رواية لأجلك انت الفصل السادس و العشرون 26 - بقلم وداد جلول
لن أسامحك
تجلس تلك الجميلة في غرفتها الخاصة، تمارس هوايتها التي تعشقها وهي الرسم، ترسم بعشوائية ومع كل خط ترسمه تتذكر آسر وقبلته، لتنهي رسمتها وترى بأنها رسمت ملامحه، هي بهذه الحالة منذ أسبوع، لا ترسم شيئاً غيره، ولا تتذكر أي شيء غيره هو، لا تعلم كيف ومتى ولد بصيص أمل في قلبها ونقطة مشاعر تجاهه، ولا تستطيع تفسير الذي يحدث معها، تنهدت بحنق ورمت دفترها بجانبها بعد أن رأت ملامحه التي رسمتها، كيف يحدث ذلك معها؟ كيف ترسمه؟ كيف لا تستطيع أن تنسى ملامحه الرجولية الوسيمة؟ هي بذاتها ليس لديها جواب، أحست باشتياقها له ولرؤيته، لتنهض من على سريرها وتتجه للأسفل على أمل أن تراه ولو لـ لمحة صغيرة، لإنها لم تعد تراه كثيراً منذ ذلك اليوم، فقط تجتمع به على مائدة الطعام، لا تنظر إليه لإنها خجلة من نفسها على تصرفها ذاك، ولا تعلم بأنها بهذا التصرف تشعل فتيلة غضبه وحنقه وتشعل النيران في قلبه.
وقفت متسمرة مكانها عندما سمعت صوته الرجولي يناديها باسمها، التفتت له لتراه يقف أمامها مباشرة، ظلت تحدق به وبرجولته الطاغية مطولاً، تراه أمام عينيها بقوامه ولا تستطيع إزاحة عينيها عنه، فآسر لديه شخصية جذابة ورجولة طاغية، انتشلها من شرودها صوته الساخر ليقول:
"أعلم بأنني وسيم ولكن ليس لدرجة أن تنظرين إلي هكذا ببلاهة يا آسيل"
حمحمت بتوتر لتقول مدافعة:
"لا سيدي لقد فهمتني غلط أنا كنت شاردة بشيء ما فقط"
ابتسم بتهكم ليقول:
"وبما كنتي شاردة إذاً"
عقدت حاجبيها بقوة، ألهذا الحد مغرور وبارد؟ يريد أن يدخل لعقلها ويعرف بما تفكر، يا له من حشري، تنهدت بحنق لتقول بوجهٍ عابس:
"كنت شاردة بلا شيء"
ابتسم بسخرية ليقول:
"يا فتاة هل حدث لعقلكِ شيء"
يتحدث ببرود ويسخر منها هذا مازاد من حنقها وغيظها لتقول بغيظ:
"أجل عن إذنك"
التفتت وأعطته ظهرها ولكنها لم تستطع أن تخطي خطوة واحدة لإن يده انتشلتها وضمتها إلى صدره ليقول ببرود وجمود:
"أنا لم أسمح لكِ بالذهاب كي تذهبي"
عقدت حاجبيها وقد بلغت ذروة غضبها لتقول بغضب مكتوم:
"اتركني يا سيد لا يجب عليك أن تفعل هكذا، ليس من أخلاقك أن تفعل ذلك"
تحدث بجرأة وبرود:
"لماذا هل أجلستك بحضني وقبلتك مثلاً لتتحدثين عن أخلاقي"
جحظت عيناها بقوة لتقول بغضب:
"اتركني وإلا"
تحدثت بتحذير ليشدد قبضته على خصرها ويقول بتحدي:
"وإلا ماذا"
حسناً لا مفر منه، لقد تغلب عليها، مجرد النظر لعيناه تقع له، لتلعنه على بروده، تحدثت بصوت أشبه للبكاء:
"وإلا سأبكي"
ارتجفت شفتها السفلى لتوقظ مشاعر آسر النائمة ويرغب بتمزيق شفتيها هذه بالحال، تمالك نفسه بصعوبة وهو يضغط فكه، ليحمحم ويتركها بالكامل ليصعد إلى غرفته، هو يعلم بأنها تسيطر عليه ويعلم أيضاً أنه لو ظل ثانية أخرى لكان قد قبلها لأدماها، لإنه لا يستطيع السيطرة على مشاعره، موجة مشاعر أتته تجاهها، لا يعلم كيف ومتى المهم أنه يعشقها، ولكن ليس آسر من يخضع لامرأة لذلك قرر أن يسفرها بعيداً عنه كي يقاوم رغبته بحبها وجعلها ملكه للأبد، من هي حتى توقظ مشاعره الميتة والتي لم تكن فيه بالأساس؟ من هي حتى تقف بوجهه وتتجاهله وتغيب عنه عندما كان يرغب برؤيتها أمامه؟ كسرت غروره وأوقعته بشباكها ولكنه لا يريد أن يعترف بذلك، حسناً هو كان يأتيها كل ليلة يتسلل إليها ويمسد على شعرها ويظل أمامها يتأملها بشوق جارف لساعات دون ملل أو كلل.
