رواية نياط القلب الفصل الخامس و الثلاثون 35 - بقلم حور طه
في فيلا نديم
***************
نديم يدخل المكتب بسرعة، عيناه مليئتان بالغضب والتوتر. يقترب من مكتب المحامي الذي يجلس خلف طاولته ينظر إلى الملفات. يضرب نديم بقبضته على الطاولة بغضب: “نوال لازم تخرج من السجن، بأي طريقة!”
يرفع المحامي رأسه ببطء وينظر إلى نديم بهدوء، ثم يتنهد بعمق، ويقول بواقعية: “مستحيل، يا نديم بيه. كل الأدلة ضدها، وشهود العيان أكدوا التهم.”
يرد نديم بانفعال: “لازم تلاقي حل! اعمل أي حاجة! ما ينفعش تروح السجن.”
المحامي يقف ويضع يديه على الطاولة وهو يفكر للحظة، ثم يقترب من نديم بهدوء ويتحدث بصوت منخفض: “فيه طريق واحد، بس خطر… نقدر نستخدم التاريخ المرضي لنوال هانم. نقدر نقول إنها ما كانتش مسؤولة عن تصرفاتها. في الحالة دي، المحكمة ممكن تحولها لمصحة نفسية بدل السجن.”
يتراجع نديم خطوة ويفكر في كلام المحامي، وتبدو على وجهه ملامح التردد والغضب. يقول بصوت منخفض: “مصحة نفسية؟ يعني بدل السجن هتعيش حياتها مع المجانين؟”
يرد المحامي بهدوء: “هو ده الحل الوحيد اللي عندنا، يا نديم بيه… لو كنت عايزها برا السجن.”
لحظة صمت. ينظر نديم إلى المحامي بعينين مليئتين بالتفكير، ثم يهز رأسه بخفة ويقول بإصرار: “اعمله… لكن لازم تبقى برا.”
يخرج المحامي من الغرفة، يتنفس بعمق وكأن عبئًا على كتفيه قد خف، بينما يظل نديم واقفًا، عيناه مشتعلتان بالغضب المكتوم. يدخل ماجد ببطء، ونظراته مترددة وهو يواجه نديم.
يقول ماجد بصوت متوتر: “أنا مش فاهم حاجة. نوال… قتلت كل الناس دي؟ إزاي خبّت وشها البشع ده كل السنين دي؟”
يندفع نديم فجأة نحو ماجد، يمسكه بعنف من ياقة قميصه ويهزه بقوة وهو يقول بصوت يفيض بالغضب: “وانت؟ ما تفرقش عنها كتير… حاولت تقتلني، يا كلب!”
يرتبك ماجد ويحاول التملص من القبضة، عيناه تتسعان بذعر: “مين اللي قالك الكلام ده؟ ده كله كذب!”
يدفع نديم ماجد بقوة نحو الكرسي فيسقط عليه، ثم يخطو خطوة للأمام وينظر إليه بهدوء مخيف: “ما أثرتش مع حد فيكم… الشر ده كان موجود جواكم من البداية. إزاي وصلتوا للدرجة دي؟”
يحاول ماجد تمالك نفسه، يضع يده على جبينه وكأنه يحاول التفكير بسرعة، ويستنكر: “أنا ما عملتش حاجة!”
يقاطعه نديم بحدة: “اسمعني كويس… الكلام ده هقوله مرة واحدة بس. هتطلق وتين، المأذون بره. تطلق والموضوع ده ينتهي. وبكره هتسافر على لندن، ومش عايز أسمع صوتك تاني.”
يقفز ماجد من مكانه، ونظراته متأججة بالاعتراض، وبغضب مكتوم يقول: “أنت عايز تنفيني؟ أنا مش مسافر!”
يتقدم نديم خطوة أخرى، حتى يكاد أن يلتصق به، وصوته يصبح أكثر هدوءًا ولكن فيه تهديد واضح: “وقت الاختيار خلص. تطلق وتين، وتحضر نفسك للسفر… وإياك تختبر صبري.”
يتأمل ماجد ملامح نديم الجادة، ويشعر أن هذا ليس وقتًا للمواجهة أو العناد. استقر في قلبه أن السفر هو الحل الأمثل الآن، ليترك الأمور تهدأ. تختمر الفكرة في ذهنه: الابتعاد الآن، والعودة لاحقًا عندما تهدأ العواصف.
