رواية جوازة ابريل الفصل التاسع 9 - بقلم نورهان محسن
الفصل التاسع (هذيان)
هل يوجد جحـ*ـيم ، أسوأ من العـ*ـذاب الذي يعانيه الإنسان ، عندما يعرف في أعماق ضميره ، أنه اقترف ذنبًا جسـ*ـيمًا مستحيل إصلاحه؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فى متجر للأزياء
تجلس خلف المكتب في غرفة بها أثاث أنيق ، تتكئ على حافة المكتب بمرفقيها وأصابعها الطويلة ، تفرك جبهتها برفق ، حتى كسر الصمت صوت أنثوي يشوبه القلق : سلامتك يا مدام!!
رفعت رأسها ببطء تجاهها ، وهي تميل إلى الخلف على الكرسي ، لتتمتم بنبرة منخفضة : هاتيلي قهوتي يا ليلي
صوت رجولي خشن هتف بصلابة من خلفهم : خليهم اتنين يا ليلي
أدارت ريهام رأسها ببطء نحوه ، وبدت تعابير وجهها مزعوجة للغاية ، ثم حاولت إجبار شفتيها على الابتسام ، وهي في وضعيتها ، قائلة بصوتها الناعم : ازيك يا اسعد!!
تمتم أسعد بهدوء : كويس
اكتفت ريهام بإيماءة برأسها إلى ليلى لتخرج في صمت ، بينما كانت تراقبه بعيون ضيقة ، وهو يتحرك للجلوس على الكرسي أمام مكتبها ، فسألته بابتسامة مزيفة : يا تري ايه سبب الزيارة السعيدة دي!!
ضحك أسعد بصوت خافت ، ساخرًا من كلامها ، فلم تكن الوحيدة التي تراقب تعابيره ، لكنه أيضًا لم يخفى عليه ، ما ألت إليه ملامحها فور رؤيته : ماتتوتريش كدا .. مش مطول .. انا جاي في كلمتين وماشي
استفسرت ريهام بنفس الابتسامة ، ولكن بنبرة جادة : كلمتين ايه!!
حمحم أسعد بخفة ، ليجيب بنبرة هادئة رجولية : بخصوص رسالتك اللي بعتيها الصبح
عقدت ريهام حاجبيها بدهشة ، وسألته في حيرة : رسالة ايه .. اه .. افتكرت مالها الرسالة!!؟
أنهت كلماتها بسؤال بغير اكتراث ، لتصبح ملامحه مستاءة على الفور ، مستفهماً بحدة خفيفة : هو ايه الحكاية!! كل ما اتفق مع عمر اننا هنقضي اجازته معايا ويكون متحمس يجيلي .. فجأة ترجعي تقوليلي انه مش عايز يجي او عنده تمرين او اي حجة من الحجج الفارغة دي تخليه مايجيش
جعدت ريهام حاجبيها بدهشة مزيفة ، وسألته ببراءة ظاهرية : وانا دخلي ايه!! هو اللي مش حابب يروحلك وانا مش هقدر اضغط عليه
علق أسعد على كلامها ، واكتسبت لهجته نبرة حازمة واضحة : بلاش لف و دوران .. انا فاهمك كويس يا ريهام وعارف طريقتك .. كل مرة تروحي تجيبي لعبة شكل عشان ينشغل بيها ومارضاش يجيلي او يخرج معايا
م ه
كانت ريهام تنفث الهواء بأعصاب متوترة من صوته المرتفع دائمًا ، لكنها قالت بهدوء حتى تبدو غير مبالية بالأمر : اسعد بليز مفيش داعي للنر.فزة دي .. ابنك في النادي عنده تمرين وانت عارف النادي مش هتوه عنه .. لو كنت عايز تشوفه فعلا زي ما بتقول .. كنت رحتله ماكنتش هتيجي المشوار دا كله عشان تقول الكلمتين دول .. وتطلعني انا الغلطانة والشر.يرة اللي حرماك من ابنك
قالت كلماتها الأخيرة بابتسامة ساخرة ، وهي تلوح بيديها في اضطراب ، حالما تشكلت تجاعيد ما بين حاجبيه ، ثم هتف بنبرة مليئة بالاعتراض : انا عايز الولد يكون معايا ع طول ماشوفوش ساعتين تلاتة وخلاص
رفعت ريهام حاجبها غاضبة ، وأجابت عليه باقتضاب موجز : حضانته من حقي انا يا اسعد
أخذ أسعد نفسًا عميقًا حبسه في صدره لثوانٍ ، ليضبط انفعالاته ، ثم أخرجه ببطء ، مرسلاً لها نظرات حانقة ، قبل أن يحذرها من بين أسنانه : ممكن تبطلي اسلوبك المستفـ*ـز دا مش كل مرة اجي اتفاهم معاكي اخرج محر.وق دمي
أردف أسعد بصوت عالٍ نسبيًا ، مشيراً إلى رأسه : انتي عارفة اني اذا حطيت الموضوع في دماغي هاخد عمر منك يا ريهام انا سيبه ليكي بمزاجي
تظاهرت ريهام بالبرود ، على عكس العاصفة التي تشتد بداخلها ، فلن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي يكلمها فيها بنبرة تهد.يد ، لتميل بجسدها إلى الأمام ، وهي تلوح بيدها ، لتقول بعدم اهتمام مصطنع : عايز تاخده خده ماحدش منعك..
