رواية لِبچَشان الفصل الثاني 2 - بقلم عفاف العريشي
يونس
" في هذه الحياة لحظة لا تعود الحياة بعدها كما كانت قبلها ".
كانت هذه آخر عبارة دونتها في دفتر مذكراتي الذى لا يفارق يدي أبداً وكأنه صديقي الوحيد بعدها انطلقت بسيارتي أو للتوضيح بقايا سيارة والدي فهي الذكرة الوحيدة المتبقية لي منه.
اسمى يونس وليد انا في نهاية عقدي الثالث.. تخرجت من كلية الفنون الجميلة قبل ثماني سنوات.
توفى جدي نصر قبل عشرون سنة كنت حينها في عامي التاسع، توفى وحيداً بعدما تركته حبيبته وزوجته تزوجها بعد قصة حب كانت تُحكى في الميادين والجلسات النسائية مراتٍ ومراتٍ... لقد حارب عشيرته لأجلها كما اخبرني ذات مره...
بعد ذلك الحدث بقرابة الثلاث سنوات لقتْ أمي حتفها بعد صراع طويل مع مرض عُضال... لم تكن قوية بما فيه الكفاية لكى تصارع مرضها دخلتُ في حالة اكتئاب وحزن فاقت طاقتي... أمي كانت حبيبتي الأولى ملاذي وركن الراحة خاصتي حين أتعب من هذا العالم... كاتمة أسراري خاطفة قلبي الأولى وصديقتي المقربة.
كان والدي يعمل بالتجارة بجانب ثراء العائلة الفاحش... ولكن كل ذلك كان مجرد صورة للمجتمع الخارجي... لم استطع تكوين صداقات حقيقية سوى واحد فقط صديقي الوحيد معتز من قوة وجمال صداقتنا كان يظننا البعض أننا إخوة، يعمل طبيب في إحدى المستشفيات الحكومية.
كان والدى بمثابة مرشدي الأول والأخير مستشار قرارتي ملهمي بعد وفاة أمي تغير كثيراً أصبح منعزلاً عن المنزل لا يجلس رفقتي سوى بضع دقائق قليلة للغاية ويتركني بمفردي مجدداً... كان يغيب عن ناظريّ كثيراً وعندما أسأله يخبرني أنه يبحث عن أمي.
لم أشعر بشيء حينها سوى بعبراتي التي تتصارع على وجنتايّ أبى يكاد يفقد عقله بعد أمي.
بعد ذلك زاد اختفائه كثيراً حتى أضحى بالأيام في مكتبة جدي كما أخبرني ذات مرة، ولكن كيف وكل ما في مكتب جدي هو مكتب وكرسي وثير يقبع خلفه بالإضافة إلى أثنين أمامه يوسطهما منضدة وأريكة بجانب الباب.. إذاً أين تلك المكتبة لم أشغل بالي كثيراً بخصوص ذلك الموضوع ولكنه استولى على عقلي عندما ذهب والدي في إحدى رحلاته المجهولة ولم يعد.
**
اختفى والدى بعد وفاة أمي بعامين ولكن الغريب أن اسم أمي المنحوت على قبرها اختفى مع اختفاء والدى.
أضحيت وحيداً من جديد ولكن تغير شيء مع اختفاء والدى ذهبت الثروة الفاحشة ذهب العمال والخدم أصبحت مجرد شاب تعيس لا تختلف حالته عن أي قطعة أثاث تقبع في لقصر، قصر ضخم خاوي مظلم لا يوجد به سوى شخص واحد بالطبع سيكون مبتغاً لكثير من اللصوص، سُرق مرات عده أحياناً وأنا بالخارج أتابع سير عملي كنادل في إحدى المقاهي القريبة أو أثناء نومى أيضاً تمت سرقته، ساعدني معتز كثيراً في تأمينه بالأقفال من الأبواب الخلفية والنوافذ الحديدية من الأمام والخلف.