يتنفس بعمق ويلقي نظرة أخيرة على وتين، وكأنه يودّع شيئًا عزيزًا. ثم يقرر أن يطلقها، يعلن بفعلته انفصاله عنها رسميًا، وينفذ ما طلبه نديم بحزمٍ صامت. “سأرحل… لكنني سأعود”، تمتم بصوت يكاد لا يُسمع.
*********************
في بيت أردام، لحظة تجمع العائلة بعد انتهاء الأزمة.
يدخل جواد ووتين، وأجواء الفرح تتدفق في المكان. الجميع يركض نحوهم. فريال تحتضن وتين بشدة، وبيسان تركض لتحتضن جواد بحنان.
وتين بهدوء واطمئنان: “اهدي يا ماما… أنا كويسة.”
فريال بدموع: “الحمد لله على سلامتك، يا أغلى ما عندي.”
جواد يحتضن بيسان، نظراته مليئة بالحب والطمأنينة. بحنان:”إنتِ بخير يا حبيبتي؟”
بيسان بدموع الفرح، وصوتها يهتز: “بنتك لسه عايشة… ليه مخبي عليّ كل ده؟”
جواد يمسح دموعها برفق، بصوت هادئ وحازم: “كان لازم أحميكم… أحميكوا كلكوا، حتى لو ماقدرتش أتكلم.”
نادية، بابتسامة دافئة، تحتضن وتين وبيسان معًا. بحزم وهدوء:”يلا، نهدى شوية… مش عايزين نفتكر أي حاجة وحشة. المهم إننا هنا مع بعض.”
جابر يقترب من جواد، ينظر إلى الأرض ثم يرفع عينيه إليه بامتنان: “عملت اللي أنا ماقدرتش عليه… حافظت على بناتي. مش عارف إزاي أشكرك.”
جواد يبتسم بابتسامة دافئة، تفيض بالثقة. بهدوء وتصميم:”ده واجبي، وطول ما فيا نفس، محدش هيقرب منهم… أبدًا.”
أردام يسحب جواد إلى جانب، يقترب منه بهدوء ويقول بصوت منخفض: “أحلام في الأوضة، زي ما طلبت، ماحدش اتكلم معاها لحد دلوقتي.”
جواد يأخذ نفسًا عميقًا، ينظر إلى باب الغرفة ويشعر بثقل الحقيقة التي يعرفها. يهمس بتوتر: “هي ما تعرفش حاجة… ما تعرفش أي حاجة عن جرائم سلطان، والطفلة اللي معاها… مش بنتها. دي بنتي أنا.”
وتين تلاحظ توتره، تتحرك بخفة بجانبه وتقول بهدوء: “خلينا نكلمها… لازم تعرف الحقيقة.”
جواد ينظر إليها بعيون مليئة بالتردد: “وتين، تفتكري هتقدر تستوعب إن بنتها ماتت؟”
وتين تتنهد بعمق وترد بثقة هادئة: “أحلام إنسانة طيبة ومحترمة. عرفتها عن قرب خلال الفترة اللي قضيناها في الفيلا. لو كلمناها بصدق، هتفهم… لازم نكون صريحين معاها.”
يدخلان الغرفة، حيث كانت أحلام تضع الطفلة في السرير. تستدير نحوهم بابتسامة هادئة رغم الإرهاق الذي يظهر في عينيها:”أهلاً، وتين هانم، إزايكم؟”
وتين تقترب منها بابتسامة مشجعة: “إزايك يا أحلام؟ عاملة إيه؟”
أحلام تنظر إليها بتساؤل، تخفي شعورها بعدم الارتياح تحت قناع من الهدوء: “زي ما انتِ شايفة… بس ليه جبتوني هنا يا باش مهندس؟”
يتنفس جواد بعمق، يعجز عن إخفاء ارتباكه. يتبادل نظرة سريعة مع وتين قبل أن يتقدم بخطوة. يجلس أمام أحلام ويبدأ بالكلام ببطء، وكأنه يحاول ترتيب الكلمات بعناية:”في حاجات لازم تعرفيها يا أحلام… حاجات مش سهلة…” ثم يبدأ في سرد الحقيقة المؤلمة عن سلطان، وعن كيف بدّل طفلتها الميتة بطفلته هو ونوال.