رفعت ريهام حاجبها الأيسر بمكر ، وكرا.هية لم يغفل عنها ، وسألته بنبرة ساخرة ذات مغزى : بس هو انت فاضي له اصلا يا اسعد .. ايه عايزو يعيش معاك في بيت واحد وتسيبه للمربيات تربيه .. زي ما كنت بتعمل معايا !!
تقلصت ملامحها فى حالة استياء ، وتحولت نبرة صوتها من ناعمة إلى حادة ، مكللة بحـ*ـقد دفين لسنوات عديدة : ناسي انك كنت بتسيبني لوحدي بالايام حتي وانت معايا في نفس البيت .. لأن طبعا دكتور الجامعة الاستاذ اسعد اهم حاجة عنده شغله وبس
أنهت ريهام كلامها بصوت عالٍ ، وصدرها يرتفع ويهبط في إنفعال ، ليحدق أسعد في وجهها بعيون ضيقة مستاءاً ، ليبرر بعدهَا بأخف نبرة هادئة يمتلكها : ايه الجر.يمة في اني بشتغل يعني .. مش عشان احافظ من مستوانا الاجتماعي اللي كنتي عايزة تفضلي عايشة فيه ؟!
ردعت ريهام بصعوبة ، ضحكة صاخبة كادت أن تغادر حلقها ، فالأيام لن تغيره ، دائمًا يفكر بعملية مطلقة ، لا يفهم شيئًا عن أهمية المشاعر الدافئة التي تتوق كل أنثى للحصول عليها من شريك حياتها ، بينما هو يجوب ببصره فى المكان بنظرات سريعة وشاملة ، ليتابع مذكراً إياها بنبرة باردة مستفـ*ـزة : ناسية ان الاتيليه دا كله من فلوسي وشغلي؟!
نظرت ريهام إليه بذهول لبضع ثوان ، ثم حركت شفتيها بابتسامة مزيفة لم تصل إلى عينيها ، وهي تهز كتفيها ، لتصحح له باستياء ساخر : قصدك الاتيليه اللي كتبته بإسمي .. هو دا انت معتبره حاجة .. دا جزء بسيط اوي من للي ع قلبك .. ومش هيعوضني شبابي اللي راح مع واحد اكبر مني ب12 سنة .. مش هيعوضني وحدتي وانا في بلد غريبة اربع سنين والاسم متجوزة .. ممنوعة من الخروج والسهر مع جوزي وكل حاجة .. كنت بكلم نفسي زي المجنو.نة من قعدتي لوحدي .. لحد ما خلفت عمر ولولاه مكنتش كملت معاك وفضلت ع ذمتك 10 سنين بحالهم
واصلت كلماتها بثقة زادت فى لهجتها ، وهى ترى لهيب الغضب المشتعل في عينيه البنيتين ، مطبطبًا على الأرض تحته بتوتر : وبمناسبة اللف والدوران .. تنكر انك بتعمل دا كله عشان لسه متعشم نرجع لبعض يا اسعد .. بس لما لاقيتني رافضة نفتح الموضوع .. بدأت تضايقني تاني برسايلك ومجيك وطلبك انك تشوف عمر اللي انا عارفة انه مش فارقلك كتير
حمحم أسعد بخشونة ، ثم سألها بنبرة هادئة ورجولية ، متجاهلاً كل كلماتها السابقة الممتعضة : وفيها ايه لما اكون عايز ارجع عيلتنا تتجمع من تاني .. بطلي بقي الاتها.مات اللي بترميها دي انا بحب ابني و تهمني مصلحته
جزت ريهام على أسنانها ، مغتاظة من رده ، لتتأهب حواسها بانفعال ، وهمت بالرد عليه ، لكن صمتا كلاهما عندما سمعا صوت باب الغرفة ينفتح ، ليهب أسعد واقفاً من مكانه استعدادًا للمغادرة ، فسارعت ليلي قائلة بتهذيب : القهوة يا استاذ اسعد
لاحت شبه ابتسامة على فمه ، ثم نطق بجديته المعهودة ، مثبتاً نظراته فى زرقاوتيها : خليها مرة تانية .. هسيبك تفكري في كلامي و عايز اسمع الرد عليه في اقرب وقت و اتمني يكون الرد يرضيني
أنهى كلمته الأخيرة ، تاركًا المكان كله ، بينما وضعت ليلى القهوة على المكتب ، فلوحت لها ريهام لتغادر دون أن تنبس بكلمة ، غا.فلة عن التى تغلي من شدة السخط والغضب ، فهذه ليست المحاولة الأخيرة ، فقد تكررت هذه الكلمات في أذنيها منذ أكثر من عام عندما حصلت على الطلاق بعد خلعها له ، متنازلة عن جميع حقوقها من أجل ان تفر من برا.ثنه ، وهذا ما يجعله مستهجناً ، ويريد أن يستعيد كرامته بأي شكل من الأشكال ، لذلك ظل يحاول أن يقنعها بالعودة إليه بكل طرق اللين الممكنة ، ولكن الآن نبرة الإصرار الغريبة في كلماته الحادة جعلتها ترتاب منه ، لكنها بالطبع تفضل المـ*ـوت ، على عودة للعيش معه تحت سقف واحد مرة أخرى مهما كان الثمن.
أسعد : 45 عام روتيني وممل ، يتمتّع برزانة واضحة ، لبق في تصرّفاته مؤدب في حواراته ، يعشق الطعام الدسم لذلك هو بدين الجسم إلى حداً ما ، منظم بشكل هستير.ي ولا يفعل شيء بشكل عشوائي وكل شيء عنده بحساب ، لا يثق في أحد بسهولة وربما لا يثق في أحد نهائيًا.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
فى المساء نفس اليوم ، بعدما حل الظلام ليعم الأجواء.
داخل غرفة ابريل
تجلس ابريل على الكرسي بجوار شرفة غرفتها من الداخل ، وترتدي بيجاما صيفية لطيفة باللون الأخضر الداكن ، بينما أصابعها تعقد خصلات شعرها الأشقر المجعد في جديلتين على جانبي كتفيها ، لأنها معتادة على فعل هذا كل يوم قبل الذهاب إلى الفراش حتى لا يزعجها أثناء نومها.
شاردة بنظراتها في نقطة واهية ، وأصابعها مستمرة تلقائيًا في عملها ، حتى خرجت من سيل الأفكار بسبب رنين هاتفها على المنضدة الصغيرة المجاورة لها ، فإختلست نظرة إلى الشاشة المضيئة ، ثم نقرت على زر الرد ، ووضعت هاتفها على أذنها ، فأتى إليها صوت مصطفى الدافئ الرخيم : حبي .. عاملة ايه!!
ابتسمت أبريل لا إرادياً ، وغمغمت بعذوبة : الحمدلله .. وصلت بانكوك بالسلامة !!
أتاها منه تنهيدة خافتة قبل أن ينطق بهدوء : ايوه وبكلمك من الاوضة في الاوتيل
ردت ابريل بصوتها المتحشرج الرقيق : حمدلله علي سلامتك حبيبي
جاءها صوته الطرف الأخر ، متساءلًا بتوجس : ابريل انتي كويسة!!
ردت ابريل بالإيجاب : اه كويسة
عاود مصطفى يسألها بإصرار امتزج بالشك : متأكدة!! صوتك مش حاسو تمام .. صحتك بخير .. في حاجة حصلت عندك ومخبية عليا؟!
تجهمت ملامحها ، وظهر الضيق عليها ، فكان أول ما خطر ببالها هو ذلك الحدث المحرج في المطعم ، بالإضافة إلى اتصال أحمد بها ، لكنها حسمت أمرها مسبقًا بعدم إخباره بأي شيء ، فلم تكن هناك حاجة لذلك ، وعفوياً سعلت بخفة ، ثم تلفظت أخيراً بكذ.ب : لا ماتقلقش الدنيا تمام .. كل الحكاية حسيت بشوية تعب بسيط ودلوقتي بقيت تمام
سألها بعد أن شعر بقليل من الارتياح ، عندما تأكد من أنها لم تعرف شيئًا عما يخفيه عنها : انتي برده روحتي للمطعم مش كدا؟!
همهمت ابريل بالإيجاب فقط ، وهى تمسح فوق شعرها بخفة ، ليتم الرد بنبرة تأنيب : طيب مش انا كنت قولتلك ماتروحيش وهخلصلك كل حاجة
اعترضت أبريل علي كلماته برقة ، مبررة له : ممكن ماتكبرش الموضوع يا مصطفي .. انا ماتعبتش من كدا خالص بالعكس اتبسطت اني روحت .. بس يمكن الحر هو اللي ارهقني شوية
بللت شفتيها بطرف لسانها ، ثم غيرت مسار الحديث ، وهى تسأله بهدوء : الجو عندك حلو!!
رد مصطفى عليها بنبرة هادئة يتخللها المرح : في منتهي الروعة .. كان نفسي تبقي معايا
أخبرته إبريل بنبرة حماسية مليئة بالمرح أنهتها بحنق زائف : وانا كمان .. بس يلا تتعوض في المستقبل القريب ولا هترجع في كلامك !!
رد مصطفى ضاحكاً : ماقدرش طبعا
غمغمت ابريل بضحكة عفوية : ايوه كدا انا بحسب .. هتعمل ايه دلوقتي !؟
أجاب مصطفى على سؤالها ببساطة : هاخد شاور ونازل عندي شغل
تثاءبت إبريل ، وهى تفرك عينيها برفق ، وهمهمت بصوت نعاسًا : طيب هسيبك تخلص شغلك وانا هنام
أتاها صوت مصطفى بقوله الجاد الهاديء ، لكنه لا يخلو من الحنان : روبي!! خدي بالك من صحتك ماتزعلنيش منك
ابتسمت ابريل سعيدة بإهتمامه ، وقالت بتدلل به لمحة شقاوة : خلاص ماشي بقي
ضحك مصطفى بخفة ، مسترسلاً همسه الأجش الحانى : كلميني لما تصحي .. قوليلي صحيح امتي بروفا الفستان؟!
اتسعت ابتسامة ابريل ، وهى تستمع إلى سؤاله ثم أجابته بحماس : بكرا هنزل مع البنات نشتري شوية حاجات و اعمل البروفا الفستان
تفوه مصطفى بنبرة رجولية جذابة : تمام .. احلام سعيدة يا حبيبتي
أغلقت المكالمة ، وعلى وجهها ابتسامة عريضة ، سرعان ما إنمحت تدريجياً ، حينما ومض في ذهنها سؤال ، بعد أن تذكرت حديثها مع ريم ، كيف تشعر بالإرتياح مع مصطفى فى حين أنها لا تستطيع إخباره بكل ما كانت تفكر فيه ، أو ما يحدث معها؟
حركت ابريل رأسها بقوة ، لطرد تلك الأفكار السلبية من عقلها ، وحصرت تفكيرها فى أنها سعيدة الآن فقط ، ثم توجهت إلى الفراش ، لتجلس فوقه بركبتيها ، وأمسكت بوسادتين ووضعتهما وراء بعضهما في منتصف السرير ، ثم استلقت على ظهرها مع رفع رقبتها ، وكتفيها باستخدام الوسادتين ، حيث أن النوم بهذا الشكل ، يجعلها قادرة على مواصلة التنفس بسهولة أثناء نومها.
مددت يدها لإطفاء أنوار المصابيح الكهربائية بجانب السرير ، ثم سحبت من طرفه ، قطعة قماش سوداء طويلة ذات ملمس ناعم ومستطيل ، لترفعها نحو أنفها وعيناها مغمضتين ، تستنشق رائحة الريحان المنبعثة منه بحنين بالغ هذا ليس مجرد شال ، بل جانب عميق مرتبط عقلياً وروحياً بالذكريات القديمة التي تجمعها مع جدها الراحل وجدتها العزيزة صاحبة هذا الشال ، ولا تنام في الليل ، إلا إذا عانقته ، وتحدثت معهم من خلاله بكل ما يعترى قلبها ، ثم تنام بسلام.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
قرابة الساعة الثانية صباحاً
فى أحد الملا.هى الليـ*ـلية ، التى لا يزورها سوى كبار رجال الأعمال ، والشخصيات الهامة.
يجلس باسم أمام المَشْرَب برفقة صديقه ، كل منهم هائماً في أفكاره الخاصة ، وهذا الصمت لا ينقطع إلا بأصوات الموسيقى الصاخبة في المكان ، حتى قرر خالد الخروج من هذا السكوت وهو ينظر حوله ، وهو ينفث دخان سيجا.رته إلى الأعلي بملل ، لأنه لا يرتاح فى تلك الأماكن ، لكنه يعلم أنه إذا لم يأت معه ، سيزلج نفسه في مشكلة وهو ثمـ*ـلاً ، ثم دحرج بصره إليه ، متسائلاً خالد بإرتياب : سرحان في ايه .. مابستريحش لسكوتك دا!!
بقي باسم على حاله ، وهو يمرر إصبعه على حافة كأس مشروبه الكحو.لي فوق البا.ر ، ممسكًا سيجا.رة بين أصابع يده الأخرى ، وبصره شارداً في الفراغ ، فالتفت شفتا خالد بضجر ، ثم سأل مرة أخرى بنبرة ذات مغزى : بتفكر فيها مش كدا؟!
امتص باسم رحيق السيجا.رة بجمود ، ثم سأله ببرود متظاهرا بعدم معرفته ، دون النظر إليه : قصدك مين؟!
ارتفع حاجب خالد ساخرًا ، لأنه يفهمه أكثر من أي شخص آخر ، فهو ليس مجرد صديق له ، أنه صندوقه الأسود ، هاتفاً بثقة : اللي جت في بالك .. بس انت اللي مش عايز ترسي نفسك علي بر
أطفأ باسم السيجا.رة ، ثم فك الأزرار العلوية من قميصه الأزرق الباهت ، الذي لا يزال يرتديه ، ليمسح بكفه على جلد رقبته المتعرق ، على الرغم من جو المكان المعتدل ، وأطلقوا تنهيدة ساخنة نابعة من أعماقه المحتر.قة ، ثم همس بشبه هذ.يان : حاسس اني تايه وتعبان .. زي ما اكون ماشي في طريق طويل ملوش اخر واللي مخوفني اني مش شايف حتي نور بسيط من بعيد يدلني علي السكة
أنهى باسم كلامه ، موجهاً عينيه إليه بنظرة خاوية ، كأنه من الصعب عليه أن يرى حتى في اضاءة المكان ، أما خالد حك حاجبه بطرف إصبعه ، ينظر إليه مستفهمًا ، ثم سأله بتوجس : مش دا يمكن عشان عايز ترجعلها .. بس كرا.متك مش سمحالك بكدا!!
خفض باسم بصره نحو الكأس لثوانٍ قليلة ، ثم رفعه إلى فمه ، متجرعاً إياه دفعة واحدة ، ليعقد حاجبيه من طعمه اللا.ذع ، ثم أخبره بإستخفاف : انت ادري حد عارف ان الموضوع دا عملو بلو.ك من مخي
تابع باسم حديثه بتشتت ، ولمحات من الماضي تمر في ذاكرته : بس لفت سنين ورجعتلي تاني من نفس الطريق .. لدرجة انها جابت اهلها وسكنوا في نفس الكومبوند وطبعا الكل انبسط .. ما عيلتنا وعيلتها كانوا اصحاب من زمان .. وكنا متربين مع بعض كانت هي قد اختي كارما وانا اصغر منها بأربع سنين ..
استمع خالد له باهتمام ، ولم يقاطعه حتى أنهى كلامه ، ليقول بأسى : مقدر اللي انت حاسس بيه .. بس قولتلك قبل كدا رفضها ليك مكنش معناه ابدا ان النقص كان فيك انت!!
ادار باسم رأسه إلى الجانب ، يجول بنظراته في الفراغ ، وعاد ذهنه إلى تلك الذكرى السيئة كما لو كانت بالأمس ، ثم تنهد ساخرًا ، وهو ينظر إلى كأسه الخالى ، فلم يعد شيء يجدى معه نفعاً ، ثم همس بنفس الجمود ، لكنه يشعر بالندم يحتدم في أعماقه : الاستخفاف بحبي ليها اللي كان باين اوي في كلامها ليا صدمني .. وخلاني غلطت كتير في حق ناس
اختتم باسم حديثه الغامض برفعه إلى الكأس ، مشيراً للنادل أن يضع له المزيد ، فيما رد خالد بخشونة ممزوجة بالاعتراض ، رغم نظرات الثأثر ، والشفقة مستوطنة عينيه الخضرواتين : اللي مريت بيه يا باسم مش سهل علي اي حد .. بس اللي بتخططلو دا مش هو الحل .. و من غير ماتحس علي نفسك لسه مكمل وعايز تضيف رزان لقايمة الناس اللي غلطت في حقهم من غير ذنب
إلتوي فمه فيما يشبه الابتسامة ، لكنها كانت مليئة بالحسرة والألم ، ثم تنهد بحر.قة خدشت حلقه ، وهو ينظر إليه برماديتيه المتلألئة مثل نجمة في سماء مظلمة ، بينما يجبر نفسه على كبح دموعه ، متمتماً بحدة مهزوزة : سهل تقول كدا .. عشان مستحيل حد يحس بالنا.ر للي في صدري غيري مابتطفيش .. وكل السنين مابتعدي بحس بالندم والذنب اكتر
زفر خالد الهواء بقوة ، فكل واحد منهم يعاني بداخله كثيرًا ولا يفصح عنما به إلا قليلاً ، ليعاود النظر إليه بجدية ، وقال بنبرة هادئة ، لعله يثنيه عما يفكر به : صدقني والله حاسس بكل اللي جواك .. بس ذنبها ايه رزان تدخلها في مشاكلك؟!
شعر باسم بوخز قوي في منتصف صدره يصاحبه ألم جامح ، فعض شفته السفلية بشدة ، وامتلأت عيناه بالدموع التي سقطت على وجنتيه ، جراء إصرار الذكريات القا.سية على تماوج في ذهنه ، فأسرع في مسحهم ، ولكن كيف ينجو من الغرق في أمواج الذنب العالية ، ليسأله بصوت عالٍ بغير وعي ، وبنبرة مشوشة : وكان ذنبو ايه اشرف!!! ذنبه ايه يمـ*ـوت بسببي..
إحتسى من الكأ.س أمامه ، مجعداً حاجبيه من الألم ، ثم أردف بهمس : السنين اللي فاتت الكل بيحطولي اعذار..
أضاف باسم ساخراً ، بكمد من ذلك الوجع الذي يعتمر قلبه ، ويكاد يفتك به ، مثل كتاب مغلق لا غلاف له وممتلئاً بالخيبات : معلش دا عمره .. كانت حادثة ومالكش ذنب فيها
الكلمة الأخيرة نطقها بمرارة ، ماسحاً فمه بإبهامه ، يزيل بقايا الكحو.ل اللا.ذع الذي يضاهى إحساسه الداخلي ، كل ما يعلمه أنه منزوع من الشعور بالحياة وما فيها ، منذ تلك الحا.دثة المشؤ.ومة ، ثم اختفى صوته ، ولم يستطع الكلام ، متساقطة دموعه من مقل عينيه ، معلنة هزيمته ، وضعفه ، وعجزه ، ومدى الذنب الرهيب الذي يحمله على عاتقه سنوات عديدة من عمره ، ثم استطرد بصعوبة : عارف انهم كانوا بيقولو كدا عشان امر من ازمتي .. بس برده مش قادر ابرر لنفسي .. مش هعرف انسي اني كنت انا السبب في مو.ته .. عشان كنت سايق زي المجنو.ن وبفكر فيها .. بفكر في اللي رفضتني وراحت اتجوزت وسافرت .. بعد ما حسستني اني ماليش قيمة .. مجرد شاب مراهق وتا.فه قدام عريسها الناضج والدكتور في الجامعة .. راجعة بعد السنين دي كلها تحاول تقرب مني تاني .. ازاي اغفرلها وانا مش قادر اغفر لنفسي !! كل ما بغمض عيني بشوف الحا.دثة قدامي..
