Ads by Google X

رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل التاسع و الستون 69 - بقلم نهال مصطفي

الصفحة الرئيسية

    

رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل التاسع و الستون 69 - بقلم نهال مصطفي

 <الجزء الأول من الفصل>
” بعد مرور ثلاثـة أشهـر ”
ركل شاكر الطاولة الصغيرة التي تتوسط الحجرة جاهرًا بإغتياظ وغضب يتقاذف هنا وهناك :
-دول ما بيحضروش ولا جلسـة ، ولا حتى المحامي بتاعهم !! ده غير أنه مقضيها مؤتمرات وسفـر ومحدش فيكم قادر يعمـلوا حاجـة !! ابن دويدار بيحرق دمنا كأن مفيش غيره فـ الساحة ..
ثم أشار لاهثًا للموجودين وهو يشير بسبابته :
-اسمعوا ، أنتوا وعدتوني تقفوا جمبي لحد ما نجيبه الأرض ، فين ده أنا مش شايف !!. كل مصيبة ندبرها بيطلع منها زي الشعـرة من العجيـن ..
تابع بتسديد الضربات على سطح الطاولة الكبيرة كأنه يفرغ كبته بها:
-معقول عاصي ده ملاك نازل من السما !! محدش عارف يمسك عليه غلطة توديه في ستين داهيـة ؟!
لُطخت وجوه الجميع بحمـرة الغضـب والانتقام، تدخل مراد معللًا :
-شاكر بيـه ، الجلسة الجاية بعد يوميـن .. ودي اللي هيصدر فيها حكـم مبدئي .. حضرتك متعصب ليه !! خلاص هانت ..يومين وهتتمكنوا على الأقل من البيت ..
أيده عزمي مردفًا :
-بالظبط زي ما مراد بيتكلم .. نشوف حكم المحكمة وبعدها المصايب مش هيلاحق عليهـا !! دلوقتي مش قُدامنـا غير الصبـر ..
عدة اتصالات متكررة تصل لمراد يستقبلها بالرفض .. حتى تدخل معتذرًا وهو يتأهب للذهاب :
-بيكلموني من الشغل .. أنا لازم اتحرك .. وأي جديد هبلغكم ..
انصرف مراد على عجـل بينمـا أكمل مثلث الشـر أفكارهم الانتقاميـة ، حيث وجه شاكر سؤاله لعادل الشيمي :
-أنت ساكت ليه ؟!
وضع الأخير ساق فوق الأرض وقال بنظرات غير مُبشـرة :
-نقطة ضعف عاصي دويدار الوحيدة مراته وبناته !! أحنا لو عرفنـا نوصـل لدول .. هتبقى روحه في إيدنـا .. هنشكله زي ما أحنا عايزين ..
أقبـل شاكر إليه باهتمام واعتدل عزمي في جلسته بأعينه الحائرة :
-قصدك أيـه ؟! نخطف مراتـه .. بس ده مش شغلنـا وو
قاطعه عادل قائلًا :
-مع واحد زي عاصي لازم يبقى شُغلنـا .. هي دي الطريقة الوحيـدة اللي هتخليـه يركع قُدامنـا .
سيل من النظرات التي تحمل العديد من الأسئلة يتبادل بين ثلاثي الشـر .. وصل مراد لسيارتـه وهو يتجول بعينه في كافيـة الاتجاهات خشيـة من أن يراه أحد ، جلس بسيارته مجيبًا على هاتفـه :
-أيوة يا عاصي ، حبايبك فوق مولعين نار .. بالذات بعد أخر حملة عملتها وانطلاق المجموعة الجديدة .. ضربة معلم في مجال المجوهرات والعقارات ..
رد عاصي بهدوء وهو يشد مقعده الفخم ويجلس فوقه :
-كان لازم شغل شهاب دويدار يتحرك زي الأول ويكسر الدنيـا من تاني .. المهم ..
قاطعه مُراد بنبرة مختنقة :
-المهم اللي بجد .. عالية يا عاصي عاملة ايه .. أنا مراتي وحشتني يا أخى وشلة الحرامية اللي فوق دول مش باين لهم آخر ..
اتكئ على مقعـده بتباهٍ :
-لا اتقل كده ، عالية زي الفـل وأنا بحاول أحسن صورتك الزبالة دي على أد ما أقدر يمكن تحن ، وكمان أخدت على الحياة هنـا وبقيت مش عايزة ترجع القاهرة ولا بتجيب سيرتك أصلًا .. نركز في شغلنا بقا وخف نحنحة !
هب مراد معارضًا لحديثه :
-المفروض افرح يعني أنها مش جايبة سيرتي !! وبعدين أيه ريحة الشماتة اللي وصلاني دي ؟! لا بقولك أيه احنا اتفقنا على شهرين وبس .. أنا مجنون وممكن تلاقيني عندك حالًا ..
ابتسم بخفوت ثم أردف بتلك النبرة المتجمدة التي لا تقبل النقاش :
-تنور ، أعملها وتعالى وتبقى وفرت عليا وكده كده أنت مطلوب عندي حي او ميت .. وقتها مش هسمي عليك ..
اعتصر مقود سيارته بغلٍ وجهر بندمٍ :
-أه أنا وقعت مع اللي مش بيرحم .. طيب يا عاصي أما اشوف اخرتها معاكم يا ولاد دويدار ….
#فلاش باك …
اتسعت ابتسامتها مجاملة :
-هنفطر ونتغدى كمان ، بس مش النهاردة .. خليك معايا وأنا هخليك من أغنى رجال الأعمال في البلد دي ..
-أنا كده كده معاكي خلاص !!
كاد أن يُبادرها الحب الزائف ولكنه تراجع إير رنين هاتفـه ، فهربت روفان من بين يده متحججة :
-موبايلك بيرن ..
انتظر حتى ذهبت للحمام فـ رد هامسًا :
-خير يا عاصي البنت لسه هنـا ..عايز ايه !
جاءه صوته الرخيم والذي يحمل التوعد والتهديد:
-عايزك تتلم وافكرك أنك من متجوز أختي ، يعني لو فكرت تخونها هاجي اطير دماغك ..
-تصدق أنا غلطان إني رديت عليك ..
ثم التفت للوراء وأكمل :
-كل الفايلات اللي عن عزمي وعادل هتلاقيها عندك على الميـل ..
#بااااك …
دخلت ريـم في تلك اللحظـة لتنهي مكالمتهـم ، فاختصر عاصي الحديث مع مراد قائلًا :
-هكلمك بعدين .. اقفل أنت ..
ثم اعتدل في جلسـته :
-خير يا ريم !!
تركت بعض الملفات على مكتبـه وقالت برسمية :
-عاصي بيه دول محتاجين يتمضوا .. وكمان المزاد النهاردة رسي على مدام رسيل زي ما حضرتك كنت عايز بالظبط ..
كست السعادة ملامحه وهو يتمتم :
-عظيم .. عظيم .
تأرجحت عيني ريم بغرابة :
-أنا عارفة أن حضرتك كنت محتاج الأرض دي أوي ، وانها ترسى على مدام رسيل ده مش في صالحنا !!
رد على الفـور قائلًا ممازحًا :
-تقدري تقولي بشتري النكد من اليوم …
ثم غير نبرة صوته قائلًا :
-تبعتي بوكيه ورد كبير وتهنئة خاصة مني ..
أومأت ريم بطاعة :
-تمام .. اعتبره حصل ..
ثم غيرت مجرى الحديث قائلة :
-في واحدة اسمها شيرين بره عايـز تقابلك ..
عقد حاجبيـه متعجبًا :
-شيرين !! طيب شوية كده ودخليها .. هعمل مكالمـة بس .
انصرفت ريم على الفـور ، فتناول هاتفـه متصلًا بحياة التى ردت بسعادة بالغـة :
-عاصي بيه بنفسـه بيكلمني !! نقول هاردلك المرة القادمـة يا باشـا..
ابتسامة عريضة ارتسمت على محياه وهو يفارق مقعده واضعًا كفه بجيب بنطاله متحركًا ناحية النافذة وقال :
-لا نقول مبروك لأشطر بزنس وومن قابلتهـا في حياتي ..
أعطت إشارة قابل أن تكسر يسارًا وقالت بسخرية يغمرها السعادة :
-ده أيه الروح الرياضيـة دي !! عمومًا نقطة لصالحك تحترم ..
-مبسوطة ؟!
هتفت بسعادة بالغة تتقاذف من شدقها :
-أوي أوي يا عاصي .. متتصورش مبسوطة أد أيه .. وآخيرًا !!!
تبدلت نبرته مفتعلًا تلك النبرة الخائبة :
-أفرحي أنت وانبسطي ، وأنا أروح أعوض خسارتي اللي بسببك يا هانم ..
ضحك منها ملء الفم وقالت بلطفٍ :
-خلي بالك هتشوف من ده كتير .. قابل بقا ..
-متحمس جدًا ، المهم هشوفك بالليـل ؟!
برقت عينيها بسعادة وقالت بنبرة متوقـة بالحنين :
-آكيد هكون مستنياك .. متتأخرش عليـا !!
أردف ممازحًا :
-طيب مينفعش دلوقتي ؟!
-عاصي !! قلت بالليل ، ويالا بقى عشان عندي شغل كتير وأنت معطلني …
انتهت المكالمـة بالضحك بينهم وببريق الحماس .. صفت سيارتها جنبًا وفتحت حقيبتـها وأخرجت تلك الكبسولة الصغيرة التي دومًا ما تتناسها .. فرغت قرصًا على كفها وتناولتهـا بالقليل من الميـاه لتحتفظ بالوعد الذي سبق وقطعته معـه بتأجيـل الأمر لفترة محددة .. بـ تلك اللحظة التي شردت فيها لتستريح من جُملة أفكارها أصابها الدوار والشعور بالغثيان للمرة الثانية في نفس اليوم ، فهبطت من السيارة ركضًا لتتقيأ ماء جوفها بأحد أصص الزرع العامـة .. جلست جنبًا لتهدأ لتأخذ أنفاسها بهدوء وتدق الحيرة رأسهـا ..
فارقت مكانها عائدة إلى سيارتها مرة آخرى .. فتحت تطبيق ” صحة ” على هاتفهـا بكفها المرتعش لتتطلع على آخر موعد لفترة عذرها الشهري وكانت الصدمـة أنها تجاوزت الستين يومًا !! خفق قلبهـا برتابـة وهي تلوم نفسها كيف تغاضت عن الأمر ! كيف انغمست بالعمل حتى تناست ذلك ؟!!
