رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل التاسع 9 - بقلم ندى محمود
(( ميثاق الحرب والغفران ))
_ الفصل التاسع _
وقعت أثر كلمة أبيه الأخيرة عليه كالصاعقة وسرعان ما تقوست ملامحه بسخط شديد وقال بنبرة رجولية مخيفة :
_ إيه اللي بتقوله ده يابوي .. أتجوزها إيه !
إبراهيم بنظرة قوية ونبرة رخيمة يحاول إقناعه :
_ مؤقتًا ياعمران تتجوزها وبعدين ابقى طلقها .. ولا أنت عاوزهم يقتلوك ياولدي
صرخ بأبيه منفعلًا :
_ يقتلوني لو أنا غلطت مع بتهم صُح ووقتها ابقى لازم اتجوزها واتستر عليها وادفع تمن غلطتي .. لكن لما أكون معملتش حاجة يبقى هما اللي يخافوا مني
تأفف إبراهيم بنفاذ صبر وقال في غيظ :
_ افهم الكلام زين وبلاش عند .. متستهونش بيهم ياولدي هما مش ساهلين برضك وأنا خايف عليك، اسمع كلامي وخليني اكلمهم واقولهم أنك هتتجوزها وتستر عليها مفيش حاجة غير دي اللي هتخليهم يهدوا بعد الصور اللي شافوها
التزم عمران الصمت وهو يشتعل من فرط الغيظ والغضب فتابع أبوه وهو يترجاه بلطف :
_ مفيهاش حاجة ياولدي لما تتجوزها كام شهر وبعدين طلقها .. عشان سمعتنا وعشان قيمتك وسط الخلق، اسمع كلامي ياعمران
مازال الصمت يستحوذ عليه وهو يفكر بما يقوله والده وحين تأنى في التفكير لدقائق شعر أنها فكرة ليست بكل هذا السوء فقد تكون فرصة سنحت له للانتقام منها على محاولتها لقتله .. سينقذ عائلته ونفسه من العار وسينتقم .
تنهد بقوة وقال في صوت غليظ يحمل في ثناياه غموض مخيف :
_ طيب يابوي موافق خلاص
ابتسم إبراهيم براحة وقال :
_ زين .. بكرا هروح واتكلم مع حمزة وجلال ومنصور عشان نفضوا الموضوع ده ونشوف هيتم الجواز ميتا
ضغط على كف يده بعنف حتى لا ينفجر من فرط الغضب .. بداخله يتوعد للجميع وبالمقدمة آسيا التي هي سبب كل هذه الأزمات .
***
اندفعت داخل غرفتها وهي عبارة عن جمرة مشتعلة من النيران.. رغم كل ما حدث لها وما فعلوه بها مازالت تهددها، تلك ساحرة لا يؤثر بها شيء وكأنها تتغذى على المصائب بل وتجعلها أقوى .. كانت تتوقع أنها حين تدخل غرفتها ستجدها ضمن عداد الموتى لكنها كالقط بسبعة أرواح ! .
ستظل تنتظر بقية العقاب الذي سيطولها منهم.. فهي لم تتلقى سوى الدفعة الأولى فقط من سطوة رجال العائلة .. عل المرة القادمة يكسّروا اضلعها كلها حتى تعجز عن الحركة تمامًا .
كانت كلها أفكار يملأها الغل والحقد تدور برأس خلود التي تقف أمام المرآة بغرفتها وبيدها قطنة صغيرة تمسح دماء رأسها أثر اصطدامها بالفراش ولسانها لا يتوقف عن السب واللعن على آسيا .. لكنها انتفضت بفزع والقت القطنة من يدها حين رأت باب الغرفة ينفتح وتدخل أمها التي فور رؤيتها لجرح رأسها صرخت وهرولت إليها تهتف :
_ إيه اللي عمل فيكي إكده يابت ؟!