لا يوجد أشخاص بحياتي سوى صديقي معتز وخطيبتي نغم ألتقيتُ بها منذ حوالى سبع سنوات في مبنى المحاضرات كانت في سنتها الأولى وأنا بالنهائية، تبادلنا الأحاديث والمقابلات إلى أن وقعتُ أسيراً لعينيها أجمل شيء بها عينيها الزرقاء التي نادراً ما توجد.. كانت كالملاك بالنسبة إلىّ ذهبت لخطبتها رفقة والد معتز كان صديقاً عزيزاً لأبي، بعد الكثير من الحديث والإلحاح وافق والدها على مضض كدت أطير من فرحتي أثناء تبادل خواتم الخطبة سوياً، شعور رائع عندما تظهر حبك وتراه بأعين حبيبتك أمام الملأ.
والآن بعد سبع سنوات أخذت علاقتنا مسار مختلف أكاد أخمن أننا على وشك الانفصال نغم أضحت في الأونة الأخيرة قليلة الكلام كثيرة الحُجج بشأن علاقتنا وتكاد تنهيها ولكني أحاول وأتمسك بها إلى النهاية لا أستطيع تخيل حياتي بدونها، كأن الله أرسلها لي كهدية لا أعلم ما قدمته لأحظى بها.
***
وصلت أخيراً إلى وجهتي بعد حوالى ساعتين من القيادة، إحدى المعارض المرموقة ترجلت من السيارة حاملاً خمس لوحات من أصل عشرة مغلفة بإتقان.
كان المبنى من الداخل رائع التصميم بسيط الأثاث مبهر اللوحات التي كانت بسيطة للغاية بالنسبة لفني المختلف.
وجدت المكتب المنشود مكتوب عليه بخط عريض منمق المدير، أمامه مكتب تقبع خلفه فتاة جالسة ترتدى زي العمل الرسمي.
سألتها بتوتر غلفته بود:
_ كارم وليد لدي موعد مسبق مع المدير.
أجابتني بطريقة عملية بعد أن نظرت إلى الحاسوب أمامها لبضعة ثواني:
_ أجل سيد كارم.. سيدى في انتظارك تفضل.
دلفتُ في توتر وألم يعتصر قلبي وأنا أقول في ذاتي......
» لا عليك يونس سيكون كل شيء على ما يرام لا تبتأس، هذه محاولتك الأخيرة في هذا المجال».
أفقتُ من دوامة أفكاري على صوت المدير وهو يسألني:
_ سيد كارم تفضل
جلست في ارتباك ثم أردف:
_ أهلا بك في المعرض لقد سمعت الكثير عن فنك.
_ آمُل أنه حظى على إعجابك سيدى؟
سألني:
_ هلا أريتني إياه أولاً لكي أقيمه بنفسي؟
أجبته:
_ بالطبع سيدى تفضل.
أعطيته جميع اللوحات التي كانت بحوزتي، نظر لها بتدقيق قرابة الخمس دقائق ثم توجه بنظره وجهتي وقال:
_ لوحاتك رائعة وأيضاً مختلفة.
_ أشكرك.
ثم أردف بعملية:
_ لكن يؤسفني أن أخبرك أن هذا النوع من اللوحات لا يُعرض لدينا هنا، آسف حقاً.
أجبتُ ببعض الحزن:
_ لا عليك سيدى.
لملمت شتات أحلامي بحزن وعدت أدراجي بعد قيادة دامت لنفس المدة السابقة.
ترجلتُ إلى داخل سور القصر الحديدي ووجدت نغم تجلس بملل على الدرج الخارجي للقصر تتصفح هاتفها بملل كانت خاطفة للأعين بوجهها الطفولي الجميل وملابسها الفضفاضة وحجابها الذى تداعبه الرياح ليتطاير خلفها بحرية ثائرة، وبحر عينيها أكاد أُقسم أنه محيط يجذبك لكى تستكشف أعماقه أكثر وأنتَ تغرق به بصدر رحب وها أنا ذا غارق في هذا المحيط متأكد أنني لستُ الغارق الأول ولكنني أتمنى أن أكون الأخير، ما إن رأتني حتى همت بسؤالي:
_ كارم ماذا حدث أخبرني أكاد أموت من فرط دقات قلبي المتوترة؟
أجبتها ببعض التوتر:
_ تم رفض اللوحات من جديد.
قالت بوجه متجهم خالي من أي تعابير تُذكر:
_ حسناً أظن أننا وصلنا إلى نهاية المطاف، نهاية الرحلة التي لم ولن تبدأ من الأساس.
سألتها بعدما نشبت حرب بداخلي:
_ ماذا تقصدين نغم؟
أجابتني بنفس الملامح:
_ لن أستطيع الزواج منك يونس أعتذر.
خلعت خاتم خطبتنا ووضعته في كفة يدى اليمنى وهمت بالذهاب ولكنى أوقفتها قائلاً:
_ لقد حاولتُ معكي للنهاية، لقد أحببتكِ قرابة الثماني سنوات حاربت كل شيء لأجلك أحلامي التي دُفنت تحت قدمي الآن، كما تريدين.
استدرتُ سريعاً ثم سمعتُ صوت الباب الحديدي الموصد يُفتح ويُغلق علمتُ أنها رحلت أنهت قصة حب في مهدها وأنا من كنت أحضر للزواج بها، تركتني في تعثراتي يا الله لقد تركني الجميع لم يبقى لي سواك هون على قلبي الذى ينزف دماً وندماً على هذا العشق الخاسر، هون على عبدك يا الله لقد أتعبتني سقائل الحياة.
لم أشعر بشيء سوى بعبراتي وأنا أدلف إلى البهو الفارغ الموحش تهاوت قدماي وسقطتُ على الأرض جالساً على ركبتايّ أبكي على أحلامي، عائلتي، حُبي، وحدتي ونفسي،
ماذا فعلت لكى أنال هذا الاختبار الصعب، بكيتُ إلى أن سقطتُ لا أعلم نائماً أم فاقداً للوعى من شدة التعب والإعياء.
استيقظت في تمام الساعة السابعة صباحاً لليوم التالي لأجدنني بنفس موضعي ضحكتُ بسخرية على نفسي لو مُت في يوم لن يشعر بي أحد.
بعد حوالى ثلاث ساعات حيث كُنت جالساً في الردهة أتأمل خاتم والدي الذي تركه لي والذي تركه جدي كإرث للعائلة إنه حقاً لعنة لحاملها؛ أمعنت النظر بعلبة الخاتم الفضية مثله تماماً كانت جميلة للغاية ذات طابع رائع كأنها إحدى مقتنيات عائلة ملكية عند هذه النقطة ضحكت بكل ما أوتيت من طاقة فجدي كان يهذي في آخر أيامه دائماً ما يقول أننا عائلة ملكية، لم يصدقه أحد بالطبع فكان في أواخر أيامه مريض بمرض الزهايمر، لأعاود النظر إلى العلبة كانت مغلفة بالرسومات الرائعة في الجانب الأيسر من واجهتها الأمامية دائرة زرقاء غاية في الروعة يوسطها رسمة طائر غريب للغاية في الغطاء أربع دوائر زرقاء مماثلة للسابقة في كل دائرة رسمة غريبة أيضاً وكأنها لغة مختلفة يتوسط الغطاء الفضي دائرة مقعرة بمنتصفها ثقب دقيق للغاية تتصل بالدوائر الأربعة عبر أربع خطوط دقيقة للغاية مُمتدة من أطراف الدائرة المقعرة لتتصل بالدوائر الأربع الأخرى لتكون أربع قنوات دقيقة للغاية، فتحتها ولكنها فارغة لا يوجد بها شيء من الداخل فارغة كهذا القصر الخاوي تماماً، لتعاودني الهواجس بشأن أبى واختفاء اسم أمي من على قبرها، انفصالي عن نغم التي قررت الارتباط بدكتور في الجامعة بعد انفصالي عنها أيقنت حينها أني المغفل الوحيد في هذه الحياة، وكل هذه الأحداث التي شهدتها في بداية شبابي أيام مراهقتي التي بالمفترض أنها أيام اللهو واللعب مع أصدقائي وأقراني، وجدت أحداً ما يدلف من بوابة القصر الداخلية لم يكن سوى معتز الذى أتى لتوه من عمله.
بعد السلام، جلسنا قليلاً ليفاجأني بسؤاله:
_ كيف سارت مقابلتك الأخيرة في معرض اللوحات؟
أجبته بنبرة كساها الحزن وفقدان الأمل بالإضافة إلى شعور الخذلان من قبل نغم لقد تركت بداخلي جرح لن يداويه الزمن مهما مر وطال.
_ لم تختلف عن المرات السابقة.
قال ببعض الحزن:
_ رُفضت من جديد.
أجبته بإيماءة بسيطة برأسي،
ليربت على كتفي داعماً ويقول بابتسامة:
_ رب الخير لا يأتي إلا بالخير يا صديقي.
اكتفيتُ بإيماءة بسيطة مع ابتسامة
صمت مجدداً ثم قال بعد وقتاً بسيطاً وهو يتصفح إحدى المواقع الإلكترونية.
_ لقد وجدتها
سألته بملامح متعجبة:
_ ماذا وجدت؟
قال بحماس شديد وهو يعاود النظر للهاتف ويديره لوجهي لكي أرى ما الذى يتحدث عنه.
_ هذا معرض فنى إلكتروني صاحبه يهتم بهذه الأمور والمواقع الإلكترونية والتكنولوجيا ودائماً ما يقول.
) التكنولوجيا هي المستقبل لماذا أتعب في العمل وأجاهد في تصميم جاليري وأنا بإمكاني القيام به وبدقة أكثر من مكاني، هذا الموقع هدفه مساعدة الشباب الحالم لكى ينشر أعماله هنا).
ابتسمت ونظرتُ لمعتز بأمل جديد لأقول:
_ وهل يقبل هذا المعرض أعمالي المتواضعة؟
ضربني معتز بخفة على ذراعي وقال بمرح:
_ تباً لتواضعك يا رجل.
سألته:
_ هل هناك مقابلات أو شيء من هذا القبيل؟
أجابني:
_ لا فقط سترسل صورة للوحة وسيقوم بالرفض أو القبول.
فكرتُ كثيراً في الأمر ثم هممت بالوقوف غبت لبضعة دقائق ثم عدتُ حاملاً لوحة خاتم اللازورد وقمت بتصويرها وإرسالاها على البريد الإلكتروني رفقة معتز الذى جلس يحادثني عن عمله وما يلقاه من بعض اللكمات أحياناً جراء العمليات البسيطة التي تتطلب فقط الاهتمام بالمرضى وأيضاً بعض المرضى الذين يذهبون للمشفى ولكن لسبب تافه، والكثير من هذه المواقف منها المضحك ومنها المحزن.
سألته بعد وقت بهدوء:
_ ما طبيعة سير الأمور في ذلك المعرض الفني؟
أجابني باسماً:
_ بسيطة للغاية ستقوم بتصوير جميع هذه اللوحات وتعرضها على الصفحة الخاصة بالمعرض على مواقع التواصل الاجتماعي وعندما يرغب أي شخص في الشراء تقوم باتفاق بسيط مع إحدى شركات الشحن ويتم توصيل اللوحات المطلوبة إلى منزل المُشترى، ها ما رأيك؟
عبستُ في حيرة صامتة ليردف:
_ حسناً، لدينا الكثير من العمل هيا بنا لنبدأ بتحقيق أحلامك يا رجل.
ابتسمت في امتنان ووقفتُ أساعده في تصوير معظم اللوحات كان من بينهم لوحة للعلبة الفضية والخاتم أيضاً.
رحل بعد جلسة دامت لساعات اتفقنا على رحلة سفاري بعد الغد للقيام ببعض الاستكشاف بعيداً عن قرية النمسا قليلاً، ودعته وعودت أدراجي مجدداً فتحت ذراعايّ في الهواء وقلت باسماً وأنا أدور حول نفسي:
_ ها قد عُدنا يا وحدتي الغالية.
****
بعد حوالى إسبوع من عرض اللوحات لم يتم بيع سوى عشرة لوحات حسناً عدد لا بأس به كأول مرة في غضون ثلاثة أيام فقط، بعد ذلك لم يتم استقبال أي طلبات للوحات.
تخلل اليأس إلى قلبي وعقلي، أصبح كالمرض الخبيث الذى ينهش في جسدك يوماً بعد يوم وأنت لا تستطيع المقاومة سوى ببعض الصبر والثبات إلى حين إشعار آخر.
أصبح الفراغ والملل رفاقي والتفكير الزائد الحائل بيني وبين راحتي ونومي الطبيعي لا أستطيع النوم سوى مع شروق الشمس لبضعة سويعاتٍ قليلة.
أتذكر نغم الحب الوهمي تركت يدي وأنا من كُنت أتمسك، لا أبوح عن آلامي لأياً كان ولكن لا بأس ببعض الندم بمفردي،
هل كنتُ سيئاً في نظرها إلى هذه الدرجة، نغم.. اسم يدخل قلبي دون سابق إنذار.
هذا هو الحب الذى كنا نقرأ عنه دائماً في الروايات وقصص الشعر، إنه شيء واحد كابوس مُهلك لصاحبه إن لم يكتمل.
*
عاودت التدريبات اليومية... أفرغ طاقتي السلبية المكبوحة بها، هذه عادتي منذ نعومة أظافري كُنت المتدرب الطفل الأول في العائلة، جدي كان يحافظ على لياقتنا البدنية بدرجة كبيرة كان مولع بالرياضة .
تدربت على أساليب قتال عدة والفروسية، رفع الأثقال، المبارزة بالسيف والرمح و.. و..
توقفت حين سمعت رنين هاتفي كان السيد أيمن صاحب ذلك المعرض الذى أقوم بنشر لوحاتي على مواقعه.. أجبته بود..
_ صباح الخير
_ صباح الخير، كيف حالك يا يونس؟
_ بخير سيد أيمن.
انتظرت قليلاً حتى يُخبرني سبب هذا الاتصال المفاجئ ليقول بعد برهة بجدية:
_ كارم يا بني لقد قُمت بنشر بعض لوحاتك على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بمعرضي
أجبته بهدوء:
_ أجل يا سيد أيمن هل تود شراء واحدة أم ماذا؟
قال بمزاح:
_ ولما لا ولكن هي واحدة فقط من جذبت انتباهي.
قُلت مازحاً:
_ ومن هي سعيدة الحظ؟
ضحك وقال بجدية بعدما صمت قليلاً:
_ أريد لوحة العُلبة الفضية وخاتم اللازورد.
قلت في نفسي
» تباً لما قمت بنشر تلك اللوحة الغبية»
أفقتُ من أفكاري على صوته،
_ كارم هل ما زلت معي؟
_ أجل سيدى ولكن لما هذه اللوحة؟
_ لا أود الشراء أنا أخبرك بحذفها والآن من على جميع مواقع التواصل وهذا لمصلحتك أنت، ووالدك.
_ والدى!
*
حذفت الصورة من على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أمر السيد أيمن لا أعلم لما كل هذا الحذر إنها لوحة عادية في نظري علبة بالية قديمة جعلتُ لها قيمة لا أكثر.
كانت الساعة قرابة الخامسة صباحاً، مبكر جداً ولكن هو من عرض علىّ المجيء مبكراً وبحوزتي العلبة لكى يخبرني بشيء مهم بخصوصها وأبى أيضاً، وما صلته بأبي من الأساس؟، سأفعل أي شيء في سبيل عودة أبى إلىَّ سالماً، أبى كان قاسياً مع جميع من بالخارج ولكن معي أنا على النقيض تماماً كان الأخ والأب والصديق، داعمي، معلمي كان كل شيء كان جميع من أحتاجهم هو أبى.
ضغطُ زر الجرس فُتح بعد دقائق بواسطة السيد أيمن كان بملابس النوم خاصته، ويفرك عينيه بتثاقل:
_ مرحباً يونس انتظرتك كثيراً إلى أن غلبني النعاس.
قلتُ بسخرية:
_ أرسم لمدير المعرض الفني الذى أعمل به إنه ظالم للغاية.
ضحك باستفزاز وقال:
_ حقاً قاسي لما لا تترك هذا الجاليري؟!
_ ترأفاً بحالته لا أكثر.
رمقني بغضب وأشار للدلوف،
جلستُ على الأريكة في الردهة وقلتُ بتعجب:
_ لقد نفذتُ طلبك بحذف الصور والآن حان وقت معرفة سبب هذا الطلب الغير مُحبب!
أجابني بهدوء وهو يجلس:
_ هذا خاتم يعود إلى متحف في الدولة المجاورة لنا من جهة الشمال.
