رواية جوازة ابريل الفصل الثالث عشر 13 - بقلم نورهان محسن
الفصل الثالث عشر (أنا معاك)
"المشاعر المكبوتة لا تموت ، فهي تدفن حية ، وتعود لاحقاً بطرق مؤلمة بشدة"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقود باسم السيارة بسرعة عالية متوجهاً إلى منزل والده ، بينما كفيه يضغطان على عجلة القيادة بقوة حتى تتحول مفاصل يديه إلى اللون الأبيض ، وكأنه ينفث غضبه فيه ، وما زالت كلماتها تتردد في رأسه مراراً وتكراراً ، غافلاً تماماً عن الانتباه إلى الطريق ، حتى خرج من أفكاره المتضاربة ، إذ رأى ضوءاً ساطعاً يهاجم مقلتيه من تلك الشاحنة الضخمة تأتى نحوه.
اتسعت عيناه في رعب ، وتسارعت نبضات قلبه بجنون ، وبدون لحظة تفكير ، أدار عجلة القيادة بعنف ، مما أدى إلى انحراف السيارة إلى أقصى اليمين ، ثم أدارها مرة أخرى بمنتهى السرعة ، متفادياً بإحتراف الاصطدام بتلك الشاحنة.
مرت لحظات معدودة قبل أن يدير رأسه ، وينظر من النافذة الخلفية للسيارة بعينين جاحظتين ، غير مصدق أنه لا يزال على قيد الحياة ، وقد نجى من الموت.
ألقى باسم رأسه على حافة المقعد ، وهو يلهث أنفاسه بصعوبة ، وفمه مفتوح على مصراعيه ، ويداه وجبهته تقطران عرقا من التوتر الذي هاجم جهازه العصبي ، وشعر باختناق شديد.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
فى ذات الوقت
عند ابريل
أبطأ يوسف من سرعة السيارة ، وأوقفها أمام الفيلا ، ثم أخبرها بصوته المجهد ببرطمة شبه مفهومة ، وهو يلقي رأسه على حافة المقعد ، مغمض العينين : اخيرا وصلنا انا حرفيا مش قادر افتح عيني وهموت وانام .. هلكتيني يا ابريل انتي وصحباتك .. اليوم بحالو ضاع جوا المول .. حرام عليكو
التفتت أبريل نحوه ، لترد عليه بابتسامة واسعة ، وعيونها تشع سعادة ، وهي تلوح بكفيها بحماس : يا حبيبي مش علي ما بقيس و بفكر و كمان بصور نفسي بالهدوم و اخد رأي صحابي .. الموضوع محتاج صبر وتأني و دقة في التفكير ولف كتير يا جو .. عشان ممكن الاقي حاجة احلي قدام
نقر يوسف على المقود بأصابعه بضجر ، ووضع يده الأخرى فوق عضلات صدره البارزة من قميصه الأخضر قصير الكم الذي يتم ارتداؤه عن طريق الرأس ، بطريقة درامية ، وهو يدندن بصوت موسيقى هزلى : توبة .. ان كنت اخرج معاكي تاني .. توبة .. انسيها مش هتحصل
ضحكت أبريل بسخرية عليه ، ثم رفعت كتفيها لأعلى ، وتشدقت بإستغراب : محسسني اني هتجوز كل يوم .. دي مرة في العمر وخلاص .. وبعدين مش كفاية انك عمال تنبر طول الطريق وانا ساكتالك .. افصل شوية وانزل شيل الشنط للي ورا دي
قالت جملتها الأخيرة بنبرة آمرة متذمرة ، مم دفعه إلى النظر حيث أشارت برأسها ، ثم رد عليها بعدم رضا ممزوج بالدهشة : كل التعب دا طول النهار وكمان هتشيليني اخر الليل .. ارحميني يا شيخة .. انتي ايه ها ايه .. اتهدي بقي!!
تمتم العبارة الأخيرة ، وهو يلتقط وجنتيها الممتلئتين بين إصبعيه السبابة والإبهام بمشاغبة ، فعبست ملامحها ، وهي تصفعه على ظهر يده حتى يفك هذا الحصار السخيف عن خديها ، وهتفت بسؤال مذهول ، واتسعت عيناها بإنشداه : اومال مين هيشيل دلوقتي؟
غطى يوسف فمه ، وهو يتثاءب من الإرهاق ، الذى يظهر على ملامحه بشكل واضح ، وقال بصوت نعسان : ماتسيبهم في العربية لحد الصبح .. هو انتي لازم تطلعي الحاجات دي كلها دلوقتي .. خلاص حبكت يعني يا ابريل
أومأت أبريل برأسها مؤكدة ، وأجابته بعناد ، وهى تعقد ذراعيها أمام صدرها : ايوه طبعا و ضروري كمان مش هسيب حاجاتي في الشارع
تمتم يوسف بهمس بطء أشبه بالهذيان ، وهو يقفل جفونه : اصبري انتي مستعجلة علي ايه بس!؟ مش هيحصلهم حاجة جوا العربية ابقي خلي عم سعيد يساعدك فيهم الصبح
رمقته ابريل باستياء متبرم ، ثم هزته بقوة في كتفه حتى استيقظ معها قليلا ، بينما تخبره بمعارضة : لا يا ذكي .. الصبح بروفا الفستان وهبقي مشغولة وريهام هتنزل علي شغلها وهتاخد العربية معاها
نظر إليها يوسف بنصف عين ، ثم علق بابتسامة يغمرها النعاس : لا يا ستي .. من الناحية دي حطي في بطنك بطيخة صيفي .. انا واخد منها العربية بكرا عشان هروح استقبل الفوج الايطالي الصبح وقبل ما اروح هتكوني اخدتي حاجتك
نفخت أبريل خديها بضجر لعدم موافقته على ما تريد ، قائلةً بإنزعاج ممزوج بالعناد ، وهي تترجل من السيارة ، وتغلق الباب خلفها ، تحت أنظار يوسف المندهش من تقلب مزاجها السريع هذه الأيام : يوووه .. خلاص روح نام .. انا هتصرف لوحدي .. وانا غلطانة اني طلبت منك حاجة اصلا
أسرع يوسف أيضاً بالنزول من السيارة ، قاطباً بين حاجبيه الكثيفين ، ليتمتم باستنكار حائر : كمان انتي المقموصة .. بعد ما شحطتي وبهدلتي اللي جابوني معاكي .. بعد ما كنت واد مز مافيش منه غير نسخة واحدة يا واطية
أنهى كلامه بغيظ ممزوج بنبرة شقاوة ، ووضع يديه في جيوب بنطاله الجينز ، ليشد جسده أكثر بوضعية غرور واعتزاز بالنفس ، فزجرته أبريل بعبوس مشاكس : اهو انت
رفع حاجبيه الكثيفين في لفتة مضحكة ، مغمغماً بتوبيخ كاذب : يا اوزعة احترميني شوية انا اخوكي الكبير..
لوحت ابريل له بإستخفاف ، قائلة بنبرة أكثر مشاغبة : دي هي سنة واحدة انت هتذلني بيها .. غير كدا انت طول علي الفاضي .. واخلص هتغور ولا اخليك تشيل بالعافية؟!
اختتمت أبريل حديثها محذرة إياه ، وعيونها مشتعلة من بروده ، بينما حك يوسف فروة رأسه ، وقال بتثاؤب وصوت مسالم : لا .. هاغور طبعا .. دا انا مش قادر اقف علي حيلي..
دمدمت ابريل بتعابير وجه مزعوجة : ندل بصحيح
أدار لها ظهره ، وهو يضحك بهدوء ، ومشى عدة خطوات حتى وصل باب المنزل ، ثم فتحه ودلف إلى الداخل ، بينما نظرت ابريل إلي أثره بإغتياظ قبل أن تزفر بإحباط.
✾♪✾♪✾♪✾♪✾
بعد مرور عدة دقائق
كانت أبريل لا تزال بجوار السيارة
تحدثت أبريل عبر الهاتف بغنج ناعم ، وعلى شفتيها ابتسامة جميلة ، وهي تحمل مجموعة أكياس كبيرة في اليد الأخرى : ايوه يا مصطفى .. يا حبوبي
تقدمت أبريل ببطء من جانب السيارة ، تستمع إلى رده من الطرف الآخر ، ثم أسرعت للرد عليه بكل عفوية : طبعا حبوبي و روحي و عمري كله كمان
مرت ثواني ، ثم ترددت أصوات ضحكتها المرحة حولها فى المكان ، وهي تضع الأكياس على رصيف الحديقة بجوار عدة صناديق أخرى خاصة بها ، ثم أجابته بحماس : لا خد من دا كتير بقي الفترة الجاية
تهللت أسارير وجهها بإبتهاج تجلى في صوتها المتحمس ، وهي تسأل في دهشة ، بينما كانت تعود إلى السيارة : عرفت منين اني مبسوطة !!! الصراحة مبسوطة جدا جدا .. اشتريت شوية حاجات تجنن .. بجد جميلة اوي
مالت بظهرها لداخل السيارة من الباب الخلفي ، حتى تمسك ببقية الأكياس ، وهي تستمع إلى أجابته بابتسامة ارتسمت على شفتيها قبل أن تخرج رأسها من الداخل بحذر ، وتجيبه بالنفي : لا لسه .. الفستان بروفته بكرا
ضحكت على لهجته المتلهفة ، وأخبرته بعناد ممزوج بالدلال : انسي لا مش هتشوفه الا يوم الفرح
تركت باب السيارة مفتوحاً ، لتعود إلى جانب الرصيف ، ووضعت ما في يدها لتعدل وقفتها وهي تعد الأكياس بسرعة في ذهنها ، فأضاء وجهها بابتسامة كبيرة ، عندما تأكدت من أنها أخرجتهم جميعًا ، قبل أن ترد عليه بتذمر بسيط من إلحاحه ، والهاتف لا يزال على أذنها : بس بقي يا مصطفي مش مخليني عارفة اركز
أردفت بعناد ممزوج بالضحك : قولتلك لا ماتحاولش..
أدارت ابريل جسدها ، وكانت على وشك التحرك ، تنوي العودة إلى السيارة لتغلقها ، لكنها لم تتقدم إلا خطوتين ، ثم شهقت بصوت عالٍ ، متفاجئة بمرور سيارة بسرعة قصوى كالبرق ، لتتراجع في حالة هول مفزع ، عندما رأتها تضرب الباب المفتوح بكل قوتها ، مما أدى إلى إنتزاعه من مكانه بوحشية عنيفة.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
خلال ذلك الوقت
فى فيلا صلاح الشندويلي
تحديدا داخل غرفة هالة
تقدمت لميس من السرير بخطوات بطيئة ، وهي تنظر إلى ظهر هالة التي كانت تجلس وظهرها عليها ، وهي تحتضن وجهها بين يديها ، وتبدو مفطورة من البكاء ، ممَ جعل الأخرى تبتلع لعابها باضطراب ، وبحذ وضعت كفها على كتف هالة ، وربتت عليه بخفة ، وهمست بندم صادق : انا اسفة يا هالة .. عشان خاطري ما تعيطي .. والله انا ماكنتش اقصد
أغمضت لميس عينيها ، وفتحتهما عدة مرات متتالية ، تحاول بصعوبة أن تمنع نفسها من البكاء ، لكن لم يفلح الأمر ، إذ انهمرت دمعة على طول خدها ندماً على ما قالته بالأسفل ، ثم جلست خلفها على الفراش ، هامسة بما يشبه الابتسامة المليئة بالحزن : شوفتي الغباء مسكت عصايا و اديتك بيها يمين وشمال واتنرفرت عليكي وانا موقفي مش احسن من موقفك خالص .. بالعكس اللي قلبي حابو هو اصلا ولا حاسس بيا .. ومع كدا فضل عندي امل فيه ومعرفتش انساه
سقطت دمعة تلو الأخرى على خديها الساخنين ، وتابعت بصوت متشبع بالعبرات ، بعد أن بللت شفتيها بطرف لسانها : مش قادرة اقنع نفسي ان باسم عمره ما هيشوفني غير اخته .. وكل العصبية اللي خرجت مني دي فيكي كانت عصبية علي نفسي اكتر ماهي عليكي .. عشان حتي لما طنط وسام قالتلي الصبح انه بيفكر يخطب .. انا برده لسه ملهوفة عشان هشوفه بكرا لما هيجي ودا غصب عني وياريتني قادرة اتحكم في قلبي .. ياريت
لاحظت هالة شهقات الأخرى دليلا على بكائها ، فالتفتت لمواجهتها وتمتمت بسرعة بصوت أبح ، وهي تضع يدها على ركبتها : لميس!!
انفجرت لميس على الفور في بكاء مرير ، مصحوباً بالتنهدات الممزقة : قال .. وانا اللي قاعدة انتقدك علي العشاء .. وعيني متبعاكي اول ما ياسر بيبصلك .. ويبتسم بتتغيري من فوقك لتحتك .. وبتتحولي لقطة وديعة قدامه .. وهو دا بالظبط اللي بيجري معايا لما بيكون قدامي
قامت هالة على الفور بحضنها ، وفركت ظهرها بحنان ، محاولة التخفيف عنها ، ثم هتفت بصوت متحشرج مليئ بالتأثر : بطلي عياط يا زفتة وجعتيلي قلبي اكتر ماهو محروق
سألتها لميس بتردد ، وهى تبادلها العناق : يعني مش زعلانة مني؟!
: تصدقى انتي فعلا غبية
همست هالة بضحكة خافتة ، وسحبت نفسها من ذراعي الأخرى ، وكانت قد هدأت قليلا من نوبة البكاء التي إنخرطت فيها منذ فترة قصيرة ، وهذا ما جعلها تشعر بالارتياح لأنها أفرغت شحنة التوتر والغضب من داخلها ، لتحدق فيها بأنف محمر وردت بتوبيخ لطيف ، بعد أن تنحنحت لإزالة ما توقف في حلقها بسبب بكائها : انا بعيط عشان كل اللي قولتيه مظبوط يا لميس .. بس انا بجد خايفة ومش عارفة اعمل ايه؟!
تطلعت لميس إلى ملامح وجهها الحمراء بعينين متعاطفتين ، بينما خفضت الأخرى رموشها ، وهي تشعر بالدموع تحرق عينيها من جديد ، لكنها تجاهلت ذلك وهى تستطرد تقول بصوت خافت ما كان يجول في أفكارها بصدق : خايفة اقوله ان كل اللي بيحصل مش عجبني ومضايقني .. بس معرفش هيكون رد فعله هيكون ايه .. انا لسه مش قادرة افهمو كويس .. و اذا واجهت هضطر اخد موقف انا مش جهزالو..
أخذت نفسا عميقا ، وهي تربت على كف لميس ، ثم أردفت بلطف : بس انتي موضوعك غيري خالص يا لميس .. انتي مش عايزة تشوفي غيره بعينك من وانتي صغيرة .. ولما كبرتي بقيتي ترفضي العرسان اللي اتقدمولك .. وفضلتي متعشمة بحاجة انتي عارفة انها مفهاش أمل .. باسم فعلا شايفك اخته هو بيحبك زي اخته وانتي عارفة كدا..
كلامها كان بمثابة سيف الحق الذي اخترق منتصف قلب لميس دون رحمة ، فابتلعت تلك الغصة الحارقة في جوفها ، وفضلت الصمت ، وهي تخفض وجهها في خجل ، وتدرك في داخلها أن ما قالته صحيح ، فتذرف الدموع من جديد بجوى.
وضعت هالة يدها تحت ذقن لميس ، ثم رفعت وجهها إليها ، وواجهت اليأس والحزن في نظرتها ، فهمست لها بجزع ممزوج بنبرة باكية : انتي مش حيرانة حيرتي يا لميس .. انا مش واقفة علي أرض ثابتة .. معرفش ياسر عايز ايه مني بالظبط ؟! عايز يتجوزني .. وعايز صحبته تفضل في حياته .. وعايزني اتقبل دا بالبساطة دي .. ومعرفش صبري عليه هيكون لحد امتي حقيقي محتارة اوي؟!!!
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
فى نفس الوقت
عند ابريل
تسمرت ابريل في مكانها كتمثال محنط في حالة من الصدمة ، ضامة قبضتيها إلى صدرها ، وهى ممسكة بالهاتف ، وعيناها متجمدتان على نقطة واهية ، كما لو أن أحدهم قد أمسك بدلو من الماء المثلج وسكبه فوق رأسها دفعة واحدة ، لتفر الدماء تمامًا من وجهها ، ولم يتمكن عقلها من استيعاب ما حدث للتو.
بعد بضعة ثوان ، أخرجت نفسها من قوقعة الصدمة بصعوبة بالغة ، وهي تجبر قدميها على الاقتراب من سيارة ريهام بخطوات بطيئة ، لتجحظ عيناها بقوة حتى كادت ان تخرج من محجريها ، بعد أن رأت الباب الخلفي للسيارة منزوع بعنف من مكانه ، وملقى بإهمال على بعد مسافة من السيارة ، فشعرت للحظة أنها فقدت القدرة على التفكير أو النطق ، حينما تخيلت أنها في مكان هذا الباب ، غارقة في دمائها.
بغضب رفعت عينيها إلى الرجل الطويل الذي ترجل للتو من سيارته مترنحا ، وهو ينظر حوله في تيه.
تقدمت نحوه بخطوات سريعة قبل أن يتمكن من الهروب بهذا الفعل الشنيع ، ثم ركلت باب السيارة الذي سقط على الأرض بخفة ، وهي في طريقها إليه لتصرخ وتسبه بغضب : انت يا حضرت .. هو انت اعمي ولا ايه!!
قالت ذلك في ذهول حينما رأته يتجاهل النظر إليها كما إعتقدت ، مولياً لها ظهره ، ورافعاً رأسه لأعلى ، لتتهادى في خطواتها إتجاهه ، عندما أدار جسده نحوها ، فاهتزت فيروزيتيها ، ومقلتيها مفتوحتان على مصراعيهما من وقع دهشتها ، وهي تقف في مواجهة له.
تحدثت بصدمة إستباحت ملامحها ، لا تقل عن صدمتها ، عندما اصطدمت السيارة أمامها قبل دقيقة : مش معقول .. انت ازاي تيجي ورايا لحد هنا؟!
حدق بها باسم وفاغراً فاهه ، محاولا التنفس بإستماته ، لكن شيئا ما يعرقل من حدوث ذلك ، وتلك القبضة القاسية تعتصر صدره المنقبض بشدة.
لم يجبيها بأي شيء ، ووجه بصره إلى الأعلى مرة أخرى ، فواصلت حديثها بصوت حانق : ايه دا انا بكلمك .. بتبص فين ؟! انت هتستهبل وتمثل عشان تداري علي عملتك؟!
خرج صوته ممزقاً : مش عارف اتنفس
ضيقت ابريل عينيها عليه بارتياب مما قاله ، لتنتبه إلى حالته المؤسفة أخيراً ، محدقة فى صدره الذى ينهج علواً وهبوطاً بمجهود كبير ، فتغيرت تعابير وجهها على الفور ، ونسيت غضبها في ثوان ، وسألته بنبرة متوترة وصلت إليه مشوشة : ايه مالك .. انت بتطلع في الروح بجد ولا ايه؟!
شعرت بثقل نبضات قلبها بطريقة غريبة من شكله المثير للشفقة ، وقطرات العرق التي كانت تتساقط من جبهته ، فإستفهمت بخوف : حاسس بايه!! انت مش قادر تاخد نفسك صح
استدار باسم للجهة الأخرى ، ليمضي بخطوات غير منتظمة ، وكأنه لم يسمعها ، كما بدا لها وكأنه قد مغيب عن الواقع.
هرولت أبريل خلفه دون أن تفهم ما به ، فرأت جسده ينهار ببطء أمام مقدمة السيارة ، بعد أن فقد توازنه.
جلست ابريل مقابله على الأرض جاثية على ركبتيها ، فرأته يسند رأسه على سطح السيارة ويرفع وجهه للأعلى ، وما زال يكافح من أجل التنفس بصعوبة ، فنظرت حولها وهي تقول بنبرة مشتتة : هو مفيش حد هنا يساعدنا الناس كلها نايمين!!
تحركت أصابعها الباردة لا إرادياً ، ومسحت قطرات العرق من أعلى جبهته ، وناقوس القلق يطرق طبوله الصاخبة في قلبها المرتجف عندما لم تتلق أي رد منه ، فتلعثمت تناديه : انت كويس .. رد عليا .. ماتخوفنيش!!!
رفع باسم أصابعه ، ودلك فوق صدره مكان قلبه الذي ينبض بعنف ، مثل محرك قطار سريع ، والشعور بالدوخة والتنميل في أطرافه يزيد ، ليهمس بصوت متقطع لاهث يملؤه الخوف الشديد : هموت .. مش قادر .. اخد نفسي .. قلبي هيقف
اقتربت ابريل منه أكثر بعفوية ، ووضعت يدها المرتجفة على كتفه ، محاولة طمأنته ، فى حين أنها كانت تكاد تموت من الرعب أيضاً ، لتجيبه بخوف وقلق بالغين : لالا ماتخافش .. انا معاك .. هتبقي كويس .. بس خليك معايا .. بصلي هنا
حدقت ابريل في احمرار عينيه ، وكأنه يختنق حقاً ، وهو يميل برأسه إلى الأمام ، وينظر إليها بضياع ، ثم أجابها بضيق شديد في التنفس : مش عارف .. اتنفس .. مش عارف!!
تضاعف ذعرها ، وسرعان ما رفعت رأسه تثبتها إلى أعلى بكفيها ، وأخبرته بنبرة آمرة ممزوجة بالقلق : خلي راسك لفوق كدا .. وخد نفس طويل من بوقك ..
بدأ يسعل عندما حاول التنفس بقوة ، فهزت رأسها بالنفي ، وقالت مصححة له : لا .. لا من بوقك
حاول مرة أخرى لكنه فشل ، وزاد شعوره بألم في الصدر والاختناق ، فتحركت دون لحظة من التردد ، وفتحت أزرار قميصه لكي تساعده على التنفس بحرية ، لتردد بصوت وصل إليه من بعيد ، رغم نبرة صوتها العالية ، بينما كانت تشعر بضخ قلبه القوي تحت كفها : خليك مركز عليا..
أخذت ابريل نفسا عميقا من خلال أنفها ، ثم أخرجته ببطء عبر فمها ، بينما كانت تشرح له بصوت منخفض : اتنفس براحة .. ايوه .. خد نفس زي كدا معايا .. علي مهلك .. وبعدين طلعو براحة
أضافت ابريل سؤالاً بإشمئزاز : ايه الريحة دي .. انت شارب حاجة!!
ظل باسم يتبع تعليماتها وهو ينظر للأعلى ، محاولا استنشاق أكبر قدر ممكن من الهواء ببطء وحذر ، ممَ جعله يشعر بالاسترخاء تدريجيًا ، وهي تتفحصه بعينين قلقتين ، ممسكة بكف يده بين كفيها ، على أمل أن تهدأ ارتعاشته ، وأدركت أنه أصيب بنوبة هلع مفاجئة ، ممَ أدى إلى ظهور هذه الأعراض عليه ، وفسرت سببها على أنها تلك الحادثة التي حدثت قبل قليل معهم ، مع محفز المشروب الكحولي الذي تناوله.
تثرثرت ابريل بصوت خافت : انت حصلك بانك اتاك .. اتنفس بإنتظام و براحة .. ها .. حاسس انك احسن شوية .. دقات قلبك هديت شوية .. دي علامة كويسة..!!
قالت ذلك ببعض الارتياح ، بعد أن شعرت بنبض قلبه المنتظم من معصمه دون أن تترك يده الباردة ، لتتحرك حدقتيها بإضطراب من صمته التام ، ولم تكن تعرف ماذا عليها أن تفعل الآن ، تسألت بنفاذ الصبر : طب ايه خلاص جت سليمة ؟! ولا اكلم الاسعاف ولا اعمل ايه؟؟ طمني الله يخليك؟!
أومأ باسم لها بالإيجاب ، ونطق من بين أنفاسه المتهدجة بتذمر أبح ، بعد أن استعاد وعيه قليلاً ، إذ كان يشعر أثناء تلك النوبة بالانفصال عن الواقع تماماً : مش مدياني فرصة انطق
جذبت أصابعها من يده ، وهي تزفر براحة ، لتقول بإستياء : طمنتني .. اسلوبك المش محترم بتاعك دا .. بيدل علي انك كويس وماجرلكش حاجة
ضحك باسم ضحكة خافتة على كلامها بعد أن اختفت أعراض الألم الطاعن في الصدر ، والدوخة الشديدة ، والشعور بالاختناق فجأة كما ظهرت ، وقد جاءت نوبة الهلع ، وبلغت ذروتها خلال عشر دقائق فقط بعد أن واجه شيئًا كان يخشاه ، وهو حادث سيارته وتلك الشاحنة لتستحضر له ذكريات سيئة من ماضيه ، ثم تمتم بسخرية ، يتخللها هذيان نتيجة تعبه وثملته : وانتي ايه جرسونة الصبح ودكتورة بليل
اتسعت عيناها مذهولة ممَ يقول لها ، فهتفت باستنكار تام : انت مش طبيعي!! كنت بتموت من دقيقة .. وكنت هتموتني قبلها بدقيقتين .. ودلوقتي بتستخف دمك .. والله واحدة غيري كانت سابتك تولع ولا سألت فيك!!!
عقب على الجملة الأخيرة بسؤال حائر ، بعد أن هدأت أفكاره المتسارعة من أثر النوبة ، ممَ جعله يشعر بألم طفيف فى رأسه ، وهو يكافح من أجل البقاء منتبهًا بنظراته الضبابية بسبب التعب المتزايد : ومعملتيش كدا ليه؟!
رمقته بنظرة منزعجة قبل أن تخبره بإمتعاض ساخر : لأنك محسوب بني ادم علي البشرية مش اكتر
لم يستمع إلى كلامها إذ استرخت عضلاته تماماً ، فأغمض عينيه وهو يشعر ، وكأن دوامة عميقة تسحبه إلى قاعها المظلم ، و شعور النعاس يلتف حوله ، فلم يكن قادر على الهروب منه ، مستسلماً إليه كلياً.
رفعت ابريل كفها لتحتضن خدها المحتقن ، وهى تهتف بتوتر مفرط : ايه تاني .. مالك .. يالهوي .. انت جرالك ايه تاني!! رد عليا!!
هزته بحذر على فخذه ، لكنه لم يستجب لها ، ولم تمر سوى ثوان معدودة حتى سمعت صوتا ذكوريا يستفسر في دهشة بعد أن رأى باب السيارة محطما : حصل ايه هنا ؟!
رفعت رأسها نحو الصوت القادم على بعد خطوات قليلة ، وهي لا تزال راكعة على الأرض بجانب باسم ، ورأت أحد حراس الأمن بالمجمع السكني بزيه الرسمى ، فتابع الرجل يسألها ، وهو يقترب منها : حضرتك كويسة يا انسة..؟!
توقف فجأة عن الكلام ، وكادت عيناه تخرجان من محجرهما ، عندما رأى باسم ملقى على الأرض ، فجثى على عقبيه بجواره ، ينادي عليه وهو يهزه برفق ، محاولاً إيقاظه ، لكن الآخر بقي بلا حراك : باسم بيه .. يا باسم بيه .. هو ايه اللي حصله؟!
سألها بلهفة ، وفتململت إبريل بقلق ، وهي تشير نحو باسم ، وتسأله سؤالاً بلهجة مشتتة ، حيث تشابكت أفكارها أكثر فأكثر : انت تعرفه؟!
أجابها على الفور بنبرة واثقة : ايوه طبعا .. دا ابن صلاح باشا صاحب الكومبدوند دا كله
تنفست الصعداء ، ووضعت كفها على أنفه ، تستشعر انتظام تنفسه ، ثم فركت جبهتها بتعب وقالت بصوت منخفض : طيب من فضلك .. لو سمحت .. شيله من هنا شكله سكران ومش داري بحاجة
سألها مستنكرًا ، حيث لايزال يشعر بالحيرة : طيب .. بس قوليلي .. هو ايه اللي جري هنا دا؟!
قلبت ابريل عينيها ، وهي تضغط على أسنانها بنفاذ صبر ، ثم أخرجت كل ما فى جعبتها من توتر و خوف و قلق بسبب هذا الكائن النائم دون أن يهتم بمن حوله ، ووجهت حديثها إلى ذلك الرجل المسكين بحنق مبالغ فيه : يعني ما انتش شايف!! البيه دا كان هيموتني .. دخل في العربية وطير الباب .. عشان كان سايق سكران .. زي ما انت شايف كدا
تجهمت قسمات الرجل من ثورتها عليه ، وبقي صامتا على مضض ، لتتنهد بعمق ، وهي تستقيم في وقفتها تدريجيا ، ثم أخبرته بجدية : وابقي بلغ اهله انه كسر عربية ريهام الهادي..
أختتمت كلامها ، وهي تتجاوزه ، لتسير نحو المنزل ، تاركة إياه يتعامل مع الأمر بمفرده.
خطت عدة خطوات قبل أن تتوقف فجأة ، متذكرة أنها كانت تتحدث عبر الهاتف قبل تلك الحادثة ، لكنها نسيت أمره تمامًا ، فنظرت إلى شاشته ، وأضاءتها ، فاتسعت عيناها وتسارعت نبضاتها بتوتر ، عندما وجدت أن الخط ما زال مفتوحًا ، فهمست بإنشداه : مصطفي!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية جوازة ابريل) اسم الرواية