رواية اسد مشكي الفصل الثالث 3 - بقلم رحمه نبيل
| الطريق إلى مشكى |
صلوا على نبي الرحمة..
_____________
خائن...حقير ...قذر .
صفات كانت ابسط ما وقع على مسامعه وهو يتحرك في الممر يرفع رأسه دون أن يخفضها لحظة واحدة، يأبى أن يذل ذاته حتى ولو كان مخطئًا، يديه مقيدة أمامه يسير بخطوات متزنة دون أن يمنحهم رفاهية الشفقة عليه .
ابتسم بسمة ساخرة يحرك رأسه للرجال في تحية صامتة، لكن كل ما تلقاه منهم كانت نظرات مستحقرة .
لم يهتم وأكمل سيره حتى وصل لباب القاعة الكبرى والذي فُتح أمامه بكل سهولة ويسر كما كان يحدث سابقًا، لكن الفرق أنه سابقًا كان يُفتح له احترامًا، والآن يُفتح له لأنه مقيد .
دفعه أحد الجنود للداخل، وهو فقط تحرك دون اهتمام، يسير بكل هدوء حتى توقف في منتصف القاعة أمام الجميع يسمع صوت الحاجب يردد :
_ الخائن نزار مولاي .
ابتسم نزار بسمة صغيرة رغم القهر الذي يملئ صدره والنيران التي كانت تموج بنفسه، ابتلع مرارة عالقة في حلقه يردد بصوت خافت :
_ شكرًا لك .
رفع رأسه بهدوء وشفتيه ترتجف يقاوم وبصعوبة رغبته العنيفة في الارتماء أسفل اقدام والده والبكاء بحسرة :
_ مولاي ...
تماسك آزار بصعوبة وقد شعر بصدره ينتفض حين أبصر ملامح صغيره التي كانت تنضج يومًا بعد يوم أمام عيونه، أبعد وجهه عنه رافضًا أن يطيل النظر في وجهه، ووالله كان هذا أكبر عقاب يتلقاه نزار منذ ما حدث .
أسابيع قضاها في الظلام ليدرك أن ظلام نفسه كان أحلك مما عاش به، أين كان عقله وهو يسلم نفسه للشيطان .
سقطت دمعة منه ليمحوها سريعًا يردد بصوت خافت :
_ أخبروني أنك استدعيتني لأمر عاجل .
تحدث آزار يحاول ألا ينظر داخل عيون وليده مرددًا بصوت قوي حاول صبغه بحدة :
_ نعم، زوجتك تطالبك بالحرية، فهي لن تقضي المتبقي من عمرها جوار سجين لأجل خيانة بلاده ووالده وقبلهم دينه وضميره.
رفع نزار عيونه له بصدمة، واستدار صوب الجهة التي كان والده ينظر لها، ليجدها تقف هناك بملامح شبه منهارة شاحبة، ليدرك أنها قضت الساعات السابقة تبكي .
ابتسم بسمة مكسورة يهتف بصوت خافت :
_ زهور ؟؟؟
رفعت عيونها الحمراء له ثواني، قبل أن تبعدها صوب آزار تردد بوجع :
_ مولاي ارجوك، خلصني منه .
ابتسم نزار بسمة موجوعة يبعد عيونه عنها يحاول التماسك، بينما والده تنفس بعنف يقول بصوت رن في المكان أمامه:
_ زوجتك لجأت لي كي اخلصها من قيدها، حررها واتركها تحيا بسلام مع رجل يستحقها و.....
انطلقت ضحكة نزار الصاخبة تقطع حديث والده، ضحكة موجوعة سرعان ما انقلبت لشهقات مكبوتة يسقط على ركبتيه أمامه يتحدث بصوت من ينازع موته دون أن تسقط له دمعة واحدة :
_ لا بأس هي تريد حريتها، أنا كذلك اطالبك بتحريري، ارجوك فقط خلصني من كل هذا مولاي، فقط أصدر حكمك وجز عنقي، أم أنك لم تكتفي من ذلي وتعذيبي ؟؟ شهور ...شهور لا تكفي ولا تطفئ نيرانك أبي ؟؟
كان يتحدث بصوت صارخ حاد جعل البعض يتحفز بشكل خطير مخافة أن يجن جنونه ويهجم عليهم، فرغم أن نزار كان يعرف سابقًا بأنه لا ينافس والده قوة أو تجبرًا، إلا أن غضبه كان مؤذيًا وسامًا، ذلك الطبيب الخبيث الذي كان يمكنه فعل كل شيء باعشابه وعقله قبل يده، كان الجميع يخشى غضبه وقد ظهرت بعض الإشاعات أنه قد يقتلك بشربة ماء دون أن تشعر، إشاعات واقاويل كان ينفيها نزار بلطفه وحُلمه المعهود وطيبته، لكن الآن وقد انكشفت اللعبة، أصبح الجميع يدرك أي نوع من الأشخاص كان .
_ ألا يكفيكم ما فعلتم بي ؟؟ فقط أصدر حكمًا، حكمٌ واحدٌ سيريحنا جميعًا، اخبرهم أن يجزوا عنقي ولننتهي من كل هذا .
طالت نظرات آزار له وقلبه يوجعه لما يرى أمامه، لكنه لم يحد عما جاء به لأجله، يردد بكل هدوء :
_ طلقها ...طلق المرأة ودعها تجد من يقدرها ويحفظها .
رفع نزار عيونه له بصدمة، لم يتأثر أو يهتم بانهياره، ابتسم بملامح متألمة ينهض بهدوء من مجلسه يتحرك صوب زوجته التي تراجعت للخلف برعب، ليمنحها بسمة صغيرة يميل عليها وهي ارتجفت في موضعها تأبى الابتعاد فيجن ويقتلها .
أما هو مال عليها يقبل رأسها بهدوء، ثم ابتعد يهتف :
_ أنتِ طالق زهور، اذهبي وجدي من يقدرك زوجتي العزيزة .