تلعثمت ولم تعرف بماذا تجيب فإن اخبرتها أنها دخلت لغرفة آسيا خلسة وسرقت المفتاح من غرفة جلال حتمًا لن تسلم من توبيخها وربما عقابها أيضًا، فلجأت بآخر الأمر إلى الكذب كاسلم حل حيث قالت بنبرة عادية :
_ مفيش حاجة ياما ده أنا وقعت واتخبطت في راسي بس
إنصاف بقلق وتعجب :
_ وقعتي وين وكيف ؟
ابتسمت بتوتر واشارت على الفراش هاتفة بإيجاز لكي تتهرب من أسألتها :
_ في الأوضة إهنه وقعت واتخبطت في حرف السرير .. متقلقيش أنا زينة ده جرح خفيف
تطلعت بتمعن في رأسها فرأت أنه جرح بسيط بالفعل فتنهدت بارتياح وقالت في فضول ولهجة ماكرة :
_ متعرفيش حاجة عن عملة آسيا ولا هيعملوا فيها إيه ؟!
لوت فمها بقرف وقالت بغل :
_ لا معرفش أنا زي زيك .. ياكش يقتلوها ويريحونا منها
هتفت إنصاف باسمة :
_ أبوكي وجدك وجلال مش شايفين قصادهم من وقت ما عرفوا .. هاين عليهم يقتلوها صُح كيف ما بتقولي .. ياخوفي لحد يعملها فيهم !
همست لنفسها باشمئزاز وتمنى :
_ يارب يعملوها قريب
قالت عبارتها بينها وبين نفسها ثم اندفعت لخارج غرفتها تقصد الحمام حتى تغسل وجهها وتركت أمها بمفردها في غرفتها .
***
اعتدلت فريال في نومتها وهبت جالسة فور سماعها لصوت طرق الباب المصحوب بصوت عمران :
_ فريال أنتي صاحية ؟
ردت بصوتها الرقيق مبتسمة :
_ تعالى ياعمران
فتح الباب ببطء ودخل وهو يطالعها بابتسامة دافئة ثم اقترب منها وجلس بجوارها على الفراش ينظر لعيناها المتورمة من فرط البكاء بضيق ثم تمتم بجدية :
_ خير عاد إيه اللي حُصل خلاكي تسبيه وتاجي إهنه ؟!
اجفلت نظرها عنه وتمتمت بأسى :
_ ده اللي كان المفروض يحُصل من زمان ياخوي
ابتسم لها وقال ببعض السخرية موضحًا أنه لا يصدقها :
_ وراحت وين اللي كانت في المستشفى من كام يوم بتدافع عنه قصادي وبتقولي أنها بتحبه ومتقدرش تبعد عنه !
لمعت عيناها بالعبرات وقالت في صوت مبحوح :
_ ولساتني بحبه قوي ياعمران
عمران بعدم فهم وحزم :
_ طب أمال سبتيه ليه عاد ؟!!
لم تقوى على الإجابة واكتفت بالصمت ودموعها التي انهمرت بغزارة فوق وجنتيها .. ليتنهد عمران بقوة ويضمها لصدره في حنو متمتمًا :
_ طب متقوليش خلاص براحتك لما تهدي تبقى تفهميني اللي حُصل .. بزيادة بكا ياحبيبتي
هزت رأسها بالإيجاب ثم ابتعدت عنه وكفكفت دموعها مبتسمة لتقول بمرح غامزة له :
_ أمها دعيالها اللي هتكون من نصيبك ياخوي .. مهتلاقيش في حنيتك ولا حبك ليها
سكت للحظة وجال بعقله حديثه مع والده قبل أن يأتي لها فتجهم وجهه وأظلمت عيناه ليقول بوعيد :
_ قصدك داعية عليها
رمقته باستغراب وعدم فهم لكنه سرعان ما تدارك الأمر وابتسم لها وهو يملس على شعرها برفق متمتمًا :
_ قومي اغسلي وشك وصلي ركتين لله واقري شوية قرآن وهتهدي وبعدين نامي
اماءت له بالموافقة وهي تبتسم فاستقام هو واقفًا متجهًا لخارج الغرفة يتركها تتابعه بحيرة من عبارته التي تفوه بها .. لوهلة شعرت بالخوف من ملامح وجهه وعيناه حين ذكرت الزواج وزوجته المستقبلية ! .