دخل إلى غرفته بغضب يلعن ويشتم نفسه على ضعفه أمام عينيها، كان يريد أن يخبرها بأمر السفر ولكن لا يعلم كيف ألجم لسانه عن النطق وانجرف بمشاعره ليفعل مافعله، تنهد بحنق وأغمض عينيه لتأتيه صورتها بخياله، فتح عينيه على وسعها ليقبض بيده على شعره ويشده بقوة، يريد أن يبعدها عنه كي لا تكون نقطة ضعفه، لا يعلم كم من المشاعر المختلطة بداخله الآن، يريد أن يشكي همه لأحد ويبوح بسره وبمشاعره لأحد ولكن لا، لا يستطيع، فكل من عرف آسر عرف عنه بأنه بقلب ميت ولا يوجد به ولو القليل من المشاعر، أخذ غرفته ذهاباً وإياباً أو بالأصح جناحه، توتر، قلق، خوف، حب، ندم، هذا ما يشعر به، صدح صوت رنين هاتفه ليرى رقم المتصل وتكون والدته، وها هي الآن تتصل به كي تزيد الطين بلة، تنهد بغضب ورمى بالهاتف على السرير ولم يجب، صدح صوته مرة أخرى وأخرى ولكن لا يجيب، سمع صوت هاتفه معلناً عن وصول رسالة ليقوم بقراءتها ويبدأ قلبه يقرع كالطبول، الرسالة من والدته ومحتواها:
"بني آسر والدك بالمستشفى وهو الآن لديه عملية في القلب أتمنى أن تسامحه هذا ما قاله لي قبل أن يدخل إلى غرفة العمليات لإن نسبة نجاحها 50 في المئة، ومحتمل بأن لا ينجو منها، ادعو له وسامحه وسامحني أنا أيضاً"
رغبة جامحة أتته بأن يرى والده الآن وحالاً ولكن لا، لن يتنازل عن كبريائه، أجل هو لن يسامح ولا يريدهما ولكن لا يريد أن يحدث لهما شيء، فليعيشان بعيداً عنه ولكن من دون أن يتأذى أحداً منهما، تنهد بغضب ودخل إلى حمامه الخاص كي ينعم بحمام دافئ ويهدأ اعصابة من خوفه على أبيه.
--------
أما عند آسيل فبمجرد إن تركها آسر حتى بدأت بشتمه ولعنه في سرها، لعنت نفسها ولعنت مشاعرها التي تسيطر عليها، لم تستطع مقاومته وتاهت في ذاك العسل الذي بعيناه، ترى تصرفاته معها ولا تستطيع أن تضع تفسيراً له، تنهدت بحنق واتجهت إلى حديقة المنزل لتنعم بالهواء الطلق، التقت برامز في الحديقة لتبدأ وتلعب معه تاركة نفسها لتنسى همومها قليلاً، ضحكتها، برائتها، جنونها، حديثها مع الصغير، كل هذا كان يتابعه آسر من الشرفة، كيف لصغيرة مثلها أن تسيطر عليه وتجعله واقعاً لها؟ يبتسم لابتسامتها، يضحك لضحكتها، ويعبس لعبوسها، كيف سيستطيع العيش من بعد رحيلها؟ أجل سيتغلب على آخر نقطة ضعف له ويجعلها ترحل بعيداً عنه كي يظل على قراره بأن لا وجود للحب والمشاعر في حياته أبداً.
