رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل الخامس و العشرون 25 - بقلم مريم غريب
الفصل الخامس و العشرون _ أقوى عشق _ :
لقد مرّ يومان على الحادثة المشؤومة ..
يومان و لا زال البيت هادئًا.. هادئًا للغاية.. لكنها تعلم إن هذا الهدوء شكليًا فقط ..
إنها مرعوبة رغم ذلك.. و لم تشعر خلال حياتها بهذا الحزن غير المحتمل.. إلا عندما دلفت إلى تلك الغرفة و رأت الحالة التي كانت عليها “صفيّة البحيري” ..
لا تعرف من أين واتتها كل هذه الشجاعة في هذا الموقف.. لكنها لم تشعر بالبطولة على كل حال.. لأن الموقف بدا كارثيًا.. و ما تلاه كان الأكثر فداحةً …
_____________
-خديني من هنا يا سمر !!
كانت أخر كلمات نطقتها “صفيّة البحيري” بصوتها الضحل قبل أن يُغشى عليها بغتةً ..
بالكاد تمالكت “سمر” رباطة جأشها و منعت صرخة فزع من بلوغ حنجرتها.. في نفس اللحظة شعرت بخطوات “صالح البحيري” تقترب من ورائها ..
استدارت نحوه و اعترضت طريقه هاتفة بحزمٍ :
-إيـاك.. إيـاك تقرب لها سامع !!؟؟
صاح فيها بغضبٍ مستطير :
-اوعي من قـدامي يا سمـر.. انتي مالكيش أي صفة هنا
ابعدي من قدامي بدل ما ابعدك بطريقتي !!
سمر بتحدٍ : جرّب كده.. عشان بعد إللي حصل ده عثمان أكيد هايصدقني
مش هيصدقك انت.
هكذا عجّزته.. وقف ينظر تارةً لها و تارة نحو “صفيّة” بقلّة حيلة.. ليقول بنبرةٍ معذّبة :
-دي مراتـي !!!
سمر بصرامة و جلد تُحسد عليهما :
-محدش هايلمسها.. لا أنا و لا انت.. غير لما يجي أخوها !
و لم تنتظر منه أيّ تعليق أو حتى رد ..
أستلّت هاتفها من جيب ثوبها و شرعت بالاتصال بزوجها.. أجاب من ثالث صافرة.. لم تخبره الأمر تفصيليًا على الهاتف.. و إنما أوجزت و هي تعلمه بحالة شقيقته المتدهورة.. و طلبت إليه أن يعود مسرعًا إلى البيت ..
في هذه الأثناء اختفى “صالح البحيري” بالحمام الملحق بالغرفة.. و خرج بعد برهة قصيرة و قد بدّل ثيابه.. لم تمر دقائق أيضًا إلا و أتى “عثمان البحيري” ..
سبقه صوته الجهوري و يأمر صديقه بالخارج :
-خليك هنا يا مراد.. لما الدكتور يوصل دخّله ..
يلج أخيـرًا لاهث الأنفاس.. و تهبط الصدمة على رأسه كصاعقة فور أن يرى شقيقته على حالٍ لم يخيّله البتّة …
-صافـي !!! .. تمتم “عثمان” مصدومًا
و هرول إليها فورًا.. أول شيء فعله أن فك وثاق معصميّها و هو يخاطب زوجته في نفس اللحظة :
-إزاي تسيبيها كده يا سمر ؟؟؟
مين إللـي عمل فيها كده أصـلًا ؟؟؟؟؟
كانت صدمته تتضاعف بقسوة كلّما تحقق من حالتها.. و خاصةً شعرها الذي تناثر من حولها.. شعرها الطويل المميّز.. لقد تم قصّه و إزالته بيدٍ حاقدة ..
يرفع “عثمان” بصره نحو زوجته مطالبًا بأجوبة على أسئلته.. لم ترد “سمر”.. لكن اكتفت برمي نظرة إتهامية مطوّلة صوب “صالح” ..
تبع “عثمان” نظراتها.. ليستقر ناظريه على ابن عمه.. و يملؤه خليط من الذهول و الغضب الشديد.. و لعل شيء من الاستنكار ..
فهو يعلم إلى أيّ مدى يعشق “صالح” شقيقته منذ نعومة أظافرها.. و لم يسبق أن رفع يده عليها مطلقًا.. فكيف بحق الله يفعل بها كل هذا !!!؟؟؟؟
لم تتسنّى له الفرصة ليأتي بأيّ ردة فعلٍ.. وصل الطبيب.. أدخله “مراد” دون أن يحاول الظهور حتى قرب أعتاب الغرفة مراعيًا خصوصية و حساسية الوضع برمته ..