***
بصباح اليوم التالي داخل منزل خليل صفوان تحديدًا بغرفة الصالون الكبيرة كان يجلس إبراهيم مع كل من حمزة ومنصور وجلال وهم يرمقونه بنظرات مميتة .. فقد سمحوا له بالدخول لمنزلهم فقط لأنه أخبرهم أنه لديه ما سيقوله وهو مهم وأنه وجد حلًا لتلك الكارثة التي اصابتهم هما الأثنين .
قال منصور ساخرًا بنظرة قاتلة :
_ إيه يا إبراهيم جيت للموت برجليك ؟!
تنفس مطولًا وقال بحزم :
_ محدش فينا عاوز موت تاني يامنصور .. ومحدش عاوز يخسر أحبابه
ثم التزم الصمت للحظة وتابع على مضض :
_ اللي صور الصور دي حد قاصد يأذيكم ويأذينا .. وأنا معاوزش دم ولا أنتو عاوزين الفضيحة .. عشان إكده أنا جاي اقولكم أن ولدي مستعد يتجوز بتكم ويصلح الغلط وكمان نبقى نفدنا احنا الاتنين من العار والفضيحة
استشاط جلال غيظًا وصاح منفعلًا :
_ ولدك يعمل عملته ويضحك عليها وبعدين يقول هتجوزها ! .. واحنا هنوافق بكل سهولة صُح !!
نقل إبراهيم نظره بين حمزة ومنصور منتظرًا منهم رد لكن الصمت كان إجابتهم فعاد ينظره لجلال وقال في جدية :
_ ده أفضل حل ياجلال .. قتلكم لولدي مش هيفيدكم بحاجة ومش هيداري على الفضيحة لا ده هيخلي الخلق كلها تعرف .. والعار هيلبسكم .. لكن الجواز هو اللي هيحل كل ده والموضوه هيتقفل وينتهى على إكده
انتصب منصور في جلسته وكان على وشك أن يثور عليه بعصبيته لكن حمزة قاطعهم وهتف بصوت مختنق وقلب منفطر :
_ عنده حق ياجلال ياولدي .. الجواز هو احسن قرار في الوضع ده، لو مدريناش على الفضيحة دي مش هنقدر نرفع راسنا قدام الخلق تاني
صرخ منصور بعدم رحمة منفعلًا :
_ يبقى نقتلهم هما الاتنين ونغسل عارنا بيدنا يابوي
ضرب حمزة بعصاه الغليظة على الأرض صائحًا بلهجة صارمة :
_ خُلص الكلام يا منصور .. وقولت الجواز هيتم
كان جلال يجلس ودمائه تغلي في عروقه .. فبرغم رفضه لتلك الزيجة إلا أنه لا يستطيع الاعتراض فما يقوله جده صحيح .. هو لن يستطيع قتل شقيقته مهما فعل ولذلك يجب أن يوافق على زواجها منه لكي ينقذ نفسه وعائلته من العار .
تنهد إبراهيم الراحة وشعر بالسعادة الداخلية ليقول بحزم :
_ الوقت اللي تحبوا الجواز يتم فيه احنا معاكم أن شاء الله لو بكرا
هتف حمزة بقوة بلهجة لا تقبل النقاش :
_ بكرا زين .. خلينا نخلصوا قبل ما حد يدرى بالموضوع .. بكرا تعالى وهات ولدك والمأذون عشان يكتب
لم يتعجب إبراهيم من استعجالهم بل بالعكس فهذا المتوقع .. ليتوقف أخيرًا وهو يومئ بالموافقة هاتفًا :
_ بالأذن ياحج حمزة
والتفت يسير تجاه الباب لكن فور مروره من أمام جلال قبض على ذراعه بعنف واوقفه هامسًا له بغل :
_ ولدك اتكتبله عمر جديد أحمد ربك أن قتله مش هيفيدنا بحاجة صُح وإلا كان زمانك بتجهزله كفنه دلوك
لم يجيب عليه واكتفى بنظرته المطولة والغاضبة لجلال قبل أن ينزع ذراعه من قبضته ويكمل طريقه لخارج الغرفة ومنها من المنزل بأكمله .