__________________
مكان مظلم، كئيب، مخيف، تجلس تلك المرأة مقيدة اليدين، مرمية ومتعفنة في هذا المكان منذ يومين، يومين لم تعرف شيء عن الذي سيحدث معها، خائفة، نادمة، تهاب ابنها الذي وضع كل مقاييس الاحترام تحت قدمه بشأنها، سمعت صوت صرير الباب المزعج يفتح، لترى ابنها يقف أمامها بجمود وشابان يدخلان ورائه ويحملان عماد ليلقونه أرضاً ويتأوه بقوة من عزم الوقعة، جحظت عيناها بقوة، رأته أمامها ورأت عماد، تسارعت أنفاسها وعلمت بأنها لن تنجو من قبضته، كونه عزلها يومان غير مكترث أنها والدته، نسي الرقي ونسي الأدب وعاملها هذه المعاملة، أتاها صوته الأجش ليقول:
"حسناً يا أمي، أو لا لن أقول أمي لإنكِ لا تستحقين هذه الكلمة، تستحقين كلمة لعينة، ها هو عماد أمامكِ ذاك الرجل الذي اتفقتي معه كي تشككان بأخلاق زوجتي وتجعلاني أتخلص منها"
جحظت عيناها بقوة، ابنها من يعاملها هكذا؟ كم تتمنى الآن أن تنشق الأرض وتبتلعها، أردف لها بسخرية:
"لا يامدام سهى لا تنصدمي لقد علمت بحقيقتكِ وسأريكِ الجحيم، لا أعلم ما الذي جعلكِ تنفيذين مخططكِ الحقير مثلكِ، سلبتي حياتي وحبي الوحيد مني وكنتي تريني أتعذب وأحترق وأنتِ غير مبالية والآن جاء دوركِ"
كانت تبكي وتشهق لتقول من بين شهقاتها:
"بني وائل أنا .."
قاطعها وائل بصراخه ليقول:
"لا تقولي بني لا تقولي، أنا لست ابنكِ هل تسمعين لست ابنكِ، أنتِ امرأة لعينة لا تكترثين لأحد، عشت طوال عمري كي أؤمن لكِ المال والحياة الرغيدة وأنتي كافئتني بهذا الشكل، لم تقفي بجانبي ولو لمرة واحدة بحياتكِ، وتلك أحلام السافلة سأتدبر أمرها فيما بعد"
علق عماد لينزل به بالسوط مستمتع بصراخه الذي بالنسبة له كموسيقى كلاسيكية، اجتاحه التعب وبدأ يتنفس بسرعة ويلهث، رمى السوط من يده ليأمر الشابان بتنزيله، حمل قدر كبير مليء بالبنزين متوجهاً إليه ليسكبه عليه وهو يصرخ ويتوسل، أشعل عود الكبريت ليبتسم بشر ويوجه حديثه لعماد ويقول:
"أمنيتك الأخيرة أيها اللعين"
رغم تعبه وهلاكه ولكنه كان يتوسله بكل طاقته ويعتذر له بكل كلمة اعتذار يعرفها، ليبدأ بالصراخ فور رميه لعود الكبريت عليه، مشتعلاً أمامه يصرخ بآخر أنفاسه ووائل يبتسم مستمتع بمنظره، تحولت جثته لرماد بعد وقتٍ قصير، وجه نظره الى والدته التي كانت تنظر لجثة عماد بأعين متسعة ومذعورة ليقول:
"حرقت لك حبيب القلب يا أمي"
نظرت له بذعر ولم تتحدث لينظر لها بحدة واشتعلت فتيلة غضبه وجنونه، بدأ يصرخ ويلعن، متمني حضن آسيل، لا يريد شيئاً غيرها، مستعد أن يحرق العالم لأجلها فقط كي تعود له، ولكنه قطع الأمل من عودتها، تنهد بأسى على حاله وعلى حياته التي لم يرى فيها طعم السعادة إلا بوجود آسيل، سيذهب بنفسه كي يسلم نفسه للأمن ويعترف بجريمته ولكن ليس الآن فقط لم ينتهي من انتقامه بعد، بقي عنده أحلام وهذه سيكون لها انتقام خاص يجعلها تذرف بدل الدموع دماً، فقط تنتظر هي وسترى ما الذي سيحل بها ومن بعدها سيسلم نفسه وسيترك نفسه لهم ليفعلوا به ما يشاءون، فما حاجته للحياة والحرية ومعذبته ليست معه؟ وأيضاً طبعاُ سيكون عقاب والدته كالتالي والذي ستعلمونه فيما بعد.
