رواية عشق الغرام الفصل التاسع 9 - بقلم ندى ممدوح
تأملت غرام بمقلتين مرتاعتين يمان وهو يقبل الطفلة في شغفٍ، ويلثم وجهها بقبلاتٍ متفرقة.
يا له من حنون أن كان أبيها!
ويا له من رجل أن لم يكن!
يا ويح فؤادها أن خسر..
صرفت بصرها إلى الفتاة الباسمة في سعادة مشرقت الوجه وهي تراقبه كيف يدلل ابنتها، ثم قالت في نبرة عتاب واضحة:
_تسبيح كانت مصممة تيجي تشوفك عشان تقولك إن بكرة عندها حفلة وأنت لازم تحضرها، وكانت زعلانة منك بسبب غيابك الطويل عنها بس غالبًا نسيت الزعل بعد ما شافتك.
انتزع يمان عينيه كي يحولهما إلى الفتاة التي توجه له الحديث، ثم تبسم لها في هدوء وهو يقول:
_تسبيح مش بتزعل مني أبدًا.
ثم أستدرك وهو يشير إليها بالجلوس:
_اقعدي يا هند أنتِ واقفة ليه؟
فأتخدت هند مجلسًا في صمت، ثم حدقت في غرام فبادرت غادة تعرفهما على بعض:
_غرام دي هند بنت عمي، هند دي غرام خطيبة زكريا وبتكون سكرتيرة يمان.
فنهضت هند لتصافحها، بينما راقب يمان الحوار الدائر بينهن في صمت، ثم استأذنت من يمان لتنصرف فسمح لها موافقًا، خرجت من المكتب غائرة العينين.
لا تدرك سببًا لهذا الضيق الذي اجتاحها وأطاح بفؤادها في مقتل..
فؤادها الذي أحست به يبكي في صدرها دون سبب.
أمازال خافقها حيًا بداخلها..
يا له من وجع لا يحتمل..
أستيقظت من شرودها على فتح باب مكتبه، وانبعث صوته ليسرى إلى أعماقها وهو يقول:
_خلاص كدا تسبيح هتقضي اليوم معايا وهرجعالك بالليل.
ورأت الصغيرة وهي تضم رقبته بذراعيها وقد سلمت رأسها إلى كتفه وهي مغمضة العينين فجزت على أسنانها في فضول، ولم تلاحظ رحيل هند ولا صوت غادة التي تهتف:
_غرام أنتِ يا بنتي مالك بكلمك.
فرمشت بجفنيها مجفلة، ثم نظرت إليها تقول في هدوء:
_نعم، كنتِ بتقولي أيه؟
غمغمت غادة موضحة:
_يمان خلص شغل وهيمشي هنخرج أنا وهو وتسبيح تحبي تيجي معانا؟!
ثم صاحت نافية في إصرار:
_القرار مش قرارك أنتِ هتيجي معانا اصلًا.. يلا.
فأختلست غرام نظرة إلى يمان الذي رفع بصره شطرها في ذات الآن، ولمحت بسمة مرت على ثغره، ثم أردف ليزيل الحرج عنها:
_ياريت تيجي معانا فعلًا.
ولم تشعر بتلك الابتسامة الواسعة التي ملأت وجهها تلقائيًا مع قوله، وقد أحست أنها تستطير فرحًا، وما كادت أن تلملم أشياؤها حتى كانت غادة تجذبها من مرفقها وهي تقول:
_يلا بينا.
أخذهن إلى حديقة الملاهي، وهنالك نست غرام نفسها، نست الواقع الذي تحياه، كانت في منأى عن البشر أجمع، وأصبحت في محرابه.
حين يبتسم في رزانة تظن أن الشمس قد أشرقت.
وإبان تلويحت يده إلى الصغيرة تودُ لو يلوح لها.
كان صديقًا يؤنس الروح، ويألف له القلب.
وتطمئن إليه النفس.
وبين الأجوحات أخذت هي وغادة يشاركن الصغيرة تسبيح كأنما عادتا صغيرتان، وأكلن المثلاجات بينما راقبت الصغيرة وهي تطعمه من حلواها.
كم هو جميل لا يكسر بخاطر أحد.