ختم حديثه، ثم نظر صوب والده الذي كان يتألم على ما يرى، ولده يحصد ما زرعه طوال سنواته السابقة، ورغم أن ما يحدث نتاج افعاله، لكنه والله لا يتحمل رؤيته منكسرًا بهذا الشكل .
ابتلع ريقه يراقب نزار يتحرك لمنتصف القاعة، ثم مال بنصف جسده باحترام مبتسمًا بقهر :
_ طلباتك أوامر مولاي، والآن اخبرهم أن يعيدوني لمحبسي؛ كي لا تعتاد رئتي كل هذا الهواء النقي، ومن ثم تتذمر على رائحة العفن والرطوبة في السجون، لقد أخذ مني الأمر وقت طويل لتتأقلم على الحياة القذرة في الاسفل.
ختم حديثه يقول بهدوء :
_ والآن اسمحوا لي يا سادة .
تبع حديثه بحركة من يديه المقيدة يتحرك صوب خارج القاعة مع الحراس الذي تلقوا أمر آزار الصامت يسحبونه لمحبسه، حيث ركنه الآمن بعيدًا عن الأعين المحتقرة والمتشفية .
سار بينهم مقيدًا وعقله يعيد عليه كل ما مر به، يشعر أن روحه تطوف بين الحياة والموت، لا هو يتمتع بلذة الحياة، ولا جرب طعم الموت، هو معلق ما بين هذا وذاك، يتلقى عقابه بصمت ورضى، لربما إن فعل تُقبل توبته ....
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقف أمام جيشه يبصر أبواب سبز المغلقة في وجهه لأول مرة، رفع يده يمنع أحدهم التقدم خطوة مخافة أن يصدروا اصواتًا يروعوا بها آمنين :
_ أود الحديث بكل هدوء مع ذلك الوسخ الذي يدّعي المُلك عليكم يا رجال .
علت الشهقات بين جميع الجنود، حتى جنود أرسلان نفسهم لم يصدقوا أنه قد يلقي بمسبة كهذه على شخص ما ذو مقامٍ رفيع كالملك أو غيره .
لكن غضب أرسلان كان أقوى من كل اعتبارات ولباقات في هذه اللحظة، غضبه ولولا علمه بأن شعب سبز ليس له يد في تصرفات حقيرٍ يقودهم، لكان أحال البلاد لرماد على رؤوس من بها، لولا علمه أن هناك كبار وعجائز آمنين بالداخل لاقتحم سبز واحالها لرماد، لكنه لا يريد أن يرى انعاكس لمشكى في أعين سبز لذا أعاد كلماته بصوت جهوري :
_ حدود مشكى محرمة على كل وسخ تسول له نفسه بأن يطئها، تلك البلاد التي رواها رجال بدمائهم الطاهرة ما كان لها أن تستقبل أجساد بنجاسة ملككم المزعوم، لذا إما أن يخرج ليتحدث معي رجل لرجلٍ، أو ادخل أنا واجعله حديث رجل لبقايا رجل .
كان جميع جنود الحدود على أراضي سبز في حالة هلع مما يحدث، لا أحد يدري ما الذي يجب أن يحدث، لا أحد يوافق ما فعله أنمار، لكن أنى لهم الاعتراض وجميع أوامره تخرج بختم الملك الرسمي ؟!
تقدم قائدهم من السور يردف بصوت مرتفع واحترام شديد لارسلان :
_ جلالة الملك، وجودك في سبز شرف لنا، لكن ليس وأنت مسلح بجيشك، إن جئت كضيفٍ حملناك فوق الرؤوس، أما إن كان وجودك كمعتدٍ، فعذرًا سبز ليست ساحة حرب لاستقبالك وجيشك .
اشتعلت أعين أرسلان وارتسمت بسمة جانبية أعلى فمه يرفع رأسه له يردد بجدية وصوت جهوري :
_ ما عاذ الله أن نكون معتدين والله ما قدّمنا سوءًا يومًا، وما كانت مشكى يومًا معتدية على غيرها من البلاد، نحن لا نهجم، نحن فقط ندافع، وما تراه الآن دفاع عن أرضنا التي استحلها ملكك صبيحة اليوم ونصب بها حدود جديدة وكأنها بلاد والده .
صمت ثم رفع عيونه يردد بنبرة خشنة حادة قوية :
_ والله الذي لا إله إلا هو لولا أن هناك اطفال وشيوخ ونساء أخشى ترويعهم، ولولا أنني أكثر من يعلم ما قد يفعله اقتحامي بهم، لما كانت اسواركم الوهمية هذه تمنعني من الدخول وتلقين ذلك الـ ...
صمت ولم يكمل كلمته، ثم قال بهدوء وبسمة مريعة:
_ سأترك لخيالكم عنان تخيل ما قد أصف به ملككم ..
_ لطالما كنت حاد اللسان لا يمت حديثك لللباقة بصلة أرسلان، فلا عجب أن تتطاول على ملكٍ بالسب، فمنذ متى كنت لبقًا راقيًا، أنت طوال حياتك بذئ اللسان لا يليق بك أن تكون ملك البتة .
كانت تلك كلمات أنمار الذي وصل للتو بعدما علم ما سيحدث، وصل يسابق الريح ليشاهد ويمتع عيونه بما سيفعل أرسلان، يمني نفسه بمشهد يريحه في لياليه التي يجافيه بها النوم حين تذكر ما فعله معه .
ابتسم أرسلان بسمة غريبة متحدثًا بهدوء مريب :
_ عجبًا هذا الإرسلان الذي تتحدث أنت عنه لا يخرج سوى للأوساخ عديمي الرجولة فقط، أتعجب أنه ظهر لك، بل وتحفظه كما لو أنك لم تتعامل سوى مع هذه النسخة فقط مني، رغم أنني امتلك داخلي أرسلان حنون رقيق القلب عذب اللسان .