____________________
كان يتقدم بهدوء وحذر في رواق المستشفى، أطل رأسه بحذر معايناً الرواق ليراه خالي تماماً، تنهد براحة ليضع قبعة المعطف على رأسه ويمشي بخطوات سريعة قاصداً غرفتها.
وقف أمام غرفتها وقلبه يقرع كالطبول، خائف من مواجهتها ولكن شوقه لرؤيتها وندمه لفعلته الشنيعة أكبر من كل شيء سيقف بوجهه.
أخذ نفساً عميقاً ليدير مقبض الباب ببطئ ويطل برأسه داخل غرفتها، وجدها خالية من أي شخص ماعداها.
كانت نائمة بسلام وضوء خافت منبعث من النافذة، تقدم بحذر نحوها ليشبع ناظريه من رؤيتها، أحس بقشعريرة سرت بجسده حالما ملس على شعرها ليبتسم بعشق وجنون، قبل جبهتها مطولاً وبدأ يوزع قبلاته على جميع أنحاء وجهها، تململت شهد بانزعاج وبدأت تهمهم لتفتح عيناها ببطئ وتقابل شخصٌ ما أمامها، لم تميز ملامحه بسبب العتمة، والضوء الخافت لم يساعدها على ذلك، كانت شاخصة وساكنة وعقلها متوقف عن العمل.
ابتسم سهيل حالما استيقظت ليقول بهمس:
"اشتقت لكِ شهدي"
استطاعت أن تميز صوته لتجحظ عيناها بقوة وتقول بصوت مرتجف:
"مـ من أنت"
لم يجيبها بل ظل يملس على شعرها لتشيح بوجهها عنه وتغمض عيناها بقوة وتردف بخوف وهذيان:
"أنا أحلم، مؤكد بأنه حلم، بل كابوس، أجل كابوس كابوس وسأستيقظ منه، إنه كابوس"
ابتلع ريقه بصعوبة ليقول بهمس:
"شهد، أنتِ لا تحلمين، أنا أمامكِ، جئتكِ معتذراً نادماً، مريني بما تريدين وسأنفذه لكِ بالحال، أعلم أن فعلتي بكِ لا تغتفر ولكني نادم، صدقيني أنا نادم جداً على ما فعلته بكِ، مستعد لتنفيذ أي شيء تطلبينه مني، أذهب للموت لأجلكِ فقط لكي تسامحيني"
كانت تستمع لكلماته اللعينة بارتجاف ودموعها خطت على وجنتها، صوته الذي يتغلغل إلى مسامعها جعلها تتذكر الحادث، نفس النبرة ونفس الصوت، الرعب متمكن منها لدرجة أنها لم تقوى على الحديث ليردف لها بلهفة وصوت هامس:
"شهد، حبيبتي، أنا نادم، قولي لي كيف أكفر عن فعلتي وسأكفر صدقيني، أتيت لرؤيتكِ ولطلب العفو منكِ، أخشى أن يقبضوا علي وأنتِ مازلتي تلعنينني، أرجوكِ، أعلم أن فعلتي شنيعة ولا تغتفر ولكني طامعاً بغفرانكِ، أرجوكِ، أنتِ لا تعلمين ما مر علي من قبل، لو علمتي ربما ستتعاطفين معي قليلاً، أرجوكِ ياحبيبتي، لا تقسين علي، أنا أريد الزواج منكِ"
إلى هنا ولم تعد تستطيع تحمل كلماته لتحاول الصراخ ولكنه أطبق على فمها ليقول بنبرة هامسة وتحذيرية:
"إياكِ، إياكِ والصراخ ياشهد، صراخكِ يعني القبض علي وشنقي، وهذا لم يأتي موعده بعد، إذا أردتي الموت لي فلن أموت سوى على يدكِ أو أمام عينيكِ، ليس القانون ولا المحاكم من يقررون موتي، فقط أنتِ، هل تسمعينني"
حركت رأسها موافقة ببطئ وبكائها يحتد ليبعد يده عن فمها وشهقاتها تعلو شيئاً فشيئاً، ليردف لها سهيل ببكاء:
"شهد، أنا لست لعين، أنا أعلم أن أي شيء في هذه الدنيا لا يبرر فعلتي بكِ ولا أفعالي البشعة سابقاً، ولكني لم أخلق هكذا، لم أرد أن أكون هكذا، كل شيء حولي جعلني لعين وشاب متهور وأفعالي رخيصة، أنتِ الوحيدة التي غيرتي بي أشياء كثيرة، جعلتيني أراجع كل أفعالي وأندم عليها، بسببكِ ولأجلكِ أنتِ، أنتِ يا حبيبتي"
كان أنينها يدوي في الغرفة، تحاول أن لا تركز معه، فقط تريده أن يبتعد، لا تريد أن يكمل ولا أن تسمع صوته، داخلها نيران متأججة.
يراقبها بشفقة ودموعه على وجنتيه، لا يعلم كم تكفيها من كلمات الإعتذار ليمطرها بها، أحقاً يجب على المجرم أن يعتذر من الضحية؟ أحقاً تستطيع الضحية نسيان هذه الفعلة الشنيعة والمسامحة؟ لا أظن ذلك، فعلته أكبر من أن تغتفر.
شهق ببكاء خافت ليقول بصوت مبحوح:
"أرجوكِ إن استطعتي أن تسامحيني فسامحيني، أرجوكِ يا شهد، أقبل قدميكِ، لا أستطيع العيش بهذا الذنب ولا أستطيع الموت دون أن تسامحيني، اغفري لي فعلتي ياحبيبتي"
مسح على شعرها ليراقب حالتها المثيرة للشفقة وهي تشهق بكل ما أوتيت من قوة، مغلقة عيناها بقوة وهي تبكي بكاء مرير، بكاء طعن الشرف، ليبتعد عنها ببطئ ويخرج من الغرفة كما دخل، وما إن شعرت بخروجه حتى بدأت بالصراخ ليجتمع الممرضين بعد دقائق في غرفتها جراء صراخها وبكائها، ظناً منهم أنها نوبة أتتها قد اعتادوا عليها، ليتقدم منها أحد الممرضين ويعطيها حقنة وتسكن شيئاً فشيئاً أمامه وهي تهذي بكلمتان فقط (لن أسامحك).
------------------------
في اليوم التالي استيقظت آسيل على أشعة الشمس، تململت بفراشها لتفتح عينيها وتنهض بتكاسل، دخلت للحمام وفعلت روتينها اليوم، خرجت لترى أمامها هبة بابتسامة صغيرة، ألقت عليها التحية وبادلتها، لتخبرها بأن آسر ينتظرها على مائدة الطعام، توجهت لخزانتها وغيرت ثيابها، هبطت على الدرج وقلبها يقرع كالطبول، ها هي حالتها دائماً عندما تتأهب لتقابله، ابتلعت ريقها بتوتر ودخلت لتلقي عليه التحية وتجلس دون حتى النظر إليه، وهذا مازاد من حنقه وإصراره على ابتعادها عنه، لو كان منها ذرة مشاعر اتجاهه لكان فكر بأمر بقائها ولكن لا، حتى وإن كان لن يبقيها عنده، سيتخلص منها وسيسفرها بعيداً عنه ليتخلص من حبها، تنهد بقوة ليحاول إخراج الكلمات من فمه بصعوبة، تحدث بجمود:
"أريدكِ أن تجهزي أمتعتكِ، ستسافرين"
نظرت له بعيون جاحظة وهذا الصغير الذي بصدرها يعلو ويهبط بخوف لتبتلع ريقها وتقول بتوتر:
"إلى أين"
أجاب بجمود:
"إلى تركيا"
نظرت له ووجدت وجهه خالي من المشاعر تماماً، لا تعلم بكم النيران المشتعلة والتي تزداد اشتعالها بصدره لتقول:
"ولكن أنا.."