***
نهضت من فراشها واستقامت واقفة على قدميها حين سمعت صوت طرق الباب وقادت خطواتها ببطء تجاهه.. ثم فتحته بكل هدوء وإذا بها تقابل أولادها أمامها وهم يتطلعون إليها ببسمة حانية كلها شوق، اتسعت عيناها بصدمة وسرعان ما جثت على ركبتيها أمامهم وفردت ذراعيها لتضمهم لصدرها هاتفة بصوت بمحوح يغلبه البكاء :
_ حبايب قلبي .. اتوحشتكم قوى
هتف عمار باسمًا في دفء وهو بين ذراعين أمه :
_ وأنتي كمان ياما وحشتينا قوي
ابتعدت فريال عنهم وأخذت تتمعن النظر في وجهيهم وأناملها تتحرك بعفوية على شعرهم ثم همست في قلق وحب أمومي صادق :
_ طمنوني أنتوا كويسين .. بتاكلوا زين وفي حد ضايقكوا ولا لا ؟
خرج صوت معاذ وهو يهز رأسه بالنفي ويقول بجدية لا تليق على طفل أبدًا :
_ احنا بخير ياما .. بس جينا عشان ناخدك ونرجع بيتنا
ظهر العبوس على ملامحها وانطفأ بريق عيناها من جديد، فأخذت تتنقل بنظرها على معالمهم فرأت الحزن والتوسل في عين ابنها الصغير والضيق والإصرار في عين الأكبر، شعرت بغصة مريرة في حلقها وقالت بأمل :
_ أبوكم اللي بعتكم عشان تجيبوني ؟!
للمرة الثانية يهز معاذ رأسه بالنفي هاتفًا في صدق :
_ لا أبويا ملوش صالح احنا اللي جينا عشان ناخدك .. هو قالنا بس أنك هملتي بيتنا عشان زعلانة منه
أطرقت رأسها أرضًا محاولة السيطرة على زمام دموعها التي تجمعت بمُقلتيها وبعد برهة من الوقت رفعت رأسها لطفليها وسألتهم بشوق :
_ مقالكمش أنه هياجي ياخدني ؟
هنا تحدث عمار بدلًا عن أخيه الكبير وهو يهز بالنفي لأمه ويسألها بحزن :
_ هو أنتي مش هترجعي معانا ياما ؟!
رفعت أناملها تمسح الدموع المتجمعة في عيناها وحاوطت ابنها بذراعيه هاتفة في بسمة حانية :
_ مش هينفع ياعمار .. بس أنت وأخوك هتيجوا تقعدوا معايا صُح
علت ملامح الصغير اليأس وقال في جزع :
_ بس احنا مش بنحب نقعد إهنه ياما .. تعالي معانا ونرجع بيتنا ابوس يدك
ألم بسيط اخترق صدرها واستقر في قلبها بعدما أوضح صغيرها عدم رغبتهم في البقاء بمنزل جدهم معها، ونقلت نظرها بين عمار ومعاذ بلوعة، لتهز رأسها بالتفهم بعد وقت طويل نسبيًا رغم أن دموعها حصلت على حريتها أخيرًا لتنطلق فوق وجنتيها وقالت في خفوت مؤلم :
_ مش هقدر ارجع ياعمار دلوك .. خليكم أنتوا مع أبوكم لغاية ما ارجع طالما مش عاوزين تقعدوا في بيت جدكم إهنه
انزعج معاذ وقال بخنق :
_ بس ياما أاااا.....