انتهى اليوم ولم تدرك أنَّى مرت الساعات بتلك السرعة الفائقة، وقد تمنت لو تطول أو تتوقف عقارب الساعة، تناولن طعامهن برفقته ثم أعادهن إلى البيت وذهب ليسلم تسبيح إلى والدتها، وقد علمت أن تسبيح قد توفى والدها وأن يمان هو من يسبغ عليها بحنانه فكان لها أبًا ثان.. لذا فالصغيرة تناديه بـ بابا يمان.
“أنسة غادة في حد ساب لحضرتك الطرد ده”
ألتفتت غادة إلى مصدر الصوت، ورأت الخادمة تقف في احترام، وبين يديها طردًا ما، فضيقت حاجبيها وهي تقول باستفهام حائر:
_متعرفيش من مين؟
فهزت الخادمة منكبيها، وغمغمت:
_لا.
فتبادلت غادة نظرة متسائلة مع غرام، ثم أخذت الطرد وفتحته بينما غرام تقول:
_يا ترى من مين؟
_هيبان دلوقتي!
قالتها غادة وهي تفتح الطرد، ثم شهقت في انبهار وهي تخرج فستانًا جميل كان قد راق لها آنفًا في إحدى المحلات لكنها لم تؤثر إقتنائه، ووضعته على جسدها وشرعت تدور به في حبور، وهي تتمتم:
_واو كان عجبني اوي بس مكش في مناسبة عشان أجيبه.
كان بامكانها أن تجيبه، فالمال لا يسبب لها مشكلة، لكنها لم تكن من ذاك النوع المسرف، ولا تقتني ما لا ترتدي.
أخرجتها غرام من شرودها وبهجتها وهي تساءل:
_مش مكتوب مين اللي بعته.
فتوقفت عن الدوران في جمود، وقد جهمت الملامح، واكفهرت.. وأستدارت إلى غرام وقد همها الخاطر، وراحت تُفتش عن أي شيء يدلها على المرسل، حتى وجدت رسالة كان مضمونها فقط اسمًا واحدًا علمت منه مرسل الطرد والهدية..
“يوسف نسيم”
نعم كانت كلمتين فقط في الورقة، بخط يد أنيق فكورت الورقة بين أصابعها وهي تطلع إلى غرام قائلة:
_من يوسف.
فقطبت غرام جبينها في دهشة، وسألتها:
_وهيبعت لك فستان ليه؟
لم تنبس غادة ببنتِ شفة لحينًا من الوقت، لم تكن أيضًا تعرف لما أرسل تلك الهدية، وهذا الفستان بالأخص، فتنهدت تنهدًا عميقًا وهزت كتفيها في حيرة، ولملمت الفستان لتعيده داخل علبته وهي في حيرة من أمرها.
والفستان لم يكن إلا البداية.
ففي صباح اليوم التالي أيقظها طرقٌ على باب غرفتها، تلاشى على إثره كل ذرة من سبات، وأزاحت الغطاء الخفيف عنها في حنق، ثم صاحت في ضجر:
_دقيقة وحدة.
وفتحت الباب فوجدت الخادمة تمد لها يدها بباقة ورد رائعة الجمال خلبت عينيها، فتناولتها منها وهي تردد:
_الله.. من مين دي؟
فردت الخادمة في هدوء:
_معرفش مين باعتها لحضرتك، بس وصلها حد وقال إنها للأنسة غادة.
أومأت غادة برأسها وأوصدت الباب وراءها وهي تدلف لتجلس على طرف فراشها تستنشق أريج الورد، وتضم الباقة إلى صدرها، ثم سقطت عينيها على ورقةً ما، ألتقطتها في لهفة وفتحتها بأعين مفعمة بالشغف لتجد فيها.
(إلى عزيزتي غادة أحبك)
التوقيع كان (يوسف نسيم)
وشردت عينا غادة في الفراغ بلمعة تتلألأ، وقد تسللت بسمة جميلة على ثغرها.
يا له من رومانسي!
ويبدوا أنه لن يهدأ له بال حتى ينال حبها؟
أترآه يحبها لهذا الحدّ؟
**********
وفي تلك الليلة تأنقت غرام بفستانٌ جميل أهداه لها مختار بمناسبة الحفلة التي تُقام والتي يجب عليها أن تحضرها لسببين.
إحدهما بسبب أنها خطيبة زكريا.
والسبب الآخر لأنها سكرتيرة يمان.
