رواية عشق الغرام الفصل السادس 6 - بقلم ندى ممدوح
لم تدرِ غرام بما دار بين الرجال..
لم تعلم أنها قد خُطبت للتو..
لم تعرف شيئًا عن مصيرها البائس المنتظر..
فقد خطت إلى الأمام، وارتقت درجات المنصة، ويمّمت وجهها شَطر العروس الجالسة بعد رقصة مرهقة، ومنهكة..
وأحست بساقيها لا تحملانها إلا بإعجوبة، ورغم الخاطر الحائر الذي كان يلح عليها بالفرار فقد تغلبت عليه ببسالة، كانت كمن ملك قوة غير مرائية قُذفت بغتة إلى اعماقها فحملتها فوق المنصة..
ورغم أن الصخب كان عاليًا، وصوت الأغاني يصم الأذان، ألا أنها بدت متغيبة كأنها أُصيبت بالصم، تقافزت ذقات قلبها في جنون، وبكل توتر الدنيا توقفت أمام العروس، تطلع إليها في غرابة..
وتساؤل أيضًا!
أهي أجمل منها؟ أم بها شيء مميز لا تدركه عينيها!؟
وظلت تحدق فيها متجمدة الأطراف، حتى لاحظت العروس فتأملتها بدورتها، وبادرتها في اهتمام:
_أنتِ بتشبهي عليَّ ولا أيه؟
هُنا فقط تنبهت غرام إلى نفسها، وأنتزعت ذاتها من شرودها الذي سيطر عليها إنتزاعًا، وغمغمت وهي تهز رأسها في تيه بيَّن:
_لا أبدًا مش بشبه ولا حاجة..
ومدت كفها مصافحة، وأردفت:
_جيت أأقولك مُبارك وجودك في عيلتنا!
فارتسمت بسمة واسعة على ثغر نيرة وهي تنهض في بطء حذر، وصافحتها في وِد قائلة:
_الله يبارك فيكِ، بس أنتِ تقربي إيه لطارق؟!
أرتدت غرام إلى صمتها لردحًا من الزمن، وفي عقر قلبها أنتفض وتينها في فزع لا مبرر له، وشخصت البصر في نيرة، ثم إزدردت ريقها وقالت بصوت شاحب للغاية:
_أنا غرام بنت عمه عبد السلام!
فرددت نيرة في إنفعال يشوبه العصبية:
_طليقته؟! أنتِ طليقت طارق؟
وأمعنت النظر فيها بدورها بنظرة عدوانية وقد تلاشت كل ملامح السعادة عن وجهها الذي بدا كالوحة جامدة.
وحدقت كلٌ منهم في الأخرى، بنظرات يشوبها الغيرة، حتى تقدمت بعض الفتيات من أقارب العروس، وجذبتها بعيدًا لتشاركهن في إحدى الرقصات، فتنهدت غرام تنهدًا عميقًا، ثم أطلقت زفرة مشبعة بما يعتمل في صدرها، وأستدارت لتهبط درجات المنصة وهي تتهيأ لمغادرة الساحة، فتأبطت ذراع كلٍ من غادة ونهلة وانسلوا من بين النسوة خارج الفرح. وحتى يكتمل اليوم، وتصل همومها إلى الذروة، ولكي تقتات ضغوطها النفسية على ما تبقى من ثباتها وجدت نفسها وجهًا لوجه أم طارق..
فتوقفت عن السير.. وتوقف بدوره
وحدقا في بعضهما مليًا..
لم يخف عن أعين غرام تلك الندوب التي بدت واضحة وضوح الشمس على ملامح ابن عمها، وأدركت أن العريس خاض شجارًا حاد، وفجأة حولت بصرها عنه وهمَّت أن تتابع سيرها، فما كادت أن تتجاوز طارق، حتى توقفت على صوته البغيض يقول في حقد:
_مبارك الخطوبة يا بنت عمي!
أيُّ خطوبة؟ هكذا تساءلت غرام في نفسها وهي تلتفت إلى طارق بنظرة مندهشة، فتقدم هذا الأخير خطوة بدت عدوانية إلى حدٍّ كبير، وغمغم في شراسة:
_طب حتى كنتُ عزمتينا ولا قُلتِ عشان نعمل الواجب!
فهتفت غرام في انفعال:
_خطوبة إيه يا طارق أنت أتجننت؟ ولا حد ضربك على دماغك؟!
فضرب طارق كفًا بكف، وصاح في عصبية مفرطة:
_وكمان عايزين تخبوا؟! يلا بنت عمي تتهني بخطيبك، ويا ترى ناوية تعزمينا على الفرح ولا هنعرف زي الأغراب؟!
أتقدت حدقتا غرام بالغضب الذي بدا كبركان ثائر على وشك الاندلاع، وكادت أن ترد عليه، لكن جذبتها غادة من ذراعها، وهمست في هدوء:
_سيبك منه يا غرام خلينا نمشي من هنا دا شكله اتجن.
فأومأت غرام برأسها موافقة، وحدجت طارق شذرًا، ثم أولته ظهرها وهي تجز على أسنانها، قائلة:
_مبارك زواجك يا بن عمي.
وصك طارق على أسنانه في غيظ، وهو يشيع رحيلها بعينين مفعمة بالغل.
🌹اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد 🌹
جلس عبد السلام حائر مما فعل، وبجواره مختار الباسم الثغر، بينما ظل يمان وزكريا خارج البيت…
يمان يغلي من الغضب كأن رأسه قدرٍ يغلي فيه الدماء، وظل زكريا يراقبه متبسمًا كمن يروق له قلقه.
غمغم عبد السلام بحنق مشوب بالحيرة:
_أيه إللي عملناه ده يا مختار يا خويا!
فتمتم مختار بنبرة هادئة للغاية:
_عملنا أيه؟
أردف عبد السلام مغضبًا:
_إحنا خطبنا العيال لبعض من غير مشورتهم، طب الناس هتقول أيه لما يعرفوا أن مفيش خطبة ولا حاجه؟!
رد عليه مختار بذات النبرة الهادئة:
_والناس مالها ومالنا يا عبد السلام هنفضل لأمتى خايفين منهم؟
واعتدل في جلسته ليكون إزاءه، وتبسَّم في ظفر، وهو يقول في هدوءٍ شديد:
_ثم مين قالك إني مش عايز أخطب بنتك فعلًا لزكريا ابني؟ أنا كنت ناوي بالفعل أفاتحك في الموضوع قريب، خاصةً أني لاحظت إعجاب زكريا بغرام، بس عايزين نمهد الموضوع ليهم البنت يلا طالعة من زواج فاشل، وعلاقة فاشلة، وأكيد مش هطيق ترتبط دلوقتي.
سكت لهنيهة يلتقط أنفاسه، بينما بدا عبد السلام يقلب الموضوع في ذهنه، في حين عاد مختار يقول في راحة:
_بصراحة أنا عندي خطة عشان نقربهم من بعض!
أطل تساؤل متلهف في حدقتا عبد السلام، فغمغم مختار سريعًا:
_غرام هتنزل معانا القاهرة تشتغل في الشركة عندي بشهادتها.. تغير جو وتنسى إللي حصل هنا، وتهون من ضغوطها النفسية شوية، خاصةً أن هنا متاح ليها تشوف طارق كل شوية وده هيدمر البنت..
سكت لائذًا بالصمت لثوانٍ، قبل أن يتابع:
_غرام هتبقى تحت عيني، وزيها زي غادة وزكريا وأكتر، وهخاف عليها ومش هخليها محتاجة حاجة وهتكون هي وغادة سوا اصلًا يعني متقلقش، وبكدا هتكون قريبة من زكريا ولو حصل قبول يبقى نتوكل على الله.
فتمتم عبد السلام في حيرة شاردة:
_أنا مش عارف أأقول أيه؟
فربت مختار على ركبته وقال في خفوت:
_فكر براحتك.. وتأكد أن يهمني مصلحة غرام زيك واكتر.
🌹اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد 🌹
خرج مختار من الدار، ووقف على عتبت البيت، وهو يستنشق الهواء في بهجة، بينما دنا زكريا، ورنا إليه بنظرة ثاقبة، وهو يقول:
_أيه إللي أنت عملته ده يا بابا في الفرح؟ أنا عارف أن عشان تنقذ الموقف قُلت كدا، ولكن الناس لو عرفت أن مفيش خطبة هنعمل أيه؟
فأجابه مختار عاقدًا ساعديه أمام صدره:
_ومين قال أن مش هيكون في خطبة؟
فازدرد زكريا ريقه، وقال بصوتٍ خفيض:
_تقصد أيه؟
فتبسم مختار وهو يحل عقدة ذراعيه ليقبض على كتفيّ ابنه، قائلًا:
_يعني أنا عارف أنك معجب بغرام، وانا مش هلاقي لك واحدة أحسن منها.
تطلع زكريا في والده بصدمة طغت على ملامحه التي أستحالت إلى الجمود التام، ثم قال بصوت شاحب:
_أنت بتهزر يا بابا مش كدا؟ أنت تقصد خطبة وزواج ليَّ أنا؟!
انفعل مختار وهتف:
_امال ليا أنا؟ هتفضل لحد إمتى مش متجوز، ولا عايز تتجوز؟
صاح زكريا وهو يشير بسبابته على صدره:
_أنت عايزني أنا اتجوز واحدة زي غرام؟!
فقبض والده في ثورة من الغضب على مقدمة قميصه، وصرخ:
_ومالها غرام يا روح أمك؟! دي ألف من يتمناها.
غمغم زكريا وهو يفلت يد والده:
_إلا أنا!
هم مختار أن يثور مجددًا، لكن زكريا قال وهو ينصرف من أمامه:
_مستحيل.. مش هتجوزها.
تجمدت أطراف مختار حائرًا.
هل اخطأ في تقدير الأمور؟!
ألم يرَ بنفسه نظرات ابنه على غرام؟!
لم يدرك حينها أنها نظرات شيطانٍ رجيم!
تحرك مبتعدًا عن الدار وهو يفكر ويرتب الأمر في ذهنه مجددًا، حتى وجد يمان يسير بجانبه.. كمن يشاركه التفكير.
قال يمان وهو يدس كفيه في جيبيّ بنطاله:
_الحقيقية أن أنا شايف أنك تسرعت…
فرد مختار في لهفة كغريق يتعلق بطوق نجاة:
_بجد؟ أنت شايف كدا؟
اومأ يمان في هدوء، وقال:
_الأمور دي مبتجيش بالأسلوب ده، وأنت تسرعت لما اعلنت كدا من غير ما ترجع لزكريا ولا لغرام.
وفي أسى ردد مختار:
_كانت نيتي خير.
طوق يمان بذراعه كتف مختار، وهو يقول:
_متشيلش نفسك ذنب اللي حصل أنت كنت تقصد خير.
وتنهد تنهدًا عميقًا مرتاحًا وقد ظن أن غرام قد نجت.
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
جلس زكريا يفكر في الأمر، وإذ راح عقله يستحضر صورة غرام.
أنها تروق له لن ينكر..
لكنه يومًا لم يفكر في الزواج ما دام كل شيء بين يديه!
لقد ألتقى بفتيات أجمل منها ولكن…
لماذا!!
لماذا لا يوافق على اختيار أبيه ويتزوج، وهو يعلم أن واحدة بأخلاق غرام لن يجدها في مجتمعه كثيرًا، خاصةً أن من حوله من فتيات لا يعرفون معنى كلمة أخلاق..
حسن ليتزوج لتحمل اسمه فتاة جيدة ذات خلقٍ ودين وعائلة.. وليمارس هو كل ما يبغيه دون علم أحد..
سيكف والده عن الإلحاح عليه بالزواج؟!
سيرحمه من السؤال ليل نهار عن مكانه، وماذا كان يفعل؟!
الحقيقية أن زواجه من غرام رحمة من تسلط أبيه؟!
ووحدة في براءة غرام لن تدرك ما يفعله قط.
توقف سيل أفكاره عندما تسللت إليه أصوات وضحكات أنثوية، فرفع بصره إلى مصدرها فتراءات له البنات وهن يتقدمن إلى البيت ويتسامرون، فأمعن النظر في تفحص شديد إلى غرام من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، واستشعرت غرام أن هناك من يثقبها بنظراته، فتلفتت في حيرة لتقابل عينيها اعين زكريا، ولم يخف عليها تلك النظرة الفاحصة التي يرمقها بها، ولأول مرة تركز في ملامحه..
كان جميلًا.. ذا بشرة بيضاء، وأعين عسلية، وخصلاتٍ ناعمة.
لكن هل كل جمال يقبل؟
🌹اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد 🌹
في اليوم التالي وما أن فتحت غرام عينيها حتى وجدت الباب يطرق وتدخل بعد النسوة مهنئين لها على خطبتها.. وأستقبلت هي التهاني مندهشة، مذهولة وهي تردد:
_مين اللي اتخطب؟!
فلم تجد إجابة شافية، حتى اجابتها إحدى الجارات قائلة:
_كدا برضو يا غرام يا بنتي هان عليكِ العشرة، تتخطبي لزكريا بن مختار صاحب أبوكي من غير ما تقوليلنا مكنش العشم يا بت.
فتطلعت إلى المرأة ذاهلة، وقالت في توضيح:
_حضرتك غلطانة أكيد أنا متخطبتش!؟
فلكزتها المرأة، قائلة:
_بتنكري ليه يا بت، خايفة من الحسد ولا أيه؟ وبعدين انا جوزي هو اللي قالي على اللي حصل إمبارح في الفرح.. وعلى الخطوبة.
رفرفت غرام بأهدابها في حيرة، وهي تقول بوجهٍ ممتقع
ما أن تذكرت حالة طارق وقد حسبت أن أبيها قد خاض معه جدالًا:
_هو إيه اللي حصل إمبارح في الفرح!؟
فأنبعث الرد من ورائها مباشرةً، بصوت أبيها عبد السلام يقول:
_حصل خير يا حبيبتي، شكرًا يا ام رفعت على تعبك ومجيئك لتهنئة بارك الله فيكِ.
فغمغمت المراة وهي تتهيأ للرحيل:
_دا الواجب يا عم عبد السلام، أفوتكم بعافية.
ألتفتت غرام إلى أبيها في تساؤل حذر، وقبل أن تنبس ببنت شفة، قال عبد السلام في صرامة:
_تعالي ورايا!
وتطلع الجميع إلى أثر غرام وعبد السلام وهم يأخذون ركنًا قصي للحديث، بينما مال زكريا على أذن أبيه هامسًا:
_أنا موافق على الزواج من غرام يا بابا.
وتهللت أسارير مختار وهو يلتفت له، قائلًا في لهفة:
_بجد يا زكريا بجد؟
فعمغم زكريا بإماءة من رأسه:
_بجد يا بابا، أنا فكرت ولقيت أن مفيش وحدة تستحق تشيل أسمي إلا غرام؟!
فضمه والده في شغف، وهو يقول مهللًا:
_حبيبي يا زكريا، انا هكلم عبد السلام ولو غرام وافقت يبقى نشبك.
ووجم يمان في صدمة، وتجهم المحيا، واكفهرت ملامحه، كان عسيرٌ عليه أن يقبل بزواج غرام لشخص مثل زكريا بعدما أستضافوهم وكان بينهم عيشٌ وملح.
أنَى يوافق على ذلك دون أن يشعر بتأنيب الضمير؟!
في ذات الآن كانت غرام تساءل أبيها:
_هو في ايه يا بابا أنا مش فاهمة حاجة!؟
فاحتواها عبد السلام بعينين براقتين، وهو يقول في هدوء:
_عمك مختار عايزك تسافري معاه تشتغلي في الشركة عنده..
وتلكأ وهو يتابع:
_وكمان هو…
صمت في حيرة عما يقول، لكن استحثته هي قائلة:
_وأيه؟
فغمغم سريعًا وهو يشيح بوجهه:
_طلبك لابنه زكريا.
فرددت غرام في دهشة:
_زكريا!
ونقلت بصرها إلى زكريا الذي تطلع إليها بدوره، واختلجت الأمور في نفسها، فرددت ذاهلة:
_زكريا!
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية عشق الغرام) اسم الرواية