_ وما دخلي في كل هذه الترهات؟
_ الخاتم مصنوع من اللازورد المضيء، حجر سحري على عكس طبيعة حجر اللازورد المعتمة.
_ وماذا أفعل بهذه المعلومات؟
_ أنا أدعوك لكى أقص عليك قصة خاتم من اثنين فقط في العالم وأنت تقول ماذا أفعل، حكم عقلك يا فتى إن قمت ببيع هذا الخاتم ستجنى الكثير.
والآن فهمت هو يريد المال لا أكثر.
قلتُ بهدوء:
_ وأنا يستحيل علىّ بيعه وأنت إياك وإخبار أياً كان عن هذا الخاتم، أسمعت؟
أجابني ببعض الغرور:
_ كما تشاء أيها الفنان الشاب.
دلفتُ للخارج بعصبية من ذلك الرجل وفكرتُ ملياً في أمر الخاتم واللازورد السحري ولكن حسمت أمرى بعدم التفكير في مثل هذه الأمور مرة أخرى.
نظرتُ في ساعة هاتفي الخلوي كانت الساعة قرابة السابعة صباحاً يوم ١٤ يوليو لعام ٢٠١٤ يوم مولدي يوم لقاء أبى بأمي، ذكرى زواجهما، يوم وفاتها، يوم فقدانه.
قودتُ سيارتي إلى المنزل أجلب بعض الحاجيات للعودة مجدداً إلى نفس الطريق ولكن الوجهة مختلفة سأذهب في رحلة سفاري كما اعتدت في نفس اليوم من كل عام كما كان يفعل والديّ.
عندما دلفتُ إلى القصر وبالتحديد إلى مكتبة جدى تذكرتُ عندما حاولت الوصول إلى قصة طفولية وأنا بعمرى الخامس لكى أُسلى وقتي وأتخلص من هذا الملل الذى يحاوطني من كل جانب كانت قصة تتناول أميرة صغيرة تلتقى ببستاني فتقع في حبه ولكنهما يفترقان بسبب الفوارق والعنصرية الطبقية والاجتماعية، ولأنه كان من حاشيتها.
دائماً ما كان هناك فوارق بأي شكل كان في قصص الطفولة التي تُحكى قبل النوم كسندريلا والشاطر حسن الفارس المغوار الذى يتغلب على كل من يقف في طريق زواجه من حبيبته الفقيرة وينتصر في النهاية، ولكن الحقيقة تختلف فعنتر لم يتزوج عبلة أبداً على الرغم من انتصاره على كل من وقف في طريقه.
أنا كنت مختلفاً في طفولتي بعض الشيء كنتُ أحب القراءة بل أعشقها حد النخاع، جذبتُ كرسياً خشبياً كان قابعاً أسفل الرف الضخم الذى يحوى عشرات الكتب.
حاولتُ الوصول ولكن في اللحظة الأخيرة سقطتُ على ظهري وسقط فوقي كتاب ضخم ظننتُ أنه أسود اللون ولكن تأكدتُ بعد ذلك أنه أزرق قاتم، حاولتُ قراءة عنوانه ولكن دلوف أبى القَلِقْ أعاقني عن ذلك الكنز المبهم، لاحظتُ توتره قليلاً وهو يوجه أنظاره إلى الكتاب حمله إلى غرفته وقامت أمي بالإسعافات الأولية اللازمة من تضميد لجرح رأسي السطحي.
بعدما تعافيت حاولت البحث عن ذلك الكتاب ذي العنوان الغريب ولكنني لم أجده أبداً.
*
وصلتُ إلى وجهتي وترجلتُ من السيارة ثم شرعتُ في نصب الخيمة الصغيرة خاصتي، يبدو هذا المكان مناسباً بين أحضان الطبيعة لابد أنني سأستمتع بوقتي كثيراً.
بعد وقت كنت جالساً أمام الخيمة البنية الصغيرة أحتسى كوباً من القهوة وأنا أشاهد غروب الشمس في مشهد بديع، لحظة موت الشمس ليحيا القمر على حُبها الذي يُنيره والنجم الأبيض الذى يتوهج بجانبه تراقصاً على انعكاس حبهما.
