رواية وبها متيم انا الفصل التاسع عشر 19 - بقلم امل نصر
– صاحية عندك بتعملي ايه دلوقتي؟
سألها مجفلاً بعد أن ايقظته برودة الفراش بجواره وقد خلا منها، ليجدها الاَن هنا، في شرفتها جالسة بشرود، وكأنها غابت لعالم اخر، حتى أنها لم تشعر بوجوده، سوى بعد أن بادرها بالحديث، إلتفت إليه مغتصبة ابتسامة لتخفي اضطرابها قائلة:
– معرفش يا قلبي، بس لقيت نفسي صحيت وبتقلب كتير، خوفت لازعجك، قالت اجي هنا اشم هوا نضيف واستنى الصبح يطلع .
قطب مضيقًا حاحبيه ليجلس جوارها يقول باستغراب:
– اه بس انتي مش شايفة ان الوقت بدري اوي ع الصبح، دا الفجر لسة مأدنش يا نور، والضلمة مالية الدنيا؟
– عادي يا حبيبي، ما هو الفجر مش باقي عليه كتير، دا غير ان الجو هنا برضوا جميل، دا كفاية الهدوء.
تكتف بذراعيه ينقل بنظره نحوها ونحو الحديقة التي مازالت مصابيح انوارها مضيئة حتى الاَن، مع شعوره ببرودة قاسية بعض الشيء تجعله يتسائل داخله عن وقت مجلسها بعد هذا الشرود الذي وجدها عليه، فقال:
– انا حاسس ان الجو هنا ساقع، هو انتي مش حاسة بكدة؟
وكأنه قال ليذكرها ، مررت بكفيها على ذراعيها، توافقه :
– اه تصدق صح، هي فعلًا في الوقت ده بتبرد .
قطب بزيادة من حيرته ليعود للداخل، يتناول لها شيئًا ما تضعه على كتفيها، رددت بامتنان:
– متشكرة أوي يا حبيبي، متحرمش منك، بس انت هتفضل رابط نفسك هنا جمبي، ما تدخل كمل نوم.
مسح بسبابته على طرف أنفه يجيبها:
– لا ما انا كمان خلاص النوم طار مني، هقعد جمبك شوية على ما يجي الفجر واصليه.
أومأت بهز رأسها لتعود للنظر للأمام مرة أخرى فتابع سائلًا لها:
– ايه أخبارك مع الدكتورة يا نور.
التفت إليه بنظرة مفهومة إليه، ف استطرد بحماس:
– جاسر بيشكر فيها اوي، وبيقول انها لها فضل كبير عليه بشفا زهرة من خوفها .
تنهدت بتفكير، متيقنة من عقم الجدال معه في هذا الامر الثقيل على قلبها، فقالت بابتسامة خاوية:
– كويسة وجميلة كمان، كل كلامها زوق واكنها بتراضي عيلة صغيرة، مش واحدة كبيرة فاهمة الاعيبها.
– وايه هي الاعيبها؟
– قصدي يعني انها خبيثة، تسأل السؤال في ناحية، وهي بتجرجرني لناحية تانية خالص.
– وانتي مش عايزة تتكلمي صح؟
أجفلها بسؤاله، فقالت بارتباك:
– لأ يعني…..،بس….. اصل انا هتكلم في ايه مثلا؟
يبدو أنها لم تحسن الرد مع انتباهها لهذه النظرة التي يرمقها بها الاَن، وكأنها تغوص بداخلها، تستكشف ما يدور بعقلها، لتزيدها توترًا وخوف، اشاحت بوجهها عنه، علٌه يمل ويبتعد بنظره هو الاخر، ولكنه فاجئها بقوله:
– حاولي تستجيبي مع الدكتورة يا نور، عشان خاطري على الاقل .
قالها وانتفض ناهضًا أمام عينيها يردف:
– انا رايح اراجع على بعض الملفات، اهو استغل الوقت بدل القعدة.
ابتلعت ريقها تتابع خروجه بأسف وتأثر لحالته، يؤلمها الحزن في عينيه، يؤلمها ان يظل متوقفًا عن تقدمه في انتظارها، وهي لا رجاء منها، تعلم بذلك، بل تكاد تكون متأكدة.
❈❈-❈
عاد أمين صباحًا بعد أن انتهى من ورديته الليلية في القسم، ليفاجأ بشبح احد الأشخاص جالسًا بالشرفة التي تتوسط الصالة، تقدم بخطواته وقد عرفه من ظهره:
– صباح الخير يا ابو علي.
رفع رأسه الأخير يجيبه بجمود:
– صباح الخير.
استند امين على إطار مدخل الشرفة يخاطبه:
– مش بعادة يعني تصحى بدري
بصوت مختنق:
– انا منمتش اساسًا، حاولت كتير لكن مفيش فايدة
زفر امين ليترك محله متناولا الكرسي الأخر كي يجلس بجوار شقيقه وامامهم أصايص الزهور التي تزرعها والدتهم، عبقت الأجواء بالروائح الزكية، كما ساهمت الألوان المختلفة لها مع الخضرة لتخلق مشهدًا يسر العين ويشرح القلب، ولكن هذا في وقت آخر، ليس الاَن والرأس مشغولة بما يقلقها.
تطلع أمين نحوهم ونحو شقيقه الواجم ليربت بكفه الكبيرة على ركبته بدعم قائلًا:
– بتحصل كتير يا ابو علي، بتحصل كتير، دا انا احيانا بقعد باليومين مطبق، حتى ولو كنت كان طالعان عيني في الشغل.
– ليه بتفكر انتي كمان؟
سأله حسن بقصد، تبسم له شقيقه قائلًا بمشاكسة:
– قصدك يعني بحب زيك؟
برقت عيني حسن بحدة، ليقول بانفعال:
– انا قولت اني بحب، انا بقول تفكير، هو انت دماغك دي دايمًا تحدف شمال.
اطلق أمين ضحكة مدوية ليقول بمرح:
– يا عم الحج بقولك حب، ايه جاب الحب الطاهر اللي هو فطرة ربنا للشمال، ايه يا ابو علي ما تركز كدة.
عبس الاَخير ليُشيح بوجهه عنه بضيق صامتًا، ليتأمله أمين قليلًا باستمتاع، هذه اول مرة يجده على هذه الحالة، حالة الشرود المحببة للعشق، حسن الواقعي المحافظ بمعنى أصح، كان لا يعترف بالمشاعر ولا التأثر حتى بالافلام الرومانسية، حسن الغاضب الاَن ذو القلب الأخضر، يقع اخيرًا وتحرقه نار اللوعة على المحبوب.
نهض فجأة يبتاغته بقبلة فوق رأسه قائلًا:
– اطمن، ان شاءالله هتكون بخير .
انتفض حسن يسأله:
– مين دي اللي هتكون بخير؟ انت بتتكلم عن مين؟
اطلق أمين ضحكة رنانة أخرى ليقول ساخرًا وهو يترك الشرفة:
– قطة الجيران، قصدي على قطة الجيران يا بشمهندس يا حيران.
اكمل ضاحكًا وهو يغادر ليغمغم حسن خلفه بالكلمات الحانقة، قبل أن تفاجأه مجيدة بظهورها أمامه فجأة، بحجاب الصلاة الكبير، ونظارة القراءة على عينيها بعد أن انهت وردها من قراءة القرآن، لتخاطبه بابتسامة:
– غلس عليك الواد ده زي عادته، عامل فيها جامد الباشا، لكن اطمن يا حبيبي، قريب اوي هتفرح فيه.
فكر قليلًا في العبارة، قبل أن يرد بإنكار واضح ليدعي عدم الفهم:
– افرح فيه ليه؟ هو انتي كمان هتتكلمي بالالغاز يا ماما؟
فجأة تبدلت ملامحها من ابتسامة شاردة، لشراسة بغضب، وعقبت بغيظ ضارب بكفها فوق الأخرى المستندة على بطنها:
– احنا برضو اللي بنتكلم بالالغاز، ولا انت البعيد اللي عاملي فيها من بنها وانت اساسًا مفضوح .
تمتم مجفلا بأعين توسعت بذهول:
– انا مفضوح يا ماما!
– اه مفضوح، واتنيل على عينك بقى واسكت عشان انا اتعصبت منك ومن خلقتك اللي أصطبحت بيها دي على أول الصبح، جاتك القرف، ماشية وسايبهالك، وانت بقى خليك في استهبالك ده.
بصقت كلماتها وما ان همت لتستدير إلا وقد وجدته يوقفها، ممسكًا بمرفقها يستجديها بعينيه قائلًا:
– مش هستهبل يا ماما، بس انا قلقان عليها ونفسي اطمن.
تبسمت بحنان الأم تضمه إليها، لتقبل وجنته قائلة:
– ان شاءالله ربنا هيطمن قلبك عليها، كلنا بتيجي علينا اوقات بنضعف فيها ونقع كمان، ورغم ان مش كل الناس بتقدر تقف من تاني، لكن انا بقولهالك اهو، شهد قوية وهتقوم.
❈❈-❈
تسير هائمة، تسير واجمة، لا تعرف إلى أين وجهتها، تخطو بقدميها داخل شوراع ومناطق لا تعرفها ولكنها ليست بغريبة عنها، أو دخلتها قبل ذلك ولا تتذكر تابعت في السير حتى توقفت أمام المبنى الغير مكتمل ولكنه كان كخلية نحل بالبشر التي تعمل على إكماله،، وقعت عينيها عليه، لقد عرفته من ظهره، واقفًا بطوله المهيب، يشرف على العمال كعادته، بجلبابه البلدي الذي يظهر بقوة عرض منكبيه، انه هو المثال الأوحد للرجولة الكاملة في نظرها، اسرعت بخطواتها حتى تصل اليه، فاجئها بأن التف إليها بابتسامة انارت وجهه الخشن الأسمر الجميل ليبدوا كالقمر بضيائه، لقد اشتاقت إليه بشدة، اشتاقت إليه بألم، ألم قبض على قلبها بلوعة وهي تتمتم بعدم تصديق:
– أبويا، انت جيت يا بويا؟
ظل بابتسامته الساحرة حتى اقتربت منه وهي على وشك البكاء لاهثة تردد:
– يعني انت عايش مامتش، إنت عايش وشغال اهو، طب كنت فين، ومبتسألش ليه يعني؟ ليه يا بويا؟ دا انت واحشني أوي، وانا محتاجالك اوي، أكتر من أي وقت، انت ساكت ليه؟ ما ترد عليا وكلمني.
لم يجيبها بل أشار بعيناه نحو ما يزين رسغها، نظرت إلى ما يشير إليه، لترفع يدها قائلة بلهفة:
– دا الإنسيال بتاعك، عمري ما قلعته من ايدي، دا اللى جيبتهولي في أول يوم دخلت فيه الجامعة لما كنت فرحان اني بحقق حلمك،
انا دلوقتي بلمسه وقت الخوف عشان استمد منه الأمان في غيابك عني، دا هديتك اللي احافظ عليها بعمري.
فاجئها بأن تناول كفها وقام بلف واحد اَخر، تطلعت إلى الجديد بلمعته الزاهية تقول بابتهاج يغمرها وهي تتفحصه باهتمام:
– دي هديتك الجديدة ليا يا بابا، وفيه قلب هو كمان زي القديم، لكن…. أمال فين الكلمة اللي معاها؟ فين أبوها عشان تبقى قلب ابوها؟
قالت الأخيرة لترفع عينيها إليه، فوجدته تبدل لشخص آخر، ولكن بنفس ابتسامة أبيها شهقت بهلع مرددة إسمه:
– حسن!
انتفضت مستقيظة بإجفال .جعلها تفتح عينيها بتوسع، لتطالع المكان حولها، في الغرفة التي ليست غرفتها، ولكنها ليست بغريبة عنها، تتأرجح مقلتيها يمينًا ويسارًا في طريق استعادت وعيها. وكأنها عادت إلى الحياة مرة أخرى، هتفت رؤى بفرح وهي تلقي بنفسها عليها:
– أخيرًا صحيتي حبيبتي؟ حمد الله ع السلامة يا قمر.
تلقت شهد قبلات شقيقتها بحالة من التيه، لتتمتم سائلة”
– يعني انا كنت نايمة؟
– كنتي نايمة؟! دا أنت بقالك يومين يا شهد موقعة قلوبنا من الخوف عليكي، قومي الله يخليكي، قومي عشان مترجعيش للنوم تاني.
قالت الأخيرة وهي تنهضها عن الفراش لتجلس بجذعها، غمغمت شهد بضيق وقد بدأت تدرك بما تعلمه مسبقًا عن حالتها:
– براحة شوية يا رؤى انا راسي لسة تقيلة…… دا غير اني خلاص فوقت مش محتاجة مساعدتك يعني .
تبسمت رؤى بفرح لعودة شقيقتها إليها بغضبها وحنقها، انفاعلها وعصبيتها، المهم أنها قد عادت، عادت إليها.
نهضت فجأة تقول بلهفة:
– انا هروح افرح لينا وطنت أنيسة، دول على اعصابهم والله.
اومأت لها شهد برأسها بتفهم، وقد استعادت ذاكرتها كل ما سبق غفوة نومها الثقيل، ورغبتها ان تبتعد عن المنزل ومصدر الضغط عليها، ثم هذا الحلم الغريب الاَن، برؤية والدها، ثم هذا المدعو حسن، كيف لوالدها الذي أوجع قلبها بالاشتياق إليه، أن يتبدل بحسن؟ كيف؟
❈❈-❈
سألتها الطبية وقد أتت إليها اليوم وحدها بدون رفقة تعاونها كالمرتين السابقتين:
– يعني مفيش زهرة ولا كاميليا المرة دي، جاية باختيارك النهاردة يا نور، ولا برضوا تحت ضغط من جوزك؟
– مش فارقة، سواء برضايا أو بضغط من جوزي مش فارقة، المهم اني جتلك يا دكتورة.
قالتها نور لتتكتف بذراعيها، تبدي عدم الاكتراث، طالعتها الطبيبة بابتسامة قائلة:
– زي ما تحبي يا نجمة، انا المهم عندي اني شوفتك النهاردة، وكفاية اوي انك ادتيني جزء من وقتك.
بادلتها نور بابتسامة باهتة، تقول:
– مش لدرجادي يعني، انا اخري ممثلة لكن انت دكتورة وأفيد مني للبشرية.
– طيب مدام معترفة اني دكتورة، ممكن بقى تهاوديني المرة دي، وتطلعي تريحي ع الشيزلونج.
تطلعت نور نحو ما تشير إليه الطبيبة، باضطراب وتوتر تردف:
– بس انا مش مجنونة أو عندي حالة نفسية اشتكي منها عشان ارغي واحكي، قدامك اهو، شايفاني ايه؟
– لأ يا نور، انتي مفكيش أي حاجة م اللي انتي بتقوليها دي، ودا موضوع محسوم، بس ممكن بقى تطاوعيني، واعتبرها فضفضة، ولا انتي لسة مش مرتحالي؟
نفت بهز رأسها بحرج، لتخرج تنهيدة مثقلة وطويلة، قبل أن تحسم وتستلقي بتحفز، ف نية الاسترخاء وافراغ ما بقلبها هي اخر شيء قد تقدم عليه.
حينما جلست الطبيبة بجوارها وسألتها في البداية عدة اسئلة بسيطة، ف التمست عصبيتها في الردود، تابعت بتريث معها علّها تفصح ولو بجزء هين إليها :
– يعني انتي شايفة ان جوزك يستحق الخلفة بالجواز عليكي، ومستعدة تضحي بالقبول بالضرة عشانه.
ابتلعت بتوتر تدعي التماسك في قولها:
– ايوة طبعا متقبلة، انا مستعدة اقبل بأي حاجة في سيبل اسعاده، حتى لو جه الحل على حساب سعادتي وحبي ليه.
– بس هو مش موافق يا نور، وشايف ان اقتراحك مبالغ في مثاليته لدرجة الغباء، خصوصا وهو متأكد ان العيب مش منك.
– لأ مني.
– ازاي يا نور؟
– من غير ازاي؟ انا واثقة م اللي بقوله
وايه اللي يخليكي واثقة اوي كدة.
– عشان كنت متجوزة قبله وحملت من غيره.
قالت الأخيرة بعصبية وكأنه خرجت على غير إرادتها، ليسود الصمت لعدة لحظات من الوقت ثم تابعت الطبيبة بسؤالها :
– حملتي قبل كدة ومع ذلك بتنكري انك تخلفي؟!
اعتدلت بجزعها تقول بعصبية:
– ايوة عشان حصل مع كمال مرتين ومحصلش مع مصطفى، حصل في جواز مكملس ٣ سنين، ومع جوازي بمصطفى اكتر من سبع سنين وبرضوا مفيش، حصل مع اللي كنت بكرهه ، لكن مع اللي بحبه لا….
توقفت شاهقة بملامح متغضنة، تطالع الطبيبة برعب قبل أن تخفي ملامح وجهها، وكأنها نادمة على زلة لسانها.
قالت الطبيبة باستفهام:
– كمال دا اللي هو جوزك الاولاني واللي كنتي بتكرهيه، طب و…..
– أنا قايمة….
قاطعتها تنهض بعنف متناولة حقيبتها، لتخرج، ولكن الطبيبة اوقفتها:
– ياريت تحضري الجالسة اللي جاية، واوعدك اني مش هضغط عليكى في الأسئلة.
❈❈-❈
بنسخة أخرى من المفاتيح غير التي يمتلكها زوجها، فتحت باب الشقة السرية، لتدلف بقرف، تتأمل الأثاث العصري المختلف بكل قطعة عن الأخرى، بفوضوية لا تمثل شخصيته الظاهرة للعيان على الإطلاق، تتلاعب بسلسلة المفاتيح وخطواتها تسير بتأني وتفحص دقيق، الشقة نظيفة ومعطرة ومرتبة، زوجها العزيز يواظب على دفع الخدم في رعايتها، الخائن يرعى المكان الذي يخون به، أكثر ما يرعى ابنه، الذي يرسله لوالدته، ويحرمها هي من حق الاعتراض في استحواز المرأة على الحفيد.
تنهدت بحريق بما يعتمل بصدرها، لتواصل الضغط على جرحها، بتقدمها والدخول لغرفة النوم، هذه الغرفة التي شهدت على مغامراته وجوالاته قبل الزواج بها وبعده، على هذا التخت كان يخونها مع جيرمين، وهي وضعت له الكاميرا لتسجل ما يفعله، ثم اخذتها حجة لتبعد المرأة عنه، وظنت بعدها ان الصفحة قد طويت، مع مراقبتها له لمدة طويلة من الوقت، وقد شغلته الشراكة مع عدي عزام عن اي شيء آخر، ثم ها هو الاَن وقد عاد إلى عادته القديمة مرة أخرى، ترى هذه المرأة كانت إليه ليلة وانتهت أم انها قد تكون مثل جيرمين، ولابد من اقتلاعها بالتهديد بفضيحة هي الأخرى، ولكن هذه أجنبية، وامر الفضيحة لن يعنيها بأكثر من فض الشراكة.
تصاعد سعير النيران برأسها، فقد فاض بها ومن ملاحقته وملاحقة عشيقاته، فاض بها أن يهين أنوثتها بالنظر إلى غيرها، فاض بها أن يستكثر عليها وفاءه، وهي التي دفعت من أجله الكثير، وخسرت اقرب الناس إليها بسببه.
اهتز هاتفها فجأة بيدها، لتجده رقم غير مسجل، فتحت بتوجس:
– ألوو.. مين معايا؟
– داخلة برجليكي الشقة اللي خانك فيها؟ طب ما كنتي استني لما تظبطيه متلبس.
– إنت مين؟
هتفت بالسؤال غاضبة نحو المتحدث من الجهة الأخرى، والذي رد بهدوء يجيبها:
– انا المعجب المتيم، انا اللي ببعتلك الرسايل كل يوم.
انتفضت هاتفة به بغضب:
– إنت اللي بتستفزني وبتستفز الفانز بتوعي بتعليقاتك السخيفة والمنتقدة ليا ولطريقة حياتي ولبسي؟ انت اللي قارفتي برسايلك؟ جيبت نمرتي منين؟ ازاي تتجرأ وتتصل بيا؟
على نفس النبرة الهادئة، وصلها رده بعدم اكتراث:
– ما انا قولتلك إني معجب، وزيدي عليها اني خايف عليكي، وزعلان لزعلك، ما هو حرام الجمال دا كله ، ما يخدتش التقدير اللي يستحقه، حرام عليه يخونك يا رباب .
اغمضت عينيها تقبض على ألم كرامتها، لترد كازة على أسنانها:
– وانت مالك؟ يخوني ولا ميخونيش، وانت مين اساسا؟
– ما قولتلك أنا معجب، لا مش معجب، انا الولهان بمعنى أصح، سلام دلوقتي يا جميلة الجميلات.
أنهى المكالمة ليزيد من حيرتها وتعب رأسها، وكأنه كان ينقصها هذا المعتوه وأفعاله
-❈❈-❈
– هو انا للدرجادي قلقتكم عليا؟
قالتها شهد بجلستها في وسط الصالة بين لينا وشقيقتها، وأنيسة التي تحاوطها بالرعاية منذ استيقاظها والتي ردت:
– يا حبيبتي ربنا ما يعيدها، احنا بس كنا خايفين عليكي، اصلها اول مرة تطولي كدة.
اضافت رؤى:
– ومتنسيش كمان انتي حالتك كانت ازاي قبلها، انتي تقريبًا كنتي منهارة، وبصراحة عندك حق، البت أمنية وخطيبها الزفت زودوها أوي المرة دي.
تغضنت ملامح شهد بضيق لتطرق برأسها، وقد مر جميع ما حدث أمام عينيها، فتدخلت لينا تقول بمرح:
– بس ايه يا بت شهد، البت رؤى دي طلعت تربيتك صح، ما سبتكيش ولا دقيقة، فضلت لازقة جمبك في الاوضة وانتي نايمة، حتى مدرسة ولا درس كانت بتروح .
عبست شهد لتسأل شقيقتها بتوببخ:
– معقول الكلام ده يا رؤى؟ طب ومذاكرتك ومستقبلك، هتحلقي امتى تلمي اللي فاتك؟ دا انتي ثانوية عامة يا بنتي؟
ردت رؤى بابتسامة تطمئنها:
– والله بلم ومسبتش حاجة، كنت بذاكر وكل حاجة وباخدها اون لاين، طمن قلبك يا كبير.
بادلتها شهد الابتسامة بارتياح ومزيد من الإعجاب، فرؤى هي الوحيدة من أسرتها من تثلج صدرها بأفعالها معها، رغم الجحود والنكران الذي تجده من الباقي.
– طب احنا كدة لازم نتصل بالست مجيدة بقى.
قالتها أنيسة لتسألها شهد باستفسار:
– ست مجيدة مين؟ هو انتي تعرفي الست مجيدة .
تولت لينا الإجابة عنها :
– ست مجيدة ام البشمهندس يا سيادة المقاول، دي جات مرتين تطمن وتسأل عليكي مع ابنها، دا شكله قلقان عليكي اوي.
قالتها لينا وهي تطالع بمكر شهد التي تغير لونها، لتشوبه حمرة الخجل مع تذكرها للحلم الذي ساهم في استيقاظها.
وقالت أنيسة بمرح :
– ايه يا ست شهد نتصل نطمن الست وابنها ولا لأ،
بحرج خرجت كلماتها :
– انا مش همانع طبعًا، بس يعني….. انا بقول ارجع بيتنا بقى عشان الزيارات اللي من النوع دي.
هتفت بها لينا بحزم:
– بس يا بت انتي، انتي مش راجعة البيت غير بعد ما اعصابك تهدى خالص. وان كان ع الزيارات، ف اطمني يا ستي، احنا مانعين الكل ما عدا الست مجيدة وعبد الرحيم، دا بيجي يوميا دا كمان .
❈-❈❈
بعصبية كانت تعدو بخطواتها ليصدر كعب حذائها صوتًا مألوفًا، يلفت الأنظار إليها بملابسها الافتة اصلاً، بضيق قميصها في الأعلى وقصر الجيبة في الأسفل، ولكنها اليوم لم تكن مهتمة، بل لا يعنيها الرجال في أي شيء، وهي مهددة في عملها والأهم من ذلك، هو ابتعادها عنه بعد أن لفظها بعنف رابطًا عودتها إليه بالوصول إلى هذه الفتاة، تبًا لها، لقد أصبحت تكرهها أكثر من أي شي، ألا يكفي صورتها البراقة وحظها المضاعف من الدلال والجمال ورعاية الأسرة المحافظة لها، لتكون بهذا الغرور تناظرها من علو ، وكأنها الصفحة البيضاء والتي تخشى على نفسها التلوث بالاقتراب منها.
توقفت فجأة بأعين الصقر، وقد رأت غريمتها من زجاج الكافتيريا، جالسة مع الأخرى صديقتها، يحتسين المشروبات الساخنة.
بدون تفكير أو تردد اقتحمت وتقدمت حتى وصلت إليهن تلقي التحية:
– صباح الخير يا بنات ممكن اقعد.
قالتها وجلست دون انتظار الإذن، تقبلت مودة تجيبها بمرح:
– أهلًا بيكي يا ميرنا طبعًا اقعدي .
عقبت صبا متهكمة:
– تقعد فين تاني؟ ما هي قعدت يا ست مودة؟
– لدرجادي انتي مضايقة من وجودي يا صبا؟ انا واحدة ست عادية على فكرة، مش راجل عشان تكشي ولا تخافي منه، وبرضوا لو مضايقك وجودي؟ حالا هقوم .
قالتها وهي تنهض بمسكنة اثرت بصبا مع هذه النظرة الائمة في أعين مودة، فقالت ملطفة:
– خلاص يا ميرنا، موصلتش للدرجادي، اقعدي بقى.
سمعت الأخيرة لتعاود الجلوس بأعين مترقرقة بالدموع، اجفلت صبا ومودة التي قالت بلهفة:
– ليه البكا يا ميرنا؟
رمقتها بحزن لتنقل بانظارها نحو صبا قائلة:
– أصل صبا بتبصلي نفس النظرة اللي بشوفها في عيون ناس كتير، بيفتكروني ساهلة او واحدة مش كويسة عشان متحررة في لبسي حبتين.
قالت مودة بدفاعية:
– لا يا ميرنا متقوليش على نفسك الكلام ده، صبا أكيد متقصدتش كدة والناس اساسًا ما بتسيبش حد في حالها
صمتت صبا تطالعها بريبة وعدم فهم، لتردف ميرنا:
– اتكلمي عن نفسك يا مودة لأن صبا شكلها بيقول غير اللي انتي بتقوليه خالص.
هزت كتفيها الاَخيرة بحرج لتجيب وهي تتناول كوبها وتدعي الانشغال في الارتشاف منه:
– أنا طبعا مقصدتش، وحكاية القبول دي من عند ربنا، بس حتى لو كان يعني، من المؤكد انك بتبكي لسبب يخصك، أنا مليش دخل بيه.
إجابتها العفوية كانت من الذكاء لتوقف ميرنا عن تصنع البكاء، لتبحث سريعًا عن رد اَخر، والذي لم تغلب فيه.
– انتي عندك حق يا صبا، انتي مش السبب الحقيقي ولا حتى نظرة الناس اللي قولت عليها، دي كلها حاجات ورا السبب الحقيقي، أنا اللي واجعني هو الوحدة، يمكن مودة مقالتلكيش، انا يتيمة الاب والام، وخالي اللي رباني في بيته، رفع ايديه عني اول اما اتجوزت، ولما جوازي فشل واطلقت مرديش يرجعني لبيته، دا طردني كمان، وحظي القليل خلاني اطلق حتى في جوازتي التانية، عشان اقعد بطولي في شقة طويلة عريضة، محدش بيسأل عليا، ولما أتعب محدش يحس بيا، ولما اموت برضوا محدش هيعرف بموتي…..
ختمت ببكاء خرج هذه المرة حقيقيًا، فبدون أن تقصد، وجدت نفسها تصف حالتها بالفعل
ظهرت الشفقة على وجه الفتيات، وربتت مودة على كفها بدعم، أما صبا التي طالعتها لأول مرة ببعض التفهم، فهي ليست بحجر حتى لا يؤلمها كلام المرأة، حتى لو كانت بهذه الهيئة التي تصنفها داخلها بالابتذال، فربما هذه الهيئة تعوض النقص بداخلها، نقص الاهتمام بلفت النظر إليها، فقالت برقة:
– خلاص يا ميرنا، انا أسفة لو كنت جرحتك بأسلوبي الناشف، بس دي طبيعتي، تقدري تقولي عليا دبش في كلامي واسألي مودة.
سمعت الاخيرة لتهتف بحماس:
– دا صحيح يا ميرنا والله، البت دي ياما ادتني على دماغي، اصلها صعيدية وطبعها زي السيف قاطع من غير رحمة.
عقبت صبا بدهشة:
– أنا برضوا معنديش رحمة؟ الله يسامحك.
ضحكت مودة بعفوية جعلت صبا تتغاضى عن وصفها، أما ميرنا فعلى الرغم من شعور الانتشاء الذي اكتنفها وقت الاعتذار، إلا أنه قد تلاشي سريعًا عقب كلمات مودة، فقالت لتستغل هذه اللحظة سريعًا:
– طب مدام اتصالحنا واتفاهمنا خلاص، ياريت تجبروا بخاطري وتحتفلوا معايا….. اصل انا النهاردة عيد ميلادي، وكان نفسي اقضيها ولو مرة واحدة مع حد .
هللت مودة لتهتف بمرح:
– ودي فيها كلام، دا احنا هنحتفل معاكي ونخليها ليلة تحلفي بيها العمر كله، جهزي نفسك انتي بتورتة كبيرة، وزيني البيت بالبلالين……
استني عندك يا مودة، بيت ايه؟ أنا مبروحش بيوت حد.
هتفت بها صبا مقاطعة بحزم جعلها تبتلع الباقي من كلماتها، وجاء الرد من الأخرى:
– انتي مش عايزة تيجي صبا؟…… براحتك.
قالتها لتطرق رأسها بمسكنة، كتمت صبا زفرة الحنق بداخلها، ثم لترد مصححة:
– انا مقولتش اني مش عايزة احضر، بس انا مواعيدي بحساب، وخطوتي بحساب، يمكن لو في مكان عام..
– يعني هتحتفلي معانا لو في مكان عام؟
صمتت قليلًا بتفكير وقد أجفلها سرعة الرد، لتومئ بهز رأسها، قائلة:
– أيوة بس بصراحة لو بعد المغرب يبقى انسي، دا من رابع المستحيلات عند ابويا الخروج لوحدي في الوقت ده.
عضت ميرنا باطن خدها لتكتم غيظها، وهذه الملعونة لا تكف عن إضافة الشروط التعجيزبة لتيأس منها، بعد أن وصلت أخيرًا لنقطة من التفاهم معها، وهي ابدا لن تتراجع للخلف:
– خلاص يا صبا، نخليها بعد الشغل وفي مطعم قريب من هنا، واهو يبقى احتفال وخلاص، المهم الذكرة
❈-❈❈
عادت اَخيرًا للحارة التي تقطن بها ، عادت بعد أن اطمئنت، لتلج بداخل المبنى، تتلقي تحية الجيران وأسئلتهم عن شقيقتها، فغياب يومين اثار الشكوك والقلق على صحتها، مع هذا الصمت والردود المبهمة من والدتها وأمنية أيضًا، ببشاشة وتسامح كانت تجيب الجميع وتطمئنهم، حتى وصلت إلى المنزل، لتفاجأ به،
بوسط المنزل كان جالسًا بحرية واضعًا قدم فوق الأخرى، وقد أتى اليوم قاصدًا بتحدي للجميع، مواجهًا نظرات الاستنكار والغمز واللمزات من الجيران خلف ظهره، مستغلًا لهفة الأخرى لزيارته، وضعف خالته في الاعتراض:
– انت بتعمل إيه هنا؟
سالته بشجاعة غير اَبهة بالنظرة النارية التي رمقها بها فور دلوفها المنزل، وجاء الرد من أمنية:
– طب ارمي السلام الأول، بدل ما انتي داخلة أفش كدة، تتحفينا بالدبش بتاعك، وانتي غايبة ليلتين عن البيت.
وكأنه الهواء مر بجوار اذنها ولم تشعر به، تابعت رؤى للآخر ، بتجاهل تام لشقيقتها:
– انا بسألك، جاي بيتنا ليه؟ لسة لك عين بعد الفضيحة تدخل البيت ومن غير صحابه كمان؟
إلى هنا وانتفض هاتفًا بغضب نحوها:
– صحابه مين يا بت؟ هي امك ولا اختك دي مش من صحابه؟ ولا هي المحروسة عملالك غسيل مخ، ومفهماكي انكم ضيوف؟ طبعا ما انتو هبل وتستاهلوا الضحك عليكم.
بغضب عاصف صاحت أمنية:
– مين هما اللي يضحك عليهم؟ ايه اللي انت بتقوله دا يا ابراهيم؟ وانتي يا بت انتي لمي نفسك احسنلك.
ردت هذه المرة رؤى لتواجهها بندية غير متكافئة على الإطلاق بهذا الفرق الشاسع بين الجسدين، في الطول والوزن :
– والم نفسي ليه؟ مش لما تلميها انتي الاول، بقى بعد الفضايح وكل اللي حصل لاختك، توصل بيكي البجاحة، تدخليه البيت وتحطليه الكيك والساقع كمان، طب كنتي اسألي عن اختك التعبانة أولى، ولا هو غاب القط العب يا فار.
– فار في عينك قليلة الأدب
صرخت بها إمنيه لتخرج والدتها إليهم سريعًا تقول بلهفة وارتباك:
– ايه اللي بتقوليه دا بس يا رؤى؟ ابن خالتك جه يسأل ويطمن، ودول مخطوبين ومش لوحدهم، انا قاعدة في المطبخ جوا بحضر الغدا.
ردت رؤى باستهجان وقنوط:
– يعني انتي كمان بتحضريلوا الغدا، انا خلاص معدتش باستغربك يا ماما، بس كان عندي أمل انك تراعي حتى نظرة الناس ولا كلامهم بعد اللي حصل.
– واللي حصل دا كان بسبب مين؟ مش بسببك.
هتف بها ابراهيم ليتابع كازًا على أسنانه:
– لو في فضايح يبقى انتي السبب فيها، انا كنت بدافع عن سمعتكم، وحقكم من اللي أكلاه منكم، لكن انتي اللي لميتي الجيران بصويتك.
قالت رؤى بنظرة كاشفة وبسخرية صريحة:
– وانت بقى يا عم إبراهيم اللي هتدافع عن حقنا ولا سمعتنا، إنت يا ابراهيم؟
استشاط الاَخير غضبًا، ليخرج دخان حارق من أذنيه ومن فتحتي منخاره يود القفز بكفيه على رقبة هذه الصغيرة او تلقينها بالضرب درسها لن تنساه عقابًا للاستهزاء منه، وهي الصورة المصغرة من غريمته، فتدخلت أمنية بحمائية عنه تدافع:
– ابراهيم مكدبش لما قال عنك قليلة التربية، انتي فعلا عايزة تربية من أول وجديد، ولو ما لميتي نفسك دلوقتي حالا، لعملها واكسب ثواب تربيتك .
قالت الأخيرة وهي تشمر أكمام ذراعيها الغليظان بتهديد أثار ابتسامة متسلية على ثغر رؤى، برد فعل غير مبالي، حتى صاحت والدتها بتوبيخ:
– عيب عليكم يا بنات، احنا مش ناقصين فضايح اكتر من كدة، لموها بقى.
بعدم اكتراث لتزيد من غيظهم بفعل طفولي، تحركت رؤى متمتمة:
– انا داخلة اوضتي اجيبلي هدمتين عشان ارجع تاني عند اختي حبيبتي، عند لينا العسل ووالدتها، دا كفاية الحلويات اللي بتعملها طنت أنيسة يا ناس .
بسلبية اعتادت عليها، نفضت نرجس كفيها يسأم، قبل أن تذهب نحو المطبع، لتراعي إعداد الطعام تاركة أمنية، وقد اشتدت ملامحها وتعقدت بخطوط طويلة لغضب حارق تتابع اثر شقيقتها، فعقب ابراهيم ليزيد عليها بفحيح:
– شايفة الفُجر، بتتكلم كدة عشان ضامنة نفسها، حبيبة اختها دي، مش زيك، أهي دقني اهي ان ما طلعتي من المولد بلا حمص.
-❈❈
لا تقوى على النظر في عينيه، تخجل من نظراته المصوبة نحوها دون تحفظ كعادته، هذه المرة غير كل مرة، هذه المرة اكثر جرأة اكثر فرحًا بعودتها، وجلوسها أمامه، هذه المرة ترى كلامًا على صفحة وجهه غير منطوق، ولا تعلم تفسيره، وكأنه اتفق مع حلمها اليوم ليزيدها حرجًا، ويزيدها ارتباكًا، ما بالها؟ وما هذا الذي يحدث معها؟ وما صفة هذا الرجل ليأخذ كل هذه المساحة من التفكير بعقلها؟
– شهد
سمعت بإسمها لتلتف برأسها وتجيب صاحبة الصوت:
– أيوة، ايوة يا لينا.
ردت الاَخيرة:
– يا حبيبتي انا بسألك، لو تحبي تشربي شاي زي الجماعة؟
اجابتها بارتباك:
– لا يا لينا، بس لو هتعبك، ياريت تخليها قهوة
عقبت مجيدة:
– قهوة! قهوة ليه يا بنتي؟ اشربي عصير ولا حاجة مفيدة لصحتك.
خرج صوتها بضعف:
– لا ما انا اتعودت عليها، بحبها وبتعدل مزاجي.
– دي بتدور على مزاجها يا ماما، محدش يلوم المقاول على مزاجه.
قالها حسن بتفكه جعل الجميع يضحكون، لتبتسم هي بخجل اصبح يزداد في حضوره، واستغراب من نفسها بدأت تسشعره داخله، حتى أصابها التوتر، وقالت في محاولة لتغير دفة الحديث نحو الجهة الآمنة لها وهي العمل:
– انا كلمت عبد الرحيم وقالى ان اللي فاضل على استكمال الموقع يدوب اسبوع بكتيره، وتستلمه انت بعدها .
هم أن يرد ولكن أنيسة سبقتها:
– خلاص يا شهد مش قادرة تصبري ع الشغل، يا بنتي ريحي دماغك شوية، خدي بريك على رأي لينا .
سمعت الأخيرة لتدلي بقولها هي الأخرى:
– دي مفيش فايدة منها يا ماما، مخها اتبرمج ع الشغل وبس.
اضاف على قولها حسن:
– عندك حق يا لينا، دي اكيد بتحلم بالأرقام والمساحات واجور العمال
على ذكر الحلم برقت عينيها فجأة باستدراك، والصور تتوالى برأسها، لتبتلع ريقها بتوتر، وكأنها في عالم موازي، تتبادل ضحكاتهم ومُزاحهم المتواصل بالابتسام دون تركيز، حتى سألتها مجيدة:
– يعني النهاردة مش شايفة البت رؤى، هي راحت فين؟
ردت تجيبها:
– راحت البيت عندنا، تجيبلي وتجيبلها كام غيار من الهدوم، الظاهر كدة ان قعدتنا مطولة.
قالت الأخيرة بمشاكسة جعلت لينا تناظرها بابتسامة مفهومة، فضحكت مجيدة قائلة:
– اقول الحق يا شهد، بصراحة انا من ساعة ما دخلت هنا وانا حاسة البيت دا انتي جزء منه، واكنهم عيتلك بالدم، مش مجرد صحاب .
– دا حقيقي والله، انا بحس كدة فعلا.
قالتها شهد لتضيف على قولها أنيسة:
– شهد اتربت هنا مع لينا، يوم بيوم وسنة بسنة بتكبر قدامي، دي كانت هتبقى مرات ابني، ورمزي كان بيموت فيها.
– رمزي مين؟
خرجت من حسن الذي اشتعلت الدماء برأسه واحتدت عينيه بشكل ظاهر، ردت لينا بعفوية:
– رمزي دا يبقى اخويا.
اضافت على قولها أنيسة بتسلية تشير على الإطار المعلق على الحائط:
– شايف صورة الواد الحليوة ابو عيون فيروزي وشبه لينا ده، اهو ده بقى رمزي،
بوجه شاحب تطلع لصاحب الصورة الوسيم بحقد، وقبل أن يتابع أسئلته سبقته مجيدة التي انتابها القلق هي الأخرى:
– طب وو ايه اللي حصل؟ ليه مكملتش الجوازة يعني.
– اتوفى.
قالتها أنيسة بابتسامة باهتة اجفلت حسن ومجيدة التي أصبحت تردد بالكلمات الروتينة الداعمة والمترحمة بتأثر، قبل أن تنتبه على الوقت لتنهض باستئذان:
– طب احنا نقوم بقى يا جماعة كفاية كدة .
قالت أنيسة بمودة حقيقية للمرأة:
– وتمشي ليه يا ست مجيدة؟ ما تخليكي قاعدة ومونسانا، دا انتي عشرية وانا ارتحتلك بجد والله.
كلمات المرأة أتلجت قلب مجيدة لتبتسم لها بابتهاج قائلة:
– مش أكتر مني يا ست أنيسة، انا بقيت حاسة ان اعرفكم بقالي سنين.
تدخل حسن الذي نهض على غير إرادته لكن مضطر:
– ربنا يديم الود ما بينكم، بس احنا لازم نمشي مدام اطمنا على شهد.
نطق اسمها لتلتقي عينيها بخاصتيه بعناق سريع، قبل أن يتابع بتنهيدة من العمق:
– انا عندي اجتماع مهم في المصلحة ولازم احضره
– مكشوف مكشوف مكشوف.
غمغمت بها مجيدة داخلها وعينيها تتابع ملامح أنيسة المبتسمة بمكر، قبل أن تجفل على قول لينا:
– طب هو وراه المصلحة، انتي وراكي ايه طنت مجيدة؟ خليكي معانا اتغدي دي ماما أكلها يجنن وتموت في اللمة، واهو يا ستي نردلك العزومة بتاعتك ولا انتي نسيتي؟
المجنونة، المتقلبة المزاج، من يراها في الشجار مع ابنها كالقطة الشرسة، لا يصدق هذه الرقة والوجه الصبوح الاَن.
كان هذا الحديث الدائر داخل مجيدة، بعد أن استجابت لطلبهم قائلة:
– لا يا حبيبتي ولا عمري انسى، خلاص يا حسن روح انت.
ذهب الاَخير ليترك والدتها مع هذه الثلاث نساء، لينا وشهد وأنيسة التي لم تكف عن الترحيب بها وإدهاشها بكم الحلويات التي تجيدها، لتقضي معهن وقتًا لا يستهان به من المرح، وعقلها الدائر بالأفكار يتسائل كالمنبه يذكرها:
– ماذا بعد؟ ماذا بعد؟
تدراكت فجأة لتقول بمكر:
– يا لهوي صحيح، أنا قاعدة معاكم وناسية نفسي، عندي دوا لازم اخده قبل الغدا.
تطوعت أنيسة تجيبها:
– قولي إسمه يا ست مجيدة وانا اتصلك بالصيدلية تجيبه.
باعتراض سريع ردت مجيدة:
– واجيب غيره ليه، ما انا اتصل بابني يجيبه معاه في طريقه وهو رايح على شغله، حكم دا ميعاده، تقبلي يا لينا بحضرة الظابط يجيبلي الدوا؟
أجفلتها بالسؤال كما فاجئت أنيسة أيضًا لتجيبها باستسلام وهي ترتب الطاولة مع شهد:
– اتصلي بيه يا طنت، أكيد طبعا مينفعش تأخري الدوا بتاعك.
بابتسامة النصر، تناولت مجيدة الهاتف على الفور تتصل بابنها:
– ألوو يا حضرة الظابط ممكن خدمة؟
•تابع الفصل التالي "رواية وبها متيم انا" اضغط على اسم الرواية