ختم حديثه يضع يده جهة صدره وقد رسم نظرات وداعة ولطف على وجهه، يكمل بكل براءة وبسمة خبيثة :
_ لمَ يا ترى ظهر لك ؟؟
صدرت ضحكة قوية من أحد الرجال الذي يتبعون أرسلان في الخلف كبتها الرجل بسرعة كبيرة وقد كادت عيونه تدمع من نظرات الجميع المذهولة صوب أرسلان، ليستاء الأخير منه مرددًا بتقريع مصطنع :
_ عيب يا بني ما تفعله، الآن ستجعل أنمار يقذف جميع رجالي بالباطل وأننا لا نمتلك من اللباقة ما يكفي لنتحدث معه .
شعر أنمار بالنيران تكاد تحرق الجميع حوله واولهم رجال سبز الذين يكبتون ضحكاتهم بصعوبة، هاتفًا بصوت حاد :
_ هل هنتني للتو أرسلان ؟؟
_ والله لم أفعل يا عزيزي أنا فقط كنت احلل لكِ شخصيتي التي تقذفها بالباطل، وكون أن جميع الصفات التي ذكرتها تنطبق عليك، ليس خطئي، ثم ليس لأنني تواضعت معك ومررت لك مناداتك باسمي مجردًا بعض المرات تزيدها وتحدثني كما لو أننا رفاق أو بنفس المقام، أنا الملك أرسلان بيجان ملك مشكى، وأنت أنمار الـ... أنمار .
صمت وكأنه لا يجد له لقب يضعه خلف اسمه، مبتسمًا باستهانة جعلت أنمار يتحدث بنبرة جليدية يستند على سور جدار سبز متحدثًا بنبرة مرتفعة كي يسمعها الجميع :
_ وهذا سيكون كافيًا للرد عليك ملك أرسلان، هذا الانمار سيرد لك اهانتك هذه وتعديك على اراضيّ ويلات، صدقني لن يعجبك غضبي .
نفخ أرسلان بصوت مرتفع يرتجف وهو يراقب أنمار من الاسفل :
_ أوف يا منجي من غضب أنمار يا الله، ليحمنا الله يا رجال .
_ استمر بالسخرية فلا تمتلك ردًا سواها .
_ بل هي وسيلة جيدة لأشتت أرسلان القذر داخلي كي لا يتناسى كل أساليب اللباقة التي تربي عليها، فلا سبز ولا شعبها ولا الملك بارق يستحقون مني ما افكر به في هذه اللحظة، لذا لا تستفز بقايا ذرات صبري وتمتحن أخلاقي .
صمت يتنفس بعنف وقد بدأ صدره يعلو ويهبط بقوة كبيرة يشعر برغبة عارمة في التحرك وتحطيم جمجمة أنمار:
_ أخبر رجالك بالانسحاب من مشكى وترك حدودها وشأنها، ولتحمد ربك أنني كنت من اللباقة التي تجعلني آتيك بنفسي واعاملك كما البشر واتحدث إليك بدلًا من اساله دمائهم على حدود مشكى التي اجاروا عليها، فمشكى شربت قبلًا الكثير من الدماء ولا مانع إن امتصت المزيد، وحذاري غضبي أنمار فذلك الوقح الذي عددت صفاته منذ ثواني هو تلميذ مبتدأ لما اخفيه داخلي فلا تجعلني أخرجه خصيصًا لاجلك، لا تجبرني على تلويث يدي بدماء مسلم .
ختم حديث ينظر حوله لجيشه ثم قال بصوت جهوري :
_ لديك مهلة سبع ساعات لتسحب رجالك من حدود مشكى، وإلا اعدتهم لك في اكفانهم ..
_ هذه ليست حدود مشكى، بل حدود سبز التي جار عليها والدك قديمًا، ولأن الملك بارق كان يخشى الحروب صمت ولم يتحدث، لكن عصر الانبطاح لكم انتهى وأنا من ....
_ صدقني كلمة إضافية وسأريك كيف يكون الانبطاح، لا تجبرني على التقليل من صورتك أكثر أمام الرجال، اصمت ونفذ ما قلته بالحسنى، كما أخبرتك سبع ساعات، اعتقد أنهم كافيين لرحلة ذهاب وعودة من مشكى لسبز .
ختم كلماته يتحرك بهدوء شديد مشيرًا لرجاله أن يتبعوه وقد اوصل رسالته واضحة لأنمار ومن معه، وفي نفسه ما يزال يتوعد له بالكثير، لكن صبرًا فالقادم أكثر ويخفي أكثر...
اشتد غضب أنمار بقوة يشعر بصدره يحترق والتوعد يلتمع بعيونه، بينما رجاله جواره يراقبون ما يحدث وقد بدأ ناقوس الخطر يصدح داخل عقولهم، وحل واحد يلمع أمام أعينهم لينجوا من شر أرسلان .
عليهم إعلام باقي الملوك للتدخل ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ حسنًا عمي جلال، مهلًا واعذر غبائي اللحظي، أنا لا ادري ما علاقة روايتي بما تقصه الآن ؟؟ ومن هذين الشخصين اللذين يتشاجران مع موزي على فاكهتي .
ختمت حديثها تشير على صامد وصمود اللذين كانا يتشاجران مع موزي، أحدهم يجذب القرب بعيدًا والآخر يجمع الفاكهة بسرعة قبل عودة القرد ومشاركتهم بها .