أخذت تقطم في شفتيها بتردد وتتصبب الخوف عرقًا .. سقطت أنظارها على صيدلية بالجهة الثانية من الطريق ، تحركت بسيارتها بسرعة متجهة إليها وهي تردد مع نفسها :
-ان شاء الله مفيش حاجة .. أهدى يا حياة موترة نفسك ليـه !! ممكن تكون أعراض الحباية دي..
دخلت الصيدليـة وتحدثت مع الطبية ثم استأذنت منها بدخول الحمام .. خرجت بعد فتـرة وجيزة وعادت لسيارتـها .. وضعت المختبر أمامها وجلست تترقب النتيجة بأعين مضطربة حائرة يحاوطها العجز والضعف والحماس في آنٍ واحد ….
~بمكتب عاصي ..
-اتفضلي يا شيرين !! خير ؟!
تجلس على مراجل من التوتر ينعكس بملامحها ونظراتها المُشتتة ، لوح بكفه أمام عينيها المهزوزة وقال :
-شيرين أنتِ كويسة !!
أومأت بخفـوت ثم طلبت منه وهي تشير إلى الأريكة:
-ممكن نقعد هنا ، بدل قعدة المكتب، حاسة أنها موتراني ..
وثب قائمـًا بفظاظة متحركًا نحو ما اشارت إليه :
-لو هتكوني مرتاحة كده مفيش مانع .. بس يا رب يكون خيـر ..
تابعت خُطاه وجلست بجواره وهي تفرك كفيها بقلق :
-العداوة بينك وبين بابا وعمو هتنتهي أمتى ؟! مش كفاية كده !!
أجابها بهدوء:
-شوفي يا شيرين محدش بيروح للساكت ويجر شكله !! أنتوا كنتوا عايشين ملوك و الارباح بتوصلكم سنوية .. هما بقا الطمع عماهم وجايين يفتروا ..
ثم زفر باختناق :
-وأنا مش هسكت لحد اشترى عداوتي .. وعايز يخسرني ويكسر اسمي .
خيم على قلبهـا شعور الخواء ، ألا يوجد شيء ممكن أن يأمنك ويأمن ضجيج قلبـك .. هبت معترضة بحزن يحمل عدد أيام صبرها على عداد العمر :
-وأخرتها !
رد بإيجاز :
-خراب على دماغهم ..
تحولت أحلامها التي تجمعهم وحكاياتها الوردية في الحب معه لكومة رماد ، بيدها المرتعشة تمسكت بكفه وقررت أن تخرج عن صمتها لما فاض الحب من صدرها وقالت بنبرة مهزوزة :
-عاصي .. أنا بحبـك ..
خلا فمه من الكلمات ولكن لم تخل عينيه من تلك النظرات المتكلمة .. بللت حلقها وسالت الدموع من عينيها وأكملت :
-متستغربش .. بس أنا فعلا بحبك ومن زمان ، أنا اطلقت بسبب إني مش عارفة أنساك ، كل يوم حُبي بيزيد أكتر وأكتر .. والمشاكل والعداوة بتقفل طريق الأمل قدامي .. انا وافقت أجي بس مع بابا وعمو عشان أكون قريبة منك ..
ثم اجهشت بالبكاء :
-أنا عمري ما خططت للحب ده ، بس اتورطت اتورطت ومش عارفة أخرج .. أنا جاية لك هنا مخصوص عشان نشوف حل في الحب ده .. أنا قلبي بيتحرق كل يوم ..
آخر شيء كان يتوقعـه هو الإفصاح عن مشاعر بهذا الكم الهائل من الجراءة والضعف .. سحب كفه بهدوء وقدم لها بعض المناديل الورقية كي تُجفف دموعهـا بصمت يحاول أن ينتقي به أبسط الكلمات كي لا يسبب لها أذى من نوع آخر .. أخذ نفسًا طويلًا وقال :
-بس أنتِ عارفة إني متجوز يا شيرين ، وبحب مراتي ..
ردت بصوت يملأه البكاء :
-عارفـة والله وأنا مش جاية أخرب عليك حياتك ، أنا جاية هنا عشان نشوف حل ، أنا بقيت مش عارفة أعيش ولا شايفة حد قدامي غيرك …
طأطأ رأسه بالأرض وهو يتنفس ببطء متحاشيًا النظر لعينيها وقال بصوت خافت:
-عارفـة لو أخدتي الخطوة دي قبل ما أقابل حيـاة .. صدقيني كنتِ هتكرهي حاجة اسمها عاصي دويدار .. أنتِ جاية في الوقت اللي أنا حاسس فيه بكل كلمـة بتقوليها لدرجة أني بفكر أزاي اساعدك مش عارف ..
فرك كفيه ببعضهما ثم أكمـل :
-لما قابلت مهـا وحبيتها افتكرت أن ده الحب ، ودي أعلى درجاته واكتفيت بذكريات مها لسنين وأنا حالف ما هحب ست تانية بعدها .. لحد ما قابلت حياة ، أنا سميتها حياة لانها حياتي الجديدة الـ بدأت على أيديها ..
ألتفت إليه باهتمام وسألته بحزن وخيم :
-حسيت بأيه ؟!
امتد ثغره بنص ابتسامة ساحرة وقال بشرود :
-كلنا بنسمع عن الجنة وجمالها .. لكن عمرك اتخيلتي يعني أيه شباك تبصي منه تشوفي الجنة !! دي بالظبط النظرة الواحدة في عيون حياة ..
ثم نظر إليهـا :
-على فكرة انا بغبائي كنت هضيعها في فترة من الفترات ، غروري كان مانعني اعترف بأني حبيتها .. كنت بسعى عشان أوصل لنقطة معينة معاها ترضي كبريائي وبعدها هقولها بالسلامـة .. مكنتش أعرف أن النقطة دي هي نقطة التحول في حياتي كلها ..
قفلت جفـونهـا بقلة حيلة وأدركت أن حالها لا يختلف كثيرًا عمن يجمع الحطب من غابة لا خشب بها .. ربت على كتفها بخفوت ثم أكمل :
-مش بحكي لك عشان تعيطي .. بس كلامك خلاني أواجه نفسي بالكلام ده اللي عمري ما قولت له بين وبين نفسي .. بحكي لك عشان تعرفي قصة الشخص اللي أنتِ متعلقة بيه ..
ثم تنهد قائلًا :
-هقولك على حاجة كمان محدش يعرفها خالص حتى حياة ..
صمت لبرهة حتى قطعت صمته متسائلة :
-حاجة أيه ؟!
-اضطريت أمنعها من الخِلفة من خوفي عليهـا من غير ما تعرف .. مش عايزها تتوجع ولا تتأذى عشان تجيب طفل ممكن أخسرها بسببه .. أنا مش عايز أشوفها بتتوجع لأي سبب من الأسباب .. تفتكري واحد بيحب واحدة للدرجة دي ممكن يأذيها ويجرحهـا بواحدة تانية …
بررت موقفها موضحة :
-لا … أنا عمري ما هقول لك سيب مراتك عشاني ..
-فاهم يا شيرين ، بس أخرة الحب اللي مفيهوش لقاء ده أيه غير العذاب ؟! صدقيني الحب لما يكون متبادل أحساسه مايتوصفش ..
حفرت دموعها وادٍ جديد من الأحزان على وجنتيها ، فأردف مواسيًا :
-لا العياط مش الحل .. الموقف ده يعلمك حاجة واحدة وبس ، شيرين أنتِ بنت عمي ولولا الظروف كان ممكن نكون لبعض .. بس ده نصيب ، بس درس من أخ كبير اوعي تصرحي بمشاعرك بعد كده لأي حد مش متأكدة من مشاعره مهما كان حبك له !! فاهمـة ؟!
لكل منا صراع مع القلب يجعل الصمت بداخلنا صراع أبدي .. جففت عبراتها متفهمـة الأمر وقالت بصوت متهدج:
-فاهمة وأوعدك أنها مش هتحصل تاني ، ومن الساعة دي أنتَ أخ كبير ليا وبس ، أنا مش أنانية عشان أفرق بين اتنين بيحبوا بعض… بس ليـا طلبين ..
رد بامتنان :
-تحت أمرك …
-أنا محتاجة اشتغل واطلع من البيت والمشاكل .. ممكن تشوف لي أي شغل هنا ؟!! على الأقل أكون جمبك واتعلم منك ..
هز رأسه متفهمًا :
-مسألة الشغل سهلة .. بس مش هنا ومش جمبي ، وده أحسن ليكي .. الطلب التاني ؟!
ابتلعت خطيئة قلبها بمرارة وقالت :
-قلت أن حياة متعرفش بحوار منع الحمل..بس دي أنانية يا عاصي ولو مراتك عرفت هتهد الثقة ما بينكم .. الست لما بتحب بتكون عايز تخلف دستة من الراجل اللي بتحبه .. نصحية من أختك الصغيرة بقا حاول تصارحها واتفقوا على الأقل الموضوع يبقى برضاها ..
هز رأسه مؤيدًا :
-معاكي حق ، فكرت كتير أقولها .. بس لسه محاش الوقت المناسب .
-لازم يجي قبل ما تعرف من بره ..
ثم تنهدت كمن ينفض غبار الحب من قلبه وقالت :
-أسفة عطلتك .. استأذن أنا !
-استنى اكلم السواق يوصلك .. ماينفعش ترجعي لوحدك …
*******
“~بعيادة طبيبة النساء والولادة ”
-خير يا دكتور !! مفيش حمل والتيست كان بيكذب ؟!!
تمرر الطبيـة السونار على بطنها الممتلئة قليلًا بثغر مبتسـم عكس الحالـة المروعـة التي انهالت على قلب حياة .. طللعتها الطبية بفرحة عارمـة :
-مبروك ، أنتِ حامل ..
ركضت على ارصفة الهذيان بصدمة :
-نعم !! أزاي ؟! أنا كنت باخد الأقراص وو
قاطعتها الطبيـة بيقين :
-حبيبتي الأقراص دي مفعولة مش ١٠٠٪؜ ، بالعكس .. أنتِ لو نسيتيها يوم متوقع يحصل حمل ..
تمتمت بشرود :
-أنا كنت بنساها كتير بس كـنا .. قصدي كنت ببقى مشغولة فالشغل ومش في البيت .. فقلت عادي يعني لو متاخدتش .
نزلت الطبيبة جوارب يدها وقالت :
-اللي حصل حصل .. دلوقتي أفرحي وانبسطي وخلي بالك من حركتك عشانهم ..