أحلام تظل صامتة للحظة، تشعر بشيء يتحرك في صدرها، مشاعر متضاربة بين الصدمة والرفض. تنظر إلى جواد بتعابير لا تصدق وتقول بصوت مرتجف:
“أنت بتقول إيه؟ بنتي… ماتت؟ واللي كانت في حضني طول الفترة دي… مش بنتي؟”
وتين تقترب منها ببطء، تحاول تهدئتها: “أحلام، أنا عارفة إن ده كتير عليكي، واللي سمعتيه دلوقتي صعب جدًا. لكن لازم تسمعي كل حاجة.”
أحلام تهز رأسها بعنف، تشعر بأن الأرض تهتز تحت قدميها. تتراجع بضع خطوات وهي تحمل نظرة متسائلة ومرتبكة:”ليه؟ ليه ما قلتوش لي من الأول؟ إزاي تخلوني أعيش مع كذبة بالشكل ده؟”
جواد يحاول أن يقترب أكثر، يشعر بالذنب يعتصر قلبه:”ما كناش نعرف إزاي نقول لك. أنا ماعرفتش أن بنتي عايشة غير من كام يوم بس… كلنا كنا ضحايا في اللعبة دي.”
أحلام تضع يديها على رأسها، غير قادرة على استيعاب الفكرة. تبدأ دموعها في الانهيار وتحاول أن تفهم ما حدث. تقول بصوت مخنوق:”بنتي… ماتت؟ إزاي ماتت؟”
جواد ينحني رأسه، يعلم أن الإجابة أصعب مما تستطيع تحمله. يقول بصوت هادئ وحزين:”للأسف بنتك ماتت بعد الولادة مباشرة. سلطان… بدل بنتك ببنتي، زي ما نوال طلبت منه.”
وتين تمسك بيد أحلام بحنان، تشعر بارتجاف يدها. تحاول أن تمنحها القوة التي تحتاجها: “أحلام، أنا هنا معاكي. عارفة إن ده كله مرعب، لكن لازم نواجهه سوا. مفيش حد هيقدر يفهم اللي جواكي دلوقتي، لكن مش هتكوني لوحدك.”
أحلام تنظر إلى الطفلة بعيون ممتلئة بالدموع التي تنهمر بهدوء، تحاول كبت أنفاسها المرتعشة لتتمكن من الكلام. تلتقط أنفاسها قليلًا وتهمس بصوت ضعيف مليء بالحزن:”يعني خلاص؟ هتاخدوا بنتي مني؟”
جواد ينظر إليها بحنان، وهو يشعر بوجعها العميق. يقرب خطوة منها محاولًا بث الاطمئنان في قلبها:”أحلام… إحنا عمرنا ما نقدر نعوضك عن بنتك اللي ماتت. الألم ده كبير ومش هنقدر نمسحه… بس أنا بوعدك إن وتين هتكون بنتك. هي بالفعل بنتك، أنتِ اللي ربيتيها وادتيها حنان الأم اللي ما شافتهوش غير معاكي.”
ثم تشير وتين بلطف نحو الطفلة الصغيرة: “وتين الصغنونة دي هي بنتك… وهتفضل في حضنك. إحنا مش هناخدها منك، ولا هنقدر نبعدك عنها. إنتِ جزء من العيلة دي دلوقتي.”
أحلام تذرف دموعها بابتسامة خفيفة تملأ وجهها المتعب، تقبض بيديها وكأنها تتمسك بوعده. تقول بصوت مهزوز:”أنا هخدمها بعيوني… هحافظ عليها كأنها أغلى حاجة عندي. بس بلاش تبعدوني عنها، خلوني معاها.”
جواد يقترب أكثر ويضع يده بلطف على كتفها:”خدامة إيه يا أحلام؟ ما سمعتيش وتين قالت إيه؟ إنتي فرد من العيلة دلوقتي، ومكانك هنا… معانا.”
********************
تعلو أصواتٌ من الخارج، يخرج جواد مسرعًا مع وتين، تاركًا أحلام مع الطفلة.
عاصم بصوتٍ عالٍ، غاضبًا: “بقولك يا نادية، يلا امشي معايا! أنا ممكن أنسى اللي عملتيه.”
نادية بضحكة ساخرة: “تنسى؟ بجاحتك ما لهاش حدود! إزاي لسه عندك عين توريني وشك بعد كل اللي حصل؟”
يتقدم جواد فجأة، يمسك عاصم من قميصه، نظراته مليئة بالغضب: “جيت لقضاءك برجليك يا عاصم.”