وأعتذرت غادة عن الحضور لإصابتها بحمى مفاجئة أرقدتها في فراش المرض بإعياء.
كانت تهبط الدرج بينما ينتظرها الثلاث رِجال ببذل ذادت من وسامتهم في صحن الدار، تجولت نظرات زكريا على جسدها في تأنٍ وشهوة كأنما يجردها من ملابسها، نظراتٍ لمحتها غرام واسترابت منها دون شك، فضمت جسدها بذراعيها، بينما رمقها يمان بنظرة خاطفة ثم غض الطرف عنها، أما قلبه فلم يغض، إنما قد أسرته بطلتها.
وفتح مختار ذراعيه وهو يقترب من الدرج، مهللًا بوجهٍ مستنير:
_أيه الجمال ده كله.
ثم ضم وجهها بين راحتيه في حنو، وقبل جبهتها بعاطفة أبوية، وهمس بصوت يقطر بالصدق:
_ربنا يحفظك يا حبيبتي.
نكست غرام رأسها في حياء كان يخلب قلب يمان، بينما يحنق زكريا.. ثم توجهوا جميعًا إلى السيارة التي قادها يمان إلى صالة الحفل المقام.
والحفل كان مختلطًا ما بين رِجالٍ ونساء، ولم تكن غرام تعرف أي أحد من الحاضرين، لم تكن قد كونت صداقات مع موظفين الشركة بسبب شخصيتها التي تجنح إلى العزلة، تجولت بعينين ضجرتين ما بين الوجوه في وجوم عابس لم يروق لها الحال، وودت لو ترحل سريعًا، وما زاد الطين بلة، هو أن يمان قد استأذن منهم وانصرف ليقف إلى بعض الرجال، هنالك أحست بالأمان يتسرب من بين يديها..
وأنها في مكانٍ مكشوف لا يوجد ما يسترها..
وضاقت بها نفسها، وقد أضناها رحيله، وفجأة وجدت رجال يأخذون عمها مختار الذي قال موصيًا:
_خلي بالك يا زكريا من غرام ومتسبهش.
والأحق فهو أراد أن يترك لهما مساحة بالحديث بمفردهما بحسن نية.
أجتاحها توتر سرى في أوصالها مع نظرات زكريا المصوبة نحوها بكل دقة وإمعان، فراحت تتلفت حولها لتشغل نفسها عنه، وتجنب عينيها رأيته المربكة، لماذا لا تشعر بالأمان في حضرته؟!
لماذا حين يكون موجودًا يملأها خوفٌ عظيم؟
كانت مقلتيها تفتشان عن يمان بين الوجوه، لماذا أختفى بغتة لا تدرِ وهذا الخاطر يجعل قلبها واجفًا راجفًا.
أن فقط رأته قريبًا كان سيكفي ليسكن رجيف قلبها.
تنبهت من شرودها على صوت زكريا الذي قال وهو يدّس كفيه في جيبيّ بنطاله:
_تحبي أجيب لك حاجة تشربيها!
فهزت رأسها نفيًا، وغمغمت:
_لا مش عاوزه أشرب حاجة.
هز زكريا رأسه دون أن يعقب، وغابت عيناه في متابعة أجساد النساء، راقبت غرام شابًا كان قريب منهما يتجرع بما بدا لها بالخمر يقترب منهما فتوجست خيفة في نفسها، وأحست بالخطر، قال الشاب الذي دنا منهم لزكريا وعينيه على غرام:
_أيه يا زكريا محدش شايفك ليه؟ مش هتعرفنا؟
ودون اكتراث غمغم زكريا في بساطة:
_دي غرام خطيبتي وغرام دا علي الحاوي.
مد الشاب يده إليها، وقال:
_تشرفت بحضرتك.
فضمت غرام أصابعها وهي ترتد خطوة إلى الخلف، وزاغ بصرها بحثًا عن يمان، بينما تمتم زكريا في برود:
_مالك ما تسلمي عليه؟!
فحوَّلت بصرها إليه في حدة، ثم أعادة البصر إلى الشاب الذي قال بنبرة متسلية:
_أنتِ مش شايفة أيدي الممدودة ولا أيه؟
_معلش أصل في أيادي أوقات مبتبنش من وسخاتها.