نهضتُ لكى أستريح قليلاً من عناء هذا اليوم، أسدل الليل ستائره المتلألئة.
كنتُ جالساً أستند بظهري على جذع شجرة قريب من الخيمة نظرتُ للظلام الدامس أمامي لأتنهد ببطء وتروى وكأن هذه التنهيدة هي التي ستخفف من حزني والنار التي تأكل جوفي.
الصمت أحياناً هو الاختيار الإجباري لكى لا تكن لقمة سائغة في أفواهٍ تتمنى رؤيتك متألماً، ولكن التنهيدة هي لغة الصمت للتعبير عما لا نستطيع البوح به.
فتحتُ دفتر مذكرات والدايّ لأقرأ بصوت عالٍ لعلى أنتشي قليلاً من حنانهما:
« كن على يقين دائماً بأن الله يخبئ لك الأجمل، شيء يفوق توقعاتك ولكن لكى تصل عليك بالسعي والتحلي بالصبر..»
قلبتُ الصفحات تباعاً لأقرأ،
« لا توجد شجرة لم يهزها ريح، ولا يوجد إنسان لم يهزه فشل لكن توجد أشجار صلبة ويوجد أشخاص أقوياء، فهذه هي الحياة يا بُنى لكي تصبح قوياً يجب تذوق صعوباتها وتخطيها بجدارة..»
تأملتُ صورة أمي على هاتفي الجوال ألمسها بأناملي بخفة،
اشتقتُ لها كثيراً، أخذتُ أتصفح الصور التي بهاتفي وجدتُ صورة تجمعني بنغم تبتسم بعفوية وأنا أناظرها بحب أغلقتُ عينايّ واستغفرتُ ربى على هذه المشاعر فبالنهاية قلبي ليس ملكي لا يوجد زر للتحكم في مشاعري ولكنني أحاول جاهداً تنَسيها.
ألقيتُ بالهاتف بغضب من تذكري لخطيبتي السابقة التي بالمفترض أن تكون الداعمة لي لقد اكتفيتُ، حلمي الضائع، حبي الخاسر، علاقاتي التي كان مصيرها الفشل المحتوم مع أصدقائي وزملائي،
ما زلتُ أتذكر أيامى الجامعية الأولى عندما كنتُ أجلس وحيداً أشاهد مجموعات الأصدقاء وهم يتسامرون بمرح هنا وهناك.
حتى أن الجميع ينعتني بالأبله البارد كنتُ بارد المشاعر قليلاً، متجهم الملامح وأنا أناظر الأشخاص لا أحد يعلم أنها شخصيتي وطريقة تعاملي مع غيري، لم يخفف عنى مأساتي سوى صديقي معتز كيف يكن بإمكان المرء الابتعاد قليلاً والاختلاء بذاته والتعمق في الوصول لأقصى درجة من السلام الداخلي لكى يصل لأسمى مراتب الحياة هدوءً.
نظرتُ لخارج الخيمة وهممتُ بالنهوض عازماً على إيجاد الهاتف الذى ألقيته بعيداً تقدمتُ بخطوات ثابتة وأنا أتفحص الأرض المظلمة تحت ضوء القمر الساطع في العراء الموحش ولكنه يروقني كثيراً وجدته أخيراً إثر بريق انعكاس ضوء القمر على شاشته.
التقطه ولكن تجمدت أوصالي وأنا أشعر بشيء على ساعدي الأيسر، حرق مؤلم والخاتم يضئ باللون الأزرق الخافت، رفعتُ ساعدي الذى تباين ما يحدث به،
دائرة صغيرة في منتصف ذراعي تُضيء بتوهج أزرق وبمنتصفها صورة لطائر غريب.
صرختُ بكل ما أوتيت من قوة، وأمسكتُ بساعدي الذى يعتصر ألماً، ولكن لا أحد في هذه الصحراء الجرداء ليساعدني.
جثيتُ على ركبتايّ من فرط الألم والصراخ الذى مزق حنجرتي وأنا أرى الدائرة تتصل بالخاتم بشريط متوهج دقيق خرج من منتصفه إلى منتصف الرسمة من تجمع الخطوط الحمراء الدقيقة.
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية لِبچَشان) اسم الرواية