اقتربت منه واحتضنت وجهه بين كفيها متمتمة ببسمة تحمل من الحب والدفء ما يجعل أي طفل ينصاع خلف أمه :
_ اسمع الكلام ياحبيبي وبلاش عند، أنت الكبير وأنا بقول عليك فاهم وعاقل .. ان شاء الله هرجع قريب لكن دلوك أنت مهمتك تاخد بالك من أخوك وتاجوني كل يوم عشان اشوفكم اتفقنا
غامت عين عمار بالدموع وراح يرتمي على أمه بين ثنايا صدرها يعانقها بقوة هاتفًا :
_ أنا زعلان منك ياما عشان هتسبينا وحدينا
لمعت عيناها بالعبرات مجددًا وضمت ابنها لصدرها أكثر متمتمة بلطف :
_ أنا مش هسيبكم وحدكم ياعمار بعدين أنتوا رجالة وميتخافوش عليكم وهتقعدوا مع أبوكم لغاية ما ارجع
قال معاذ بعين دامعة ووجه بائس :
_ يعني مش هتطولي ؟
فردت ذراعها الآخر وجذبت معاذ لصدرها أيضًا مجيبة عليه وهي تقبل شعره :
_ أن شاء الله مش هطول
سكنوا الطفلين بين ذراعين أمهم متلذذين بشعور يدها الناعمة وهي تملس فوق شعرهم بحب .. بينما هي فعيناها كانت لا تتوقف ذرف الدموع .
***
بعد مرور ساعات قليلة داخل منزل ابراهيم الصاوي كانت العائلة كلها متجمعة داخل غرفة المجلس الكبيرة بعدما طلب إبراهيم من الجميع أن يحضروا وينتظروه في الغرفة لرغبته في اخبارهم بأمر هام و كانوا جميعم يتبادلون اطراف الحديث باستمتاع فيما بينهم باستثاء إخلاص وفريال حيث كانت نظراتهم عالقة على عمران الصامت، عيناه تحدق في الفراغ بشكل مريب وملامحه شرسة ومخيفة، كأنه يجلس مجبرًا وفقط ينتظر وصول أبيه لكي يبدأ ويخبرهم وبعدها يغادر فورًا .
وقفت إخلاص وتحركت نحوه ثم جلست بجواره وانحنت عليه تسأله بقلق :
_ في إيه ياعمران .. هو أبوك عاوز يقولنا إيه وأنت مالك متعصب إكده ليه ؟
رمق أمه بنظرة قوية وقال مقتضبًا :
_ لما ياجي هتعرفي ياما عاوز يقول إيه الحج
ضيقت عيناها من أسلوبه الغريب وراحت تلتفت برأسها تجاه ابنتها ترمقها بعدم فهم لتهز فريال كتفيها بجهل مثلها وتشير لها بيدها أن تتركه وتعود بجوراها .. ففعلت مضطرة ونهضت لتعود إلى مقعدها من جديد وراحت تهتف بأذن ابنتها :
_ في حاجة كبيرة حُصلت يافريال .. أخوكي مش طبيعي وأبوكي مش هيجمعنا إكده إلا لو كان الموضوع كبير صُح
تنهدت فريال بخوف وهتفت :
_ ربنا يستر ياما أدينا مستنين أبوي لما ياجي ويقولنا في إيه !
ولم يدم انتظارهم طويلًا حيث وصل إبراهيم بعد دقائق ودخل ليجلس على مقعده في المنتصف وينقل نظره بينهم بدقة .. يرى نظرات الغضب والشر بعين ابنه عكس زوجاته وابنته يتملكهم الفضول القاتل، أما بلال فكان الخنق واضح على ملامحه وبشار وعبد العزيز كانت ملامحهم جامدة فقط ينتظرون معرفة ما يود اخبارهم به .
ليقول أخيرًا بعد تنهيدة طويلة وبعدما القى نظرة ثاقبة على عمران وبلال :
_ النهارده روحت لناس خليل صفوان واتكلمت معاهم عشان المشاكل الأخيرة اللي حُصلت حتى بعد ما عملنا الصُلح
قاطعه عبد العزيز وقال بحدة :
_ احنا علمنا الصُلح وخلاص ياخوي له إيه لزمة أنك تروحلهم تاني ولوحدك كمان !
تابع إبراهيم بثبات تام وصوت غليظ :
_ مكنش له لزمة ياخوي اخد حد منكم معايا هو موضوع بسيط واحنا اتفقنا ولقينا الحل لكل المشاكل دي عشان ننهيها واصل
نقل بشار نظره بين عمه وعمران باستغراب ليسأل :
_ حل إيه ده ياعمي ؟!