ابتلع جلال ريقه لا يدرك كيف يشرح لها ما يحدث حولهم :
_ هل شاهدتي المقطع المصور الذي تركه لكِ والدكِ ؟؟
_ هل تعلم بشأنه ؟؟
هز جلال رأسه بنعم يمسح وجهه بهدوء :
_ أنا من صور هذا المقطع لوالدك، اسمعي يا ابنتي اعلم أن ما سأقوله الآن هو درب من دروب الجنون، لكن لا أنتِ ولا خالد تعلمون هذه الحقيقة، حقيقة أنني ووالدك لا ننتمي لهذا العالم ؟؟
تعجب خالد ما يسمع، وقد شعر أنه سقط في فيلم خيالي أو ما شابه :
_ هل انتم مستذئبون ؟؟
رمته جلال بحنق شديد :
- صدقني إن كنت، لكانت ضحيتي الاولى هي أنت، اصمت لأكمل حديثي .
زفر بصوت مرتفع ثم أكمل يشرح لهم ما يقصد وقد حان الوقت لينتهي من كل هذا ويسلم أمانة رفيقه لمن يعتني بها ويحفظها - كما اعتقد رائف - فما من أحد من وجهة نظره قادر على التعامل مع طفلته كأرسلان، ولا أحد سيعتني بابنته كشعبه :
_ أنا ووالدك لا ننحدر من هذا العالم يا ابنتي .
فتح خالد فمه ليتحدث بكلمات، لكن جلال منعها قبل الخروج يتحدث بصرامة :
_ لا لسنا مصاصي دماء أو فضائيين، واصمت لأنني اتحملك بصعوبة الأن، أنا ورائف ننحدر من الممالك الأربعة، تحديدًا مشكى ..
اتسعت أعين سول تحاول معرفة ما يقصد، مشكى مجددًا، نفس الكلمة الغريبة تردد على مسامعها، وجلال لم ينتبه لصدمتها وأخذ يقص عليهم كل شيء يخص مشكى والممالك وانعزالهم منذ قرون وكل شيء يخص تاريخ الممالك حتى وصل للنهاية :
_ وكل مملكة كانت تمتلك ما يُسمى بمرشدي العالم الآخر وهم الأشخاص الذين نعدهم حلقة وصل بيننا وبين هذا العالم، تمامًا كصامد وصمود .
تحركت جميع الأعين صوب صامد وصمود اللذين كانا يملئان الأفواه بالفواكه بشكل غريب وكأنهم لم يبصروا فاكهة في حياتهم يومًا، ابتسم الاثنان بغباء حين وجدا جميع الأنظار موجه لهم.
_ حسنًا ليس تمامًا .
أبعد جلال عيونه عنهما يكمل :
_ وبمشكى كنت أنا ووالدك نتولى هذا الدور حتى أتت اللحظة التي أتينا بها لهذا العالم بلا رجعة، يوم أبصر والدك والدتك وهام بها عشقًا ليقرر التخلي عن كل شيء والابتعاد عن عالمه لاجلها، وكنت وقتها لا امتلك سواه، وحين فكرت بالعودة وجدت أنني لا رفيق لي سوى والدك فقررت البقاء هنا وتعرفت على والدة خالد، وبهذا دفنا حياتنا أسفل هويات وهمية نحن من صنعها بمساعدة بعض الأشخاص هنا .
تنهد بصوت مرتفع يمسح وجهه :
_ ورغم أن والدك كان هو صاحب قرار البقاء هنا، إلا أنه كان متعلقًا بمشكى والبلاد وكثيرًا ما يبكي شوقًا لها، وقد قرر حينما يحين الوقت سيأخذك ويعرفك على جميع أبناء شعبك، أراد لكِ أن تنضجي بين رمال مشكى كما فعل هو، لكن يبدو أنه تأخر ولم تمنحه الحياة هذه الفرصة، وكانت وصيته الأخيرة قبل الرحيل هي أن أسلمك لمن يأخذك صوب بلادك، وأنا قد ذهبت هناك وجهزت لاستقبالك، وجئت بمن يصطحبك .
ختم حديثه يشير صوب صامد وصمود، بينما سول فقط تراقبه متسعة الأعين شاردة تفكر في كل ما سمعته، عقلها يأبى تصديق كل هذا، ربما هو يمزح معها، أو ...ربما يخدعها، فما يقوله درب من الجنون، لكن حديث والدها وهذين الغربيين، يثبتان صحة حديثه .
أبصر جلال حيرتها :
_ أدرك ما تفكرين به يا ابنتي، لكن هذه هي وصية والدك، لقد اوصى بكِ لملك مشكى ردًا لصنيع اسداه له قديمًا، صدقيني الجميع سيعتني بكِ هناك ...
رفعت عيونها له شاحبة الوجه تردد بعدم فهم :
_ أنا لا افهم ما تقوله، أي ملك هذا وأي عناية؟؟ هل تتحدثون عن طفلة لا تملك حرية اختيار حياتها؟! كيف تقررون عني بهذا الشكل ؟؟ تحددون حياتي وتبحثون عمن يعتني بي كما لو كنت طفلة، ولم يسألني أحدهم رأيي ؟؟
نظر خالد لوالده باعتراض على ما يحدث، يرفض أن تتعرض رفيقة طفولته لكل تلك الضغوطات :
_ أبي نحن هنا مع سول، أنسيت أنها شقيقتي بالرضاعة .
نظرت له سول ببسمة غير مصدقة وغضب :
_ ليته كان مسممًا أيها الـ ...هل أنا طفلة لتبحثوا لي عمن يهتم بي ؟؟ بالطبع أنا أرفض كل هذه الخرافات .
أخرج جلال خطاب من جيب سترته يلقيه لها :
_ كنت اعلم أن هذا سيكون ردك، على كلٍ هذه رسالة أخيرة تركها والدك، وكأنه كان يعلم ما سيحدث، فكري في الأمر جيدًا وخذي وقتك، صامد وصمود سيكونون هنا حتى مساء الغد ومن بعدها سيرحلان، اما بكِ أو بدونك .
