رواية المتاهه القاتلة الفصل الخامس و العشرون 25 - بقلم حليمة عدادي
اتجهت الأنظار إليها.. تظهر على وجوههم التساؤلات، ابتعدت “ماريا” قليلًا ونزعت القلادة من عنقها ومدت يدها بها إلى صاحب السفينة، حل الصمت لدقائق… حتى تحدث “رام” قائلًا:
ماريا، أنتِ بتعملي إيه؟ العقد دا بتاعك.
أجابته قائلة:
رام، العقد دا لو مفكتش بيه زنقتي يبقى مالوش لازمة.
بعدها وجهت كلامها لصاحب السفينة:
وأنت خذ العقد، دا دهب هيكفيك.
أخذ العقد من يدها، ونظر إليها بابتسامة.. كان يقلبه بين يديه بسعادة، رفع رأسه ونظر إلى “ماريا” قائلًا:
كدا اتفقنا خلاص، أنا ماشي، مع السلامة.
قبل أن يتحرك من مكانه أمسك “رام” ذراعه بقوة وأخذ القلادة من يده، نظر إلى “ماريا” وقال:
ماريا، خدي العقد بتاعك، أنا هلاقي حل، مش هياخد منك حاجة.
أخذت “ماريا” القلادة منه ووضعتها في يد الرجل، وطلبت منه الرحيل، وقبل أن يعترض “رام” أمسكت بيده، أحست بغضبه وحاولت تهدئته، فتحدثت قائلة:
رام، أنا مستعدة أقدم حياتي مقابل إننا نبعد عن الخطر.
سحب “رام” يده بغضب، وتحدث بصوتٍ كالرعد:
ماريا، أنتِ مبتسمعيش الكلام ليه، هو أنا مش مالي عينكِ ولا إيه، قلتلك خلي العقد معاكِ وأنا هحل الموضوع معاه.
حاولت أن تخبره أن كل ما يهمها هو سعادتهم وأن تبعدهم عن الخطر، وأن القلادة يمكن أن تُعوض، لكن هم إن حدث لهم مكروه فلن تستطيع تعويضهم، فهي لا تتحمل فكرة أن تفقدهم، لكن “رام” لم يستمع لها والغضب ما زال ظاهرًا على معالم وجهه، تدخل “جان” لكيلا تكبر المشكلة، فتحدث قائلًا:
رام، احنا ملناش حد هنا، العقد ممكن يتعوض، يلا نمشي من هنا.
تحرك “رام” من دون أن يتفوه بكلمة وتحركوا خلفه، أحست “ماريا” بالحزن، هي كانت تريد مساعدتهم، فلماذا هو غاضبٌ منها، هي تعلم جيدًا أنه لولا تلك القلادة لأصبح ذلك الرجل بلاءً عليهم، وقفت “ماريا” وهي عاقدة يديها أمام صدرها وتحدثت قائلة:
رام، احنا بقينا واحد مفيش فرق بيننا، أنا قدمت العقد بتاعي علشان نحل المشكلة ونبعد عن المشاكل، ونعيش حياتنا بسعادة، لكن الظاهر إن الحزن مش راضي يسيبنا.
أخذ “رام” نفسًا عميقًا، مسح وجهه بيده، التفت إليها وحاول أن يكون هادئًا، تحدث بهدوء:
ماريا، العقد دا بتاعك، وأنا مش هاخد منك حاجة، كنت عايز أحل الموضوع بنفسي.
اقتربت منه “ماريا”.. نظرت إليه، نظراتها أصبحت كالإدمان بالنسبة له، تأخذه إلى عالم آخر، ينسى أين هو، ينسى كل من حوله، أصبح لا يسمع شيئًا سوى دقات قلبه، أفاق من شروده على صوتها:
رام، خلاص انسى وخلينا نفكر هنعمل إيه، وهنروح فين.
تحركوا يسيرون في الشوارع وهم يستنشقون الهواء النقي بشوق، كانت الأنظار مصوبة نحوهم، منهم من ينظر إليهم بشفقة، ومنهم من ينظر إليهم بسخرية، ومنهم من ينظر مستغربًا من حالهم، أحست “ماريا” بالإحراج من نظرات الناس لهم، كانت ملابسهم متسخة، وأحذيتهم ممزقة، كان حالهم صعبًا، فهم “رام” ما تفكر به، اقترب منها وتحدث بهمس:
سيبك منهم ومتهتميش لنظراتهم، فاضل شوية ونوصل بيتنا الصغير.