التزم إبراهيم الصمت للحظة ليجيب على ابن أخيه بحزم :
_ هننهي التار والمشاكل دي بالنسب
تبادلوا النظرات فيما بينهم بعدم فهم ليهتف عبد العزيز بنرة رجولية حادة :
_ نسب إيه تاني مش بزيادة نسبنا معاهم وبتك متجوزة جلال وأهي رجعلتك تاني عشان تتطلق .. عاوز إيه تاني يا إبراهيم !
أجاب على أخيه بكل بساطة :
_ بتي متجوزة جلال من قبل ما يموت خليل بسنين ومن زمان قوي وده ملوش صالح .. لكن النسب اللي هيحُصل دلوك هيكون لمصلحتنا كُلنا وهننهي بيه التار واصل
خرج صوت فريال من بينهم تسأله بترقب وقد توقعت ما ينوى فعله وتمنت أن يكون توقعها خطأ :
_ قصدك إيه يابوي !
أدرك إبراهيم أن ابنته أدركت قراره هو وأخيها فتنهد مطولًا وقال بصوت صلب لا يقبل الجدال :
_ يعني عمران هيتجوز بت خليل
اتسعت العيون في صدمة باستثناء بلال وعمران الذي كان الجمود يستحوذهم .. لكن فجأة صدح صوت إخلاص المرتفع وهي تهب واقفة وتهتف بعصبية :
_ ولدي مهيتجوزش الحرباية دي بت جليلة .. هي الحلول خلصت عشان تجوز ولدك للحرباية دي ما أن شاء الله عنه ما التار خُلص
ارتفع صوت إبراهيم الغاضب وهو يصيح :
_ جرا إيه يا إخلاص أنتي هتعترضي على كلام الرجالة ولا إيه .. الكل راضي وأولهم ولدك
إخلاص بعدم تصديق ورفض :
_ لا عمران عمره ما يوافق أكيد أنت اجبرته
اشتعلت نظرة إبراهيم تجاه زوجته وقبل أن يجيب أخيرًا ظهر صوت عمران القوي وهو يقول :
_ محدش جبرني على حاجة ياما وخلاص معدش له لزمة في الحديت ده دلوك .. الجواز هيتم بكرا
شهقت بذهول وراحت تضرب بكفها على صدرها هاتفة في عدم استيعاب :
_ يامري ! .. ليه ياولدي تعمل في حالك إكده وتوافق وتسمع كلام أبوك
هنا خرجت صرخة عالية من إبراهيم بعدما فقد السيطرة على انفعالاته :
_ وبعدين عاد هنعيدوا ونزيدوا في الحديت كتير .. اللي سمعتيه هيحُصل وخلص الكلام على إكده
توقف عمران واقترب من أمه ليحاوطها بذراعيه ثم يجذبها معه للخارج في لطف وهو يقبل رأسها هامسًا :
_ إهدى ياما خلاص
التزمت الصمت وانتظرت إلى حين مغادرتهم الغرفة وفورًا هتفت بغضب :
_ هتتجوز الحرباية دي وبكرا كمان .. أنت اتجنيت ياعمران كيف توافق !
عمران بهدوء تام ولطف :
_ ياما قولتلك معدش له لزمة الكلام ده دلوك .. كان لازم يحصل إكده مفيش حل تاني
إخلاص صائحة بسخط :
_ لا في هو معدش في حلول غير أنك تتجوزها يعني !
تأفف بعد حيلة ورد في جدية ونظرة حازمة :
_ بزيادة ياما خلاص عاد
التزمت الصمت مجبرة وسط نظراتها المغتاظة والمعاتبة له بينما هو فتركها وعاد للداخل من جديد ليكمل حديثه مع عمه الذي يحاول فهم كيف وافقوا بالتنازل عن حق خليل من أجل زواج .. لكن بالأخير اقنعه إبراهيم واسكته لكن بشار لم يقتنع وبقى ينقل نظره بين أبناء عمه يقرأ تعابير وجههم بشك واستغراب ! .