ختم حديثه ينهض مشيرًا للجميع بالتحرك ورغم اعتراض خالد، إلا أن جلال سحبه بالعنف للخارج وهي كانت في عالم آخر لم تعي ما يحدث حولها ولا استوعبت بعد أن الجميع خرج بالفعل، لا تبصر سوى سواد أمام عيونها لا ابيض به سوى رسالة والدها، امسكتها بتردد تخشى أن تفتحها أو تقرأ ما بها ..
أغمضت عيونها تضغط عليها بقوة تهتف :
_ لِمَ يا أبي؟ لماذا تجبرني على خوض كل ذلك ؟؟ تلقيني بين أحضان المجهول مدعيًا أن هذا لأجل مصلحتي، أي مصلحة تلك وأي حياة قد أحياها بين أناس لا اعلم عنهم شيئًا، وأي ملك هذا الذي اوصيته بي؟؟ تلقي بمسؤوليتي على عاتق شخص آخر، والله وحده يعلم كيف سيتعامل معي ........
تنهدت بصوت مرتفع تشعر بيد موزي تربت على خصلات شعرها وهو يجلس أعلى كتفها، فتحت عيونها تنظر له بتردد تهمس :
_ ما الذي سأفعله موزي ؟؟ لقد أنهار عالمي في ثواني وبشكل غير محسوب، وأنا... كيف ألقي بنفسي بين أحضان المجهول؟ ما ادراني كيف ستكون حياتي هناك مع هذا الملك، وكيف سيكون هذا الملك حتى ؟؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سول ؟؟ أي نوع من البشر يمتلك مثل هذه الاسماء السخيفة عديمة المعنى؟؟
تنهد ارسلان بصوت مرتفع وهو يعيد قراءة تلك الوصية التي كانت بمثابة حمل اضافي فوق اكتافه وكـأن مشاكله ينقصها واحدة لتأتي هي وتكملهم، العم رائف العزيز يوصيه بابنته خيرًا مرات ومرات حتى شك أرسلان أنها طفلة صغيرة و ....مهلًا ربما كانت بالفعل هل يعقل ؟؟ أرسل له صغيرة كي يعتني بها ؟؟
عند هذه الفكرة شعر أرسلان بالحنق والضيق من كل ما يحدث حوله، فهو بالفعل يمتلك ما يكفيه من المشاكل ليصبح مربية اطفال لابنة رائف العزيز .
_ تبدو كمن يتشاجر مع أفكاره مولاي، هونها عليك لا يستحق أنمار كل هذا التفكير في النهاية يمكننا حل هذه المشكلة بإذن الله .
استدار أرسلان صوب المعتصم الذي اقتحم خلوته المعتادة داخل شرفة القصر، رمقه بعد فهم للحظات قبل أن يدرك ما يتحدث عنه، ابتسم ارسلان بسخرية :
_ أنمار من يا بني الذي قد ينال شرف تفكيري به لثانية ؟؟ بعينه أن يشغل تفكيري لثانية واحدة، يكفيه تكبدي عناء التحرك والذهاب له وإرهاق نفسي وجيوشي لاشاهده يرتجف فقط .
صمت أرسلان ثم أكمل ببسمة واسعة يتذكر نظرات أنمار :
_ حسنًا إن طلبت رأيي فقد كان الأمر يستحق أن اقطع بحار وبلدان لاشاهده يحترق غضبًا، لكن ليس لدرجة أن اضيع لحظات هدوئي الثمينة وأفكر بهذا الحقير .
هز المعتصم رأسه يقترب من الشرفة يتوسطها جوار أرسلان الذي كان يجلس على السور بكل استرخاء، وتساءل عما يؤرقه :
_ حسنًا هذا شيء لم افهمه بعد، ما سبب ذهابك وعودتك دون إتخاذ أي اجراء لإنهاء الأمر ؟؟ لقد ظننت أنك ستعود بسيفك مُدمى، ولم يحدث .
_ لو كان الأمر متوقف على أنمار، لكنت أكثر من سعيد لألوث سيفي بدمائه، لكن للأسف هناك أشخاص لا ذنب لهم سوى أنه يتحكم بهم وسخ مثله، جنود الحدود لا ذنب لهم، هم رجال الملك بارق الذي لطالما وقف جواري في كل شيء، حاربوا معنا في حرب لا تخصهم، ليس بعد كل هذا أرد له جَميله بقتل جنود حملوا سيوفهم ليحرروا مشكى سابقًا .
رمته المعتصم بتقدير وبسمة واسعة :
_ في النهاية لديك قلب .
رفع أرسلان حاجبه بسخرية :
_ نعم تخيل أنني افعل .
تجاوز المعتصم عن كل شيء يتساءل بتعجب :
_ إذن ما الذي كان يشغل تفكيرك حين جئت لك ؟!
_ ابنة رائف ..
نظر له المعتصم بعدم فهم ليتحدث أرسلان بجدية :
_ لا أدري حقًا لِمَ أنا بالتحديد، رغم أن ابن خالة رائف وعائلته يسكنون مشكى منذ سنوات، لِمَ أنا من أوصاني بابنته الصغيرة ؟؟
_ ربما لثقته أنك ستحافظ عليها، أعني لا أدري حقًا ما رأى بك ليأمنك عليها، فإن كنت بمكانه ما كنت لأفعل صدقًا، فعدا شقيقتك، أنت لا تؤتمن للتعامل مع البشر فما بالك بفتاة صغيرة ؟؟
تشنجت ملامح أرسلان بحنق :
_ تمنيت حقًا لو أن رائف يفكر مثلك، لوفر عليّ عناء الاعتناء بصغيرته .