و هنا أقبلت “سمر” حاملة روبًا لشقيقة زوجها.. تركها “عثمان” لتستر عورة أخته و تراجع عنهما مشيحًا ببصره ..
واصل “صالح” التهرّب من عينيّ ابن عمه.. و ظل مركّزًا نظراته نحو زوجته ..
جرى الفحص في الحال و قد كان طبيب العائلة متوترًا.. صامتًا و كأن صدمته لا تقل شيئًا عن الجميع هنا.. بدا الأسف و الحزن الشديد على ملامحه بمرور الوقت ..
حتى فرغ من فحصه الدقيق و إلتفت موجّهًا حديثه إلى “عثمان البحيري” وحده :
-عثمان بيه حالة مدام صفيّة مش مستقرة.. لازم تتنقل المستشفى دلوقتي حالًا
في نزيف لازم يوقف !!
و ألقى ذات نظرة الإتهام صوب “صالح البحيري”.. بينما ردد “عثمان” مشدوهًا :
-نزيف !
أختي أنا !؟؟
لم يكن “عثمان” بحاجة إلى مزيدًا من الشرح.. فهم كل شيء.. لكنه لم يريد أن يصدق بأن هذا حقًا صار لأخته ..
استدار “عثمان” ليواجه “صالح” الآن.. كان جسمه كله يرتعش من فرط الغضب.. و كان قاب قوسين أو أدنى من فقدان صوابه عليه ..
لو لا جاءت “سمر” و وقفت بجواره متمسكة بذراعه و هي تقول بصوتٍ حازم :
-عثمان.. صفيّة لازم تتنقل المستشفى
مافيش وقت !
و نفذت كلمتها ..
أرجأ “عثمان” المواجهة لوقتٍ لاحق.. ليطمئن على شقيقته أولًا.. ثم لكل حادثٍ حديث ..
حملها على ذراعيه إلى سيارته لضيق الوقت.. لم يطلب سيارة إسعاف حتى.. رافقتهما “سمر”.. بينما “مراد” أخذ “صالح” معه في سيارته الخاصّة …
-عنف جنسي !
جواب واضح و صريح نطقه الطبيب المختّص.. ما إن سمعه “مراد” حتى انسحب للخلف تاركًا أفراد العائلة مع الطبيب على حدة تمامًا ..
بينما لم يتفاجأ “عثمان”.. فقد أدرك منذ الوهلة الأولى.. و لكن الصدمة أعمته مؤقتًا …
-صافي كويسة يا دكتور !!؟؟؟ .. تساءل “عثمان” بقلقٍ حاد
طمأنه الطبيب بهدوء :
-أطمن يا عثمان بيه.. مدام صفيّة هاتبقى كويسة جدًا
لكن هاتفضل تحت الملاحظة شوية و هاتستنى معانا لحد بكرة.. ماتقلقش.. مافيش حاجة خطيرة بس عشان نطمن عليها خالص.
و تريّث لثوانٍ.. ثم سأله ضمنيًا :
-تحب نقوم بأي إجراءات تانية ؟
مرةً أخرى يدرك “عثمان” لأول وهلة مقصد الطبيب.. فهو يستوضحه بمواربة إن كان يود تحرير محضر قانوني ضد زوج شقيقته.. إلا إن “عثمان” نفى بصرامة :
-احنا تمام يا دكتور.. ما دامت أختي كويسة و بخير
أي حاجة تانية أنا هقدر أحلّها بنفسي.. شكرًا على تعبك معانا.
-العفو لا شكر على واجب.. طيب أنا هستأذن دلوقتي عشان عندي استدعاء
بعد أذنك …
و أنصرف الطبيب الآن ..
و قد خلت قاعة كبار الزوّار تمامًا إلا من أفراد العائلة.. و صديق “عثمان البحيري” المقرّب ..
يستدير “عثمان” فجأةً مصوّبًا قبضته المتكوّرة إلى وجه ابن عمه ..
دوت صرخة “سمر” الفزعة للحظة قبل أن تكمّ فاها بكفّيها ..
بوغت “صالح البحيري” و لم يتخذ أيّ وضعٍ دفاعي.. أنفجر أنفه نازفًا في الحال.. و كان “عثمان” أسرع و أشرس من أن يردعه أحد.. أرقده فوق الأرض الرخامية و برك فوقه يكيل له اللكمات بعنفٍ شديد …
-كفاية يا عثمان !!!
تداخل صوت “مراد” بالمشهد و هو يحاول درء صديقه عن قتل “صالح” إذ بدا مستعدًا لإزهاق روحه ..