نادية بهدوء، رافعة يدها لإيقاف جواد: “سيبه يا جواد… الموضوع ده بيني وبين عاصم، وأنا اللي هحله.”
يفلت عاصم نفسه من قبضة جواد، ويضبط ملابسه بابتسامة مغرورة: “ما تتدخلش، أنا ومراتي هنحل مشاكلنا بينا… يلا يا حبيبتي، نرجع بيتنا.”
تخرج نادية ملفًا من حقيبتها، تمده لعاصم بصمت: “تعرف إن الملف ده ممكن يحبسك؟”
يندهش عاصم ويحاول الحفاظ على ابتسامته: “عارف… بس أنا متأكد إنك لسه بتحبيني… أنا حبيبك وأبو ابنك. لازم نتغاضى عن أخطاء بعض، خصوصًا عشان ابننا.”
تنظر نادية إلى الجميع بنظرات مبهمة، وكأنها تفكر في العودة إلى عاصم بعد كل ما فعله. بهدوء وكأنها تتحدث مع نفسها: “صح… عشان ابني… لازم أتغاضى عن أخطائي وأصلح اللي فات.”
تظهر الدهشة على وجوه الجميع.
وتين بانفعال: “إنتي بتقولي إيه يا ابله؟ هتسامحيه؟ بعد كل ده؟”
ينظر أردام إليها بحزن، ويتراجع ببطء إلى الخلف، لكن نادية تمسك يده فجأة، وتنظر إلى عاصم بحزم وعيونها مليئة بالقرار: “غلط لما اخترتك تكون أب لابني. والنهارده هصلح غلطتي… ابني هيكون له أب يستحقه… لكن إنت؟ إنت ما تستاهلش تكون أب لابني.”
يُصدم عاصم، ويتلعثم محاولًا استيعاب الكلمات: “إنتي بتحاولي تعملي إيه؟”
نادية بصوت صارم وجدي: “آه… نسيت أقولك، النسخة الأصلية من الأوراق في النيابة، وهم في طريقهم دلوقتي.”
تقترب منه بخطوة أخيرة: “طلقني… وانسى كل اللي بينا.”
يقترب عاصم منها ببطء، نظراته مليئة بالحقد، وكأنه يتلذذ بالخوف الذي يراه في عينيها. يرفع يده ليضربها على وجهها بقسوة. تشهق نادية وتحاول التراجع، ولكن قبل أن تصل يده إلى خدها، يمسك جابر يده بقوة ويقف بينهما، عيونه متقدة بالغضب. ينزل صوته كالرعد: “لو اتجرأت مرة تانية وحاولت ترفع إيدك على بنتي، هتكون آخر مرة ترفع فيها إيدك… لأني هقطعها. فاهم؟”
تتسارع أنفاس نادية، لا تصدق ما يحدث أمامها. هذه أول مرة ترى والدها يقف بصلابة في وجه عاصم. حتى وتين، التي كانت تراقب من بعيد، تشعر بالذهول. لم يسبق لهم أن تشعرنا بهذه الحماية من والدهم.
يبتسم عاصم بسخرية، يحاول إخفاء ارتباكه، ويقول بصوت مملوء بالاحتقار: “دلوقتي بس افتكرت إنها بنتك؟ بعد كل اللي حصل، فجأة بقيت بدافع عنها!”
ينظر إليه جابر بثبات، وصوته أصبح أكثر هدوءًا لكنه مليء بالتهديد: “من دلوقتي اللي هيقرب من بناتي هيلاقيني قدامه. أنصحك تشوف لك مكان تهرب فيه… قبل ما تفكر تقرب منهم تاني.”
يتقدم أردام وجواد نحوه بعزم. يترنح عاصم قليلًا بينما يمسك به جواد من ذراعه بعنف، وأردام يمسك بكتفه بيد قوية.
أردام بنبرة حادة مليئة بالغضب: “ما تخلنيش أشوف وشك تاني… ونادية هتطلقها!”
يحاول عاصم الانسحاب، لكن قبضتهم لا تترك له فرصة.
جواد بهدوء قاتل: “اهدأ يا أردام… عاصم وراه مشاكل كتير مع النيابة. احتمال تستضيفه في حضنها كام سنة. وفي الحالتين، هيطلق زي الشاطر… عشان ما يجرش رجله في قضية نوال.”
يرمون عاصم خارج الباب بعنف، ويغلق الباب بصوت مدوٍ خلفه. يبقى أردام واقفًا لثواني، يتنفس بصعوبة بينما يراقب الباب المغلق.
يقف جابر أمام وتين ونادية، عيناه مثقلتان بالندم، ويقول بصوت مختنق: “آسف… آسف إني ما كنتش الأب اللي تستحقوه. قسوتي وعصبيتي دايمًا كانت تسبق حناني وعطفي… وكنتم أنتم تدفعوا الثمن.”
تظل وتين ونادية صامتتين، عيونهما تتبادل النظرات بين الألم والعتاب. يقترب جابر خطوة، وكأنه يحاول أن يمسك بيديه الزمن الضائع: “كل يوم كان بيمر كنت بحس إني بخسركم أكتر… ما كنتش بفهم إنكم كنتم محتاجينني جنبكم، مش بس أدي أوامري وأغضب.” ينكسر صوته، وكأن الكلمات تسحب منه بقية القوة التي يملكها.
ترفع نادية عينيها أخيرًا، وصدى الحزن في نظرتها أضعف صوته أكثر: “إحنا كنا عايزينك، أب… بس أنت كنت دايمًا بعيد، وكأنك شخص غريب.”
تنظر وتين إلى الأرض وهي تهمس بصوت مرتعش: “كنا بنخاف منك… مش بنحس بحبك.”
يشعر جابر بثقل الكلمات وهي تخترق قلبه. يجلس على أقرب كرسي ويدفن وجهه بين يديه، كأنه يحاول الاختباء من الحقيقة التي تواجهه الآن: “عارف… أنا عارف. كنت شايف الخوف في عيونكم، لكن ما كنتش عارف إزاي أصلح اللي كسرته.” بالكاد كان صوته مسموعًا، وكأن الندم يلتف حوله ليخنقه.
تتقدم وتين ببطء، وتجلس بجواره، تمد يدها بتردد لتلمس كتفه: “لسه في وقت، يا بابا… بس لازم تحاول.” كانت كلماتها بسيطة، لكنها حملت معها بصيص أمل وسط ظلام الماضي.
ترفع نادية رأسها أخيرًا، وتمسح دمعة كانت قد سقطت دون أن تنتبه: “إحنا محتاجينك تكون أب لينا… مش قائد صارم. عايزين نشعر بالأمان معاك.”
ينظر جابر إليهما، عيناه مملوءتان بالدموع التي كان يحاول إخفاءها: “هحاول… والله هحاول. يمكن ما أقدرش أعوض اللي فات، بس مش هسمح لأي حاجة تاني تبعدني عنكم.”
لم تستطع فريال أن تمنع نفسها من الابتسام وهي تحتضن وتين ونادية برفق. كانت لحظة أشبه بلحظة السكون بعد العاصفة. شعرت بدفء اللحظة يتسرب إلى قلبها، وكأن شيئًا ما استقر أخيرًا.
همست بصوت يكاد يُسمع: “من كان ليصدق؟ نحن هنا… معًا، كعائلة.”
رفعت نادية رأسها قليلًا، تتأمل ملامح فريال قبل أن تقول بابتسامة صغيرة: “لم أكن أعتقد أن هذا ممكن.”
ردت وتين بصوت ناعم: “لكنه حقيقي الآن.”
*******************
بعد مرور أسبوعان
***************
يقف جواد أمام قبر نور، يتسلل البرد عبر جلده وكأن العالم بأسره بات خاوياً. نسمات الرياح تعصف بالأشجار المحيطة، وعبير الورد الذابل يملأ المكان. عيناه تحدقان في النقش على الحجر، الكلمات التي تحمل اسمها وكأنها تحفر في روحه.
“سامحيني يا نور… ما قدرتش أحميكِ… حاولت، والله حاولت، لكن الدنيا كانت أقوى مني.” تتخلل كلماته بحة الألم، وكأن كل حرف يخرج من قلبه المثقل.
“بس… جبتلك حقك… من كل واحد ظلمك.” توقف لوهلة، يمسح دمعة خانته، قبل أن ينظر إلى السماء، كأنه يبحث عن عزاء لن يجده. “ما تقلقيش على بنتنا… هي دلوقتي في حضن أهلها.”
يبقى واقفاً للحظة، وكأنه ينتظر إجابة لن تأتي أبداً، قبل أن يستدير ببطء ويخطو بعيداً، تاركاً جزءاً من روحه هنا، إلى الأبد.
في الخارج، السماء ملبدة بالغيوم والهواء عليل. وتين تقف بجانب السيارة وهي تحتضن ابنته الصغيرة برفق. ملامحها متعبة لكنها تحمل قوة داخلية. يقف جواد أمامها، عيناه مليئتان بالحب والألم.
وتين بصوت مبحوح وهي تنظر إلى الأرض: “أبلة نور هتفضل جوانا. سابت لنا حتة منها عشان تهون علينا غيابها.”
جواد بنظرة مشبعة بالحنين: “أكيد نور هتفضل ذكرى جميلة. بس تعرفي… إنتِ وحشتيني.”
تتوقف وتين عن النظر إلى الأرض، ترفع عينيها إليه، متسائلة بخفوت: “لسه مشاعرك زي ما هي؟ ولا اتغيرت؟”
يقترب جواد منها، نبرته قوية وواثقة: “لما قالوا لي إنك مش لي، ولما عرفت إن ماجد حاول يدمرك، قلبي كان دايمًا بيرفض يصدق. كل نبضة كانت تقول لي إنك لي وحدي. ولا حاجة هتغير ده.”
تتأمل وتين ملامحه، تتلألأ الدموع في عينيها، ولكنها تتماسك بصوت مكسور: “نوال… نوال لعبت بعقلي. كنت فاكرة إن ماجد سرق مني كل حاجة، حتى روحي. عشت الكذبة دي وأنا مفكرة إن حياتي انتهت.”
يتقدم جواد نحوها أكثر، يمسك بيدها بلطف، وعيناه تعكسان كل ما في قلبه من مشاعر: “ما كانش يهمني كذبة أو حقيقة مزيفة. اللي كان يهمني هو إنتِ. إنتِ اللي قلبي بيصرخ كل يوم إنك لي… ومهما حصل، هتفضلي لي.”
في تلك اللحظة، يلف الصمت المكان وكأن العالم من حولهما قد توقف. الهواء يمر برفق، يتلاعب بحجاب وتين، بينما يظل جواد ممسكًا بيدها وكأنها الحبل الوحيد الذي يربطه بالحياة.
وتين بصوت مخنوق وقد بدأت الدموع تنساب على خدها: “بس أنا… أنا مش عارفة إذا كنت لسه أقدر أكون ليك. اللي حصل دمرني من جوا. وأنا مش متأكدة إن فيّ القوة أبني نفسي من جديد.”
جواد بنبرة ثابتة، وعيناه تلمعان بالإصرار: “أنا مش عاوزك تبني نفسك لوحدك. أنا هنا. إحنا هنبنيها سوا. زي ما كنا دايمًا. ومهما حصل، أنا مش هسيبك.”
وتين بصوت يائس: “طب وإنت؟ هتقدر تسامحني؟ كل الشكوك اللي حسيتها، كل المواقف اللي خليتك تشك فيّ؟”
جواد بحنان كبير، يرفع يدها إلى شفتيه ويقبلها: “أنا سامحتك من زمان. مشاعري عمرها ما كانت عن الشك. كانت عن الخوف. كنت خايف أخسرك… لكن دلوقتي، أنا عارف إنك إنتِ نصيبي. ومهما ضاع الوقت، إحنا هنرجع لبعض.”
تنظر وتين إليه، تشعر بقوة تتسلل إلى قلبها من كلماته، لكنها أيضًا تذكرها بكل ما عاشوه. يطول الصمت بينهما، ثم ترفع ابنته وتحتضنها بقوة، وكأنها تجد في حضنها الأمان الذي كانت تبحث عنه طوال الوقت. تقول بصوت مليء بالحب: “بحبك.”
يبتسم جواد بلطف: “وأنا بموت فيكِ يا قمري.”
ثم يقترب منها أكثر، يحضنها هي وابنته، وكأن هذه اللحظة تجمع كل ما ضاع بينهما. يمر الوقت ببطء، لكن دفء اللحظة يتغلغل في روحهما، ليخبرهما أن الحب، مهما تعرض للرياح العاتية، يبقى هو الأمل الذي يعيد كل شيء إلى مكانه.
**تمت بحمد الله**
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية نياط القلب ) اسم الرواية