راضاه المعتصم محاولًا التهوين عليه، رغم أنه غير مقتنع بما ينطق به في الحقيقة :
_ حسنًا لا بأس لا اعتقد أن الاعتناء بفتاة صغيرة سيكون بمثل هذه الصعوبة، أعني ما مدى سوء التعامل مع فتاة صغيرة بريئة ؟؟
بلل أرسلان شفتيه وهو يتحدث بغيظ شديد، فهو حقًا ليس في ظروف تسمح له بالتعامل مع النساء وخاصة الصغيرات المزعجات منهن :
_ اسوء مما تخيل، يا عزيزي النساء يحتجن للتعامل اللين وأنا في الحقيقة مخزوني من اللين لا يكفي سوى لزوجتي، أنا من الأساس أوفر كل ذرة لين داخلي لأجلها، الآن أنا مضطر لتبذريها على فتيات صغيرات.
رمقه المعتصم بتشنج هامسًا :
_ هل تمزح معي؟
_ هل تراني افعل ؟؟
_ لا افهم ما تقصد ؟؟ هل أنت جاد بحديثك عن توفيرك لللين لأجل زوجتك ؟!
رفع أرسلان حاجبه بحنق :
_ أنت لا تريدني أن أعامل زوجتي كما اعاملكم صحيح ؟؟
_ حقًا ؟؟ وكيف ستعاملها يا ترى ؟؟ أعني ما الفرق بيننا وبينها، نحن في النهاية كلنا بشر نستحق منك معاملة آدمية مولاي .
دفعه أرسلان بسخرية لاذعة يطلق صوتًا مستنكرًا من فمه :
_ هل تمزح معي ؟؟ تود أن تتساوى معاملتي مع زوجتي بكم أيها الـ ....
صمت ثواني يتمالك لسانه الذي كاد ينطق بكلمة بذيئة، يمسح وجهه بضيق شديد :
_ انظر إلى ما اضطررتني لفعله ؟؟ كدت اسبك للتو وافسد هدنتي مع اللباقة، حسنًا لنكن واضحين يا بني، زوجتي عزيزتي، تلك المرأة المحظوظة التي سيكتب الله لها أن تكون امرأتي، لن تتساوى معكم، أعني لنكن واقعيين، هل سأعامل امرأة برقة امرأتي كما اتعامل معكم ؟؟ مستحيل ..
ابتسم له المعتصم بغيظ شديد من كلماته :
_ وما ادراك أنها رقيقة ؟؟ ربما كانت مثلك، فالشبيه للشبيه مولاي ....
_ مستحيل قلبي يخبرني أن امرأتي التي تقبع في مكانٍ ما في هذا العالم في غاية الرقة والـ....
صمت أرسلان وانتبه إلى ما كاد يفعله، هل كان سيتغزل ويصف امرأته للتو على مسامع رجل آخر، تشنجت ملامحه يردد باستنكار :
_ أنت ما علاقتك بامرأتي يا هذا ؟! لتكن كيفما كانت ما علاقتك أنت ها ؟؟
اتسعت أعين المعتصم بعدم فهم، لكن أرسلان انزعج كثيرًا من تحدثه عن زوجته _التي لا يعلم عنها شيئًا_ مع رجل آخر يشير للمعتصم :
_ هيا ارحل من هنا، وإياك أن تفكر بينك وبين نفسك حتى من باب الفضول كيف ستكون زوجتي، لتكن كيفما كانت لها كل الصلاحيات .
اتسعت أعين المعتصم لا يفهم سبب تحوله بهذا الشكل، بينما أرسلان رمقه بحدة، ثم ابعد عيونه يشرد في السماء وهو يتنفس بصوت مرتفع، يدرك أن الوقت ربما ليس ملائمًا ليتمنى ذلك، لكنه فقط يتمناها امرأة تستطيع تحمله والتعامل معه، هذا جُل ما يتمناه ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اندفعت بسرعة تدفع رأسه للجدار بقوة كادت تحطم جمجمته، وهي تدفعه بكل ما تمتلك من قوة، بينما الاخير يقاوم بكل ما يمتلك، يزمجر بصوت مرتفع، وهي تضغط عليه أكثر والجنود حولها يحيطون بهم ليتداركوا الوضع، المرة الثالثة التي يثور بها هذا الحقير عليها، وقد كاد يحطم عظامها هذه المرة ليمتلئ وجهها ببعض الكدمات الحمراء، وهي كانت تخرج غضبها وكل سخطها به تصرخ بصوت مرتفع تدفع رأسه في الجدار أكثر:
_ اسمع ايها المختل، أنت ستتعالج، شئت أم أبيت ستفعل، لقد سئمت منك ومن اتباع الطرق السلمية في التحدث معك، تبًا لك ولكل العلاج الحديث الذي يجبرني على التعامل مع وسخ مثلك بشكل آدمي، هل تظنني ضعيفة ها؟! تعتقدني ضعيفة ؟!
ابتسمت وهي تقرب وجهها منه تهمس بشراسة :
_ ربما ابدو رقيقة، لكنني مختلة أكثر منك .
رفع المسجون رأسه بصعوبة ينظر لها بغضب شديد ولولا جسده الذي يحتوي على نسبة من المخدر لكان حطم عظامها بكل ما للكلمة من معنى، فإن تحدثنا بكل واقعية ما كان لفتاة بحجم وهشاشة سول أن تتمكن من رجل بحجم وضخامة هذا السجين .
جذبه الجنود سريعًا بعيدًا عنها وبصعوبة شديدة استطاعوا أن يخرجوه حيًا من بين قبضتها وهي تشعر بالغضب يتلبس منها تود الإفلات من بين أيديهم تصرخ في وجهه :
_ ستتعالج وتصبح طبيعيًا رغم أنفك أيها المجنون .
زمجر الرجل وقد كان الوضع مزريًا، إذ كان الجنود يجذبونه من جهة والبعض يجذبونها من الجهة الأخرى، حتى ابعدوه واخرجوه، ثم تركوها لتتنفس بصوت مرتفع والجميع يرمقها بصدمة لما فعلت .
رفعت عيونها لهم تبتلع ريقها لا تعلم كيف تبرر ما فعلت منذ ثواني، بللت شفتيها تردد بصوت خافت :
_ هذه طريقة جديدة في العلاج .