صاح “عثمان” بضراوة دون أن يُفلت ابن عمه قيد أنملة :
-سيبني يا مراد.. سيبني لازم أدفعه التمن
الحيوان.. إزاااي اتجرأت و عملت فيها كده ؟؟؟
انت نسيت نفسك يابن رفعت.. نسيت إللي عملت فيها كل ده تبقى ميــن ؟؟؟
ده أنا هاقتلك يالا !!!!
بصعوبة تمكن “مراد” من سحب “عثمان” من ظهره و الفصال بينه و بين “صالح” ..
بقي “مراد” ممسكًا به بينما يتوّعد “عثمان” بأغلظ الآيمان :
-و عزة الله لا تندم يا صالح.. صفيّة دي مش هاتشوف ضفرها تاني.. أبوها مات.. بس أنا لسا عايش و هاوريك إللي عمرك ما تخيّلت ان أنا اعمله فيك ..
-أختك خاينة ! .. نطق “صالح” بشقّ الأنفس و هو ينهض واقفًا بأعجوبة
حملق فيه “عثمان” بقوة هادرًا و هو يحاول الإفلات من “مراد” الذي أبقى عليه باستماتة :
-انت بتقول إيـه ياض ؟؟؟
انت اتجننت ؟؟؟؟
جاوبه “صالح” و هو ينزح الدماء المنداحة من شفته و حاجبه في كمّ قميصه الناصع :
-إللي سمعته يابن عمي.. أختك عايزة تطلق مني منغير سبب
و لما سألتها في حد تاني في حياتك ماردتش.. و لا حتى أنكرت.. أختك خاينة يا عثمان !!
_____________
عادت “سمر حفظي” من الذكرى مستجيبة لصوت ابنها …
-ماما !
تنظر إليه “سمر”.. ابنها الرائع.. الوسيم مثل أبيه تمامًا.. إنه يجلس بجوارها فوق سريرها.. السرير الذي تشاطر زوجها إيّاه ..
ابتسم لها “يحيى” فابتسمت تلقائيًا.. و أحسّت بالثقل يغادر صدرها بالتدريج.. الحزن يتبدد برؤيته و لم تعد خائفة من المجهول ..
-حبيبي ! .. تمتمت “سمر” و هي ترفع كفّها ممسدة على وجهه برقة
يحيى بوداعة : أنا آسف اني دخلت من غير ما تأذني ليا.. كنت بخبط كتير و لما ماردتيش قلقت عليكي.. انتي كويسة ؟
هزت رأسها نفيًا و لكن دون أن تتخلّى عن ابتسامتها و قالت :
-بس لما شوفتك بقيت كويسة.. كنت جاي عاوزني في حاجة ؟
أومأ لها قائلًا :
-أيوة.. كنت جاي أسألك عن فريال هانم و عمتي صافي
انا سمعت إنهم رجعوا.. بس دوّرت عليهم في القصر كله و مش لاقيهم.. هما فين ؟
تنهدت “سمر” و جاوبته بصبر :
-فريال هانم وصلت من يومين بس راحت مشوار ..
-مشوار إيه !؟
-أنا ماعرفش.. بس ممكن تسأل باباك هو عارف ! .. و أكملت بشيء من التحفظ :
-عمتك صافي موجودة في القصر.. لكن مش هاتلاقيها في جناحها.
لمعت عينيّ الصبي و هو يقول :
-طيب قوليلي فينها عشان أروح أشوفها.. صافي وحشاني أوي.
سمر بلطف : مش هقدر أقولك يا حبيبي.. باباك مانع حد يروح عندها.
يحيى بدهشة : ليه ؟
اختلقت “سمر” كذبة بيضاء في الحال :
-أصلها تعبانة.. رجعت من السفر تعبانة شوية و باباك طلب لها الدكتور.. بقولك يا يحيى.. اوعى تقول لديالا ان مامتها هنا.. احنا ما صدقنا تهدا شوية و تبطل عياط.
هز “يحيى” رأسه للجانبين متمتمًا :
-مش هقول حاجة.. ماتقلقيش يا ماما
طيب بابا فين دلوقتي ؟
**
ينهي “عثمان البحيري” المكالمة الهامّة مشددًا على محدّثه :
-مش هقبل أعذار يا فارس.. مستنيك زي إنهاردة الأسبوع الجاي.. لو ماجتش الحفلة أول واحد اعتبر العقد إللي بينا لاغي ..
و ضحك بانطلاقٍ.. ثم اختتم الحوار معه بوداعٍ لبق و أغلق الخط طاردًا نهدة مشحونة من صدره ..