اعتدلت من نومتها محاولة استيعاب ما أردفتـه الطبيبة :
-عشان مين ؟! البيبي ..؟!
التقطت الطبيبة بعض الصور الضوئية لجنينيها وقالت :
-ما هو ده الخبر التاني ، هما توأم مش واحـد ..
صفعات الحياة مدت مخالبها لعقلها فلقنتها درسًا لا يمكن نسيانه .. لا نعلم من تعاقب ومن تُعاند ؟! هل الحياة تتحدى عاصى لتعلمه ألا يواجه القدر مرة ثانية !! أم تعاقبها هي لأنها ساعدته في جريمته !! أو جاءت تلك المرة تحنو على قبل تلك الفتاة التي طال صبرها ومنحتها بدل العوض عوضين ؟!!
اعتدلت من نومتها ولقد تهفهف خصرُها وكأنه غصنٌ يُشابه رقة الريحان بما يحوي بداخله من لحظات حبهم التي لا تُنسى ، مزيج من دموع الفرح والحيرة والدهشة سالت من عينيها محاولة استيعاب الأمر المفاجئ .. عادت للطبيبة وسألتها برتابة :
-دكتور .. المفروض أعمل أيـه دلوقتي؟؟
انتهت الطبيبة من طباعة الروشتة وقالت بسعادة :
-ولا أي حاجة ، تاخدي الفيتامينات دي .. ومنتحركش كتير .. ومشى حياتك عادي خالص ، الحمل مستقر ومفيش أي داعي للقلق ولا الخوف ..
-تمام .. مرسي يا دكتور .
‏الدموع ما هي إلا خطة الذي يريد أن يتحدث ولكنه يخشى .. يخشى كل شيء ، لم تكن تلك الفتاة المرتبة كما يُشاع عنها والتي تهتم بأبسط التفاصيل ،وإنما كان لديها همًا خاصًا ويائسًا لتبدو هكذا ،إنها فقط تخفي فوضاها وحيرتها ببراعة .. غادرت العيادة وهي تحمل ذلك الخير الذي انتظرته لمدة عام .. وتحمل معـه كيفية المواجهـة وتخمين كيف سيكون رد الفعل عنه ؟!!!
********
~القـاهـرة ..
-كده يا ستي كل حاجة تمام ، قدمنـا الملف في كليـة الهندسة زي ما شمس قالت بالحـرف ..
أردف كريم جملتـه وهو يفتح لهـا باب السيـارة بسعادة بالغة عكسها بعد ما قدم لها الأوراق في نفس الجامعة الخاصة التي كان ينتمى إليها ، دار من أمام السيارة ليجلس على مقعده الخاص بالقيادة وقال :
-طيب وبعدين في البوز ده ؟!!! ممكن افهم مكشرة ليه ؟!
انفجرت بوجهه معبرة عن غضبها :
-أنا لا بحب الهندسة ولا المهندسين ولا حابة اكون منهم ..
أحس بالإحراج المصطنع وقال بمزاح :
-ماشي يا ستي شكرًا على ذوقك .. وبعدين مش مهم تحبيبهم ، كفاية هما بيحبوكي ..
دارت إليـه كمحاولة اخيره للإقناع :
-كريم أنت مش بتحبني وعايزني اسامحك ونرجع زي الأول ؟!
تأفف بضيق :
-أنا سبت الدنيا كلها وجيت جمبك أهـو مستني الفرج ..
تحمست قائلة :
-طيب أنـا عندي ميعاد النهاردة في مكتب كاستينج .. ممكن نجي نجرب ومش هنخسر حاجة .. كريم بليز اقف جمبي وتعالى نجرب ولو الحال مش عجبك صدقني هنسى موضوع التمثيل ده خالص ..
فكر للحظات ثم قال على مضضٍ :
-تمام يا نوران موافق .. ومش عشان أنتِ صح ، لا عشان متأكد لو رفضت هتروحي هناك لوحدك ..
ثم زفر باختناق :
-فين مكانه الزفت ده !!!
~
-تميـم ، أنا بكلم نوران وكريم محدش فيهم بيرد .. وقلقانة أوي .. بجد أنا ندمت إني وافقت يروحـوا سوا .
ترك تميم الاجتماع ووقف بأحد زوايا الغرفة وتكلم همسًا :
-حبيبتي ممكن تريحي نفسك ، أنا لو مش واثق في كريم مش هسيب نوران معاه .. ممكن تستريحي ..
جلست على مقعد مكتبها الخاص بالمشفى بكلل حيث وضعت كفها على بطنها المنتفخة كالبالون الصغيرة يعلن بهلال الشهر الخامس :
-أنتَ بتكلمني كده ليه !! أنا غلطانة إني كلمتك يا تمـيم ..
أحس بـآهات التعب بصوتها :
-شمس أنتي كويسه ؟!
انفجرت باكية وهي تشكو له :
-لا .. البيبي بيتحرك جامد وعندي شغل كتير مش عارفه أخلص ، ورجليا وجعاني ونفسيتي وحشة .. وأنت بتزعق فيا !! أنا والله تعبت من كل حاجة ..
عض على شفتـه محاولًا تمالك أعصابه وهو يتكلم خلف فكيه المنطبقين :
-مليون مرة قولتلك ارتاحي يا شمس … ارتاحي وبلاش شغل مش معقول عنادك ده !! والمفروض اسيب كل الشغل اللي هنا وأجي اقنعك للمرة الألف ..
اختصرت الحديث معه :
-خلاص يا تميم ، مش عايزة حاجة .. روح شوف شغلك الأهم مني ومن ابنك ..
-ماشي يا شمس.. هبعتلك السواق يروحك ويولع الشغل ، تروحي ترتاحي وأنا هخلص وأجيلك .
ردت بعناد وهي تتشدق بقناعات لا تريدها :
-مش عايزة حاجة خالص ، وملكش دعوة بيا ..
~
وصل كريم برفقة نوران لذلك المكتب الذي على موعد معـه .. جلست على الأريكة بجواره منتظرة ميعاد دخولها بحماس .. طافت عيني كريم بشك فأردف هامسًا :
-هو المكتب ده محدش جاي يقدم فيه غيرك ؟!
ردت بفتور كي تطمئنه :
-لا طبعا تلقى كل الناس خلصت ومشيت ، ده عشان حضرتك جايبنا متأخر ساعة ..
تعربد بكلمات تشير لعدم موافقته للأمر :
-أنتِ تحمدي ربنا أني جبتك أصلا ..
أجابته بعنـاد تشير فيه باستغنائها عن خدمته :
-كنت هاجي لوحدي على فكرة ..
رد بغلٍ :
-طيب اسكتي بدل ما اخدك ونمشي ..
-ولا تقدر..
جاءت السكرتيرة ونادت باسمها :
-آنسة نوران اتفضلي .
وثب الاثنان متأهبين للدخول ولكن أوقفته المساعدة قائلة :
-سوري يا فندم .. الآنسة لوحدها ..
عارضها بحدة :
-يعني أيه ؟!
هزت كتفيها بجهل :
-هي الشروط كده يا فندم ..
دارت له كي يمر اليوم بسلام مستخدمة اساليبها الناعمة كي لا يحدث شيء:
-معلش يا كيمو .. لو اتاخرت عن ٥ دقايق بس جوه ابقى تعالي خدني وانا مش هتأخر .. هي دي الشروط بقى ، عشان خاطري طول بالك ..
قدرت نوران أن تقنـعه في دخولها بمفردها ذلك المكتب المجهـول .. تقدمت بخطوات مترددة على سقطت عينيها على ذلك الرجل الأسمر اللون ذو النظرات الغامضـة .. اقتربت نوران منه وسمح لها بالجلوس بتلك الأعين الثعلبية طلب منها أن تؤدي مشهدًا سينمائياً تفضـل ..
وقفت نوران متحمسة لأداء مشهدها المفضل من أحد الأفلام القديمـة متجاهلة نظرات ذلك الرجل الخبيثة .. في تلك اللحظة كتب عنوانا بورقـة وفارق مقعده ودار حولها كدبور يطوف حلو الزهور قبل أن يغدر بها .. لمعت عيني الذئب بعثوره على ضحيـة جديدة ومد لها الورقة :
-ده عنوان الشقـة بتاعتي بالليل في حفلة صغيرة فيها كبار المخرجين والمنتجين هستناكي أعرفك عليهم ..
شدت الورقة من يده بفرحة عارفـة وهي تقفز كالأطفال :
-بجد يعني تمثيلي عجبـك !
تطاولت يد الرجل لخصلات شعرها المتدليـة بمزيج من اللمسات والنظرات المقززة وهو يقترب منها ويقول بوقاحة :
-بس أنتِ رفيعة أوي ، أنت مش بتاكلي ؟!!
في تلك لحظة اندلعت ثورة الغضب برأس كريم وأخذ يوبخ نفسه كيف طاوعها على ذلك الفصل من الجنون ، حسمت خطواته الأمر وبدون ما يهتم لأحد اقتحم المكتب ليتفاجأ بتلك النظرات واللمسات المخلة من ذلك الرجل.. لم يتمالك نفسه إلا بعد ما انهال على وجهه ببعض اللكمات صارخًا بوجهه :
-أنتَ مجنون !! ازاي تستجرى تحط أيدك عليها كده !!
لم يمهل الرجل فرصة ليدافع عن نفسه ، بل اكتفي بسقوطه أرضًا وصرخ بوجهه :
-انا هقفلهولك المكتب الزبالة ده !!
ثم شد نوران من يدها عنـوة وسحبها خلفه كما تجر الأغنام متجاهلًا ندائها عليه وصوت تمردها المتزايد …..
*******
ببسمـة ترتسم رغم كل الآلام والحطام الساكن بقلبها ، تبتسم لكل بوجه ثمرتي الحب المُقبلين للحياة بعد القليل من الأشهر ، تركت العناء فوق دواسـة بابهـا وسارت حاملة تلك المضغتين برحمها ، ليس لأنها لا تعانى بل لأنها لاتريد أن تزيد الحمل على عاتقها ، تريد أن تفرح مرة واحدة دون أنا تطولها مخالب الحياة القاسية .. وصلت لغرفتـها لوقت متأخر بعد ما قضت نصف يومها مع البحـر تستكمل له تلك القصـة التي حدفها موجه لعندها .. عادت في تمام الساعة الحادية عشر في ظل هدوء تام بالمنزل رغم ازدحامه ..