***
بقى عمران وإبراهيم فقط في الغرفة بعد رحيل الجميع .. وكان هو يتطلع لابنه ببعض الضيق فقال وهو يلومه بخنق :
_ كدبت على عمك والكل عشانك .. إكده مرتاح خلاص
نظر عمران لوالده بنظرة مهيبة وقال :
_ أيوة مرتاح .. طالما أنا قبلت باللي أنت عاوزه يبقى أنت كمان تقبل بشروطي يابوي
إبراهيم بلهجة تحمل الاستنكار :
_ ويعني هما مش هيعرفوا
عمران بغضب وصوت رجولي صلب :
_ لا محدش هيعرف يابوي .. مهما كان دي كلها كام ساعة وتبقى مرتي وأنا مرضاش أن حد يشوف الصور دي ولا يعرف حاجة عن اللي حُصل
اجابه إبراهيم بموافقة وتأييد لرأيه :
_ ماشي ياولدي أنت عندك حق هي هتبقى مرتك وأي حاجة تمسها هتمسك .. خلاص متقلقش محدش هيعرف حاجة
هدأت ملامح وجهه وارتخت ليقول بعدها بهدوء :
_ زين، أنا رايح العطارة عاوز حاجة مني
رفع يده بالرفض وقال :
_ لا معاوزش حاجة .. ابقى اتصل بيا لو الحج يوسف جه
اكتفى بإماءة رأسه بالموافقة واستدار ليقود خطواته لخارج الغرفة ثم لخارج المنزل بأكمله.. ليستقل بسيارته وينطلق بها .
***
داخل منزل خليل صفوان تحديدًا بغرفة آسيا بالطابق الثاني .....
كانت كامنة فوق فراشها تضم ساقيها لصدرها وعيناها عالقة على النافذة أمامها تتأمل السماء بوجه ذابل .. لم يتركوا لها شيء، داخلها مهشم .. دمروا كل ما تبقى من حب ورحمة بقلبها .. طمسوا تلك النقطة البيضاء بأعماقها، هي الآن طائر مجروح لا حول ولا قوة له لكنه ينتظر شفائه ليعود ويحلق من جديد في سماء الشموخ ليثأر لنفسه من كل شخص ساهم في كسره وسقوطه من أوج القوة .. ستحيا من رمادها مرة أخرى كالعنقاء .
سمعت صوت الباب وهو ينفتح لتدخل جليلة وتلقي عليها نظرة قاسية رغم حزنها على حالتها إلا أنها لم تسمح لعاطفتها بالتأثير عليها حيث هتفت بلهجة مرعبة :
_ جهزي حالك بكرا هتتجوزي اللي لطختي شرفنا وسمعتنا معاه
اتسعت عيناها بصدمة وفورًا التفتت برأسها لأمها تطالعها بعدم استيعاب لتهب واقفة وتسأل ببلاهة :
_ هتجوز مين .. عمران ؟!
جليلة بغضب وحدة :
_ أيوة هو في غيره ولا إيه !!
استحوذتها الدهشة لبعض الوقت ثم اقتربت من أمها تتوسلها بضغف لا يليق بها :
_ أبوس يدك ياما متخلهمش يجوزوني منه .. أنا معملتش حاجة والله العظيم .. مش هستحمل ادخل بيت إبراهيم الصاوي ولا اتجوز ولده اللي قتل أبويا
صفعتها جليلة على وجهها بعنف صارخة بها :
_ اكتمي متجبيش سيرة أبوكي .. لو كان عايش كان مات بحسرته على عملتك ال***، عاوزة **** معاه وكمان متتجوزهوش ده أنتي طلعتي فاجرة صُح .. ياكش ربنا ياخدك ويريحني منك
تقهقهرت للخلف بعينان دامعة يملأها العجز والصدمة مما تفوت به أمها وبالأخص دعائها الأخير عليها .. بتلك اللحظة ادركت أن كل شيء انتهى حتى لو ادركوا ظلمهم لها وأنها لم تكذب عليهم ولم تفعل ما يلوث شرفها واسم عائلتها .. لن تسامحهم وربما لن تفعل ابدًا ! .