لقد سأم من التظاهر بأنه بخير و أن كل شيء على ما يرام.. و لا يُصدق بأن النوائب لا تأتي فرادى حقًا.. معضلة أخته “شمس” مع “رامز” من جهة.. ذهاب أمه من جهة.. و أخيرًا الكارثة التي ألمّت بشقيقته من جهة أخرى ..
و قد كانت الأشد وطأةً على قلبه ..
يسحب “عثمان” نفسًا عميقًا عبر النافذة المفتوحة.. ثم يزفره على مهلٍ مثبًا بصره على سماء النهار الصافية.. ليستدير فجأةً ناظرًا تجاه شقيقته ..
كانت “صفيّة البحيري” تجلس في سريرها.. ضامّة وسادةً صغيرها إلى صدرها.. تكاد تخفي بها وجهها الذي أسدلت عليه خصلة أمامية طويلة كانت الناجية من بطش و جنون زوجها في ذلك اليوم ..
سار “عثمان” ناحيتها بتوأدة.. شد كرسي في طريقه و جلس قبالتها مستهلًا حديثه بهدوءٍ متكلّف :
-أظن كفاية سكوت بقى.. و لا إيه ؟
لازم نتكلم يا صفيّة.
ردت “صفيّة” بصوتٍ خالٍ من الحياة :
-ماعنديش كلام أقول يا عثمان !
عثمان بحدة : إزاي.. لأ عندك طبعًا
ده بكلمة واحدة منك ردة فعلي واقفة.. أنا هادفّع صالح التمن غالي أوي على كل كلمة قالها عنك.. و كل تصرّف عمله فيكي.. بس قوليلي.. اتكلمي يا صافي !!
كررت “صفيّة” بذات اللهجة :
-مافيش كلام يتقال !
يخرج “عثمان” عن طوره في هذه اللحظة صائحًا و قد برزت أوردته :
-يعني إيــه ؟؟؟
إللي قاله صح ؟؟؟
ما لو ماسمعتش منك إنكار على كلامه هاتبقي فعلًا زي ما قال ..
و هب من مكانه فجأة مجفلًا إيّاها.. قبض على ذراعها بقوة آلمتها و أجبرها على النظر إليه مغمغمًا :
-إنطقي يا صافي.. إللي قاله صالح صح و لا غلط ؟
إنطقي و قوليلي.. انتي فعلًا تعرفي عليه راجل تاني ؟
إنـطـقــــــــــــــــــــــــــــي …
كانت لتخاف منه لأول مرة بحياتها ..
و لكنها خاضت مواقف لم يعد قلبها يرتعد لشيء من بعدها.. كل ما فعله صراخه بها أن أسال دموعها.. و خنق صوتها بغصّةٍ مريرة و هي تقول بصعوبة :
-أنا ماخونتش صالح.. و ماعرفش راجل عليه.. و مستعدة أحلف لك على كده يا عثمان.
سكت عنه الغضب نوعًا ما و قد أراحه جوابها.. سألها بصوتٍ أجش مخففًا قبضته على ذراعها :
-أومال طلبتي الطلاق منه ليه ؟ .. و سبتيه يعمل فيكي كل ده ليه ؟
ليه مأنكرتيش كلامه ليه سكتي ؟؟؟
غمرت الدموع خديّها الحمراوان و هي ترد منتحبة :
-عشان أسبابي ماينفعش تتقال.. مش هقدر أقولّه و لا أقولك و لا أقول لأي حد
أنا وعدت مامي !
أُخذ “عثمان” على حين غرّة.. لم توقع هذا.. و سألها فورًا :
-فريال هانم !
إيه علاقتها بطلاقك من صالح !؟
هزت رأسها مفلتة بعض الشهقات من فاها قائلة :
-روح لها و أسألها.. أنا مش هافتح بؤي.. مش هقول حاجة.. مش هقول أي حاجة ..
و بقيت تردد آخر كلماتها لبرهةٍ ..
يتركها “عثمان” الآن متراجعًا إلى كرسيه.. شحب وجهه مدركًا فداحة الأمر الذي يجهل تفاصيله.. إن أسباب “صفيّة” للطلاق تتعلّق بأمه إذن ..
و لكن لماذا ؟
و ما علاقة “صالح البحيري” بأمه في هذا الشأن ؟
آلاف التساؤلات.. أسوأ الافتراضات.. و لا يتمنى ألا يعلم ..
لكنه سيعلم.. لن يكون “عثمان البحيري” إن لم يعلم !!!!
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية كرسي لا يتسع لسلطانك) اسم الرواية