رفع أحد الرجال حاجبه يردد :
_ لتحمدي ربك أنه لم يكن في كامل وعيه، وإلا كان طحن عظامك أيتها الطبيبة، احرصي على حياتك واتركي هذا السجين لشخص غيرك .
تنفست سول بصوت مرتفع، تحمل حقيبتها مندفعة للخارج بقوة كبيرة لا ترى أمامها، ما كان عليها المجيء للعمل وهي مشوشة الفكر كما هي الآن، زفرت بضيق شديد تتحرك صوب سيارتها، ومن ثم انطلقت بها لمحل الزهور خاص بها، لربما تجد السلام في جزئها اللطيف من اليوم .
توقفت وهبطت لتبدل ثيابها، وما هي إلا دقائق حتى سمعت أجراس الباب تعلن دخول أحد الزبائن، رفعت رأسها ترحب ببسمة واسعة :
_ مرحبًا بكم في مـــ
توقفت عن الحديث حين أبصرت خالد يقف مع الشخصين الغريبين أمام الباب وهو يردد بصوت حانق :
_ لقد أصر أبي على أن اوصلهما لكِ مؤكدًا على ألا أتركك حتى نعلم ردك بخصوص ذهابك لمشاكي .
زفر صمود يصحح له بحنق :
_ بل مشكى يا صغير .
تشنجت ملامح خالد بغضب شديد وهو يرمق هذا الطويل وكأنه ينظر لبناية من عشرة طوابق، يرفض فقط التحدث معه احترامًا لفرق الطول بينهما، بينما صمود لم يهتم له يحرك نظراته على سول بعدم رضا لما ترتدي، حسنًا هو وصامد اعتادوا منذ زمن رؤية نساء بملابس قد تظهر للبعض غير ملائمة، لكن بالطبع لم يكن الأمر يعنيهما طالما أنها لا تنتمي لهم، وها هي امرأة من ذلك النوع الذي يرفضانه على وشك أن تصبح أحد أفراد الممالك ..
ترى ما ستكون ردة فعل أرسلان على هذا ؟؟
خرج صمود من أفكاره على حديث صامد الذي قال بصوت حانق غاضب :
_ هيا لا تعطلونا، نحن نمتلك في حياتنا اهم من أخذ تلك الصغيرة لمشكى، والله لولا أنني أخشى على حياتي من ذلك المتجبر، لكنت تركتها وعدت .
وافقه صمود الحديث :
_ نعم صدقت يا أخي، والله لا ادري ما الذي يجبرنا على التعامل مع مثل هؤلاء البشر، أعني انظر لحظنا التعس، نقضي نصف أوقاتنا في إحضار النساء للمملكة وكأن لا نساء كافيات بها لنستورد أخريات من الخارج .
نظر له صامد يهمس بصوت شبه مسموع للجميع :
_ والله يا اخي أكاد أقسم أن تلك المرأة ما هي إلا ساحرة أخرى ستسقط الملك في سحرها، وسترى غدًا، سيتحول لاحمق كما حدث لمن سبقه، فنساء المفسدين سحرهن قادر على إخضاع أعتى رجال الممالك .
_ نعم صدقت يا أخي، ضعاف النفس هم فقط من يسري عليهم سحرهن، والحمدلله الذي حفظنا ونجانا من سحر المفسدات، انظر إلينا قضينا نصف اعمارنا في عالمهم، هل ترانا وقد سقطنا لهن ؟؟
اغمض صامد عيونه يضع يده على صدره شاكرًا الله على نعمه :
_ هذا من فضل الله علينا يا أخي، فقط لأننا نمتلك من الإرادة والايمان بالله ما يكفي لدفع سحرهن .
كل ذلك كان يحدث أسفل عيون سول التي قالت بعد ثواني من الصمت وهي تشير لهما مستنكرة غاضبة رافضة بكل ما فيها من إرادة :
_ هل تريدني أن أسلم حياتي لهذين الأحمقين وأسير معهما في طريق مجهول لمملكة خيالية داخل إحدى الروايات، لاحيا مع ملك وشعب لا أدري عنهم شيئًا؟؟ أنت بالطبع تمزح، من المستحيل أن أفعل هذا ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد أيام :
_ إذن كم من الوقت ستستغرق هذه الرحلة ؟!
توقف صامد يتأفف بصوت مرتفع ملحوظ وبشكل جعل سول تتراجع للخلف وهي تشدد القبض على حقيبة ظهرها التي تحملها كما لو كانت ذاهبة للتخييم :
_ يا الله يا امرأة لقد سئمت من كثرة اسئلتك هذه؟! اسمعي يا فتاة نوعين من البشر لا اتحملهم، الثرثار والغبي..
تشنجت ملامح سول ثواني قبل أن تردد بكل هدوء وببسمة واسعة :
_ علميًا أنت تعاني من حالة كره للذات فما ذكرته متمثل بك أنت والاحمق الآخر، لكن لا بأس أنت محظوظ فأنا أعمل في معالجة المختلين امثالكم، يمكننا النظر في امركما حينما أتفرغ واستقر بالمملكة هناك .
ختمت حديثها تتحرك أمامه دون اهتمام وكأنها تعلم الطريق افضل منهم، بينما فغر صامد فاهه بصدمة يحاول استيعاب ما قيل، ويبدو أن أحدهم لم يستوعب بعد أن الفتاة اهانتهما للتو .
نظر الأثناء لبعضهما البعض في محاولة فهم ما تقصد وحينما يأسا من الأمر تحركا بكل هدوء خلفها، وصوت زفراتهم يكاد يصم سول التي لم تهتم وهي تردد باهتمام :
_ إذًا أيها الحمقى اخبراني عن مشكى وملكها .
رمقها صمود بغيظ شديد :
_ كل ما يمكنني قوله هو أن مشكى وملكها يلائمانك وبشدة .