وصلت إلى غرفتها ونزعت ” جاكتها ” الأزرق .. اقتربت من المرآة ببنطالها الأبيض وتلك السترة البيضاء ذات الحمالات الرفيعـة .. رفعتها لتكشف عن بطنها التي تحمل حياة جديدة لطفلين رغم انتظارها لواحد فقط …
أخذت تربت على تلك البطن التي لا توحي إلا بعشاء دسم لا أكثر .. مع مزيج من العبرات والضحكات ونبض قلب الأمومة بقلبهـا ظلت تحاورهم كالمجنونة ..
” ظننت أن الحب عقد بين قلبين ولكن الحمل أيضًا أسمى عقد بين روحين جمعهما سحر الحب ، كل منهما يكمل بعضه بعضا إن زال شرطًا يبطله كما يبطل قلبي كل يوم عند شحنه بالمزيد من الأوهام نحو حقيقة حبك لي !! يا ترى كيف ستتقبل حقيقة ذلك العقد الأبدي الذي ربط أرواحنا ليوم القيامة ”
بخطوات متمهلة وصل عاصي لمنزله .. قطع خطاوي السُلم بهدوء ووقف في آخره ، ايتبع مسار اليمين أم اليسـار ؟!! حسمت أرجله الموقف وتحرك ناحية اليسار وبالأخص إلى الغرفة التي تقطن بهـا عالــية ..
دق الباب بتردد حتى أتاها صوتها الخافت وسمحت له بالدخول ، فتح الباب فوجدتها تزيل آثر الدموع عن وجهها .. جلس على طرف مخدعها ومسح عبراتها بدلًا منها وقال عندما لاحظ إضاءة هاتفها:
-كنتِ بتكلمي مين ؟!
ردت بصوت باكي :
-دي مامي ، بتحاول تقنعي أرجع .. وأنا مش حابـة .
رد مقترحًا :
-قوليلها تيجي تقعد معاكي .. وبعدين هو ده السبب اللي مخليكي بتعيطي كده ؟!!
علقت غصة حبها بحلقها وقالت :
-مفيش خبر عن مراد !!
ضرب كف على كف متسلحًا بالغضب :
-بس اجيبه، الأرض انشقت وبلعته ابن جيهان .. لكن على مين ؟! وعد مني هجيبهولك لحد عندك راكع كمان ..
-لالا أنا مش عايزة حتى اسمع صوته .. ولا طايقة اشوفه ، ده حتى مفكرش يكلمني ..
هز رأسه مؤكدًا :
-ده من بيت المحلاوي!! مستنيـة منه أيه يعني .. كبري دماغك منه وركزي بس مع البيبي …
ثم تنهد وكأنه أراد أن ينزع قناع الكذب عن وجهه وأشار على بطنها المنتفخـة :
-الهانم الصغيرة دي هتشرفنا أمتى ؟!!
مررت كفها الصغير فوق بطنها وقالت :
-هبدأ في التامن بكرة …
أخرج علبة قطنيـة سوداء من جيب سترته وهو يقول:
-بكرة تنزلي أنتِ وحيـاة وتجيبي كل اللي ناقصك .. وكل حاجة محتاجاها ..
ربتت على كتفه :
-حبيبي ربنا مايحرمني منك ..
كادت أن تقول شيء عن ماضيهما سويا ولكنها تراجعت متوصلة للجواب ، أنها لعنة الحب السحرية التي فجرت من الحجر الصخري ينبوعًا من الماء العذب .. فتح العلبة الصغيرة وأخرج منها انسيالًا من رقيقًا من الماس ولفه حول معصم يدها ثم رفعه لمستوى ثغره ليقبله ، فسألته بحيرة :
-ايه ده يا عاصي ؟!!
-دي من ضمن المجموعة الجديدة اللي نزلها تميم امبارح .. وحسيت أنه يشبهلك أوي ومحدش ينفع يلبسه غيرك .. اشتريته ..
أخذت تتأمل تلك التحفة الفنية المعلقة بمعصمها بابنهار :
-ياحبيبي تحفة .. طول عمري بقول محدش ينفع يشتغل في المجوهرات دي غيرك .. ده تصميمك صح ! أنا عارفة شغلك كويس أوي ..
-عجبك .. ؟!
-تحفـه بجد ..
لم تمنع نفسها من معانقـته وهي تشكره :
-بجـد مش عارفـة أقول لك أيه .. متتصورش أنت فرحتني أد أيه .. ربنا يخليكم ليا يا رب ..
قبل جبين أختـه ثم تأهب مغادرًا :
-هروح ألحق حياة قبل ما تنام !!
ثم تراجع متسائلًا :
-البنات ناموا !!
-اااه الناني الجديدة بتنيمهم من ٩ .. بلاش تصحيهم عندهم مدرسة الصبح ..
-تمام .. يلا تصبحي على خير .. نامي ومتفكريش في حاجة ..
غادر غرفة أخته بعد ما أدخل وميض من السعادة على قلبها ، تحرك بخطوات ثابتـه إلى غُرفتـه ، طرق الباب بهدوء ثم دخل قبل أن تسمح له .. أخفضت السترة البيضاء كي تداري بطنها النابضة بروح عشقهما .. اقترب منها مبتسـمًا وطوقهـا من الخلف وضمها لصدرها وبات الثنائي يشاهدان صورتهما المنعكسة بالمـراة .. بللت حلقها الذي جف من هول مجيئة وسألتـه :
-متأخرتش يعني !
رست كفوفه على بطنها حيث ما تنتمى وقال :
-أنا كنت بسابق الوقت عشان أرجع .. وكويس عرفت أهرب من الشغل .. عشان أجيلك ..
أحست بنبض غريب وجديد بجوفها فوضعت كفوفها فوق كفيه وقالت بخفوت :
-كل ده ليـه ؟!
غمز لها بالمـراة غمزة تفصح عن حقيقة رؤيتها التي تزيل غبار حزن الساعات بدونهـا .. تعلق ببريق عينيها المنعكسة وقال :
-وحشتيني يا ستي .. وبعدين أحنا مش في بينا اتفاق ..
ردت بصوت هدر :
-اتفاق أيه … ؟!
فرت أنفاسه لمخابئها لتطبع تلك القُبلات الصغيرة على أغصانها .. تمتم قائلًا :
-هتخسريني في الشغـل .. هرجع أعوض خسارتي …
ابتسمت بفتور وهي تذوب بين يديـه لم تستطع إيقافـه ولن يكون لديها القدرة الكافية لتبتعد عن تلك المشاعر التي تعيشها معـه .. أغمضت تلك الجفـون المرهقـة متمتمـة باسمه فقط كي يتوقف عما يفعله بقلبـه الغارق بحبه حتى الموت .
ابتعد عنها عنـوة كي يخرج لها عقدًا مرصعًا بالماس ولفه حول عنقه بعد ما سقاه بماء الورد .. فتحت عينيها ببطء شديد وهي تتحسسه وتفحصه بالمرآه :
-ده ليـا بمناسبة أيه ؟!
-هو لازم يكون في مناسبة ؟! وبعدين ياستي اعتبريها احتفال بسيط عشان مزاد النهاردة ..
رفعت عينيها معترفة :
-بس أنت بعت ورد ..
عاد ليضمها إليـه مرة آخرى ليراقب العقد عليها ذلك الذي توهج جمال عندما لمس رقبتها .. أقر بحب :
-قادرة تخلي الجماد ينطق .. أي حاجة بتلمسها بتدبي فيها الحياة .. زي ما عملتِ بقلبي بالظبط …
ثم سند ذقنـه على كتفها وقال :
-العقد ده الوجهة الإعلامية بتاعت المجموعة .. وأكترعقد جيه عليه الطلب .. بس محدش ينفع يلبسه غيرك .. المهم ، حابة نسهر هنـا ولا تيجي ننزل البحـر ونبات الليلة دي على اليخت ..
ردت بملل يملأه الخوف :
-اللي تشوفه معاك فيه .. عاصي عايزين نتكلم شوية ممكن ..
-بصراحة وأنا كمـان .. في حاجة كُنت مخبيـها عليك لازم تعرفيهـا .. جيه وقتها يعني .
خفق قلبـها حول ذلك السـر وقالت :
-وأنا كمان محتاجة اتكلم معاك في حاجة مهمة ..
مط شفته بتفكيـر :
-الحاجة دي ينفع تتأجل لبكرة طيب ؟!
هزت رأسها بالنفي وقالت :
-لا مش هينفع تتأجل ..
-طيب أخد شاور بس ومعاكِ للصبح .
أومأت بالإيجاب ثم قالت :
-ماشي ادخل أنت وهجيبلك هدومك ..
اتجه عاصي إلى الحمام ووقفت هي بمنتصف الغرفة تأخذ نفسًا طويلًا ليهدأ قلبها من تلك الثـورة .. أخرجت بعض ملابسه من الخزانة ثم فتحت الباب بهدوء ووضعتهم بمكانهم المخصص بالحمام ، ألقت نظرة سريعة على ذلك الزجاج الفاصل بينهم ثم خرجت .. التفت لصوت دق الباب بالخارج
.. فتحت بلهفة عند سماعها صوت عالية :
-عالية ! مالك ؟! في حاجة بتوجعك ؟! اكلم الدكتور ..
ربتت عاليـة على كتفها :
-حياة اهدي أنا كويسة .. مفيش حاجة اطمني …
تنفست الصعداء وقالت بمزاح :
-خضتيني قولت هتولدي…
-لا لسه بدري ..
ثم اضطربت عينيها بخجل :
-في حاجة تانية زادت عن حدها ولازم تعرفيها …
-حاجة أيه يا عالية ؟!!
أشاحت بنظرها ناحيـة الغرفة التي تنتمي لرشيد أخيها وقلت بخجل :
-أنا أسفة .. في حاجة مش مظبوطة لازم تعرفيها ، وأنا مش هعرف اسكت أكتر من كده ..
تسرب القلق إليهـا :
-مالك يا عالية ..
نطقت عالية آخيرًا بنبرة أشبه بالهمس :
-فريال كل يوم بتروح الأوضة لفريد في الوقت ده ، ومش بتخرج غير الفجر .. أنا حاولت كتير أخيب ظنوني، بس الأمر فعلًا يقلق ….
في تلك اللحظة رن هاتف عاصي ، فتناوله بيده المبللة وقال بملل :
-أيوة …
-عاصي بيـه ، في حريق جامد في المصنع وإصابات كتير ومش عارفين نسيطر عليـه ….