قاطعها ليقول:
"أنتِ ماذا"
هو حتى لا ينظر لها فقط يكتفي بحديثه معها بجمود وبرود، هبطت دمعة ساخنة على وجنتها، يكاد قلبها ينفجر ولا تعلم لماذا، كل ما تعلمه هو أنها لا تريد الابتعاد عنه، حركت رأسها نافية بعد أن مسحت دمعتها بسرعة كي لا تريه ضعفها لتقول:
"لا شيء"
ألمه صوتها وحزنها، شعر بحزنها وبعدم رغبتها بالسفر ولكنه يفعل ذلك لأجلها ولأجله أيضاً، يحمي نفسه من حبها، ويحميها من حبه أيضاً، لإنه إذا بين لها حبه وتملكه ستختنق منه، هه لا يعلم بأنها تستقبل كل شيء منه برحابة صدر، حرك رأسه موافقاً بجمود وهو يكمل طعامه، أمرها بأن تحضر ثيابها لإن السفر بعد ساعتين، استأذنت منه وخرجت لتصعد إلى غرفتها لتسمح لنفسها بالبكاء الشديد، تاركة ورائها رجل انفطر قلبه من حبها، تنهدت بأسى من بين دموعها، لماذا يحدث ذلك معها؟ لماذا كل ما تعلقت بأحد يبتعد عنها؟ حسناً لن تهتم، ستعيش بعيداً عن الجميع غير آبهة لأحد، أليس هو من اختار الابتعاد؟ أليس هو من يريدها أن ترحل؟ حسناً سترحل ولكن هي تعلم وواثقة بأنه سيأتي إليها، وعندها ستريه العذاب الذي تتعذبه هي كثيراً.
مسحت دموعها بعنف ونهضت من على الأرض لتبدأ بجمع أغراضها بحقيبة صغيرة، انتهت من جمع أغراضها وبقي على موعد رحيلها ساعة واحدة، ومع كل دقيقة تمر يحترق آسر من داخله، يفكر بها، تشغل باله وعقله، لن يدعها من دون حراسة، سيحميها حتى وإن ابتعدت عنه، خصص لها طقم حراسة كامل كي يقومون بحمايتها وجهز لها منزل بتركيا امتلكه هو منذ سنتين، وسيسفرها بطائرته الخاصة، تنهد بحزن وهو يقف بالشرفة بجمود، حسناً وها هي الساعة الثانية قد انقضت وحال آسيل وآسر لا يمكن وصفه، كل منهما يتحسر على نفسه، تمنى اثناهما أن يمر الوقت ببطئ شديد، وكأن عقارب الساعة تحدتهما لتمر بسرعة شديدة، تنهدت آسيل بحرقة بعد أن رأت الحارس دخل عليها ليأخذ حقيبتها للسيارة، خرجت من غرفتها لتهبط إلى الأسفل وتراه يقف بجمود وبرود، وقفت أمامه ونظرت له مطولاً، وكأنها تحفظ ملامحه وترسخها في ذاكرتها، وعلى من تكذب؟ فقد تمكن من قلبها من أول كلمة نطقها أمامها، ملامحه بالأساس مرسخة بذاكرتها فلماذا تحفظها؟ ولكن عندما ترى الشخص الذي تعشقه أمامك بشخصيته وحواسه كلها سيكون للدنيا طعم ثاني، على عكس أن تتخيل الشخص أمامك دون أن تراه بالواقع، كحاله هو كان ينظر لها بندم، حب، شوق، ألم، وعلى السبب الذي جعله بلا مشاعر أو شبه بلا مشاعر، لإنه كاذب، فلا يوجد إنسان من دون مشاعر وأحاسيس، ولكن كونه آسر فسيخفي جميع هده الأحاسيس التي أفاقتها آسيل ويرميها بعيداً.