أكملت جليلة بعدم شفقة وقلب منفطر من الألم على فعلتها الشنيعة :
_ احنا معدش عندنا بنات هيتجوزك وياخدك وتنسينا واصل
اكتفت بالتحديق بها مبتسمة بألم ودموعها تنهمر بغزارة فوق وجنتيها .. وكأن لسانها انعقد ولم تعد قادرة على الحديث فقط عبرت عن شعور الخزي والوجع الذي يستحوذها بابتسامتها المريرة .. وتابعت أمها وهي تستدير وتغادر ولم تنسى بالطبع غلق الباب بالمفتاح لتتركها حبيسة غرفتها مجددًا .. بالنسبة لها لا فرق ففي كلتا الحالتين هي حبيسة انكسارها وعجزها .
بينما جليلة فاندفعت تجاه غرفتها وهي تبكي بحرقة فاصطدمت بإنصاف التي اوقفتها وهتفت بتعجب :
_ حُصل إيه ياجليلة .. ليه بتبكي ؟!
كفكفت دموعها بسرعة وقالت في ثبات متصنع :
_ ملكيش صالح يا إنصاف بعدي عن خلقتي السعادي
انهت عباراتها وأكملت طريقها لغرفتها بينما الأخرى فظلت مكانها تحدق باندهاش من الإهانة التي تلقتها للتو على لسانها الفظ لتقول في غيظ وحقد :
_ صُح حلال فيكي أنتي وبتك اللي حُصل فيكم .. الحق على اللي يسألك ولا يبص في وشك
***
بصباح اليوم المشؤوم كما اسمته منذ أن فتحت عيناها وهي تدرك أن اليوم سيكون نهاية لكل حلم راودها وبداية لكابوس ربما لن ينتهي أبدًا.. سيلقون بها إلى الجحيم دون رحمة.. لم يقتلوها لكنهم اختاروا العقاب الأقسى وقتلوا روحها بدلًا من جسدها.. ليجعلوها تتجول حولهم كالأموات جسد بلا روح.
منذ وقت طويل نسبيًا والمأذون بالأسفل يعقد زواجها بحضور الجميع، يصدرون مرسوم موتها وهي تنتظر اللحظة التي سينفذ فيها الحكم.
ارتدت جلبابها الاسود ووشاح شعرها ثم ارتدت بالأخير نقاب من نفس اللون لا يظهر منه شيء سوى عينها؛ لكي لا تجعل أحد يرى جروح وتورم وجهها، رغم كل ما حدث ترفض الظهور أمام الجميع بمظهر الضعف الذي يثير الشفقة .
اخيرًا ارتدت حذائها وغادرت غرفتها كما طلبوا منها لكي توقع وتنتهي مراسم الزواج، كانت تقود خطواتها بثبات رغم عدم قدرتها على السير من التعب والألم، نزلت درجات السلم ببطء وعند آخره رأتهم كلهم مجتمعين والمأذون بالمنتصف وبجواره عمران الذي كانت ملامحه ممتلئة بالغل والخنق، ولم يكلف نفسه عناء النظر حين ادرك وصولها.
أكملت طريقها متحاشية النظر لوجه أي فرد من عائلتها حتى لا ترى النفور والغضب في عيناهم وحين وقفت على مقربة من المأذون سمعت صوت جدها المخيف وهو يأمرها بغضب :
_ اعملي كيف ما هيقولك الشيخ وامضي يلا
لم ترفع نظرها لجدها ولم تجيب فقط تقدمت ووقفت بجوار المأذون تستمتع لتعليماته وهو يشير لها على المناطق المطلوب منها التوقيع فيها، فأمسكت بالقلم وراحت تخط بالحبر الأزرق فوق الورق تكتب اسمها وعيناها غارقة بالدموع لكنها تشد على محابسهم مانعة إياهم من السقوط، وفور انتهائها من التوقيع سقطت دمعة حارقة رغمًا عنها عندما رأت المأذون يغلق الدفتر وقد انتهى من مراسم الزواج كاملة وأصبحت زوجة عمران الصاوي شرعًا .
تلفت المأذون حوله يتنقل بنظره على وجهوههم المكفهرة ورغم أن الأجواء يبدو أنها لا تستدعي إلا أنه قرر التفوه بها حيث نظر لعمران وقال بخفوت وصوت واضح عليه التردد :
_ مبروك !
................. نهاية الفصل ............
•تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية