتفع الذهول الحقيقي فوق معالم الجميع وهم يحاولون استيعاب ما قاله للتو وأول ما تحدث بسعادة كان بلال وهو يقول بعد أن رتب على كتف أخيه بحب:
_مبروك ياخوي ياجي بالسلامة أن شاء الله ويتربى في عزك
توالت التهنئات من جميع رجال العائلة لعمران حتى عفاف في النهاية هنئت آسيا بامتعاض لكن إخلاص لم تتحدث وظلت تتابع آسيا بغيظ حتى سمعت صوت ابنها الغليظ وهو يقول بضيق:
_إيه ياما مش هتقولي حاچة ولا إيه؟!!
ابتسمت بتصنع بعدما اقتربت من ابنها وعانقته بحب وهي تقول في سعادة مزيفة:
_وهو أنا افديك الساعة لما اشيل عيالك بين يدي ياولدي دي ساعة المنى.. ربنا يتمم لمرتك على خير وياچي بالسلامة على الدنيا ويتربى في عزك
كانت آسيا تنظر لإخلاص ببسمة سخرية فهي وحدها التي ترى الزيف في كلماتها وفرحتها المتصنعة، ربما لو كان هذا الطفل من امرأة أخرى لكانت فرحت به حقًا لكن حقيقة أن أمه ستكون آسيا يكفي لجعل إخلاص لا تفرح بخبر وجوده حتى، على عكس عمران الذي صدق فرحة أمه المزيفة وابتسم لها بحنو وهو يمسح على ظهرها بدفء مرددًا:
_آمين ياما.. آمين
ابتعدت إخلاص عن ابنها وعادت لمقعدها مجددًا وقد بدأ الحديث مرة أخرى بينهم باستنثاء إخلاص وآسيا لا يتحدثوا فقد كانوا منشغلين في تبادل النظرات الشيطانية بين بعضهم البعض.
بعد وقت طويل نسبيًا انتهت جلسة حديثهم الطويلة ونهض الجميع معادا آسيا وعمران وإخلاص، فنظر عمران لأمه وقال بهدوء وجدية:
_عاوزك تاخدي بالك من آسيا ياما متخلهاش تطلع وتنزل كتير ولا تعمل حاچة.. الدكتور قالها أهم حاچة الراحة
قالت إخلاص باستهزاء وغل وهي تنظر لآسيا:
_وهو في حد بيقدر على مرتك دي ياولدي غيرك.. أنا إيه يقدرني عليها
عمران بلهجة رجولية قوية تحمل الرجاء:
_معلش الفترة الچاية بس خليهم يطلعوا الوكل ليها فوق لما أكون مش قاعد في البيت عشان متتحركش كتير
نظرت إخلاص لآسيا بغيظ وهي تصر على أسنانها ثم قالت وهي تجيب على ابنها بلطف متصنع حتى لا تشعره بحقدها على زوجته التي ستجلب له طفله الأول قريبًا:
_حاضر ياولدي متقلقش مش هخليها تتعب روحها واصل
مال ثغر آسيا للجانب وهي تبتسم بخبث لإخلاص فهي تدرك جيدًا ما تضمره لها في ثناياها وتحاول إظهار العكس أمام ابنها حتى لا تخسره، لكن آسيا هل تكتفي بهذا القدر؟!.
رمقت إخلاص بطرف عيناها في لؤم ثم وضعت يدها فوق بطنها واصدرت تأوهًا عاليًا مزيف، في تعمد منها لإثارة جنون إخلاص عندما ترى ردة فعل ابنها.
التفت لها عمران بوجهه وسألها بقلق:
_مالك يا آسيا
ردت بصوت ضعيف وهي تتصنع الألم وتمسك ببطنها:
_معرفش حسيت بوچع مرة واحدة في بطني
هتف عمران بحنو شديد وهو يحتويها بذراعيه:
_طيب قومي يلا نطلع فوق وتريحي على السرير
هزت رأسها بالموافقة ثم استقامت واقفة معه وهو مازال يحاوطها بذراعيه من خصرها والتفت برأسه نحو أمه ليقول:
_تصبحي على خير ياما عاوزة حاچة
ردت إخلاص عليه بصوت محتقن من فرط الغيظ:
_ وأنت من أهله ياولدي عاوزة سلامتك
نظرت آسيا لها وهي تبتسم بمكر وتقول بلطف مزيف وسط نظراتها الشرانية:
_تصبحي على خير ياحماتي
هزت إخلاص رأسها لها بمضض دون رد وتابعتهم وهم يتوجهوا نحو الدرج، توقف عمران قبل أن يصعدوا فقالت له آسيا باستغراب:
_مالك وقفت ليه؟
أنحني عليها وحملها فوق ذراعيه هامسًا لها بحدة:
_بعد إكده مفيش نزول من الأوضة على السلالم غير للضرورة مفهوم
ضحكت بخجل وهي تنظر له بجدية وتتمتم:
_وه إيه اللي بتعمله ده ياعمران نزلني!
لم يهتم لها وقال للمرة الثانية موجهًا حديثه لأمه دون أن ينظر لها:
_تصبحي على خير ياما
انهي عبارته وسار بزوجته يصعد بها الدرج لغرفتهم بينما آسيا فقد التقت عيناها بعيني إخلاص التي كانت تشتعل غيظًا، فهمست آسيا ضاحكة في أذن عمران:
_أمك شكلها إكده اضايقت يامعلم
رد عليها غير مباليًا وهو يبتسم:
_اعملها إيه يعني.. وبعدين إيه اللي يضايقها مرتي حامل وبدلعها ومش عاوزها تتعب
انتفضت آسيا بين ذراعيه وهي تهتف له بخجل شديد:
_في حد نازل ياعمران.. نزلني بسرعة نزلني
كان قد انتهي من صعود الدرج ووصل للطابق الثاني فرد عليها بنبرته الرجولية:
_احنا وصلنا أوضتنا خلاص ياغزال اهدي مالك خايفة إكده ليه هو أنا چايبك من الشارع.. أنتي مرتي!
دفنت وجهها بين ثنايا رقبته بخجل وهي تضحك بصمت حتى وصلا لغرفتهم ودفع الباب بقدمه ثم دخل بها واغلقه بقدمه أيضًا بنفس الطريقة...
***
وقفت عفاف أمام غرفة بلال مترددة وعيناها ممتلئة بالدموع، ثم حسمت قرارها في النهاية وفتحت الباب لتدخل فتجده جالس فوق فراشه ويمسك بهاتفه يتصفحه، أغلقت الباب وهمست له بحنو:
_بلال
التفت لها على أثر صوتها ونظر لها بضيق ثم عاد بوجهه مجددًا لهاتفه يتجاهل وجودها من الأساس بينما هي فاقتربت منه أكثر حتى جلست على الفراش بجواره ورفعت يدها تمسح فوق شعره بحنو متمتمة:
_كيفك ياولدي طمني عليك
أطلق بلال زفيرًا قوي بخنق وهو يبعد يد أمه عنه فانهارت دموعها فوق وجنتيها غزيرة وهي تترجاه بعجز:
_متعملش فيا إكده ياولدي أبوس يدك أنا مليش غيرك ومقدرش اتحمل بعدك عني
توقفت أصابعه عن التقليب فوق شاشة هاتفه ثم أطلق زفيرًا حارًا قبل أن يلتفت لها ويقول بجفاء:
_لكن قدرتي تتحملي وزك لأبوي أنه يقتل خليل
قالت عفاف بندم حقيقي وسط انهيارها:
_ندمت والله يابلال واوعدك من إهنه ورايح كلامك هو اللي هيمشي ياولدي ومش هعمل أي حاجة تضايقك مني
سكتت للحظة تراقب تعبيرات وجهه وأثر كلماتها عليه لكنه كان قاسيًا لا يظهر أي لين فقالت له متوسلة ببكاء:
_سامحني ياولدي متحرمنيش منك وتديني ضهرك أنا مليش سند غيرك
ليته يستطيع مسامحتها بسهولة هكذا، لكن خطأها ليس صغير وتافه حتى ينساه من مجرد اعتذار، فترك الهاتف من يده وقال بصوت غليظ وهي يتمدد بجسده فوق الفراش يوليها ظهره:
_أنا تعبان وعاوز أنام تصبحي على خير
تصلبت عفاف مكانها لبرهة من الوقت وهي تتأمل ابنها ييأس وقلب منفطر، في النهاية لملمة شتات نفسها واستقامت واقفة لتغادر وتتركه وهي تبكي بحرقة وألم...
***
داخل منزل خليل صفوان تحديدًا بغرفة جلال.....
خرجت فريال من الحمام بعدما انتهت من حمامها الدافيء، وكانت ترتدي ثوب حريري قصير من اللون الأحمر المفضل لديه، فاقتربت من المرآة ووقفت أمامها تسرح شعرها وسط نظراته المتفحصة لها وهو يتأملها بحب حتى انتهت.
سمعته يقول لها بنبرة دافئة وهو يشير لها بيده على الفراش بجواره:
_تعالي يافريالي اقعدي چاري عاوز اتكلم معاكي
اقتربت منه بصمت وهي تبتسم بحب دون أن تقول شيء وعندما جلست بجواره وجدته ينحني عليها ليلثم كتفها بقبلة حارة مفعمة بمشاعره الساخنة ثم يتمتم لها بحب:
_هاا قوليلي عاد إيه اللي حُصل خلي أمي تعمل إكده معاكي
لوت فمها بضيق وأجابته باقتضاب:
_ولا حاچة عادي ضايقتني بكلامها ولما أنا رديت عليها ومعجبهاش ردي عملت إكده.. متشغلش روحك خلاص اللي حُصل حُصل
جلال بمعالم وجه جادة رغم حنوه:
_ما أنا عارف اللي بتقوليه ده ياحبيبتي أنا عاوز اعرف قولتوا إيه بظبط عشان افهم مين الغلطان
تحولت فريال بلحظة من الهدوء للاشتعال وهي ترنقه بانزعاج وتقول:
_يعني عاوز تقول أن أنا اللي غلطانة وأمك عندها حق ياچلال
جلال مبتسمًا بلطف وهو يحاوطها بذراعيه ويجيبها:
_أنا مقولتش إكده يافريال.. أنا بسألك إيه اللي حُصل بس؟
فريال بعصبية وعينان دامعة بعدما دفعت يديه بعيدًا عنها:
_وأنا رديت عليك وقولتلك اللي حُصل.. اقولك على حاچة كمان أنا اللي غلطانة تمام إكده
مال بوجهه للجانب مستغفرًا ربه في نفاذ صبر ثم عاد بنظره مجددًا يتمتم في نبرة احتواء وحب:
_يافريال ليه بتعملي إكده أنتي عاوزة تعملي مشكلة وخناقة بينا وخلاص.. هو أنا دلوك اتهمتك بحاچة ولا اتعصبت عليكي حتى.. أنا بسألك بكل هدوء وبتكلم معاكي وأنتي قلبتيها مناحة!
هبت واقفة وهي تستدير توليه ظهرها وتقول بصوت مبحوح يغلبه البكاء:
_أيوة انا قلبتها مناحة عشان نكدية ياچلال
رفع يديه ومسح على وجهه وهو يتأفف بصوت مسموع مرددًا:
_لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
استقام هو أيضًا واقفًا واقترب منها ليعانقها من الخلف ويقبل شعرها ورقبتها بغرام وسط همسه الجميل لها والهاديء:
_لا أنتي مش نكدية ياحبيبتي.. حقك عليا أني بسأل أصلًا اعتبرني مسألتش أنا الغلطان محدش فيكم غلطان
لان غضبها منه عندما احتواها بذراعيه وعانقها بكل دفء وامتلاك فردت عليه بصوت خرج بصعوبة بسبب بكائها:
_شافتني مرتاحة ومبسوطة بعد أيام من الزعل على أبوي الله يرحمه فاستكترت الفرحة عليا فأنا رديت عليها وقولتلها البركة في چوزي ربنا ميحرمنيش منه فردت بتريقة بتقولي من أمتي الحب ده فأنا اتعصبت غصب عني وقولتلها من زمان بس في شياطين دخلت بينا وفرقتنا وكان قصدي على منيرة بس افتكرتني اقصدها هي
ابتعد جلال عنها ببطء وادراها من كتفيه إليه ليصبح وجهها في مقابلته مباشرة وينظر في عيناها بعمق يسأله وهو يبتسم بسخرية بسيطة:
_يعني أنتي كان قصدك على منيرة بس!!
اشتعلت نظرات فريال ورمقته بغيظ تقول متحدية دون خوف في حقد وقهر:
_وحتى لو كنت اقصدها هي ومنيرة.. مش هي بردك اللي فضلت تلعب في عقلك وراسك وهي اللي چبتلك منيرة دي ومرتحتش غير لما چوزتهالك.. مش هي السبب الأساسي في فراقنا وكانت عاوزة تخرب بيتنا وتخلي عيالنا يتبهدلوا وسطينا لما نتطلق.. أنت بنفسك عارف كويس قوي أن أمك السبب في كل د، ولو كان على اللي عملته أنا في الأول لما سبتك أنا كنت هزعل منك شوية وأنت كنت هترچع تاخدني من بين أبوي وكانت المشكلة هتخلص من زمان لكن هي اللي دخلت منيرة الشيطانة دي بينا
لا يستطيع إنكار حقيقة ما تقوله وأن أمه من ضمن الأسباب الأساسية في تفرقتهم والفجوة العنيفة التي نشبت بينهم، ليت أمه لم تكن هكذا لكن ماذا يفعل معها فقد احتار وسئم محاولاته في إخبارها بأن تتوقف عن أفعالها السيئه معه هو وزوجته.
اخذ نفسًا عميقًا في حزن وضم زوجته لصدره وهو يقول بخفوت يذيب القلب:
_صدقيني أنا تعبت يافريال من كتر ما بحاول معاها، لكن هي للأسف شكلها مهما نعمل مش هتتقبلك بالنسبالها أنتي بت ابراهيم اللي قتل أبوي وعشان إكده بتكرهك
رفعت فريال رأسها عن صدره ونظرت إليه بوجه ممتلئ بالدموع تقول:
_وأنا إيه ذنبي أن أبوي غلط وعمل إكده في أبوك
احتضن وجهها بين كفيه وراح يقبل جبهتها بحنو متمتمًا:
_أنتي ملكيش ذنب بس هي مش فاهمة ده.. عمومًا استحملي شوي خلاص هانت قريب قوي بيتنا هيجهز وهننقل هناك كلنا أنا وأنتي والعيال
رغم الحزن إلا أن عيناها لمعت بوميض جميل وسعيد عند ذكره لبيتهم الجديد والخاص التي ستكون هي وحدها سيدته، فعادت ترتمي بين ذراعيه مجددًا وهي تعانقه بقوة وعشق فيضمها هو إليه أكثر ضاحكًا بساحرية...
***
عودة لغرفة عمران وآسيا مجددًا.....
كان عمران جالسًا على الأريكة يحدق في الفراغ بشرود حتى انتشلته من ذلك السكون الغريب هي عندما جلست بجواره وراحت تملي فوق كتفه وصدره بدلال متمتمة بأنوثة تذهب العقل:
_يامــعـلم
رمقها بطرف عيناه رافعًا حاجبيه وهو يبتسم ثم التفتت لها بجسدها كاملًا وقال بهيام ونظرات ذائبة:
_اؤمري ياعيون المعلم
ابتسمت له بغنج أنثوي أكثر وهي تتمايل بكتفيها وجسدها في رقة وذكاء لتهمس له بصوت سرق ما بقى من عقله:
_نفسي في أناناس
اتسعت بسمته التي كادت تتحول لضحكة وهو يجيبها مستغربًا:
_ده وحم يعني ولا إيه.. هو مش لسا بدري على موضوع الوحم ده؟!!
تنحنحت برقة وهي تردف ضاحكة بساحرية:
_هو مش وحم.. بس بردك مش لسا بدري ولا حاچة هو بيبقى في التلات شهور الأولى أساسًا
هز رأسه بتفهم وهو يرمقها بخبث مبتسمًا ويقول في صوت خافت:
_اممممم ولما ده مش وحم أمال ده إيه عاد؟!!
زادت من جرعة تدللها عليه وهي تحاول أثره بنظراته الأنثوية المثيرة وتجيبه مبتسمة:
_بدلع عليك شوية أو تقدر تقول بستغل الفرصة
قهقه عاليًا في ضحكة رجولية مميزة أذابتها وأثرتها حتى وجدته يقول لها مغلوبًا من بين ضحكه:
_ماشي ياغزال ادلعي.. بكرا أن شاء الله هبقى أچبلك اللأناناس ده
ارتمت عليه تعانقه بقوة ثم ابتعدت وهمست وهي تقبله من وجنته عند لحيته:
_هو أنا لو مدلعتش عليك يامعلم هدلع على مين يعني، ربنا ما يحرمني منك واصل ياتاچ راسي
اتسعت بسمته حتى افسح المجال لأسنانه البيضاء بالظهور وهو يقول غامزًا بمكر:
_وه وه ده إيه الدلع ده كله.. إكده أنا هضعف ومش هيحصل طيب
ارتفعت ضحكتها الأنثوية وهي تستقيم واقفًا وتتجه نحو الفراش لتنام بينما هو فكان يتابعها بعينان راغبة ويحاول التحكم بنفسه لكنه لم يستطع فوقف هو الآخر ولحق بها ليدخل بجوارها في الفراش وبينما كان على وشك الاقتراب منها طرق الباب المصحوب بالصوت الطفولي الرقيق وهو يقول:
_ياطنط آسيا!
نظرت آسيا لعمران وضيقت عيناها باستغراب وهي تقول له:
_دي ريم
استقامت واقفة من الفراش واتجهت للباب تفتح لها فتجده تقف أمامها بوجه ناعس والخمول يستحوذ عليها وهي تقول بصوت طفولي ناعم:
_أنا بخاف أنام وحدي ولما صحيت لقيت نفسي في الأوضة وحدي وضلمة خوفت
ابتسمت لها آسيا بحنو ثم افسحت لها الطريق وقالت:
_طيب ادخلي ياحبيبتي نامي هنا
دخلت الصغيرة وفور وقوع نظرها على عمران وهو يجلس فوق الفراش تسمرت بأرضها فضحكت آسيا وانحنت عليها تهمس لها:
_أنتي خايفة من عمران ليه ياريم هو بيحبك ومش هيعملك حاچة
اختسلت النظرات المرتبكة لأخيها الكبير ثم التفتت لآسيا وهمست في أذنها ببراءة:
_أصل هو كبير وضخم وأنا بخاف منه احسن يزعقلي
انفجرت آسيا ضاحكة بقوة وسط نظرات عمران المستغربة لهم حتى وجد آسيا تقول لريم وهي تمسح فوق شعرها برفق:
_لا هو مش هيزعقلك متخافيش ادخلي يلا
فهم عمران وأدرك الحوار الذي دار بينهم بالهمس فابتسم لأخته الصغيرة بحنو يقول:
_تعالي ياريم
تحركت نحوه بخطوات بطيئة ومترددة حتى وصلت للفراش وصعدت لتجلس بجواره وكانت آسيا قد جلست بجوارهم فأصبحت ريم بالمنتصف بينهم، انحني عمران عليها ولثم شعرها بلطف متمتمًا:
_أنتي خايفة مني ليه ياحبيبتي.. أنا مش باكل العيال الصغيرة متخافيش
لكزته آسيا في كتفه ضاحكة بينما الصغيرة ففهمت مزحته وابتسمت برقة ثم تجرأت وسألته بنفس البراءة:
_يعني طنط آسيا مش بتخاف منك؟
رفع نظره لآسيا وهو يبتسم بثقة ثم يجيب على ريم:
_بتخاف طبعًا والكل إهنه بيخاف مني، بس أنتي دلوك شيفاني بخوف وأنا بتكلم معاكي
هزت رأسها بالرفض فأكمل مبتسمًا بدفء وهو يعود ويلثم شعرها مجددًا:
_يبقى متخافيش مني عاد
أماءت له بالإيجاب فقالت لها آسيا بجدية بسيطة:
_يلا نامي وكملي نومك عشان بكرا الصبح بدري هتصحي وتروحي بيتكم
أدركت الطفلة أنها بالمنتصف وأن عمران سينام بجوارهم فالتفت له وقالت بعفوية:
_هو أنت هتنام جنبنا؟!
رد ببساطة وهو يضيق عيناه متعجبًا:
_امال هنام وين يعني!
كتمت آسيا ضحكتها وهي تتخيل أن أخته الصغيرة ستجعله يغادر فراشه لينام على الأريكة أو الأرض، التفتت الصغيرة لآسيا تنظر لها برجاء حتى لا تجعله ينام بجوارهم فضحكت آسيا وهي تهمس بين نفسها ساخرة:
_ده احنا لما كنا متجوزين غصب ومحدش فينا طايق التاني مكنتش بقدر أقوله متنامش على سريرك چاري هتقوميه أنتي دلوك
فاقت من شرودها وهي تنظر لعمران الذي بدأت ملامحه تتبدل فضحكت أكثر واقتربت منه تهمس في أذنه ضاحكة:
_معلش ياعمران قوم نام على الكنبة أو الأرض النهاردة.. لساتها مش واخدة عليك ويمكن مسكوفة منك قوم يلا
طالع آسيا بنفاذ صبر فلا يكفي أن ليلته الخاصة والرومانسية انتهت قبل أن تبدأ والآن سينام على الأرض، نظر لأخته الصغيرة وقال بغيظ يحاول إخفائه حتى لا تخاف منه مجددًا:
_شكلنا هنتفق مع بعض قوي ياريم.. تصبحي على خير
ردت الصغيرة عليه ببراءة مبتسمة:
_وأنت من أهله
بينما هو فاستقام وأخذ وسادة معه ليضعها عند مقدمة الأريكة ويفرد جسده فوقها واضعًا رأسه فوق الوسادة، وسط نظرات آسيا له وهي تضحك ثم انحنت على ريم وهمست لها في أذنها:
_أنا متجرأتش أبدًا أني أقوم أخوكي من سريره بس أنتي طلعتي اشجع مني والحمدلله أنها عدت سلامات وتقبل الأمر بصدر رحب.. وعشان إكده لازم نحتفل الليلة وننام على السرير براحتنا من غير ما حد يكتم فوق نفسنا
ضحكت الصغير بقوة وهي مازالت تنظر لأخيها الذي أغلق عيناه لينام وبسرعة تمددت بجسدها الصغير على الفراش وفعلت مثلها آسيا لتنام بجوارها ويتدثروا بالغطاء معًا، دقائق قصيرة وخلدت الصغيرة للنوم وكانت آسيا كذلك قد غلب عليها النوم وعلى وشك النوم.
***
بصباح اليوم التالي بمنزل خليل صفوان، فتحت جليلة الباب وانصدمت برؤيتها لثلاث من الضباط يقفون أمامهم وهتفت واحدًا منهم الذي كان بالمنتصف وأمامها مباشرة يسألها بلهجة رجولية قوية وحازمة:
_جلال صفوان فين؟
............ نهاية الفصل ...........
•تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية