رواية شبح حياتي الفصل الثامن عشر 18 - بقلم نورهان محسن
تعتقد بأنك فوق الغيوم ، وفجأة تشعر بطعم التراب بفمك ، هذا ما يفعله السقوط السريع بأسهم السعاده لديك!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حركت قدميها ألياً نحو السرير ، وهى تشعر بسكون تام بداخلها ، ربما مازالت تحت تأثير الصدمة ، لتجلس عليه بهدوء.
جعدت بين حاجبيها بألم حينما بدأت في خلع الحذاء ذو الكعب العالى من قدميها ببطء ، لأنها كانت تتألم منه بشدة.
وقعت عيناها لا إرادياً على الحقيبة التي ألقتها بإهمال على الأرض ، وتذكرت ما حدث منذ أكثر من ساعة ، بالضبط عندما تركها بدر وراءه دون أن يكلف نفسه عناء سماع ردها.
Flash Back
ظلت علامات الصدمة تحتل ملامحها ، محدقة في مكانه الخالي بعد رحيله ، فيما ساد الهدوء المكان و ركدت الريح حولها.
التفتت إلى الجانب الآخر لتغادر المستشفى وتبتعد عن كل شيء ، وما زالت عيناها تسيل منها الدموع ، بينما تمشي مطأطأة رأسها ، اصطدمَت بجسدها الواهن بشيء صلب.
انطبقت شفتيها على بعضهما وهي تحاول التحكم في شهقتها ، وكادت أن تسقط على الأرض ، لذا أغمضت عينيها ، وهي تستعد للارتطام على الأرضية الصلبة تحتها ، لكن يدًا أمسكت بها في الوقت المناسب لتجذبها فوراً بإعتدال.
رفعت رأسها ببطء ، ناظرة إلى منقذها لعدة لحظات في حالة من الصدمة.
أخرجها صوته من شرنقة البلاهة التي أصابتها ، حالما قال بنبرة صوته التى تنم على مدى خوفه وقلقه عليها ، حين رأى حالتها المزرية : حياة .. انتي كويسة .. مالك بتعيطي ليه؟ ايه اللي حصل!!
حاولت حياة منع دموعها من الإنهمار أكثر عندما مدت أصابعها بشكل عفوي لمسح عينيها ، بينما تتراجع خطوتين ، لتقول بصوت هادئ يتخلله نغمة حزينة بعدما أصابتها خيبة أمل حطمت قلبها إرباً : مفيش حاجة يا دكتور مازن .. كنت مضايقة شوية و خرجت اشم هوا
حدق بها مازن بغرابة ، متسائلاً بحيرة يشوبها الفضول ، منتظرًا بفارغ الصبر إجابتها : اعذريني في السؤال دا خطيبك حاول يضايقك تاني؟
حياة على الرغم من الألم الذي يعصف بروحها في تلك اللحظة ، إلا أنها سرعان ما أومأت برأسها بنفى ، قائلةً بهدوء ظاهري : معاذ مش خطيبي .. لو سمحت انا عايزة شنطتي اللي عندك في العربية
إنفرجت شفتيه بابتسامة سعيدة بعد الاستماع إلى كلماتها الأولى ، لكنه حاول أن يخفيها ، وحمحم بخفة ، ليقول بنبرة هادئة رجولية : من عيني .. بالحق كنت بدور عليكي عشان اقولك انك هتيجي معايا في عربيتي بكرا .. يعني الاحسن انك ماتركبيش في عربية الاسعاف مع بدر تجنبا للمشاكل
حركت شفتيها بابتسامة مزيفة لم تصل لعينيها وهي تهز كتفيها ، قائلة بهدوء حتى يبدو عليها أنها غير مبالية بالأمر ، وتقضم شفتها السفلى في محاولة وقف ارتجافها ، عندما رأت عينيه الخضر تتسعان في دهشة من كلماتها المفاجئة له : مافيش مشاكل هتحصل ولا في داعي لوجودي خالص انا مش هسافر معاكو
Back
انقطع حبل أفكارها بمجرد سماع صوت طقطقة خافتة على الباب.
سمحت لأختها بالدخول بعد أن رفعت جذعها العلوى علي السرير بعدما كانت مسطحة عليه ، ثم مسحت الدموع العالقة بين ثنايا رموشها.
دخلت ميساء بهدوء ، لكنها سرعان ما رفعت حاجبيها معًا ، وتقلصت ملامحها في حالة استياء من جلسة الأخرى على السرير بملابسها.
هزر رأسها بقلة حيلة على حالة أختها الصغيرة الغريبة في الفترة الأخيرة ، لتقول بحنان : لسه مغيرتيش هدومك ليه؟ ولا زي عوايدك لما تكوني تعبانة هتنامي بيهم
أجابت حياة المقتضبة بإيجاز : كنت هغير وانام دلوقتي
ابتسمت ميساء لها ، وهي تتحرك للجلوس بجانبها على حافة السرير محاولة تلطيف الأجواء بينهما قليلا ، لتهتف بإعجاب صادق : ثم تعالي قوليلي هنا هو السفر بيحلي اوي كدا .. الهدوم دي شيك جدا ولايقة عليكي يا يويو ياريتني اسافر انا كمان
أنهت ميساء جملتها بنبرة مرحة ، اكتست حمرة محببة خدي حياة من اطراء أختها ، وقد فهمت ما تحاول القيام به ، فابتسمت لها وقالت بلطف : مش محتاجة للسفر .. انتي دايما حلوة يا ميساء
اتسعت ابتسامة ميساء واحتضنتها بحب ، لتقول بصدق بصوتها الرقيق : حبيبة اختك والله وحشتيني اوي
بادلتها حياة العناق بإحتياج وشوق ، حيث أن الشخص ريثما يكون على حافة الإنهيار النفسي ، يحتاج للأحتواء أكثر من حاجته للنصح والعتاب ، ونطقت بكلماتها بصوت مخنوق كأنها على وشك البكاء : وانتي كمان..
بترت حياة باقى جملتها بسبب الغصة التى توقفت فى حلقها ، ثم استطردت ميساء بقلق ، وهي تخرجها من حضنها متأملة في ملامح حياة الباكية : لو علي اللي عملو معاذ انهاردة معاكي انا هخلي حازم يوقفو عند حدو بس ماتزعليش كدا
نفت حياة برأسها بسرعة ، محدقة فيها بعينين مهتزتين و قناع زائف مرتسم على ملامحها ، لكن سرعان ما تنهمر دموعها بغزارة ، دمعة تلو الأخرى بضعف.
عانقتها ميساء بسرعة وهي تربت على ظهرها ، وهتفت بحنان وهي تحاول تهدئتها : طب اهدي بس وفضفضيلي زي زمان .. مالك ايه اللي مضايقك اوي كدا و ليه رجعتي بعد ماكنتي مصممة تفضلي مع بدر!!
أخرجتها ميساء بسرعة من بين ذراعيها عندما قفز هذا الاستنتاج في ذهنها ، لتصيح بغيظ : عروسة المولد مراته دي ضايقتك في الكلام تاني
كيف ترد عليها الآن ، هل تخبرها تلك القصة الخرافية التي لن يصدقها عاقل ، أم تشكو لها من الألم الذي تسبب به بدر لها بما فعله معها من عدة ساعات قليلة.
الشيء الأهم لماذا هى حزينة للغاية ، ولماذا تفعل كل هذا من أجله ، ولماذا تتحدى الجميع من أجله ، وفي النهاية يتركها وراءه ويمضي بهذا الشكل الذي أهان كرامتها وحطم قلبها ، حتى بدون أن يكلف نفسه ويقوم بتوديعها.
لماذا تشعر بكل هذا الشوق في قلبها له من الآن؟
إنه شعور قاتل أن يكون هناك عتاب على شخص بداخلك ، ولا يمكنك حتى التعبير عنه لنفسك.
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
مرت الأيام والأسابيع والشهور
داخل أحد الأماكن الراقية ، في حديقة واسعة مليئة بالأضواء الساطعة والموسيقى الصاخبة ، طاولات مغطاة بأغطية أنيقة ومزينة بالورود ، عليها بعض الأطعمة والمشروبات المختلفة ، وبعضها موزعا حول حمام السباحة.
دخلت حياة تتأبط في ذراع معاذ بثقة ، ولكن بداخلها ترتجف بشدة مما سيحدث في تلك الحفلة بسبب وجوده ، رغم أن معاذ وشقيقتها وزوجها بجوارها ، لكنها كانت متوترة جدًا مهما حاولت جاهدة ان تدعى الثبات.
ترتدي فستاناً طويلاً لونه أزرق غامق ، بلا أكمام ، ضيقاً إلى الخصر ، ثم يتسع بإنتفاخ بسيط مع طبقات من الشيفون يصل إلى الكاحل.
هذا الفستان أعطاها لمسة أنثوية رقيقة ، معاكساً مع بشرتها البيضاء الناعمة وشعرها البرتقالي ، المصفّف بتصفيفة رائعة للأعلى و تنسدل منه عدة خصلات على جانبي وجهها الفاتن.
نقلت حياة عينيها في كل الاتجاهات ، مفتونة بجمال المكان وعدد المدعوين الكثيرين للحفلة.
حركت بصرها لتلتقى بعينيه مباشرة وتنبهر بوسامته التى تخطف الأنفاس ، وبدوره لاحظ دخولها المميز ، ولم يستطع أن يرفع عينيه عنها للحظة ، بدت وكأنها أميرة من قصة خرافية ، وحتى أكثر جمالا.
ظلت عينيه تومض بمشاعر عديدة ، تحكي الكثير عن مدى الحب والشوق والإعجاب بإطلالتها الرائعة والساحرة للغاية ، ممزوجة بغيرة شديدة من تشابك يدها بيد ذلك المعاذ.
لديه رغبة شرسة في التوجه إليهم ، وجذبها للوقوف بجانبه دون السماح لها بالابتعاد على الإطلاق ، لكنه لن يتمكن من فعل ذلك لأن رد فعلها لا يضمنه.
بالتأكيد ، لن يكون سببًا لتخريب زفاف أخيه الوحيد وخلق مشكلة ، بل سيستخدم حنكته في التعامل وانتظار اللحظة المناسبة ، لذلك ضمر كل مشاعره تحت قناع البرودة واللامبالاة واستمر في حديثه مع أحد المدعوين بكل ثبات انفعالى يمتلكه.
خاصة بعد أن رآها تذهب للعروسين لتهنئتهم.
على الجانب الآخر
توجهت حياة مع عائلتها نحو العروسين المبتسمين ، والذين يتلقوا التهاني بفرحة كبيرة.
شذى في ثوبها الأبيض ، مثل قلبها النقي ، متشبثة بجاسر الذي فرحته بها مثل طير النورس يحلق بسعادة في كل أجواء السماء.
قدموا التهنئة الحارة مع الابتسامات العريضة لتستغل حياة انشغالهم عنها بمحادثاتهم الجانبية ، وهى تختلس النظر إليه من حين لأخر بشغف ، فأن كل وجه شارد له قلب يحن.
يرتدي بدلته السوداء الفاخرة التي تنسجم مع جسمه الرياضي والعضلي كما لو كانت مصممة خصيصًا له ، لحيته الخفيفة التي تزين ذقنه المنمقة ، وحاجبيه السميكين إلى حد ما ، بالإضافة إلى شعره الأسود المصصف للأعلى ليبرز جبينه العريض.
نظراتها إليه تعبر عن الشوق الكبير المختبئ في قلبها الذي لا تهتز نبضاته إلا بالعشق له ، وروحها المتيمة لا تريد شيئًا بقدر ما ترفرف تجاهه.
انقطع حبل أفكارها ، أو بالأحرى ، خفضت نظرتها المسروقة والهائمة فيه ، حينما تحولت نظراته عن ذلك الذي يقف أمامه لتلتقي بعينيها العسليتين الصافيتين.
ابتلعت حياة لعابها بتوتر واحمر خديها بشدة ، وأدارت وجهها إلى الجانب الآخر لتلاحظ جاسر الذي قال في دراما مليئة بالمرح : يا تري الانسة حياة تسمح ترقص معايا
تحركت عينا حياة بعفوية تجاه شذى التي كانت تبتسم لحركات عريسها ، ثم أشارت إليها تحثها على الموافقة.
ظلت ترقص مع جاسر بينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث معًا تحت نظرات بدر الخاطفة بفضول ، لتسمع جاسر يهمس إليها بمكر : واخدة بالك ان بدر بيبصلك من تحت لتحت
هزت حياة رأسها ، قائلة بهدوء ظاهري : ملاحظة بس من تحت لتحت برده
جعد جاسر بين حاجبيه مندهشا من الإهتمام المتبادل بينهما ، فلماذا هذا العناد المتبادل أيضاُ ، ثم همس لها بضحكة : ليه مش عايزة ترضي عنه و تديلو فرصة؟
قرع قلبها حالما لمحته ينظر نحوها ، لتقول باندفاع : وهو يعني حاول يكلمني وانا كنت رفضت اكلمو .. من يوم ما رجع وهو منفضلي
تجمد جاسر من ردها الصريح للحظة قبل أن يقهقه بخفة ، ويدمدم بسخط : عشان لسه فاكر انك مخطوبة لمعاذ يا هانم
هزت رأسها بنفي ، رافضة الخوض في هذا النقاش الآن ، قائلة بنبرة مرحة : مابلاش نكلم في الموضوع دا انهاردة خلينا في فرحك و ركز في ليلتك انت يا عريس لو سمحت
تمتم جاسر على مضض : ماشي يا ستي .. من غير ما تلوحي رقبتك بدر جاي علينا مع موكلة عنده في المكتب
اختلست النظر إليهم من زاوية عينها بفضول أثناء استدارها بالرقص ، لتلمحه يقترب بتلك الشقراء التي تسير معه بخيلاء إلى ساحة الرقص ، يمسك يدها بيده ، وبدأوا يرقصون بجانبهم ، دون ان يخلو الموقف بنظرات خاطفة منها و منه و من جاسر لبعضهم البعض.
مرت لحظات قليلة قبل أن يسمعوا ضحكًا عاليًا من المرأة الشقراء عندما لاحظت نظرات بدر موجهة إلى تلك البرتقالية ، لتنظر إليها حياة بغيظ مستتر خلف ابتسامة صفراء ، بينما كانت ترقص مع جاسر ، لكنها افاقت من أفكارها الغاضبة على صدمة عارمة عندما هتف جاسر متحدثا إلى بدر : بدر .. لو معندكش مانع نتبادل سوا لان عندي موضوع مهم مع الهانم
كاد بدر أن ينطق ، مغتنماً هذه الفرصة الذهبية ، لكن بادرت الشقراء لترد بسرعة ، بينما رن في أذن حياة نغمة الخبث التي اندلعت من نبرتها : الحقيقة انا وبدر بنحكي في موضوع ممكن نأجل كلامنا يا عريس لما اجي المكتب
زاغت نظرات بدر بعدم رضا من ردها بدلاً عنه ، ليقول بنبرة هادئة ، بينما بدأ الارتباك يعصف بعقلها المشوش : لا انا موافق مفيش مشكلة
ابتعد جاسر معه تلك الشقراء إلى الجانب الآخر من ساحة الرقص لدفعها بعيدًا عنهما ، ثم أمسك بدر بخصر حياة ووضعت حياة راحة يدها في يده دون أن يضغط عليها.
بدأت ترقص معه بسلاسة وخفة بعد أن جذبها قليلا نحوه ليقربها إليه ، بينما حياة مرتبكة للغاية منذ البداية بسبب قربها منه ، وعيناه التي اخترقها بنظرات مليئة بالشوق والحب تحاول الهروب منها بالنظر إلى صدره ، فهي لا تملك الشجاعة بعد لمواجهة نظراته العميقة.
بعد فترة انتهت المعزوفة ، وهتفت حياة بابتسامة مشوشة وهي تستدير وراءها كأنها كانت تبحث عن شيئًا ، وأخيرا وجدته : المزيكا وقفت
صُدم بدر للحظة بقطعها حديث ، كاد أن يخرج من فمه ، سرعان ما تدارك الموقف عندما شعر أنها ستترك يده وتنوي الفرار منه ، لكنه كان أسرع منها حينما صدح صوت معزوفة أخرى ليضغط على يدها التي مازالت في يده ، وسحبها تجاهه أكثر حتى تقلصت المسافة الفاصلة بينهما للغاية ، ووضع يدها التي كان يأسرها بين يده مباشرة على قلبه النابض باسمها ، بينما كانت عيناها تتبعان ما يحدث بصدمة وبلاهة.
شعرت بنبضه العالي ، الذي انتقل تلقائيًا لتسمعه في قلبها أيضًا ، بينما سيطرت حرارة لذيذة على المكان من حولها.
غمر حياة إحساس بالخجل والارتباك ، حينما حدجها بنظراته المُرتكزة في عينيها بلون العسل الصافى المرسومة بالكحل بشكل رقيق وجميل سلبته أنفاسه ، وجعلته ينسى كيفية التنفس.
أما حياة بين يديه ، فهي تشعر أنها تمتلك العالم ، لا تسمع ولا ترى إلا هو ، مسحورة بنظراته المليئة بالعواطف تجاهها ، ولا يمكنها الهروب من آسرها.
جال الصمت لفترة بينما كانوا ينظرون لبعضهم البعض بينما أعينهم تتحدث بلغة أبلغ من أي كلام ، فالعيون ما هي الا نواطق بما نستتره داخل القلب والروح.
ظلت تتمايل معه بخفة مثل الفراشة بين الزهور و قلبها مليئا بالسعادة والسرور ، بينما يحدق إليها بعمق لا يمكن تفسيره بالكلمات ولا تحتاج إلى ذلك ، عيناه أشبه برحلة عبر المجرات.
تشعر أن كل ما يمر بها يضيء ، كأنه قمر يجعل ظلام روحها يتوهج بالحياة.
فجأة انطفأت كل أنوار روحها عندما شعرت بشيء لزج لمس أصابعها يدها ، الذي كان بين راحة يده ، لتثبت بصرها عليه بمجرد أن رأت عينيه تذبل بضعف غريب.
تساءلت في ذهنها ما الذي يحدث معه ، لكن أطرافها تجمدت وكأنها مشلولة عندما رفعت يدها عن صدره ، ورأت سائلًا أحمر يلطخ بدلته وأصابعها.
أجاب عقلها صراخًا أنه دم ، وقبل أن تستوعب هوى جسد بدر على الأرض ، وسقطت معه تلقائيًا على ركبتها ، ملامسة مكان الرصاصة التي اخترقت صدره.
حركت شفتيها ، في محاولة لتكوين جملة مفيدة ، لكنها لم تستطع.
نظرت خلفها ورأت الجميع في حالة هرج ومرج ، بعضهم تصلب بدهشة ، وبعضهم يركض في أماكن منفصلة حتى يعلموا من أين أتت تلك الرصاصة الصامتة لتضربه من مكان مجهول ، وتسمعهم يتحدثون بصوت لم تفهمه بسبب صدمتها.
التفتت إلى بدر الذي يضع رأسه في حجرها بسكون ، ولا يزال يمسك بيدها على قلبه ، وعيناه نصف مغمضتين ، بينما عيناها تنهمر بدموع لا تتوقف ، وتغمغم بما يشبه الهذيان باسمه في حالة من عدم التصديق والذعر مرتسما على محياها : بدر .. بدر قوم
حرك بدر شفتيه ، جاهدًا في النطق بكلمة واحدة ، لكنه لم يستطع ليغلق عينيه في الاستسلام ، بينما تركت روحه جسده بلا رحمة ، وانتهى كل شيء بعد ذلك.
كل ما تبقى هو صمت ، الدم والذعر والصدمة وقلب مكسور وجثة هامدة.
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
ارتعاش جسد حياة بعنف لتهب جالسة على السرير والعرق يتساقط من جبهتها ، بينما أصوات أنفاسها المتهدجة والسريعة ، تملأ زوايا غرفتها.
فركت عينيها حتى تتمكن من التركيز ، وقلبها يتألم من قوة نبضاته المجنونة.
تنهدت بعمق عندما أدركت أخيرًا أن ما رأته كان كابوسًا مزعجًا قبل أن تزيل غطاء السرير عنها لترى أنها لا تزال ترتدي الملابس التي جاءت بها ، لتتذكر أنها قد نمت دون أن تبدل ثيابها من كثرة التعب والبكاء في حضن أختها.
عندما يأتيك شخص تحبه في الأحلام ، فهناك إحتمال كبير أن يكون هذا الشخص مشتاق لك ، وتفكيره بك صنع التواصل الروحي اللا محسوس.
نزلت بقدميها على الأرض ، واستقامت تمط جسدها في بطء ، ثم سارت نحو الحمام الملحق بغرفتها للاستحمام ، على أمل إراحة أعصابها المتشنجة بعد أن أخرجت لها ملابس نظيفة من الخزانة.
خرجت من الحمام بعد وقت وجيز تفوح منها رائحة المانجو المنعشة ، مرتدية إحدى بيجاماتها القديمة التى بدت كالطفلة فيها ، بينما رفعت يديها تزيل مشبك شعرها ، لينسدل على كتفيها بحرية.
ألقت المنشفة بإهمال على الكرسي أمام طاولة المرأة ، فوقعت عيناها على الحقيبة التى جاءت بها لا تزال في مكانها حتى الآن ، لتتجه نحوها ، وترفعها على السرير وتبدأ في إخراج محتوياتها على السرير بلا مبالاة ، اتسعت عيناها بإستيعاب ، لتقول بصوت هامس بينما تضع إصبعين على ذقنها : هدومه ازاي سها عليا اسيبهالو في استقبال المستشفي!!
أغمضت عينيها ، تقاوم الدموع من التصاعد إلى مقل عينيها ، وتفكر بحزن لماذا لا يتركها ما يخصه و كما ابتعد عنها و رحل.
لم تستطع أن تقاوم احتضان ذلك القميص الذي كان بين يديها إلى صدرها ، مستنشقة رائحة عطره بإنجذاب وشوق كبيرين ، بينما ظهرت ابتسامة حزينة على شفتيها.
فوجئت حياة بطرقات خافتة تدق على باب الغرفة ، فأسرعت تخبأ القميص داخل الحقيبة ، ثم زفرت بحرارة و مضت إلى الباب لتفتحه.
اتسعت ابتسامة ميساء قائلة بهدوء : كنت جاية اشوفك صاحية ولالا عشان نصلي الفجر حاضر زي ما متعودين يا يويو
فركت حياة أنفها بخفة قبل أن تحمحم قائلة برقة : هحط الاسدال عليا و اجي وراكي يا ميساء
كادت حياة أن تغلق الباب ، ولكن فجأة دخل طفل صغير ركضاً ، يكاد يصل طوله إلى ركبتيها ، يهتف بفرح طفولى وهو يرفع يديه نحو حياة ، قاصداً أن تحمله : خالتو وحشتيني
ثنت حياة ظهرها لتحمله وتضمه بشوق ، ليلف قدميه على خصرها النحيل ، فقبلته على خده الممتلئ بلطف قائلة بابتسامة صادقة : روميو حبيب قلب خالتو .. انت اللي وحشتني اوي اوي
مسح الطفل خده بتذمر ، فهي تعلم أنه لا يحب التقبيل ، لكنها تتعمد مشاكسته ، ليقول بعد ذلك بشغف طفولي : فين العربية اللي وعدتيني بيها!!
انفرج فاه حياة بدهشة وهي تتمتم بصوت مذهول ، بينما تنظر إلى ميساء التي عادت لترى هذا المشهد : يا اروبة انت مابتنساش حاجة ابدا واخدني علي الحامي كدا
زمجرت ميساء بنفاذ صبر ، وهي تمد يديها لتلتقط الطفل من حضن حياة و تنزله على الارض : هاتي الواد دا بعد الصلاة ابقو كملو كلام .. و عربية ايه ياض يا رامي مش ابوك خدك الملاهي بعد زنك عليه اسبوع كامل مابتشبعش طلبات ابوك كدا هيطلقني بسببك
حاول رامي الهروب من قبضة والدته على تلابيب قميصه ، ليصرخ بمكر طفولي بينما يرسم الانزعاج على وجهه : ما انتي بتطلبي من بابا اللي انتي عاوزة و لا هي جت عندي وهيطلقك
أنهِى كلماته ثم هرول بعيداً حتى لا تمسك به مرة أخرى لتركض ميساء خلفه ، بينما تصرخ أيضًا بوعيد : وحياة امك لا احرمك من الايباد سنة بحالها لو لسانك دا مالمتهوش
لحظات ثم إنفجرت حياة وهي تضحك بقوة على ابن أختها المشاغب ، وأوصدت الباب ، بينما تمسح دموعها من جانبي عينيها من الضحك المفرط.
لا تعرف هذا الشعور الذى داهمها حنين إليه أم لعائلتها؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية شبح حياتي) اسم الرواية