******
~قصر دويدار
تأكل النيران بقلبها حتى شتت أفكارها ومبادئها ، أخذت تهاتفه للمرة المئة ولكن دون جدوى ، ضربت الأرض بقدميها إثر شعورها بالإهانة والعجـز ، فتحت باب الغـرفة وحسمت قرارها لتذهب إليه.. بدون إذن فتحت الباب وقفلتـه خلفها وقالت موبخة والدموع تتطاير من عينيها :
-مابتردش على تليفوناتي ليه ؟!!!
فزع من مرقده بارتباك واضح :
-نوران أنتِ بتعملي أيه هنـا ؟!
ردت بإصرار :
-مش هتحرك من هنا غير لما تسمعني يا كريم.
رد بحزم وهو يحاول يمسك يدها بيخرجها من غرفته :
-نوران لوسمحتي اتفضلي اخرجي ، ومش عايز اسمع حاجة خلاص خلصنا ..
شدت يدها بإلحاح :
-أنا كنت هعرف منين أنه شخص زبالة وبيضحكوا على البنات !!
صرخ بوجهه ليعنفها :
-عشان هي شغلانة كلها عوج وبيستغلوا البنات العبيطة اللي زيك ..
ضرب الأرض بقدميها بعجز والعبرات تتقطر من عينيها المحمرة :
-طيب كلمني كويس ، متزعقش وكفاية اللي قولته وانا سكتت عليـه .. وأنا غلطانة إني عبرتك وجيت عشان اطيب بخاطرك ..
وقف متأففًا :
-نوران اخرجي بره ماينفعش حد يشوفك هنـا ..
تمتمت بدموعها الجارية وهي تتمسك بيده :
-طيب سامحتني ! كريم بلاش الاسلوب ده مش أنت والزمن عليا !
في تلك اللحظة سحبها من يدها ليخرجا معًا من الغرفة وهو يقول :
-تعالى نتكلم تحت ، هنا مش هينفع .
في نفس اللحظة التي خرج فيها الثنائي من الغرفة كانت شمس تحمل دورقًا من المياه وتتجه إلى غرفتها ، ما أن رأتهم معًا سقط ما بيدها وجحظت مُقلتيها :
-نوران !! أنتِ بتعملي أيه هنا ؟!!!!!!!
******
🦋 الفصـل الثامن 🦋
< الجـزء الثاني من الفصـل >
الحقائق كالنـار مهما حاولت إخفائها يكشفك دُخانهـا ، وقفت عقارب الساعة عند نوران وكريم إثر سؤال شمس الأخيـر .. تلك التي تدنو منهم بخطوات مُثقلة بالهواجس التي يرفضها عقلهـا والتي لا تخلو من تهويل الأمور والأفكار الشيطانيـة ، قبضت على معصم أختهـا بعنفوان وهي ترجها بقوة وهي تكاد تنفجر من وجه أختها الشاحب الذي لا يشير إلا بوقوع مصيبـة كارثية :
-انطقي !!
لم تكف عن البكاء ولكنها جهـر متوسلة :
-مفيش حاجة يا شمس ، سيبي أيدي .. أنتِ فاهمة غلط ..
لم تستمع لتوسلات أختها بل زادت من تعنيفها :
-طالعة من أوضة الشاب الساعة دي والمنظر ده وتقولي فاهمـة غلط ؟! فهميني أنتِ الصح عشان أنا بقيت مش شايفة ومش فاهمة ..
تدخل كريم كي يحل الأمر ويهدأ من الفوضى الناشبة :
-شمس ، ممكن تهدي مفـ
قاطعته صارخة بأعين ينفجر منها الشرار :
-أنت تخرس خالص ، تميم يجي يتصرف معاك ..
صرخت نوران بنفاذ صبر من تلك الاتهامات الحادة التي وجهتها أختها وهي تتملص من وجع يدها :
-شمس بقول لك مفيش حاجة ، كانت مشكلة واتحلت ، بطلي بقى الأسلوب ده ..
جاء تميـم من غُرفتـه ركضًا إثر تلك الفوضى والنقاشات المحتدة بينهم ، فأردف قائلا وهو يقبل عليهم :
-في أيه هنا ؟! مالكم ..
ثم وجه سؤاله لكريم عندما لم يتلقى ردًا منهن :
-اتكلم انت طيب يا كريم …!!
رد بإيجاز :
-تميم تعالى نتكلم لوحدنا ..
تفوهت شمس بانفعال والقليل من العبرات المتقطرة :
-لوحدكم ليه ؟! اتفضل قول لتميم أختي كانت في أوضتك الساعة دي بتعمل أيه !!
دار نصف دورة حول نفس وهو يتنفس الصعداء من حدة تلك الاتهامات الموجهة إليه،طافت عيني تميم بعدم تصديق محاولًا استيعاب ما وقع على مسامعه :
-أيه الجنان ده ؟!! أكيد أنتِ فاهمة غلط يا شمس .. ممكن تهدي طيب وكله هيتحل .
هبت شمس معارضة ؛ وهي ترمق كريم بتلك النظرات الساخطة :
-تميم أنا وأختي هنرجع شقتنا ، وأنت شوف لك حل مع قريبك ، لو كان في بيتي كان هيبقى ليا تصرف تاني..
سحبت نوران يدها بقوة وهي تبرأ نفسها صارخة :
-ما كفاية بقا يا شمس ، كل ده ليه يعني ؟! لو عايزة تعاقبي حد يبقى أنا ، كريم ملهوش دعوة بأي حاجة .. بالعكس ده كان بيساعدني أنـ
قاطعها كريم رافضًا اعترافها :
-خلاص يا نوران .. محصلش حاجة، وأختك عندها حق .. أنا همشي ..
تدخل تميم بينهم وهو يمسك بيده :
-أهدى أنت كمان ، ونشوف فين المشكلة عشان نحلها ..
طالعت أختها بتلك الأعين المحمرة من كثرة البكاء ، وشرعت بتجفيف وجهها من آثار الدموع وسألتها بتوجس:
-نوران .. بصي لي ، عشان خاطري وطمني قلبي ، أيه المشكلة اللي بينك وبين كريم ، حصل أيه ما بينكم انطقي ..
ردت بنبرة غارقة بالبكاء :
-مفيش حاجة من اللي في دماغك يا شمس ، اطمني ..
ثم نظرت لكريم بعجز وقلة حيلة:
-هقوللهم .. ماينفعش نخبي أكتر من كده … انا غلطت ولازم اتعاقب .
*******
يرتدي حذائه بعجـل غير مكترث لعقد رابطة عنقـه المتدلية على كتفـيه .. تجوب حوله بفوضويـة واضطراب لتهدأ من روعه :
-عاصي عشان خاطري أهدى وركز .. اهدى عشان تعرف تفكر ..
ثم جست على ركبتيها أرضًا لتعقد له شريط حذائه بسرعة وأتبعت :
-في إصابات كتير ؟!
ردت بقلق يتقاذف من بين حروف كلماته :
-مش عارف يا حياة .. ربنا يسترها .
نهضت عالية الجالس على طرف السرير بارتباك :
-طيب خلي بالك يا عاصي .. انتبه ياحبيبي ..
ربت على كتفها مهرولًا وهو يتأهب للرحيـل :
-متقلقيش ..
صاحت حياة موصيـة :
-ابقى طمني يا عاصي ..
اكتفي بهز رأسه حيث تناول مفاتيحـه وحافظة نقوده وهاتفه ورحل على الفور .. اقتربت عالية من حيـاة بأعين يحاصرها الشـك المختوم بتسائل :
-عرفتي هتعملي أيه مع رشيـد !
-لازم أحلها قبل عاصي ما يرجع …
لملمت شعرها بـ ” التوكة ” المعدنيـة وهزت رأسهـا كمن يدرك خطواته جيـدًا ، غادرت عالية الغرفة عائدة لغرفتها كي تتجنب رؤية تلك المواجهـة العائلية ، انصرفت حياة من الغـرفة بخطى سريعة متجهـة نحو غُرفـة أخيه التي طرقت بابهـا بقـوة حتى أتاها صوت الأخيـر مهزوزًا خائفًا :
-رسيل؟!
قفز من مخدعه وشرع بارتداء ملابسـه بسرعة فائقة وهو يتهامس مع فريال صارخًا بهمس :
-ادخلي الحمام ولا اختفي من الأوضة .. اتحركي …
بنظرات الانتصار تُطيل معه الحديث، وكأن آخيراً ظفرت خطتها التي تعمدت أن تظهرها أمام عيني عاليـة لتكشف سرهم .. اتاهم صوت رسيل من الخلف بنبرة حادة تحمل نيران الغضب :
-افتح يا رشيد !!
قفز بداخل بنطاله قائلًا :
-بغيـر يا رسيل استني ..
لم تتمهل بل زادت من قوة صفع الباب .. مرت الدقيقة على حقل شائكة حتى ظهر أخيرًا أمامها بثغر مبتسـم يحمل عتبًا :
-في حد يصحي حد كده !! مش هتـ
لم تمنحه فرصة للبث ببنت شفـة ، حيث باغتته بصفعـة قويـة تردد صداها بغرفته عندما تأكدت من وجود آثار الحمرة المنتوزعة على وجهه .. جحظت عينيه بغضب ينافس غضب الرياح :
-أنتِ بتعملي أيه يا رسيل !! ايه الجنان بتاعك ده !
دفعته بكل ما أوتيت من غضب لتقتحم غُرفته وهي تهذى وتبحث كالمجنـونة عن فريـال حتى عثرت عليها متوارية خلف باب الحمـام .. وقفت لبرهة تتلقى الصدمة مع ابتسامة عجـز وقلة حيلة ، سحبتها من معصمها للخارج و ردعتها بعنفٍ وقالت بسخرية :
-أيه ده ؟!! الأرف ده بيحصل في بيتي أنا ؟!!
ثم وقفت أمام أخيها مسددة إليه تلك النظرات النارية :
-أنطق !! ليـه كده ؟! ما تتجوزوا وبعدين تغوروا في ستين داهيـة ، لكن تتقابلوا زي الحراميـة كده وكمان في بيتي اللي فتحتهولكم !!
لم يمتلك الوقاحة الكافية ليواجه أخته ، حيث غمغم موضحًا :
-رسيل أنتِ فاهمة غلط !!
-غلط !!! وهو فين الصح في اللي أنا شوفته ؟!! الهانم بلبسها المقرف ده ؟! ولا سيادتك ومنظرك ده .. بص في المرآية وأنت تشوف الغلط الحقيقي..
بنبرة أقرب للهذيان أردفت كلماتها الآخيرة ، ثم نظرت لفريال لتوبخها :
-أنت أزاي تعملي في نفسك كده !! ازاي تخونيني في بيتي !! أنتِ .. أنت
أصيبت ملامحها بلعنة الاشمئزاز من مجرد النظر إليهـا .. فأدركت ان الحديث لوحده جهد مهدور .. ابتلعت ما بقي من كلمات بجوفها ولكنها لم تتخلص من تلك النظرات الساخطة .. فر الحياء من مضجعه فأردفت بوقاحة :
-أنا ورشيد بنحب بعض ، حصـل أيه يعني ؟!! مش أنتِ سبق وقعدتي مع رجل غريب في أوضة واحده ومحـ
-اخرسي بقا وكمان ليكي عين تبجحي !
صفعة جديدة كانت من نصيب وجنتها تلك الوقحة التي لم تعترف للحظة بخطأها ، ثم انفجرت موضحة :
-أنا الظروف هي اللي رمتني أقعد مع راجل غريب في أوضة واحدة .. بس الرجل ده ملمسش مني شعره واحدة من غير عقد جواز .. أنا مش رخيصة ولا زبالة زيك عشان أوافق بالإهانة دي ..
ثم دارت إلى أخيها الذي حاول أن يستجدي رضاها ، ولكنها قاطعته بحزم :
-تأخد الزبالة دي وتطلعوا بره بيتي .. تتجوزوا بقا ، تقضوها أرف .. المهم مشوفش طيف حد فيكم هنا .
تحركت فريال لتتشبث بكتف رشيد ثم قالت بانتصار :
-أحنا كده كده هنتجوز ومش هنقعد هنا ، مش كده يا رشيد !!
تأرجحت عينيه بحيرة تعلت تورطـه ثم سحب ذراعه برفق وقال لأخته وهو يطالعها بصوت خافت :
-بس أنا مش هتجوزك يا فريال ..
صدمة جديدة حلت على رأس حياة التي لم تتوقع رد أخيها ، وانسكب الجمر فوق قلب فريال التي اعلن عن أنانيته وتخليه عنها جهر .. انكمشت ملامحها بذهول :
-يعني أيه مش هنتجـوز ! كنت بتضحك عليا يا رشيد !! كُنت …
قاطعته رسيل بنظرات استحقار لتدافع عن فتاة مثلها :
-يعني أيه مش هتتجوزها !! جاي دلوقتِ تقول مش هتجوزها !! أنتَ كده راجل يعني ومحدش هيقدر يقف لك ..
اختصر الجدال مع أخته وقال بنبرة نهائية :
-أنا خلاص لقيت اللي هكمل معاها حياتي ، وبالنسبة لفريال أنا مغصبتش حد على حاجة ….
تأزمت الحالة عليهـا فلم تحد نفسها إلا بتسديد الضربات إليه وتدفعه للخارج لخارج بيتها وهي تهذى بكلمـات محملة بوجع الخزى والخذلان لأخيها .. حتى وصلت لنهاية السلم استسلمت لضعفها وجلست تنزف دموعهـا وتشكو من ثقل الحمل :
-متجيش هنا تاني .. مش عايزة أشوفك يا رشيد .. أنت من النهاردة لا أخويا ولا أعرفه ..
انتظرت عالية حتى خرج رشيد من البيت ، فأسرعت نحو رسيل الجالسة على أول درجات السلم لتساندها :
-حياة قومي .. اهدي يا حبيبتي متعمليش في نفسك كده .. قومي معايا .
سندت حياة عليها وهي تنهض بعناء ، أخذت تجفف عِبراتها لتستجمع قوتها ، ثم سقطت عينيها على فريال الجالسة أمام اعتاب الغرفة .. اقتربت منها بنظرات ممزوجة بالعطف والسخط :
-قومي ادخلي اوضتك ومش عايزة اشوف وشك لحد ما نشوف حل للمصيـبة دي ..
*******
-أظن الأمور وضحت يا شمس .. نهدا بقا ونحمد ربنا محصلش حاجة !
أردف تميـم جملتـه الأخيـرة بعـد ما روت نوران القصـة كاملة ثم ختمت جُملتهـا بـ :
-أنا روحت اعتذرله بس عشان كان ماييردش عليا ، وهو طردني من الأوضة عشـان ماينفعش وو
ثم انفجرت بركة الدموع من عينيـها .. تحرك تميـم وضمها إليه بحب أخوي وقال :
-هنستفاد أيه من العياط .. المفروض نتعلم الدرس ..
ثم نظر لشمس المصدومة التي نسيت كيف تنطق الكلمات وقال :
-مش عايزة تقولي حاجـة يا شمس لكريم !
بأعين شاردة تأرجحت بتردد وحيرة ثم بللت حلقها بخجل وقالت معتذرة :
-اسفة يا كريم ..
ثم شدت نوران من يدها وقالت بخفوت :
-معلش يا تميم ، هستأذنك ابات مع نوران الليـلة ..
فتلاقت عيني الأختين حتى قالت :
-يلا يا نوران …..
********
~في تمام الرابـعة فجرًا
عاد عاصي لمنزله وهو يجر ذيول خساراته جرًا خاصة بعد تأكده أن تلك الحادث مدبر وورائه رسالة تهديدية .. قفل الباب بهدوء ثم تحرك نحو غُرفته التي فتح بابهـا فأول ما سقطت عليه عيناه ” حياة ” الجالسـة تحت النافذة كالقرفصـاء .. رمى سترته من يده وجلس بكلل بجوارها مستندًا على الحائط ..
رفعت عينيها الدامية ببطء ثم اعتدلت في جلسته لتطل عليه وسألته بصوت مبحوح :
-طمني عملت أيه ؟!
ثنى ركبـته ليسند مرفقه عليهـا وأجابهـا بكلل :
-في كذا موظف حالتهم مطمنش .. مش فارق معـايا كل الخساير دي .. بس ليه ناس سهرانة على أكل عيشها تتأذي ..
مسحت على فخذه برفق :
-كله هيتحل ، أهدى بس .. مش بحب أشوفك كده .
تراجع برأس للوراء وأطلق تنهيدة عاليـة :
-لأول مرة أحس أني تعبت ومش قادر أكمل .. زهقت من الشغل ومن الحروب طول الوقت.. بقيت بدور على السلام النفسي وبس .. ومش عارف أوصله .
تبدلت جلستها لتجسو على ركبتيها أخذت تربت عليه بالكثير من اللمسات الحنونة بأعين دامعة :
-ما تقولش كده ، أنا مسنودة عليك يا عاصي..ماينفعش تستسلم وتقول مش قادر أكمل .. كل ما تضعف افتكر إني متقوية بيك وبوجودك جمبي ..
زرع قبله طويلة بداخل كفهـا ثم لاحظ بكائها الغزير فسألها باهتمام :
-حصل حاجة ؟! مالك ؟!
هزت رأسها بخفوت ثم قالت بحرج شديد :
-في حاجة حصلت ولازم تعرفها ..
أخذت تفرك في كفي يدها بارتباك ملحوظ .. اعتدل من جلسته وسالها :
-حاجة أيه ؟! اتكلمي يا حياة ..
خشيت أن تلقي أعينهم ، خشيت أن يرى الخجل بمقلتيها ، فاعتدلت من جلستها الأخيرة لتعود لنفس المكان ونفس الوضع الذي كانت عليه عند دخوله وقال بنبرة خافتة :
-رشيد وفريال على علاقة ببعض .. وو
ثم بللت حلقها :
-طردت رشيد من البيت ، ومقدرتش أطرد البنت .. صعبت عليا ملهاش مكان غير هنا خاصـة بعد ما اتخلى عنها وسابها ومشي …
لم يتفاجئ بالخبر ، اكتفى بهز رأسه متفهمًا الأمر ثم دار إليها وأمسك بكفيه بحنـو :
-ده اللي مزعلك ؟!
أومأت بالإيجاب بدموعها المنخرطة من مقلتيها وأكملت :
-كل يوم بيجي أصعب من اللي قبله ، خسرت أخويا الكبير ، وأنت المشاكل مش راضية تسيبك في حالك ، كل يوم مشكلة .. كل يوم كارثة جديدة .. قلبي مبقاش متحمل العيشة دي يا عاصي !! هل أنا ضعيفة ولا الحياة بتستقوى عليـا ..!!
مسح دموعها بكلتا كفيه ثم جذبها حضنـه وأخذ يربت عليهـا برفق ويبث وميض من الأمان بقلبها :
-وأنا موجود ليه ؟! أنا هنا جمبك اسندي وحملي كل همومـك ، مش عايزك تشيلي هم حاجة في الدنيا .. اهدي .. مش بحب أشوف دموعك دي ..
ايقظ فيها وطنًا تتمناه .. وطن محيط بالأمان والحب ، سندت رأسها على صدره وتشبثت بملابسه وغاصت في سُبات عميق … فلا يأمن الإنسان إلا بحبيبه وكل امرئٍ يصبو لمن يُعشقه ………..
جاء الصبـاح ليداعب تلك الملامح المرهقة من تراكم الليالي الحزيـنة .. فتح عاصي جفونه التي يغازلها شعاع الشمس ، ثم تدلت أنظاره على تلك الجميلة التي تتوسد صدره .. رغم عنه ارتسمت البسمة على محياه برؤيتهـا .. ذلك الوجه الذي يحمل شمسه وقمره في آن واحد ..
نهض برفق من الأرض وحملها ، ففتحت جفونها بتثاقل وهي ترى ملامحه بصوره ضبابية .. فتمتمت :
-خليك معايا ..
وضعها في فراشها برفق تام ثم شد الغطاء عليها ، تمدد بجوارها وأخذ يرتشف ملامح وجهها ليحسن مزاجـه ، اعتاد على تلصص النظرات منها كمن يراقب نجوم السماء، باتت أنامله تتنقل بين جدائل شعرها الناعمـة ، حتى عادت لرشدها وفتحت جفونها المرهقـة :
-صباح الخيـر .. هي الساعة كام ؟!
عصر من شفتيها نبيذ صباحه وقال :
-مالك بالساعة.. نامي بس وارتاحي ..
أول شيء وضعت فوقه كفوفها كانت بطنها وكأنها تلقي عطر الصباح على صغارها .. اعتدلت قليلًا ثم طالعته بشغف :
-نمت ولا طول الليل بتبص عليا كده ..
فارقت أنامله شعرها وانتقلت لوجنتها وقال :
-للاسف النوم سرقني وملحقتش أملي عينيـا ..
ملك مفاتيح تعرية قلبها .. فتنهدت بهدوء :
-عملت أيه في المصنع .. هتنزل الشغل ؟!
-كلمت الشباب وهما هيتصرفوا .. النهاردة مش عايز اطلع من بره الأوضة دي .. حاسس إني محتاج أفصل عن العالم والدوشة ..
رأت في عيونه هزائم ساطعة .. ثم قالت :
-زي ما تحب ، وأنا كمان مش هروح مكان وهقعد معاك .. أحنا محتاجيـن نفصل عن الدوشة شويـة … حتى مش حابة اتكلم في أي حاجة ممكن تزعلنا .
ثم نهضت من مرقدها وقالت بحماس يلهيها عن خيبات أمس :
-هنزل أعمل فطار وناكل سوا ، وكمان عشان عالية محتاجة تتغذى …
فارق هو الأخير مكانه متبعًا وجهتها حيث باغتها بضمة قوية اليه من خصرها جعلها تتراجع عن خطواتها مُلقاه بحضنه وقال هامسًا :
-انا مش ناسي إنك عايزانا نتكلم .. عشان كده اعتبري اليوم كله بتاعك النهاردة..
منذ أن عرفته فلم يملأها إلا حبًا وعشقًا متجددًا .. بادلتـه بابتسامة خفيفة وقالت :
-اتفقـنا .. لحد ما تاخد الشاور بتاعك أكون خلصت الفطار .
********
~القصـر ..
-كنت هتجنن يا تميـم ، أنت ما شوفتش حالتها كانت عاملة أزاي وهما الاتنين طالعيـن من الأوضة .. قلبي وقع وماعرفتش أنا بقول أيه وو
بساحة القصـر الواسعة ، يجلس تميم مع شمس التى سحبها لحضنـه وربت على كتفها وقال :
-اللي حصل حصل ، وأنا مقدرش موقفك ، المهم حاول تتكلمي مع كريم لانه مصمم يمشي ، كويس اقنعته يستنى لغاية الصبح ..
أومأت بطاعة وهي تمسح دموعها :
-ماشي ، يصحى من النـوم بس وهتكلم معـاه ..
في تلك اللحظـة قُفل باب غُرفة كـريم ، همس تميم لزوجته قائلًا :
-اتكلمي بشويش وبالعقـل ..
جزت علي فكيها باعتراض :
-قصدك إني مجنونة يا تميم !!
قبل على رأسها مشتريًا هدوئها :
-ماعاش ولا كان .. نهدا ماشي .
ثم جهر بصوته منادياً على كريم الذي يحمل حقائب سفره :
-تعالى يا عم أنت ، تعالى أقعد شوية ..
ثم وثب قائمًا وقال :
-كان نفسي أقول لك أعزمك على شاي من أيدين شمس ، بس شهادة لله الشاي بتاعها متمنهوش لألد أعدائي ..
لكمته بركبتـه كي يكف عن سخريته ، استقبل تمردها بضحكة خفيفة وقال :
-فمضطر أعمل شاي بنفسي ..
أشار لكريم إشارة لم يفهمها غيره ورحل كي يفسح لهم مجالًا للحديث ، نادته شمس قائلة بتردد :
-كريم ، ممكن نتكلم شوية ..
ترك حقائبه جنبًا ثم أقبل إليها بفتور ليجلس على المقعد المجاور ؛ شرعت شمس بالحديث:
-على فكرة حقك تزعل ، وحقك كمان متبصش في وشي تاني .. بس أنا ماليش غير نوران يا كريم دي أمانة بابا وماما ، أنا بخاف عليها فوق ما تتخيل بكتير ..
ثم أخذت نفسًا طويلاً :
-ماما وبابا سابوها طفلة صغيرة اتعلمت المشي على أيديا .. أنا ابقى ليها ام واب وأخت وعيلتها كلها .. كريم أنا بقول لك كده عشان تقدر موقفي ومتزعلش مني ..
هز رأسه متفهمـا ثم قال :
-عموما أنا نسيت اللي حصل ومقدر خوفك ، أي خد كان هيتصرف زيك كده ، وخوفك ده ما يقلش عن خوفي عليـها .. أنا مستحيل أضرها ، أنا سبت الدنيا كلها ورجعت لها ، رجعت عشان أشوف أخرة موضوعي معاها ..
انعقد حاجبيها باستغراب :
-اخر أيه ، مش فاهمة !!
صمت لبـرهة ثم قال بثبات :
-شمس أنا بطلب منك أيد نوران للمرة التانيـة …..عشان أن فعلاً بحبهـا ومحدش هيحب نوران أدي .
********
بخطوات ثقيـلة كمن يسبح عكس التيار تحمل فنجان القهـوة وتتجه نحو غرفتـهما حاملة على عاتقهـا حقائب الحقيقة المدفون بأحشائها .. فتحت الباب بخفوت ثم اقتربت منه وجدته يجري مكالمـة هاتفيـه حيث اختتمها قائلًا :
-تابع الحالات بنفسك يا بكر ، وأصرف تعويضات مادية لأهالي المصابين لحد ما يقوموا بالسلامة ..
تركت الفنجان على المنضـدة ثم جلست بجواره ، ما أن أنهى مكالمته سألته :
-حد حصله حاجة ..
رد بارتياح :
-حالتهم مستقرة دلوقتِ ، احسن من بالليل ..
تمتمت بخفوت :
-ربنا يشفيهم يارب ..
ثم بللت حلقها :
-قهوتك قبل ما تبرد ..
مال ليتناول فنجان قهوته متسائلًا :
-وأنتِ فين قهوتك ؟!
أجابته بتردد :
-لا ماليش نفس .. عاصي !!
دار إليها باهتمـام :
-أومري ..
تأرجحت عينيـها بارتباك كمن يبتلع غصة الحقيقة بحلقه :
-هنتصرف ازاي مع رشيـد ، والبنت دي اللي اتخلى عنها ! على أد ما أنا قرفانة منها .. بس هي بنت زيي وحرام اللي حصلها ده دي لوحدها في الدنيا ..
يعتبر أكثر شخص على علمٍ تام بحقيقة فريال ، منذ تلك المحاولة التي قطعتها مع عاصي ليكون لها ، لتلك الأمور الشنيعة التي خاضتها مع رشيد ، حتمًا إمراة مثلها يا إما فاقدة لأهليتها أو تنتوي شرًا لابد الحذر منه .. داعب وجنتها بإبهامه وقال :
-أنتِ طيبة أوي يا حياة ، وأنا مش عايزك كده .. مش عايزك تشوفي الأمور كلها بقلبك ..
ثم أشار بسبابته لعقلها :
-حطي هنا أن كل حاجة بتحصلنا أحنا نستحقها .. يعني فريال لو كان جواها خير مكنش هيحصل فيها كده ..
أتاه صوتها شاردًا :
-مصدومة في أخويا !! طيب طالما مش بيحبها ازاي قدر يكون معاها كده ..
فرفعت عينيها متسائلة وكأن السؤال موجه له خصيصًا :
-ازاي الرجل بيقبل يكون. مع ست مش بيحبها ، أو نزوة مثلا !! أزاي ؟!
ابتسامـة خفيفة داعبت ثغره ، ترك فنجان القهوة من يده وقال :
-أنا ليه حاسس أن السؤال موجه ليـا ؟!.. وبعدين وأنتِ مالك بينا ؟!! عايزة أيه دلوقتي ؟!
-بجد عايزة أعرف أنتوا بتفكروا ازاي ؟!
ثم تنهد بحماس وقال :
-كـل الرجالة كلنا عينهم فارغة ، بيحبوا يدوقوا جميع الأصناف ، لحد ما يقرروا هناكل ايه !
جحظت عينيها بنظرة استجوابية :
-والله!! وأنت من الرجالة دي ؟!!!
بضحكة خفيف داعبت ثغرة قال بثبات رافعًا كفيه ليبرئ نفسه :
-كُنت ، بس توبت خلاص ..
حتى التقى بعينيها الكاشفة فأمسك بكفيها عائدًا لصوابه وخاطب قلبها معترفًا :
-شوفي يا حياة ، أنا في فترة كُنت كده وأسوأ ، كنت بملي فراغ معين في حياتي او بعوض غياب حد معين ، كنت كل ليلة مع واحدة لمجرد سد الفراغ ده .. ومفيش مرة نجحت أداويه ، فشلت ، لان الراجل ممكن يحب في ثانيه وممكن يقعد سنين علشان ينسي الحب ده وميقدرش ..
ساومت أنفاسه ثغرها على القُبل ، فأكمل قائلًا تحت سطو تلك الأعين التي لا تُقاوم :
-لحد ما قابلتك ..
-حصل لك أيه ؟!
أردف بحب انعكس بريقه بعينه :
-كل رغباتي في الحياة تلاشت .. بقيت مش شايف غيرك رغبتي الوحيدة حتى ولو هفضل قدامك ساكت أبص لك وبس …
ثم تزحزحت عيناه من عندها وأطلق ضحكة خفيفة وقال :
-عارفة شعور الشخص اللي مقضيها مُقبلات ومشاريب .. وكان مفكر أنه كده شبع ، لحد ما أتفاجئ بوجبة عشاء لا تقاوم .. ده أحساسي بالظبط ..
دب حب كلماته ونظراته برحمها بألمٍ خفيف جعلها ترتعش مغمضـة العينين .. فلبي نداء جسدهـا بقُبلة طويـلة فتحت شهيته على وجبته الدسمـة ، لم تمهله فرصة الاغتنام بها ، ففزعت راكضة من مكانها ناحية الحمام واضعة يدها على فمهـا ، هرول خلفها ومنعها من قفل باب الحمام ، لملم شعرها المنساب وضم كتفها إليه .. أخذت تفرغ ماء جوفها بمعاناة ..
رفعت وجهها عن المرحاض لتأخذ أنفاسها بارتياح، سقطت عيناه على صدرها الذي يرتفع وهبطت من شدة الجهد .. جفف قطرات العرق من وجهها وسألها بخوف :
-مالك ؟! حاسة بايه !!
ردت بتعب وهي تتنهد بصوت مسموع :
-مش عارفة ، مستحملتش ريحة القهوة وو
-مش غريبة دي ؟! أنت مش بتحبي غيرها !
ردت بملل :
-اللي حصل بقا يا عاصي .. لو سمحت اخرج ..
ختمت جملتها بجولة جديدة من التقيئ وهي تسعل بقوة مما جعلها يهتف بقلق :
-لا ده آكيد برد في معدتك ؟! هكلم لك دكتور ..
تشبثت بيده كي يتوقف ، رافعـة عينيها المغرورقة لعنده ،تدبر بخشوع عيونها الزهرية ، لحظة صمت كانت بمثابـة عمر آخر من الألم .. اترعشت شفتيها وهي تقـر معترفة :
-استنى … عاصي ، أنا حامـل …
تصلبت تعابير وجهه كتفريغ الثلج على جسده ، كررت كلمتها بنفس النبرة المهزوزة :
-حامل في شهرين .. عرفت الخبر إمبارح، و
تمتم مشدوهًا مصدومًا محاولًا نفي الأمر من رأسه :
-ازاي !! مستحيـل ..
أدركت بأن وقت الحرب قد دق ، زفرت بوجع استيقظت جروحه للتو ، وقالت ساخرة:
-ليه مستحيل ، أحنا مش متجوزين وده الطبيعي ، اللي المفروض يحصل .. ولااا
بلعت جمر حزنها وقالت بحزن وخيـم :
-ولا مستحيل عشان وسيلة منع الحمل اللي ركبتها من ورايا !!
انخرطت العبرات من مقلتيها وأكملت بحزن يصهر الجليد :
-ولا علشان مش عايز تخلف مني .. عايز تعيش على ذكرى مهـا وبس .. بص في عيني وجاوبني يا عاصي ..
بقبضة يده القوية صفع الباب ثلاثة مرات بجنون حيوان مفترس لا يرى أمامها ، فرغ غضبه بالباب الذي وقع مقبضه على الفور صارخًا :
-بردو عملتي اللي في دماغك يا رسيـل !!
وقفت أمام التيار مواجهة بصراخ :
-عايز تعرف أنا متغيرة ليا ٣ شهور ليه ، عشان انا كنت عايشة بين نارين ، نار حبك ونار بعدك .. بس أنا ضعيفة ، مقدرتش أواجه في وقتها ، ومقدرتش اسيبك وامشي .. رضيت ، ووثقت فيك ، وأخدت كبسولات عشان مش عايزة اعمل حاجة أنت مش عايزها ..
ثم دفعته وخرجت من الحمام وأكملت بنفس النبرة المحترقة :
-بس ربنا أراد ، أراد وحصـل ..
ثم أخذت تلهث وتتنفس بهذيان :
-لو أنت مش عايز الحمل ده ، أنا عايزاه .. أنت مالكيش حق تمنع نعمة ربنـا في غيرنا يتمنى ضفرها ..
ثارت ثورة الغضب بكيانه ، طاحت يده بكل شيء يقابله ، يتشاجر مع أساس الغُرفة بجنون ، حتى هب صارخًا :
-أنتِ عملتي اللي عايزاه وخلفتي وعدك معايا ، أحنا اتفقنا وقولتلك لما حياتنا تستقر ، بس أنتِ عنيدة يا حياة ومش مقدرة أنا عملت كده ليه …
أومأت بعدم اتزان :
-بالظبط ، هو ده اللي عايزة أعرفه ؟! ليـه يا عاصي ليه … تعرف فكرت في كل الاحتمالات ملقتش حل لدرجة أني شكيت في حبك ليا ..
منحت عينيها الفرصة كي تتخلص من جملة الألم المتقطرة وأكملت :
-بس عمري ما حسيت بده ، كل يوم مش بشوف غير حبك ، هتجنن معقولة اللي يحب حد يحرمه من أكتر حاجة مستنيها ، لييييه ؟! عملت فيا كده ليه !
ثم اقتربت منه وتشبثت بمعصمه وأكملت جولة عتابه ولكن بنبرة حانية :
-مصعبتش عليك وأنا كل شهر مستنية الخبر ده ، مصعبتش عليك وقبلي بيتكسر الف حد في كل مرة يطلع فيها التيست سلبي !!! جالك منين قلب تقسى عليـا ازاي ؟!
خرج عن صمته ليبرئ نفسه من جملة الاتهامات :
-عملت كده عشان مش عايز اعيش نفس الوجع للمرة التالتة ، أول مرة كانت مهـا ، عاندت زيك كده ورغم أن الحمل كان خطر على حياتها .. مسمعتش كلامي .. عشته للمرة التاني وانتي بتسقطي في المستشفى، شفت حالتك كانت عاملة ازاي .. عملت كده عشان أنا بعاني من عقدة الفقد ، مش عايز اخسرك بعد ما عملت عيلة وبيت وحياة .. مش عايز كده ده يتهد…
ترمد غرورها وغضبها في جمراته وقالت بحزن يمزق قلبها إربًا :
-هو اتهد خلاص بأنانيتك يا عاصي ، أنت أناني ومش بتفكر غير في نفسك وبس …
-افهمي بقا ، بقول لك خايفة أخسرك ..
ثم بلل شفتيه متنهدًا وأتبع :
-لو شايفة حبي ليكي أنانية ، فأنا أكبر أناني يا حياة ..
لم تتحمل صراخه وغضبه بوجهها ، تحركت لتجلس على طرف السرير لتهدأ وهو أيضًا ذهب لتلك النافذة كي يستنشق القليل من الهواء .. من فرط وجعها تشعر بان قلبها ينزف دمًا .. كل منهما صامت يصارع هواجسه .. حانت منه نظرة سريعـة لعندها ثم تحرك بعدها وقال بحزم :
-يومين تجهزي نفسك ، هخلص كل حاجة هنا ونسافر كلنا أمريكا تتابعي حملك لحد ما تولدي ..
ردت بعناد :
-أنا مش هروح حتـة .. واللي كاتبـه ربنا هشوفه ..
ضرب الحائط بقبضته بدون وعي حتى قُشط جلدها ونبثت منه الدماء :
-أنتِ بتعاندي مين فينا !! بتعاقبيني عشان خايف عليكي .. بلاش أسلوبك ده يا حياة ..
تحدته قائلة :
-وأنا هعفيك من خوفك وقلقك ده لاني للاسف مقتنعتش .. شوف يا عاصي ، أحنا محتاجين نبعد .. وأنا مش هقدر اتخلى عن البنات ، أنا ..
هبت زعابيب غضبه منه حتى بلغت أقصاها :
-انتِ تسكتي خالص ، مسمعش صوتك ، مش عملتي اللي في دماغك ، يبقى من الساعة دي كلامي وبس اللي هيتنفذ ..
أمسك برأسه من شدة التفكير وأخذ يطوف بعبث بالغرفة وهو يسب علنًا ، لم يتوقف عن التكسير بالغرفة حتى باتت تتقبل ضجيج غضبه بالرعشات المتتاليـة ..
مرت قرابة النصف ساعة على الاثنين كل منها يتحاشى النظر للاخر ،رجل انغمس في هول مخاوفه ، وإمراة كست الامومة جسدها ، لم تتحمل تلك الحالة المؤلمة التي كان يعاني منها فارقت مكانها وذهبت لعندها بتلك الملامح الحمراء اللي تنزف دمعًا .. وقفت أمامه منكسـرة هي تجاهد كي تنظر بعينيه ، غمغمت باعتذار :
-والله حصل بدون قصدي ، كنت باخد الحبوب في وقتها عشان أنفذ وعدي ، بس ربنا أراد .. عاصي أنت بجد خايف عليا ، وده السبب ؟!
حانت منه نظرة خضوع عنيدة ثم تجاهل حديثها وتحاشى النظر إلى تلك الأعين التي تهزمه في كل مرة .. امتدت يديها لملامحه وكررت سؤالها :
-بص لي .. أنت عملت كده من خوفك عليـا .. !!
يبدو بأن ثورته لم تهدأ بعد .. لم تستجدي منه ردًت غير تلك النظرة العنيدة تقهقرت ورحلت من أمامه عائدة لمكانها مع الحذر الشديد في خطواتها كي لا تتعرقل في الفوضى التي أحدثها بالأرض .. جلست على طرف مخدعها .. مرت الدقائق ببطء شديد حتى عاد إليها ذلك العاصي الذي دبت الحياة أخيرا بقلبه ، فلم تكن تتوقف عن البكاء من حينها :
جلس أمامها على ركبتيـه وبصمت تام شرع بتقبيـل يديها وكفوفها الباردة .. رفع جفونه لعندها :
-مستعد أفرط في الدنيا كلها وأنتِ لا ..
ظلت ترمقه بنظرات خرساء ثم أومأ بالإيجاب :
-أنا أناني فعلًا .. وكنت جاي اعترف لك وهو ده الموضوع المهم اللي كان لازم تعرفيه .. بس ، اتفاجئت ،فجاة ما بقتش شايف قدامي ..
زاد تدفق الماء من ملامحها وانخفضت لمستواه لتجلس على ركبتيها واخترقت صوت بكائهـا :
-الست لما بتحب راجل بتكون عايز تخلف نسخ كتير شبه ، وأنا عشقتك .. أنا معرفتش أفرح بالحمل اللي مستنياه كل ده عشان خايفة من رد فعلك ..
ثم بللت حلقها واتبعت :
-انا وعند الدكتورة طمنتني والله وقالت أنه مستقر ومفيش اي داعي للخوف ، ليه ننكد على نفسنا ، ومها الله يرحمها كان عندها أسباب تمنع الخلفة .. أنا مش زيها وبتابع مع دكتور واتنين واللي أنت عايزه والله هعمله ، بس متزعلش ، زعلك غالي اوي عليا ..
ختمت جملتها وهي ترتمي بين ذراعيه بتلك الرعشات الممزوجة من الفرحة والبكاء في نفس الوقت .. وأكملت بهمس :
-هخلي بالي من نفسي ، ومش هنزل الشغل تاني و هنفذ كل كلمة هتقولها بالحرف ..
شعور مزمن من الذنب يتأكل في قلبه دونما يقترف ذنبًا .. للحب رائحة تميزه عن غيره من المشاعر تجعل المرء دومًا ما ينحرف عن صوابه .. ابتعدت عنه وأخذت تجفف آثار الدمع عن وجهه وتقبلهما جزءا جزءًا ..
رفعها من خصرها برفق لتجلس على فراشهم مرة ثانيـة ، عرى بطنها كي يتأمل نبض الحب المزروع برحمها .. وبقبلة مثيرة وحارقة كشهقة السيجارة لأول مرة في سن المراهقة طُبعت فوق جوفها كقبلة استقبال لصغاره .. من جب الألم انبعثت ضحكاتهم التلقائية الممزوجة بتلك الأنفاس العالية حتى أردف بعدم تصديق محذراً :
-رجلك ما تلمسش الأرض لحد الباشا ما يشـرف ..
تأرجحت عينيها المراوغة وقالت بجزل طفولي :
-عاصي .. بس هما اتنين مش واحد ….
جحظت عينيه بعدم تصديق :
-نعم !!!!!!

    google-playkhamsatmostaqltradent