رواية و بالعشق اهتدي الفصل الحادي والعشرون 21 - بقلم ندى محمود توفيق
(( وبالعشق اهتدى ))
_ ميثاق الحرب والغفران ج2 _
_الفصل الواحد والعشرون _ ( الجزء الثاني )
تسارعت دقات قلبها رعبًا وتصبب العرق على جبينها من منظره المخيف، أدركت أنها وصلت لنهاية الطريق والنتيجة حسمت.. لن تكون في صالحها بالتأكيد ومن الواضح أنها ستبدأ في مرحلة البكاء والعويل على خسارة ابنها، سقطت الأقنعة وانكشفت الحقيقة التي عملت جاهدة على إخفائها عنه حتى لا تفقده هو أيضًا، لكن يشاء القدر أن يسمع الحقيقة من لسانها هي، لتصبح النهاية التي لا عودة منها.
امتلأت عينيها بالدموع الحارقة وهمست له بنظرة رجاء:
_اسمعني الأول ياولدي أنا هفهمك كل حاچة والله
اختفت أي قسمات عطف أو شفقة من على وجهه وحدق بأمه في خزي وغضب ثم تمتم:
_عمران ميعرفش ومش هيعرف ياما مش إكده!
انهمرت دموعها غزيرة على وجنتيها وتمتمت وهي تتقدم إليه بثقل وتوسل:
_والله أنا ما كان قصدي ازقها هي وقعت وحديها يعني أنا مكدبتش عليك
اغلق عينيه وجز على أسنانه بقوة محاولًا تمالك انفعالاته ثم أخذ يدور يمينًا ويسارًا وهو يقبض على شعره بقسوة وينزل بكف يده يمسح على وجهه وأنفاسه بدأ صوتها يتعالي تمامًا كانت تشبه زمجرة الأسود، ثم التفت لأمه بنظرات مميتة وصرخ بصوت جهوري انتشر في المنزل بأكمله:
_لساتك بتكذبي وأنا سمعتك بوداني ياما، كنتي عاوزة تموتي ولدي وتقطعي نفسه من قبل ما ياچي على الدنيا حتى
انتفض جسدها بقوة من الفزع بسبب صراخه الهادر وهي مجفلة نظرها أرضًا لا تقوي على رفع عينيها بخاصته وتبكي فقط بشدة وشهيقها يرتفع أكثر فأكثر بينما هو فتابع بنظرة كلها خزي ومرارة:
_أنا لو موثقتش في أمي هثق في مين!!.. كدبت مرتي ومصدقتهاش وظلمتها والمشاكل كبرت بينا لغاية ما وصلت للطلاق بسبب أني معنديش شك في أمي أنها تحاول تأذي ولدي مهما حصل ومهما كانت مبتحبش أمه
ثم سكت للحظة وتابع بتهكم في ابتسامة مرعبة:
_وفوق ده كله كنتي بتسخنيني عليها وتخليني أشك فيها بكلامك أنها بتطلع وتقابل رچالة من ورايا، عشان أطلقها واتچوز اللي عمتي مربتهاش ولا حطت فيها الرباية واصل، أنتي شايفة أن آسيا متليقش بيا بس منى تليق!!
خرج صوتها أخيرًا ونظرت له بوجه غارق بالدموع وصوت مبحوح:
_ياولدي والله أنا كنت عاوزة اشوفك مبسوط ومرتاح
ضحك عمران باستهزاء ثم رمقها بعين ليس بها حياة تمامًا كالأشباح وهتف:
_وياترى دلوك أنا إيه مبسوط ياما؟!.. عاچبك حالي وأنا مرتي هاچراني ومش عاوزاني وعاوزة تطلق مني ومحروم من ولدي اللي يدوب مكملش يومين وبشوفه كيف الغريب زيارات بس وأمه مش عاوزة تبص في وشي وكارهاني
نظرت لها بوجع وشفقة وقالت محاولة التخفيف عنه:
_عشان هي متستهلكش وهي متقدرش تحرمك من ولدك و.......
صرخ بصوت رجولي مرعب جعلها ترتجف رعبًا:
_كفاية ياما معاوزش اسمع ولا كلمة منك.. أنتي لساتك بتحاولي تكرهيني في مرتي وتخربي بينا حتى بعد ما عرفت كل حاچة
احتضنت كفه الكبير بحب صادق وهتف تتوسله ببكاء شديد:
_سامحني ياولدي أبوس يدك أنا مقدرش اعيش من غيرك ولا بعيد عنك
سحب يده من كفيها بغضب وقال في قسوة حقيقية:
_أنا كنت ممكن اسامحك في أي حاچة إلا أنك كنت هتسقطيها وتموتي ولدي اللي بتمناه وكنت مستنيه بفارغ الصبر
وقفت مكانها بذهول عندما رأته يغادر ويتركها، فلحقت به ركضًا عندما وجدته يتجه لخارج المنزل وليس غرفته، تعلقت بذراعه لتوقفه عنوة وهي تصيح به ببكاء وتوسل:
_طيب رايح ياعمران، أبوس يدك عشان خاطري ياولدي متهملنيش وخليك چاري
اغمض عينيها بنفاذ صبر وقال بصوت محتقن:
_بعدي ياما عني السعادي أنا مش شايف قصادي
أكملت وهي تترجاه وتطلق وعودًا صادقة هذه المرة لتجعله يسامحها ويبقى معها:
_حقك عليا ياولدي سامحني، صدقني من إهنه ورايح هشيل مرتك فوق راسي ومش هتدخل بينكم واصل في أي حاچة، بس متحرمنيش منك وتهملني أنا مليش غيرك ضهر وسند بعد أبوك، هتهملني لمين ياعمران!!!
اشاح بوجهه للجهة الأخرى ليحاول الصمود لآخر لحظة ولا يفقد أعصابه فما فعلته به لا يغتفر ولن ينساه أبدًا، أبعد ذراعيها عنه برفق وتركها وأكمل طريقها لخارج المنزل فتسقط هي على الأرض جاثية على ركبتيها تبكي وتنوح على ابنها الذي فقدته وتهتف مرددة من وسط بكائها ونزلتها الهستيريا:
_هتهملني لمين ياولدي، هو أنا ليا حد غيرك.. ياعــمــران!