نظرت إليه بابتسامة، وعادت تنظر أمامها.. كانوا يدخلون شارعًا ويخرجون لشارع آخر، حتى وصلوا إلى أحد الأحياء البسيطة والمبهجة، وفور دخولهم تعالت الأصوات.. الكل يصرخ باسم “رام”، تحدث أحد الأطفال بصوتٍ عالٍ قائلًا بسعادة:
رام وإخواته رجعوا، رام رجعلنا.
ابتسم “رام” باشتياقٍ إلى هذا المكان الذي نشأ فيه، وعاش بين هؤلاء الناس البسطاء، كان محبوبًا من الجميع، ويساعد الجميع، وكان عونًا للكبير والصغير، وقف في منتصف الحي، اجتمع أهل الحي حوله بفرحةٍ لم يصدقوا أنه عاد، كانوا قد فقدوا الأمل بعودته، اقتربت منه امرأةٌ عجوز.. ركض نحوها قبّل يدها ورأسها بحب، تحدث بدموعٍ واشتياق:
خالة مريم، ازيك؟ وحشتيني أوي.
نظرت إليه والدموع في عينيها، وتحدثت بفرحة:
من لما مشيت وأنا تعبانة، أنت اللي كنت بتسأل عليّ، أنت ابني اللي مخلفتهوش، كنت فين طول المدة دي.
ربت على كتفها بحنان، وأخبرها أنه سوف يحكي لها كل شيء حدث له لكن ليس الآن، فهو بحاجة إلى الراحة، ثم سأل عن البيت الذي كان يعيش فيه، هل ما زال فارغًا أم أخذه صاحبه، انتظر الرد منهم… خاف أن يكون أحدٌ آخر قد أخذه، فهو لا يملك مكانًا آخر.
ردت “مريم” قائلة:
صاحب البيت مات، وقبل ما يموت كتب البيت باسمك أنت وأخواتك، والشباب كانوا بينظفوه مرة في الأسبوع على أمل إنك ترجع.
تلألأت الدموع في عينيه، فذلك الرجل كان أقرب شخص له، كان حنونًا، كان يرغب برؤيته وأن يقص عليه ما حدث معهم، كان بمنزلة أبٍ له، مسح دمعة نزلت من عينيه، ثم استدار للجميع وتحدث قائلًا:
عن إذنكم، أنا محتاج أرتاح شوية، وبالليل نجتمع هنا بالساحة زي زمان، وهبقى أحكيلكم كل حاجة.
وافق الجميع على كلامه، الكل كان سعيدًا بعودته، توجه كل واحدٍ منهم إلى بيته للتحضير لوليمة المساء، طلبت “مريم” من إحدى النساء أن ترسل بعض الطعام إلى “رام” ورفاقه.
فتح “رام” باب منزله، تفحص كل زاويةٍ فيه بشوق، مرت أمام عينيه جميع ذكرياته، هنا فرحته وحزنه مع أصدقائه، استدار وتحدث قائلًا:
أهلًا وسهلًا بيكم، اتفضلوا، اعتبروا البيت بيتكم، دينيز، خدي البنات لأوضتك واهتمي بيهم.
أومأت “دينيز” برأسها، أخذت الفتيات معها، نظرت “ماريا” إلى المنزل.. فعلى الرغم من صغره فإنه منظم، مكونٌ من ثلاث غرف ومطبخ، يبدو عليه النظافة، ورائحته جميلة وكأنه لم يكن فارغًا.
دخلت “دينيز” بفرحة، قفزت فوق سريرها بفرحةٍ وتحدثت قائلة:
أوضتي وحشتني أووووي، يلا يا بنات خلونا ندخل الحمام، كل حاجة زي ما كانت نضيفة.
فتحت خزانتها ووجدت ملابسها نظيفة ومرتبة، وبعد مدة من الوقت، بعدما أنهوا حمامهم وغيروا ملابسهم، اجتمعوا في غرفة الاستقبال.. وجدوا الطعام موضوعًا على المائدة، جلسوا يتناولون الطعام بنهمٍ شديدٍ وبصمت.
بعد مدة انتهوا من طعامهم وذهب كل واحدٍ إلى غرفته لكي يأخذ قسطًا من الراحة، فكل واحدٍ منهم بحاجة إلى الراحة النفسية والجسدية، فقد أنهك التعب أجسادهم وأرواحهم، حل الهدوء والطمأنينة بداخل قلوبهم، لكن ذلك الهدوء لم يدم طويلًا، فقد استفاقوا فزعين عند سماع صوت صراخ “ماريا”.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية المتاهه القاتلة) اسم الرواية