قالها يمان وهو يقف قبالة علي في تحدٍ ونبرة تنذر بالشر، فتراخت كف علي وتهدلت بجانبه ثم زم شفتيه وقال في ضيق وقد أبتلع الإهانة بإرادته:
_تمام.
ثم أنصرف، بينما أستدار يمان إلى زكريا قائلًا:
_غالبًا معدش في نخوة عند بعض الشباب ولا أيه؟
فأشاح زكريا البصر عنه وهو يهتف بضيق:
_خليك في نخوتك أنت.
كانت غرام قد عادت لها ثقتها في نفسها عندما جاء، وهدأت نفسها وسكن وجيف قلبها المتصاعد، وأحست بالارتياح، وشعرت بطائر الطمأنينة يدخل إلى قلبها ليحلق هناك في أمان في سماء لا خوف فيها ولا هياب.
غاب زكريا بعد ذاك عنهما متابعًا فتاة سلبت لبه ثم أبتعد ليبقَّ قريبًا منها، في حين كان يمان يسأل غرام في اهتمام:
_أنتِ كويسة؟
فأومأت له بعينيها المسبلتين، وهمست بصوتٍ خفيض:
_أيوة الحمد لله.
فأشار إليها إلى مققعد عن كثبٍ منهما، وقال بنبرة آمرة:
_طب تعالي اقعدي هنا.
وأذعنت لطلبه في رضا تام، وسارت بجانبه لتجلس حيث أشار، ثم استئذن منها بعدما طمئنها أنه سيبقَّ قريبًا منها ولن يبتعد.
وظلت غرام جالسة في سكون شارد وهي تتابع حركة الحاضرين بغياب ذهن، فجأة حدقت بعينيها إلى ما أصابها بذهولٍ شديد، وقد ساورتها الشكوك.
فأمامها كان زكريا يخرج برفقة فتاة ترتدي فستانٌ ضيقٌ قصير لا يتعدى ركبتيها، ويغادر الحفل دون حتى أن يخبرها بذلك، وقضت الحفلة ذاهلة يأكل قلبها القلق، وتراودها الأفكار البشعة.
أيمكن أن يكون زكريا على علاقات ببناتٍ غيرها؟!
أتراه بتلك البشاعة!
فغرت فاه وابتلعت صرخة كادت تمزق أوتار قلبها مع الخاطر الأخير، وتداركت دموعٍ علقت في آماقي العين.
عندما عادوا إلى البيت لم تظهر لأحد ما يجول في خاطرها، لكن يمان قد شعر أنها لست بخير.
وكيف أحس بذلك لا يدرك؟!
ثمة رباطٌ ما يربطه بتلك الفتاة يحثه على حمايتها.
لم ترقأ من عينيها دمعة تلك الليلة وهي تحاول النوم، الذي أبَى أن يزور جفنيها قط، فظلت شاردة تنظر إلى سقف حجرتها وحوافر الهم تنبش في راحتها، فظلت مسهدة، حتى تناهى لها قبيل الفجر صوت مكابح سيارته، فحسمت أمرها بعد تردد دام لبرهة ثم خرجت من غرفتها وهي تناوي مقابلته والمواجهة.
نعم ستواجه؟!
ستسأله عن الفتاة التي خرج معها؟! وعن علاقته بها، وبمن تكون!
وكان زكريا يترجل من سيارته مترنحًا، وسار للداخل بقدمين تتخبطان، وفجأة فغر فاه وابتلع صرخة كادت تمزق سكون الليل عندما تعثر في شيئًا ما لا يعرف كنهه، فوضع سبابته إلى فمه بالصمت ثم أطلق قهقه عالية وهو يتدارك جسده قبل أن يسقط أرضًا، وتوازن مرة أخرى وهو يتابع السير في حذر شديد، متسللًا على أطراف أصابعه.
كان يريد أن يخفي تلك النائبة عن والده؟!
لكن الليلة قد تناسى نفسه فأسرف في الشرب.
وتذكر كيف ترصد والده حتى تأكد من أنه لا يراه،ثم خرج برفقة الفتاة التي تعرف عليها ليذهبا إلى إحدى الملاهي الليلةالصاخبة، وهناك شربا خمرًا حتى أصابهما السكر، ورقصا معًا وتناسى هو غرام.
وكل شيءٍ آخر.
عدا متعته..
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية عشق الغرام) اسم الرواية