وصلت عفاف على صوت البكاء والصراخ المرتفع من إخلاص وهرولت نحوها عندما وجدها جاثية على الأرض وتولول كالتي مات لها أبن أو زوج، حاولت مساعدتها الوقوف على قدميها وهي تهتف لها:
_قومي يا إخلاص إيه اللي چرا، قومي اقفي
دفعت ذراع عفاف بعيدًا عنها ورمقته بنظرة نارية صارخة بها:
_بعدي عني عاوزة تشمتي فيا عشان ولدي هملني وسابني، خدتي مني چوزي ومكنش فاضلي إلا ولدي وأهو سابني هو كمان
لوت عفاف فمها بإشفاق وقالت لها بلين:
_طيب قومي استهدي بالله، هو تلاقيه متعصب دلوك ولما يهدي هيرچعلك، اهدى وقومي عاد يلا من على الأرض
نظرت لها بوجه منكسر ونظرة ضائعة وابتسامة مريرة على ثغرها وقالت وهي تنهض معها من على الأرض:
_هيرچعلي ياعفاف ويسامحني صُح
آماءت لها بالإيجاب وقالت مؤكدة لتهدأ من حالتها المزرية:
_أبوة طبعا هيرچع متخافيش
***
داخل منزل جلال وفريال......
كانت تقف بالمطبخ تقوم بتحضير العشاء، وعقلها مشغول بالتفكير في شقيقها وزوجته، تحاول إيجاد حل لإصلاح العلاقة بينهم لكن كل الحلول ضعيفة أمام عنادهم وإصرار كل منهم على عدم الاعتراف بخطأه، لاحت بسمة مغرمة عندما قذف لعقلها مواقفها مع زوجها منذ صباح اليوم، لقد تعمد البقاء في المنزل اليوم كله ولم يذهب للعمل فقط عنادًا بها ويحاول بكل فرصة أن يصطدم بها سواء في حديث أو حتى جدال من فرط غيظه منها ومن تجاهلها له، اشفقت عليه وعلى حاله لكنها تستمتع كثيرًا وهي تراه يتحرق شوقًا لها ويتلوى من عذاب عشقه.
تحركت بخطواتها تجاه المبرد ولم تنتبه القطرات المياه المتناثرة على الأرض فانزلقت قدماها وكادت أن تسقط فأطلقت صرخة عالية دوت بأرجاء المنزل ولحسن الحظ أنها تمسكت بالحائط بسرعة قبل أن تسقط وتشبثت به، سمعت ثيحته المفزوعة من الخارج مناديًا عليها:
_فريال مالك؟
ثواني بالضبط وكان أمامها بالمطبخ وحاوطها بذراعيه ليعيد توازنها وتستند عليه، وسط همسه المرتعد:
_إيه اللي حُصل مالك؟
ابتسمت له بحب وتمتمت في هدوء وهي تلتقط أنفاسها وتربت على كتفه:
_مفيش حاچة الحمدلله چت سليمة، اتزحلقت وكنت هقع بس مسكت نفسي
طالعها جلال بحزم وقال موبخًا إياها من فرط اهتمامه:
_أنا مش نبهت عليكي مليون مرة تاخدي بالك، اطلعي يافريال اقعدي برا وأنا هكمل العشا
رفعت حاجبها بعينان متسعة وظهرت البسمة المدهشة على ثغرها فورًا وهي تجيبه:
_هتحضر العشا بدالي صُح!!
أخفى ابتسامته وتصرف بتعالي وبرود مستفز:
_أه هحضر طالما عشان صحة بتي، مش عشان أمها اللي منعاني ما اقرب ومن حقوقي كزوچ ومستمتعة وهي بتعذبني
فغرت شفتيها بصدمة من اتهامه لها بأنها تحرمه من حقوقه الزوجية، هل ذلك المنحرف هذا هو كل ما يزعجه، أنه لا يستطيع الاقتراب منها، رغم أن في الظروف الطبيعية من المفترض أن تغضب لكنها لم تستطع تمالك ضحكاتها التي انفجرت عاليًا وهمست له وهي تقف خلفه وتضع ذقنها فوق كتفه:
_چلال أنت ده كل اللي هامك!
التفت لها مستاءًا وهتف بتلقائية غاضبًا لكن سرعان ما تدارك الموقف وحاول تصحيحه خوفًا من يزداد عنادها أكثر:
_أيوة.. اقصد يعني أيوة مضايقني بس مش هو ده بس يعني كل اللي بتعمليه مضايقني أكيد
مطت شفتيها للأمام بنظرات دلع وهزت كتفيها في غنج مثير ثم قالت مبتسمة برقة وهي ترفع راية الاستسلام:
_طيب خلاص عفوت عنك، بس بشرط!
تهللت اسايريه وقال بحماس وهو مستعد لينفذ لها كل شروطها في سبيل إنهائها لتلك السخافة التي تمارسها عليه:
_ياسلام ده أنتي تؤمري يا أم العيال
اخذت نفسًا عميقًا وعبس وجهها لأنها تعرف ردة فعله عندما يسمع طلبها، أطلقت زفيرًا حارًا وجمعت شجاعتها لتقول له بعين بائسة:
_تبعد عن عمك وملكش صالح بيه أنا مش هقولك بلغ عليه بس أبعد عنه واصل
تقوست تعبيرات وجهه وظهر الانزعاج والضيق الشديد ثم هتف بنبرة مرتفعة بعض الشيء:
_تاني يافريال الموضوع ده؟!
أدمعت عيناها بعد انفعاله عليها ورفعت يديها تحتضن وجهه بين كفيها وتتوسله متمتمة:
_ابوس يدك عشان خاطري ياچلال، أنت شوفت بنفسك حصل إيه لما اتمسكت وكان ممكن متطلعش منها لولا أن ربنا سترها
جلال بنظرة حادة:
_ده عشان أنتي بلغتي!
هزت راسها بالنفي محاولة إقناعه وهي تقول بتلهف:
_لا أنا مبلغتش عنك أنا بلغت عنه بس.. وبعدين هما مش لو عرفوا مكانه وخدوه واكتشفوا أن ليك يد وكنت بتساعده على الهروب ومخبيه مش هياخدوك معاه يعني؟!!!
أطلق زفيرًا ناري وهو يتألف بنفاذ صبر ويشرح بوجهه بعيدًا عنها محاولًا تمالك أعصابه ثم قال لها بصوت رجولي غليظ:
_مش هيعرفوا يافريال ومش هياخدوني طلعي عاد الحوار ده من راسك
انهمرت دموعها بغزارة على وجنتيها وراحت تحتضن وجهه بيديها بقوة أكثر وتديره لينظر لها وهي تتوسله بكاء وحب صادق:
_چلال عشان خاطري ياحبيبي.. اسمع كلامي وشيل يدك من الموضوع ده.. أنا لو چرالك حاچة ولا خدوك مش هقدر اعيش من غيرك، أنا وعيالك هتهملنا لمين احنا ملناش غيرك، صدقني أنا هموت من قهرتي لو خدوك مني سامعني همـ....
أوقفها عن استكمال كلمتها وانحنى عليها يقبلها من وجنتيها وجبينها ثم يضمها لصدره متمتمًا بصوت رجولي كله آمان وسكينة:
_متخافيش يافريالي أنا مش هسيبك ابدًا، مفيش حاچة تقدر تفرقنا عن بعض ياحبيبة قلبي غير الموت، اهدى ومتبكيش عاد
ابتعدت عن حضنه ونظرت له برجاء ليقبل طلبها فابتسم هو لها وقال بمرح ليضحكها:
_ده منيرة الحرباية بأعمالها واسحارها وعفاريتها مقدرتش تفرقنا، السچن وعمي هيقدر!!
لم يغسل في اضحكاها حيث ابتسمت مغلوبة منه وقالت بجدية ووجه مازال غارق بدموعها:
_أنا مش بهزر ياچلال
امسك بيديها ورفع كفيها لشفتيه يلثم ظاهرهم وباطنهم بشفتيه الغليظة ينتقل بشفتيه من يد للأخرىوهو يهمس بنظرة تفيض عشقًا وحنو:
_ولا أنا.. وعشان خاطر عيونك موافق هحاول أبعد عن عمي على قد ما أقدر واقلل مقابلاتنا مبسوطة إكده
اختفى العبوس والحزن من على ملامحها بلحظة وتحول لسعادة غامرة وهي تبتسم باتساع وتهز رأسها له بالإيجاب ثم ارتمت عليه لتعانقه بحميمية وهي تهمس له:
_أنا بحبك قوي ياچلالي
ابتسم بعاطفة جيَّاشة ولف ذراعيه حولها ليقربها ويضمها إليه أكثر ودفن وجهه بين ثنايا رقبتها وشعرها ينكرها بقبلاته الحارة هامسًا:
_وأنا بعشقك
***
بمكان آخر تحديدًا بالطابق الرابع من بناية ضخمة مكونة من سبع طوابق، وقف عمران أمام الباب وهو يطلق زفيرًا حارًا ثم دس يده في جيب عبائته وأخرج مفتاح يتدلي منه ميدالية حديدية على شكل غزال صغير، فسرح بذكرياته في تلك الميدالية عندما اشتراها واختار خصيصًا أن يدمجها بمفتاح تلك الشقة، التي جهزها من كل شيء على ذوقها ليفاجئها بها بالوقت المناسب، لكن شجاراتهم ومشاكلهم المستمرة انسته كل شيء حتى وعوده، لقد كان على وشك أن ينسى عشقه لغزاله وينجرف مع طيار العواصف المجهولة التي عصفت بعلاقتهم واقسمت على تدميرها، كلاهما الآن يعانيان بسبب استسلامهم لتلك الرياح منذ بداية الأمر، هو سمح لعقله المشتت أن يتوه وسط الظلام وبمتاهة مميتة، لو كان حاول الإمساك بزمام الأمور في حكمة كان سيدرك أن تلك المتاهة ما كانت إلا سوى وهم اقنعه به عقله الضائع، أما هي فسارت خلف تيار من التمرد والعصيان موهمة نفسها بأنها وحدها على حق، استمعت لوساس الشيطان الذي أقنعها بأن زوجها لا يُحبها وأن إعلان الحرب هو أسلم قرار يمكنها اتخاذه في حق كبريائها، تناست تمامًا حقيقة أن عشقهم فاض بين وهج النيران، مهما حاولت شن الحروب والمعارك القاتلة ضده لن تهزمه أبدًا.
فاق من شروده الكئيب ووضع المفتاح في قفل الباب ليفتحه ويدخل ثم يغلق الباب خلفه، البيت ممتلأ برائحة التراب التي أثبتت هجره لفترة طويلة، لكن الأثاث كان بحالة جيدة نوعًا ما، فتنهد الصعداء بإرهاق واتجه نحو الأريكة المتوسطة يجلس عليها وهو يتذكر الحقيقة التي عرفها بعد فوات الآوان، من جهة صدمته أن والدته حاولت قتل ابنه وفعلت كل تلك الافاعيل بزوجته لتتخلص منها وتنهي زواجهم، كان يظن أن تصرفاتها البسيطة وجدالها الدائم مع زوجته بسبب عدم حبها لها وأن هذا أسوء ما يمكنها فعله، لكنه اتضح أنه هو الساذج الوحيد بينهم، ومن الجهة الأخرى حبيبته وزوجته وأم ابنه التي خسر ثقتها ورغبتها به وحبها له بسبب قسوته عليها وعدم تصديقه لها، مرارًا وتكرارًا حاولت بكل الطرق لتجعله يستوعب حقيقة أن والدته المتسببة بكل شيء فقط ليأخذ حقها منها ولو بمجرد عتاب بسيط كان سيرضيها لكنه اتهمها بالخرف والافتراء على أمه، استمع لكلمات أمه السامة وهي تزرع بعقله فكرة خيانة زوجته له وأنها تحيك الأمور من ورائه، والنتيجة أنه تفوه بكلمات كانت أكثر سوءًا من كل شيء فعله، لفظ من بين شفتيه سم يإمكانه قتل كل شيء جميل بينهم، ربما كلاهما أخطأ بحق الآخر ولكنه الآن شعور الذنب والخزي من نفسه يأكله لدرجة تجعله ينسى كل اخطأئها ويفكر كيف سيجعلها تسامحه وتعود له.
فرد جسده على الأريكة ليريح عظامه المتشنجة وظل يحدق في السقف يفكر كيف سيواجهها في صباح الغد وماذا سيقول، ما الكلمات التي يمكنها احتواء الموقف وإظهار ندمه وأسفه، بين كل هذا كان يقاوم عينيه التي تغلق من تلقاء نفسها وبالنهاية استسلم لها وغط في سبات عميق، لم يفتح عينيه بصباح اليوم التالي سوى على صوت رنين الهاتف المزعج الذي جعله يفتح عينيه بفزع ثم يهب حاليًا وهو يمسح على وجهه مستغفرًا ويطلق زفير بانزعاج، ثم مد يده ليلتقط الهاتف ويقرأ اسم المتصل الذي جعله عينيه تتسع بدهشة وابتسامته تظهر فأجاب فورًا بحب:
_غزال
ضيقت غزل عينيه بحيرة وابعدت الهاتف عن أذنها وهي تنظر لشاشته باستغراب، من أين عرف أنها هي التي على الهاتف وحتى لو نطق اسمها خطأ كيف يعرفه؟!!.
عادت بالهاتف لأذنها مجددًا وقالت له برقة تليق بصوتها الأنثوي:
_بس أنا غزل مش غزال!
تقوست تعبيرات وجهه بعدما سمع الصوت الغريب عنه وقال بحزم بسيط:
_غزل مين وآسيا فين؟!!