تلاشى صوته المبحوح تدريجياً ، وهو يلهث بقوة ، وشعر بجفاف شديد في حلقه ، بسبب كتلة النا.ر المستعرة فى طيات صدره من مهاجمة ذكرياته المؤلمة إليه ، فلا شيء أسوأ من أن يُعاد شعور قديم ، جاهدتُ طويلاً لتجاوزه ، ممَ جعله يشعر بالاختناق كلما تلفظ أنفاسه ، فتنهد خالد ، متأثرًا بكل شيء يسمعه منه ، لكنه هتف مكرراً نفس السؤال الذى يدور فى عقله بجدية : بعد كل اللي بتحكيه دا .. لسه شايف الحل عشان تخلص منها تدبس نفسك مع وحدة تانية؟!
همس باسم بضعف وهذ.يان ، وبالكاد يتحكم في أنفاسه ، معترفًا بخزى : عشان خايف اضعف تاني قدامها .. دي الطريقة الوحيدة اللي فكرت فيها عشان ابعدها عني .. مش بعد اللي جرالي بسببها ووصلتني لحالتي دي .. هسيبها تدخل حياتي تاني تدمرها ..
غضن خالد حاجبيه بعدم رضا مما يقوله ، مصححاً له بقسو.ة طفيفة : ماتعلقش تصرفاتك دي علي شماعة ريهام .. مش معني ان وحدة ترفض واحد و تتجوز غيره انه يعمل اللي عملته .. ايه اللي عايز تثبته لنفسك بالظبط باللي كنت بتعمله دا!!؟
أنهى كلامه بنرفزة ، ليشعر الآخر وكأن أحدهم يطلق متفجر.ات بين خلاياه في تلك اللحظة ، وألم مضاعف يمز.ق روحه ، رد بوهن ، وهو يضرب رأسه بقبضته بهستير.ية : مكنتش عايز اثبت اي حاجة لنفسي .. كنت عايز اخرج كلامها اللي زي السـ*ـم من دماغي .. ماخطرش علي بالي اني عشان انساها اني هعيش بالذنب الفظيع دا طول عمري ويفضل مطاردني في كو.ابيسي
سارع خالد بالقبض على معصمه ، لمنعه من إيذاء نفسه ، وهو يبتلع لعابه بإضطراب من نظرات العاملين المندهشة إليهم ، ثم تحدث بنبرة أقل حدة ، ولكنها لا تخلو من اللوم : رغم انك بطلت التحد.يات الغبـ*ـية من بعد الحاد.ثة .. بس مابطلتش عادة السواقة المجنو.نة الهبا.ب بتاعتك دي
أطلق باسم زفيرًا عميقًا ، كأنه يزيح به كل الهموم التي تثقل روحه ، ثم أجابه بلامبالاة : مش عارف ابطلها هي دي الحاجة الوحيدة اللي بتهديني
قلب خالد عينيه بسأم ، فأشار إليه النادل ، ليومئ برأسه ، وهو يمسك ذراع صديقه ، ليغمغم بهدوء : طيب خلينا نقوم المكان بيشطب
استقام باسم معه بترنح ، وجسده يرتجف بالكامل ، ليغادروا نحو الخارج بصعوبة متكئاً عليه ، وهو يشعر كأنه سيفقد وعيه ، ويتقيأ كالمعتاد بعد كل مرة يشر.ب فيها بهذا الإسراف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية جوازة ابريل) اسم الرواية