ظلا ينظران لبعضهما مطولاً، آسر ينظر لها ببرود مخفي مشاعره بداخله، وهي تنظر له بحزن وشوق، بحركة سريعة ومن دون سابق إنذار ولا يعلم كيف افتعل ذلك ضمها إلى صدره، دافناً وجهه في عنقها يستنشق عبيرها وكأنه يغلغل رائحتها في أنفه لتظل عالقة به، بادلته العناق بشوق وحنان مستمتعة بهذه اللحظة، سيكون أول وآخر عناق بينهما على ماتعتقد لذلك ستستغل هذه الفرصة وتستمتع بهذه اللحظة التي لا تعوض، بينما هو كاد أن ينفجر بمشاعره، تحول العناق إلى عناق يكسر العظام بالنسبة لآسيل فهو كان يعتصرها بين يديه، ابتعد عنها وتنهد بحزن وحمحم قليلاً ليتركها ويعود إلى بروده الذي لعنته ومقتته آسيل ويتحدث بجمود:
"حسناً انتبهي إلى نفسكِ، هيا قبل أن تتأخرين"
ابتسمت ابتسامة ألم، لتمد يدها وتعطيه ورقة شبه كبيرة وتتحدث بجمود ولكن بصوتٍ ناعم:
"وداعاً آسر"
أنهت كلمتها ورحلت فوراً لينظر هو لها وهي تبتعد عنه وتخرج من المنزل بأكمله، ماذا! هل نادته بأسمه؟ هل لفظته على لسانها؟ كم عشق اسمه عندما سمعه منها، لقد ندم، أجل ندم كثيراً عندما رحلت، منذ ثواني رحلت واشتاق لها، نظر للصورة التي أعطته إياها ليرى نفسه قد رسمته باحترافية، خطوط وجهه وتقاسيمها، لحيته التي تزيده وسامة، عيناه التي كعينان الصقر، وحاجبيه المعقودين دائماً، كل هذه الملامح جسدتها آسيل لتخرج فنها وتنهي رسمتها بصورته التي بين يديه، تنهد بقوة وتمنى بهذه اللحظة أن تعود إليه ليسحق جسدها من عناقه المشتاق، سيحتفظ بهذه الصورة للأبد لإنها منها هي، وسيحتفظ بعشقه لها في قلبه ولن يبوح بعشقها لأحد، سيبقى محافظاً عليه في عقله، أجل سيصارع نفسه كل يوم كي يخرج أمام الناس ببروده وجموده مختبأً وراء قناعه المعهود محتفظاً بحب فتاة أوقعته في شباكها من النظرة الاولى.
---------
هبطت الطائرة معلنة عن وصولها إلى تركيا ومع هبوط الطائرة تهبط دموع آسيل لتنزل منها وتركب بسيارة فخمة وبرفقتها طقم الحراس الذي خصصه آسر لها، وقفت السيارة عند بيت حديقة المنزل، حسناً ليس كبيراً ولا صغيراً فقط مناسب الحجم وجميل بكل ماتعنيه الكلمة من معنى، دخلت للمنزل لترى أثاثه المرتب والبسيط والجميل، اتجهت للأعلى لكي تكتشف المنزل، حسناً من الآن لا حزن ولا وألم ولا والدين ولا آسر، ستعيش حياتها بعيداً عن الجميع، أجل اشتاقت لهم جداً واشتاقت لآسر أيضاً بالرغم من أنها لم يمضي سوى ثلاث ساعات على بعدها عنه ولكنها اشاقت له، ولكن هو من اختار بعدها لذلك ستحاول جاهدة أن تخرج ذلك الشعور الذي ولد بقلبها من جديد متمنية له ولنفسها وللجميع بحياة جديدة وجميلة بعيدة كل البعد عن الحزن والألم والأسى.
" آهٍ كم هوَ صعبٌ القرار
والأصعبُ منهُ هوَ الاختيار
آهٍ سأُسميها لُعبةُ الأقدار
مخيرينَ بينَ الجِنةِ والنار
فكِلاهُما سيُغيرانِ المسار
سأِمتُ الإنتظار
سأختار ..
أو... لا سأُفضلُ الإنتحار
هذهِ نهايةُ لعُبتي تنتهي بالانهيار "
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية لأجلك انت) اسم الرواية