ابتسمت بنعومة واجابته بصوت منخفض:
_آسيا كويسة don't worry، وأنا بنت عمتها.. هي متعرفش أني هتصل بيك لأنها نبهت عليا مقولكش
عمران بتعجب وقلق:
_متقوليش إيه؟!
تنحنحت هي بحزن بسيط وقالت بعبوس:
_أصل سليم تعبان من امبارح بليل وهي رايحة للدكتور دلوقتي وأنا رايحة معاها، فحبيت اتصل بيك وابلغك لأنك أكيد هتبقى حابب تيجي معانا وتطمن على your son
وثب واقفًا بهلع عندما أخبرته أنه طفله الصغير مريض فسألها بلهفة:
_تعبان كيف يعني ماله؟
زمت غزل شفتيها بجهل وقالت:
_معرفش هي مقالتش لأنها مستعجلة بس هو كويس مش sick للدرجة الخطيرة يعني متقلقش، أنا بس فكرت أنك تيجي تكون جمبها عشان متحسش أنها وحدها وتطمن بوجودك معاها هي والولد
التقط مفاتيحه على عجالة وقال لها بجدية وإيجاز:
_طيب انا چاي دلوك في الطريق متطلعوش من البيت غير لما اچيلكم
ردت عليه بالموافقة وأنهت الاتصال وهي تبتسم بخبث ونصر وكأنها فعلت معجزة، وتمنت أن محاولتها لجمعهم مع بعض في موقف كهذا تسدي نفعًا قليلًا.
***
دخلت غزل ببطء لغرفة آسيًا مجددًا التي كانت منشغلة بتجهيز ابنها الصغير ولفه بلحاف صغير للاطفال الرضع، فوضعت غزل هاتف آسيا على الفراش خلسة دون أن تلاحظ ووقفت تراقبها بابتسامة ناعمة مثلها حتى رفعت آسيا رأسها ونظرت لها بلطف لكن سرعان ما قالت بحزم محذرة إياها:
_اوعى ياغزل تكوني چبتي سيرة لعمران
ابتسمت غزل باضطراب بسيط لكنها قالت ضاحكة بمرح:
_أنا!!!.. مستحيل اطمني
ازدردت ريقها بتردد ثم اقتربت من آسيا وهي تسألها باهتمام ونظرة عاطفية:
_أنتي مش عايزة تقوليلوا ليه يا هو مش ده ابنه برضوا والمفروض يعرف أنه sick وأنتي رايحة بيه للدكتور ويكون معاكي وجمبك، he is the man you love and your husband!!
انتصبت آسيا في وقفتها والتفتت بجسدها لعزل تنظر لها بحنق وتقول بلهجة لا تقبل النقاش:
_أنا مش عاوزاه يكون چاري يا غزل مش عاوزة اشوفه، ولو على سليم فهو الحمدلله مش تعبان قوي دي حاچة بسيطة وأنا هروح اطمن عليه عند الدكتور بس يعني ملوش لزمة ياچي مخصوص ويروح معانا
لوت غزل فمها بيأس وحزن يبدو إن محاولتها لإصلاح علاقتهم وجمعهم مع بعض لن تؤتي ثمارها وستضخم الأمر فقط بينهم، اتجهت وجلست على المقعد الصغير وبقت تتابع آسيا وهي تستعد وبعدما انتهت كانت على وشك حمل سليم بين ذراعيها للانصراف لكن رنين هاتفها أوقفها فنظرت في شاشته ورأت اسم عمران فالتقطت الهاتف وأجابت عليه باقتضاب:
_نعم
عمران بقلق شديد:
_الواد ماله، تعبان من إيه؟!
اتسعت عيني آسيا بدهشة واستغراب لكن فورًا نظرت لغزل بغيظ وسألته:
_أنت عرفت من مين؟
عمران بغضب وصوت رجولي مهيب:
_هو ده المهم عرفت من فين!!
زفرت بنفاذ صبر وردت عليه بمضض:
_متقلقش سليم كويس هو شكله عنده مغص بس عشان بيبكي من امبارح بليل وهروح بيه للدكتور يشوفه ويديله حاچة تهدي معاه
تنفس الصعداء براحة ثم قال بنبرة تبدلت من الخشونة للحنو وهو يلقي عليها تعليماته التي لا تقبل حرية الرفض:
_طيب أنا مستنيكم تحت قدام الباب يلا انزلي عشان أخدكم ونروح للدكتور سوا
لوت فمها بانزعاج وقالت تنوي الاعتراض:
_لا أنا هر......
قاطعها بنبرة صارمة وصوت غليظ:
_أنا مستنيكم تحت يا آسيا قولت يلا
ولم يمهلها الفرصة لتعترض ثانية حيث أنهى الاتصال في وجهها فنظرت آسيا لغزل شزرًا وهي على وشك أن تنقض عليها وتفترسها من فرط غيظها، بينما غزل فابتسمت ببلاهة في خوف وتوتر بسيط ثم استقامت واقفة وهي تضحك يعبث وتقول مازحة رغم أن حال آسيا لا يتحمل المزاح:
_بما أن بقى your husband هيروح معاكم هستأذن أنا، أصل مبحبش أكون عزول في النص بقى وكدا معلش يا سوسو
أنهت كلماتها وفرت بسرعة للخارج تنفذ نفسها من طوفان آسيا التي صاحت عليها متوعدة:
_ماشي يا غزل حسابي معاكي بعدين
بينما الآخرى فخرجت من الغرفة وهي تضحك باستمتاع وتركت آسيا تمسح على وجهها بقلة حيلة بعدما وضعها أمام الأمر الواقع واجبرها على الذهاب معه للطبيب.
***
بمكان آخر داخل المستشفى......
التفتت برأسها تجاه الباب بعدما سمعت صوت الطرق فردت بصوتها الناعم هاتفة:
_ادخل
انفتح الباب فـ ادخل بشار رأسه أولًا وهو ينظر لها مبتسمًا فبادلته الابتسامة العذبة، ثم دخل بجسده كله واغلق الباب واقترب منها وجذب مقعد ليجلس بجوار فراشها وهو يسألها بود جميل:
_عاملة إيه؟
هزت رأسها له برقة وهي تهمس بخجل:
_الحمدلله كويسة
ردد بشار خلفها " الحمدلله "وعلى ثغره بسمة ارتياح بينما هي فاجفلت نظرها عنه ونظرت ليديها وهي تفرك بأظافرها في استحياء بسيط منه، راقب ما تفعله بيديها وخجلها منه وكأنه غريب عنها فأطلق زفيرًا حارًا بعبوس، رغم حزنه لأنها لا تتذكره لكنه عندما ينظر للأمر من الجانب الجيد يرى أنها فرصة جيدة له ليبدأ معها من الصفر ويمنح علاقتهم فرصة ثانية.
سألها بفضول واستغراب بعدما انتبه أنها بمفردها في الغرفة:
_هو مفيش حد قاعد معاكي ولا إيه؟!
أجابته بخفوت جميل:
_لا ماما موجودة معايا بس راحت تشتري حاجة وجاية
هز رأسه بتفهم ثم قال بنظرة لامعة بوميض حاني:
_أنا سألت الدكتور قال النهاردة بليل أو بكر بالكتير وتطلعي
نظرت له بتعب وقالت بلهفة:
_أيوة عرفت، ياريت اطلع دلوقتي أنا زهقت وعايزة ارجع البيت
ثم تابعت بعبوس وأسى:
_على قد ما أنا عايزة ارجع بس خايفة حاسة نفسي في حجات كتير مش فكراها يعني ذكريات كتير اتمسحت من دماغي أنا حتى شكل بيتنا حاسة نفسي تايهة ومش فكراه كويس
تنفست الصعداء بيأس ثم نظرت في عينيه وكأنها تتعلق بطوق النجاة الوحيد الذي سيعطيها الأمل وهذا الطوق هو بشار، ثم قالت له بصوت مبحوح:
_تفتكر هرجع افتكر كل حاجة تاني يابشار؟!
مسك كفها الناعم بين يديه الكبيرة واحتضنه باحتواء وحدق في عينيها بكل ثقة وحب متمتمًا:
_هتفتكري أن شاء الله، واحنا كلنا چارك ومش هنسيبك وأنا أول واحد هفضل جمبك
ثم سكت للحظة وتابع مازحًا ليضيف جو المرح على جلستهم وينسيها الحزن:
_هنعمل كيف الافلام والمسلسلات ونعيد الإيام كيف ما كانت بكل حذافيرها
ضحكت بخفة ثم رمقته بخبث وهي ترفع حاجبها:
_ويعني أنت فاكر كل الأيام اللي فاتت وأحداثها
انحنى عليها بوجهه وهمس في نظرة كلها ثقة وعاطفة اربكتها بشدة:
_والله أنا فاكر الجزء الخاص بينا كويس قوي يعني اقدر اعيدلك مواقفنا وكلامنا مع بعض بالحرف لو تحبي
توترت بشدة وتلونت وجنتيها باللون الاحمر ثم قالت له مسرعة لتنقذ نفسها من ذلك الوضع المحرج:
_طيب معندكش صور لينا في خطوبتنا أو من خروجاتنا مع بعض
لمعت عينيه بوميض الحماس عندما ذكرته بأمر الصور وأدرك أنها حقًا فرصة جيدة جدًا لتساعدها على التذكر بوقت اسرع، فأخرج هاتفه وجلس بجوارها على الفراش ثم فتح معرض الصور بالهاتف وظل يبحث بين الصور حتى عثر على صورهم معًا، ظلت تتأمل في صورهم ولحظاتهم معًا فلاحظت أنه كان يبدو عليه الزرانة والهدوء على عكسها هي التي كان يبدو عليها الفرح والسعادة والحماس في كل الصور.
كان هو مع كل صورة يسرد لها تاريخها ومكانها وما الذي حدث بذلك اليوم، كانت تستمع له بأذنها ولكن عقلها مشغول بتعبيراته الجامدة في الصور وكأنه ليس سعيد بقدرها، تشتت ذهنها وهي تنظر بين وجهه الحالي المفعهم بالحماس والحب والفرحة وهو يريها صورهم معًا وبين مظهره بتلك الصور، وكأنهم شخصين مختلفين!!.
***
غادرت غزل المنزل بعد انصراف آسيا، لم تخبر أحد بخروجها سوى إنصاف بعدما أوضحت لها أنها ستقوم بشراء بعض مستلزماتها الشخصية وتعود فورًا في خلال ساعة كأقصى حد، فوافقت والقت عليها تنبيهاتها الصارمة بأن تجيب على هاتفها فور اتصالها به ولا تتأخر بالخارج أو حتى تبتعد كثيرًا عن الشوارع التي حولهم حتى لا تضيع طريقها.
ظلت تتجول بين المحلات في الشوارع المجاورة لمنزلهم وهي تشتري من كل مكان ما تحتاجه ودون أن تنتبه أثناء سيرها الحر في الشوارع، وقفت عندما وجدت نفسها بمكان غريب لم تره من قبل فراحت تتلفت حولها بزعر، هي حتى لا تعرف من أي شارع دخلت لذلك المكان، حولها مداخل كثيرة متفرقة لشوارع متداخلة ومتقاربة، حاولت التقاط أنفاسها والتريث حتى تستطيع التذكر والعودة للمنزل، وظل تتلفت بين الشوارع محاولة تخمين أي شارع منهم الذي يؤدي للمنزل، هُيأ لها كما تعتقد أو تتذكر أنه الشارع الذي على اليسار فسارت باتجاهه وهي تدعى ربها أن يكون الشارع الصحيح ولا تضيع أكثر.
تحركت بخطواتها البطيئة ودخلت ذلك الشارع دمت بالبداية أنها بالطريق الصحيح لكن أدركت أنها أخطأت الاختيار، حاولت السير في الشوارع على أمل أن تجد طريقها وتعود للمنزل لكنها كانت تشعر أنها تبتعد أكثر وأكثر عن المنزل وتضيع أكثر، هي بالفعل تائهة ولا تعرف طريق العودة، وقفت بمنتصف أحد الشوارع وهي تفكر بخنق واضطراب بسيط ماذا تفعل وكيف تعود للمنزل خصوصًا أنها لم تخبر أحدًا بخروجها، في حين ما كانت منشغلة بالتفكير في حل لتلك المعضلة كانت تلاحظ نظرات الشباب الوقحة والجريئة لها، بعضهم يمر من جوارها ويتغزل بها بكلمات سوقية ومنحرفة، تسارعت نبضات قلبها وارتعدت بشدة من أشكالهم التي بدت كأنهم مجرمين أو شباب مدمنين ليسوا طبيعين، ربما كانت أشكالهم عادية بالنسبة للناس كلها لكن بالنسبة لفتاة مثلها كانت تراهم مرعبين وكأنهم ضمن عصابات الاختطاف الذين يعتدون على الفتيات ومن ثم ياخذون أعضائهم، تمالكت أعصابها التي بدأت بالأنهيار وهرولت بسرعة تخرج من ذلك الشارع بخطواتها السريعة، لكنها لم تسلم من أعينهم التي كانت تراقبها وتأكلها بنهم ولا كلماتهم المقززة وهم يتغزلون بها وبملابسها وجسدها.
أخرجت هاتفها من حقيبتها دون تفكير وهي تهرول في السير لتبتعد عنهم وأجرت اتصال بـ " علي " بعد لحظات معدودة أتاها رده الهاديء:
_نعم ياغندورة
هتفت بصوت مرتعد وهي تستنجد به:
_علي help me, please انا طلعت اشتري حجات وتوهت ومش عارفة ارجع البيت
انتصب في جلسته بقلق وقال محاولًا تهدأتها:
_طيب اهدى انتي طلعتي روحتي فين؟
كانت تجيبه وهي تتلفتت حولها تتفقد هؤلاء الشباب هل ابتعدوا عنها ام لا فوجدت أنهم غيروا طريقهم هدأت أنفاسها المتسارعة قليلًا وهتفت:
مروحتش مكان بعيد حوالين البيت في الشوارع اللي في نفس المنطقة بس أنا توهت وفي شوارع كتير وحتى مش عارفة هل أنا بعدت خالص ولا لسا قريبة من البيت
علي بصوت رزين ليهدأ من روعها:
_طيب اوصفيلي أي حاچة حواليك اسم محل أو مكان
تلفتت حولها تبحث عن أي محلات فقالت وهي تهز رأسها له بالنفي ومازال صوتها يحمل نبرة الخوف الشديد:
_مفيش أي محلات في الشارع كله بيوت سكنية، بس في عمارة مكتوب عليها بيت الحج سلام
تنهد الصعداء براحة بعدما عرف مكانها عندما أخبرته باسم منزل ذلك الرجل فقال لها بدفء ونبرة رجولية بث بها الطمأنينة لصدرها:
_طيب اهدى أنا في المعرض مع چلال والمعرض قريب من مكانك ده دقيقتين واكون عندك خليكي عندك متتحركيش سامعة
أجابته بالموافقة دون أي اعتراض:
_حاضر، بس متتأخرش عليا please ياعلي أنا خايفة أوي
أنهت معه الاتصال وظلت بمكانها لا تتحرك كما أمرها واخذت تتلفت حولها تطمئن أن هؤلاء الشباب ابتعدوا تمامًا عنها، فاطمأنت عندما لم تجد أحد سواها بالشارع، كانت قدميها ترتجف من فرط الرعب.. للحظة ظنت أنهم سيختطفونها كما تشاهد في الافلام ويقوموا بالاعتداء عليها، امتلأت عيناها بعبرات الخوف وعيناها عالقة على بداية وآخر الطريق تنتظر وصول " علي " ، فور رؤيتها لسيارته وهي تظهر من بداية الشارع ارتخت عضلات جسدها المتشنجة واطمأنت وانتظرته حتى وقف أمامها بالسيارة واستقلت بالمقعد المجاور له، ودون أي مقدمات أو حتى تفكير كانت تميل عليها وتلف ذراعيها حول رقبته تعانقه بقوة وانفجرت باكية وهي تهتف بصوت مرتجف:
_ علي thank you بجد إنك جيت بسرعة
تجمدت الدماء في عروقه من تصرفها المفاجئ، واتسعت عينيه بذهول محاولًا استيعاب أنها الآن ملتصقة به وتعانقه كالعشاق تمامًا، كانت يديه في الهواء بعيدًا عنها لا يعرف ماذا يفعل يبعدها أم يضمها، لو خيروه سيختار ضمها بالطبع وهي تمامًا كالفتنة لا يستطيع مقاومتها، قرب يده من ظهرها ومسح عليه بسطحية شديدة كون أن يضمها هامسًا:
_انتي بتبكي ليه دلوك اهدى، أنتي أول مرة تتوهي ولا إيه؟!
ابتعدت عنه وهي تهز رأسها بالنفي ثم أطرقت رأسها أرضًا وقررت الاعتراف له بما حدث معها وجعل أعصابها تنهار بهذا الشكل:
_اصل كان في شباب شكلهم مرعب ومخيف أوي انا حسيتهم مجرمين كانوا ماشين ورايا وبيبصولي بطريقة غريبة وبيقولوا كلام مش كويس أنا معرفش ده ذم ولا مدح أصلًا وخوفت منهم جدًا بس لما اتصلت بيك هما مشيوا فورًا
تحولت ملامح وجهه من اللطف والحنو إلى أخرى كانت مرعبة بالنسبة لها أكثر من نظرات هؤلاء الشباب، أظلمت عينيه وتشنجت عضلات وجهه وهو يسألها بصوت محتقن:
_شكلهم إيه؟
استنجت أنه يريد وصفهم لانه بالتأكيد يعرف أغلب الشباب بمنطقتهم وربما سيقحم نفسه بمشكلة معهم، فقالت بخوف محاولة تهدأته وهي تكذب عليه:
_معرفس أنا مشوفتش وشهم كويس كنت خايفة منهم ومركزتش، وهما اصلا مأذونيش والله كانوا بيضيقوني بالكلام بس
صرخ بصوت جهوري منفعل:
_كيف يعني مشوفتيش وش أي واحد منهم لابس أيه أي حاچة ياغزل
هزت رأسها بالنفي وهي مرتعدة منه ومن سياحه وجموحه المرعب بينما هو فنظر لها ولملابسها التي تظهر ساقيها وذراعيها فاستشاط أكثر وصرخ بها بعصبية:
_مهو لازم تتعاكسي وتلمي حواليكي الـ***** بالقرف اللي لبساه ده، إيه اللي طالعة بيه من البيت ده!!!!
أطرقت رأسها أيضًا وانهارت في البكاء من توبيخه وصراخها بها وجسدها مع شهقة ينتفض ويرتجف، هدأ هو قليلًا وارتخت عضلاته المتشنجة عندما رآها بهذه الحالة ثم قال لها باقتضاب:
_خلاص اسكتي بزيادة بكى، تخلي الواحد يخرچ عن شعوره وفي الآخر تبكي، قولتلك خلاص متبكيش
توقفت عن البكاء مجبرة ومسحت دموعها بظهر كفها وجسدها مازال يرتجف فنظر لها وهو يتأفف بقلة حيلة ويستغفر ربه ثم قال بنبرة هادئة ورزينة أخيرًا:
_يابت الناس ليه مصممة تخليني اوريكي الهمجي اللي جوايا اللي بتقولي عليه ده، أنا مش نبهت عليكي مليون مرة مفيش حريم عندنا بتطلع بالخلجات دي من البيت، إيه اللي طالعة بيه ده ردي عليا
حاولت الثبات والصمود فخرج صوتها المبحوح وهو تقول:
_أنا عايزة اروح البيت من فضلك
مسح على وجهه متأففًا بنفاذ صبر ثم قال لها بنظرة مرعبة وصوت تحذيري:
_ماشي ياغزل هنروح البيت، بس من إهنه ورايح مفيش طلوع من البيت باللبس ده واصل مفهوم ولا لا وإلا هتشوفي مني وش مش هيعچبك، اديكي شوفتي اللي چرا النهاردة، أنتي إهنه مش في أمريكا إهنه في دياب وكلاب صعرانة تاكلك اكل، فهمتي يابت العمة؟!
نظرت له غزل بعينان غارقة بالدموع وقالت في صوت ضعيف:
_فهمت ممكن بقى تروحني
اشاح بوجهه بعيدًا عنها وهو يزفر ثم انطلق بالسيارة يشق طريقه إلى المنزل....
***
وصل بشار المنزل بعدما عاد من المستشفى، وكان يسير بالمنزل ويصعد الدرج وهو عقله مشغول لمريم ويفكر في كلامهم معًا وسؤالها له بنظرة شك وتعجب لماذا لم يكن يبدو عليه السعادة بقدرها في صورهم معًا.. ألم يكن يحبها ويبادلها نفس المشاعر أم ماذا؟!، عندما كان على وشك الدخول لغرفته سمع صوت إخلاص وهي تنده عليه فتوقف والتفت لها فوجدها تسرع نحوها بوجه ذابل من فرط البكاء وتسأله بتلهف:
_عمران وين يابشار مرچعش البيت من امبارح؟!
تنهد الصعداء بإشفاق على حالها وقال نافيًا:
_معرفش مكانه هو كلمني تلفون بس، متقلقيش عليه هو كويس
اقتربت منه أكثر وامسكت بيده تتوسل إليها بنظراتها الأمومية:
_وغلاوتي عندك يابشار ما تكذب عليا ياولدي لو تعرف مكانه وقولي
مسح على ذراعها بحنو وتمتم بصدق:
_والله ما اعرف يامرت عمي مقاليش حاچة وأنتي عارفة ولدك لما بينشف راسه، سبيه لما يهدى
إخلاص ببكاء حار وندم:
_عمران مش هيسامحني أنا عارفة ولدي مش بينسى بسهولة وعنيد وقاسي لما بيشيل من حد
أجابها بشار بنظرة حادة ونبرة معاتبة:
_ومفكرتيش ليه إكده ليه يامرت عمي من الأول، الصراحة عنده حق يزعل منك ويشيل اللي عملتيه مش هين وميتغفرش بسهولة كنتي عاوزة تأذي مرته وتموتي ولده
إخلاص بقهر وانهيار شديد:
_ندمانة والله، اتكلم معاه يابشار وقوله أمك بتقولك مستعدة تعمل كل حاچة عشان ترضيك بس ترچعلها، أنا مقدرش على فراقه ولا زعله مني
أطلق زفيرًا حارًا بقلة حيلة وقال لها بلطف:
_حاضر هتكلم معاه اهدى أنتي وبلاش تتعبي روحك عشان حتى لو هيسامحك مش هيبقى دلوك يعني لسا محتاچ وقت
***
داخل منزل چلال.......
كانت فريال تجلس بالصالة على الأريكة تشاهد التلفاز على أحد الأفلام الكوميدية وتضحك بقوة، لم يكن بالمنزل أحد غيرها بعد ذهاب أولادها على المدرسة وزوجها للعمل، احسن فجأة بألم شديد ظاهمها للحظة في بطنها فأطلقت آه متألمة وعندما وجدت الألم لم يستمر تجاهلت وأكملت الفيلم، لكن ثواني وعاد الألم أشد من السابق وهذه المرة لم يتوقف بل استمر يزداد ويزداد تمامًا كان ألم يشبه طلق الولادة فظلت تصرخ وتتألم وبينما كانت على وشك التقاط هاتفها لتتصل بزوجها سمعت صوت الباب ينفتح فصرخت منادية عليه وسط صراخها العالي:
_چــــلال الحقني
***
خرج عمران من غرفة الطبيب وهو يحمل ابنه بين ذراعيه بعدما انتهوا من الفحص واطمئنوا على طفلهم وأخبرهم الطبيب أن ألم المعدة وبكاء الطفل في أول أيامه بعد الولادة يكاد يكون طبيعي، كانت تسير آسيا بجوار عمران وتختلس النظر إليه فتراه ينظر لطفلهم ويبتسم له بحنو، حاولت هي الأخرى إخفاء ابتسامتها السعيدة والمتأثرة بحنانه وحبه الشديد لابنه، رغم كل شيء بينهم لكنه يأثر قلبها بكل مرة تشهد على تصرفاته الأبوية الجميلة مع صغيرهم.
وصلوا للسيارة وقبل أن يستقل هو بمقعده وضع الصغير بحضنها والتف حول السيارة من جهة الأخرى ليفتح لها الباب ويبتسم بدفء، تعجبت من نظرته وتصرفه الراقي فرمقته بريبة ثم زمن شفتيها بجهل واستقلت بالمقعد بحرص شديد وهي تحمل ابنها، ثم اغلق هو الباب وعاد من جهة مقعده المخصص للقيادة واستقل به ثم انطلق عائدًا للمنزل، طوال الكريق أثناء ذهابهم وهي تستعد لسماع التوبيخ والصراخ منه لأنها أخفت عن مرض ابنه وكانت ستذهب الطبيب به دون أن تخبره لكنه لم يفعل شيء، وحتى أثناء عودتهم الآن هو هاديء بشكل مخيف وكأن شيء لم يكن، قررت هي إثارة غضبه قليلًا علها تفهم سبب ذلك السكون الغريب:
_أنت ليه چيت؟
رغم ضيقه من سؤالها وكأنه غريب تريد تهميشه وإبعاده عن طفلها، لكنه قد اتخذ عهدًا أن يجعلها تسامحه فهو أدرك خطأه عندما لم يصدقها وجرحها بكلماته وهي الآن لديها الحق في الغضب والتصرف بقسوة معه، مهما قالت وفعلت قليل أمام ندمه أنه لم يصدقها.
رد عليها بكل بساطة وهو لم يبعد بنظره عن الطريق:
_ولدي تعب.. مش ده المفروض اللي يحصل وآجي معاكي للدكتور واطمن عليه، حتى لو أنتي كنت ناوية تروحي من غير ما تقوليلي
ابتسمت بتهكم واستياء ثم نظرت له بنارية وقالت:
_أيوة إكده وأنا بسأل نفسي واقول إيه اللي چراله ساكت ليه ولا زعق ولا اتعصب ولا شك فيا وقالي كنتي هتطلعي من غير ما تقوليلي تروحي وين
أطلق زفيرًا قوي بوجه عابس ونظرات ثاقبة ثم اوقف السيارة على جانب الطريق ونظر لها بعينان تهيمان عشقًا وآسفًا ثم مد يده وسط حيرتها من أمره واحتضن كفها وانحنى عليه ليلثم ظاهره بعدة قبلات متتالية ويخرج صوته المهموم:
_حقك عليا أنا آسف
اتسعت عينيها وفغرت شفتيها بصدمة لا تستوعب شيء، ما تلك الحالة التي هو بها وعلى ماذا يعتذر هل اعترف بخطأه أخيرًا أم ماذا؟!.. لمسات شفتيه الغليظة وشعر لحيته وشاربه على بشرتها الناعمة اثارت القشعريرة في جسدها فسألته بصوت خافت:
_آسف على إيه؟!
رفع شفتيه عن يدها ونظر لعينيها بغرام صادق وأسف وهتف بندم:
_على كل حاچة، أني مصدقتكيش وظلمتك ومخدتش حقك وحسستك بعدم الأمان والثقة لما شكيت فيكي وعلى الكلام السم اللي قولتلهولك يومها
خرج صوتها محملًا بالفضول والحيرة:
_وياترى إيه اللي خلاك تعترف بغلطك دلوك وتعتذر مني
مسح على وجهه بغضب ثم قال بوجه يحمل هموم الدنيا كلها:
_عرفت كل حاچة وأن أمي هي اللي زقتك من على السلم وكانت عاوزة تسقطك
مالت بوجهها للجانب وهي تضحك بصمت في تهكم وثقة ثم عادت ونظرت له بقوة وقالت:
_سمعت بودنك صُح؟.. أصل أنت مكنتش هتصدق غير لما تسمع بودنك حقيقة أمك اللي فاكرها ملاك، كام مرة اقولك واترچاك واقولك ياعمران والله ما بكذب أنا إيه مصلحتي أن اكذب عليك في حاچة كيف إكده هو أنا هوقع نفسي قصد عشان بس اخرب بينك أنت وأمك، لكن أنت قافل راسك ومعزوش تصدقني وأخرها خالص لما غلبت مني قولتلي يمكن بيتهيألك لما لقيتني هملت البيت وسبتك عشان كنت بتكذبني ومش مصدقني فقولتلي إكده عشان متخلنيش احس أنك مش مصدقني، دلوك بعد ما عرفت وسمعت بودنك چاي تعتذر مني وتقولي أنا آسف
انحنى عليها ولثم رأسها بقبلة بث فيها كل شوقه وغرامه لها وهتف يترجاها:
_سامحيني ياغزالي غصب عني والله مهما كان دي أمي وكان صعب أصدق أنها تعمل فيكي وفي ولدي إكده، أنا لغاية دلوك مش مصدق كيف عملت إكده فيا وفي ولدي اللي ملوش ذنب في حاچة
ابعدت رأسها عن شفتيه وقالت بجفاء وهي تحاول التحكم بدموعها:
_عرفت الحقيقية بس بعد فوات الآوان ياعمران خلاص
عاد وانحنى عليها مجددًا وهذه المرة لثم كتفها بندم ثم أمسك بكفها يحتضنه بين كفيه وينظر في عينيها بندم حقيقي يلقي عليها وعوده الصادقة:
_لساتك مرتي ومفيش حاچة فاتت تعالي ننسى اللي فات ونبدأ من الأول، واوعدك إني هتغير وهتشوفي عمران تاني خالص، بس متحرمنيش منك يا آسيا والله أنا فراقك بيقتلني ودلوك عاوزة تحرميني من ولدي كمان
امتلأت عيناها بالعبرات وهي تراه أمامها يتوسلها كالطفل الصغير لكي لا تتركه، لان قلبها لحبيبه الغالي وللحظة كانت ستستسلم له لكن بسرعة تراجعت بعدما تذكرت كلماته الجارحة التي سمم أذنها بها، فسحبت يدها من كفه واشاحت بوجهها بعيدًا عنه هاتفة بقسوة:
_مفيش بيني وبينك ياعمران دلوك غير سليم وبس متنتظرش مني غفران، أنا لو نسيت انك مصدقتنيش وسامحتك عمري ما هنسى كلامك ليا ولا هسامحك عليه
امتلأ صدره باليأس لكنه لن يتوقف عن المحاولات معها حيث هتف بصوت رجولي عاجز:
_آسيا أنتي عارفة أنا بحبك كيف وروحي فيكي، معقول صدقتي كلامي وأنك صُح اتخدعتي فيا، أنا كنت متعصب ومش داري باللي بقوله، عارف أني غلطان ومفيش عذر للي قلته بس والله العظيم الكلام ده ما صح ولا عمره هيكون ده اتقال في لحظة شيطان بس، أنا استاهل عقابك ليا بس على الأقل عاقبيني وأنتي چاري متحرمنيش منكم، افتكريلي أي حاچة زينة ياحبيبتي
سالت دموعها فوق وجنتيها بغزارة وهي مازالت تشيح بوجهها عنه ترفض النظر إليه معبرة عن إصرارها على قرارها وعدم مسامحته فقرر هو أن يلقي بورقته الأخيرة علها تلين قليلًا حيث قال مبتسمًا بحب:
_يلا بينا نرچع بيتنا بس المرة دي مش بيت أبوي، هنعيش من إهنه ورايح أنا وانتي وولدي وعيالنا الجايين في بيتنا وحدينا بعيد عن أي حد ممكن يضايقنا، أنا كنت مستني الفرصة المناسبة عشان اقولك على المفاچأة دي ومفيش انسب من الوقت
تمالكت أعصابها المنهارة بصعوبة وهتفت بصوت مبحوح من فرط البكاء:
_روحني بيت أبوي ياعمران
ارتخت عضلات وجهه وجسده كله في أسى وضيق، ثم قال لها بنظرة كلها وعيد وهو يقبل يدها من جديد بعدما أدرك أن لا فائدة من المحاولة معها أكثر من ذلك الآن:
_حاضر هروحك بيت أبوكي لغاية ما تهدي وترتاحي يا آسيا، ومتفكريش في الطلاق عشان مش هيحصل وأنا هفضل وراكي لغاية ما اصلح كل حاچة بينا وتسامحيني ومتنتظريش مني أني اصبر عليكي كتير واهملك أنتي وولدي بعيد عني، أنا هسيبك دلوك بس لغاية ما تهدي فترة مؤقتة يعني وبعدين هترچعي معايا بيتك وهناك عاقبيني كيف ما أنتي عاوزة
............... نهاية الفصل ...........
•تابع الفصل التالي "رواية و بالعشق اهتدي" اضغط على اسم الرواية