توقفت تراقبها بعدم فهم ليتحدث صامد بكل جدية :
_ مشكى مملكة قوية لها وضعها بين الممالك، حسنًا هي كانت الاقوى بين جميع الممالك قبل نكبتها الأخيرة، أما عن ملكها فهو ....
صمت يستدير حوله وكأن هناك من يراقبهم قبل أن يهمس لها بصوت منخفض :
_ هو حقير متجبر لا يُطاق .
بداية مبشرة سول، يبدو أن الكثير ينتظرك في مشكى، عضت شفتيها تسمع صوت صمود يكمل عن أخيه:
_ هل تعلمين أنهم يطلقون عليه أسد مشكى ؟؟ برأيك لِمَ يا ترى ؟؟
رمشت تردد بتفكير :
_ ربما لأنه يمتلك صفات الأسد ؟!
_ بل لأنه أسد في الحقيقة، يُقال أنه يتخفى في هيئته البشرية حتى تحين لحظة تحوله، وحينها لا أحد ينجو من مخالبه .
تشنجت ملامح سول تحرك رأسها صوب موزي الذي كان نائمًا على حقيبة الظهر خاصتها لتراه قد استيقظ يرمق المكان حوله بضجر، وهي فقط أكملت الطريق حين أدركت أن حديثها معهما قد يضر بقواها العقلية :
_ ذكراني ما الذي يجبرني على السير معكما وسماع كل هذا الهراء ؟!
تحدث صامد وهو يراقب المياه تتحرك أسفل المركب :
_ لانك سئمتي حياتك المملة عديمة النفع رفقة بعض المختلين .
أضاف صمود يذكر ما كانت تتحدث به طول الطريق أثناء مجيئهم :
_ ولأنك لا تريدين أن تخلفي بوصية والدك العزيز الذي كان من الأنانية ليلقي بكِ في المجهول مع شعب لا تدرين عنهم شيئًا، وغبيان مريبان مخيفان .
توقف فجأة صامد عن التحرك في السفينة التي تأخذهم صوب الغابة وكأنه استوعب ما قال شقيقه منذ ثواني، يستدير لها متسائلًا بجدية :
_ مهلًا هل كانت تقصدنا بهذا الوصف ؟!
نظر الاثنان لبعضهما البعض طويلًا وكأن الأمر غير واضح لهما، وسول لم تكن تهتم حتى بتوضيح ما تقصد هي، تتحرك في المكان تراقب ما حولها باهتمام شديد وعقلها يسبح في مناطق بعيدة، حيث ذلك الأسد الذي يتحدثون عنه، وجزء مريض من عقلها الباطن يصدق أقاويلهم بخصوص حقيقة أنه أسد في الواقع .
أفاقت من أفكارها على صوت أحد الأخوين خلفها يردد بجدية :
_ فقط نتركها عند حدود مشكى ونرحل، وهي يمكنها اكمال الطريق وحدها، أو ربما يرسل الملك من يأخذها، لا اهتم، فقط ننتهي من هذا الأمر .
رفعت سول حاجبها بسخرية لاذعة، تراهما يتحدثان عنها كما لو كانت حملًا ثقيلًا عليهما، ولا تدري في الحقيقة من يمثل حمل على من، فإلى جانب أنها تساير كل هذا الجنون في حياتها، كانت مضطرة لتحمل هذين الشخصين، فقط ليعينها الله على إنهاء كل هذا بسلام وعقل ....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
فُتحت أبواب المملكة في نفس الوقت اليومي لتوزيع المعونات على أفراد الشعب، وانطلق العديد من الأشخاص داخل الساحة تحت مراقبة الجنود وتنظيم البعض لما يحدث .
وكانت هي من بين هؤلاء الأشخاص، تتلفت حولها لا يعجبها أن ترافقهم، لكن لولا كلمات والدتها لها، حول أنهم لا يملكون شيء للعيش لما كانت جاءت لتتسول بعض الطعام لهما .
تحركت خلف الجموع تتبع الصفوف حتى تتسلم ما تريد وترحل، لكن كل ذلك الحرص والحذر تلاشى بالكامل حين سمعت أصوات السيوف تتصادم، وهذا ما جعلها تضيق ما بين حاجبيها تتخلف عن الركب، تسير في اتجاه بعيد عنهم صوب الساحة التي يصدر منها الصوت .
كانت تسير دون أن تهتم أنها تخالف قوانين القصر، أو تهتم حتى أنها تتحرك داخل منطقة ملغمة برجال يتقاتلون بشراسة ...
كل ما اهتمت به هو أنها الآن تبصر المشهد لأول مرة في حياتها ..
بينما وعند الجنود كان المعتصم يحمل سيفه يتحرك ببطء شديد وبحركات حريصة وأمامه أحد المتدربين، رفع المعتصم سيهقه يتحدث بجدية :
_ تحكم في سيفك ولا تجعله هو من يتحكم بك، امسكه بشكل صحيح، انظر إلى أناملي كيف تقبض عليه وافعل المثل .
تحركت أعين فاطمة تلقائيًا صوب أنامل المعتصم ولم تشعر بنفسها وهي تميل لحمل عصى من الأرض جوارها تضمها كما يفعل هو، تحركها كما يحرك هو سيفه باهتمام .
توقف المعتصم بشكل محدد يحرك سيفه في الهواء بهدوء :
_ حرك سيفك بشكل سلسل وتحكم به بقبضتك، حرك زراعك وليس كتفك .
كانت كل كلمة ينطق بها وكل حركة يقوم بفعلها، تلقى صداها عن فاطمة اسرع من الرجال أمامه.
وأثناء تحدث المعتصم وشرح ما يحدث أبصر بطرف عيونه ظلًا يتحرك في الأرجاء، رفع عيونه بانتباه، ليبصر جسد صغير يعود لامرأة تحمل عصى وتحركها في الهواء .
ضيق عيونه يحرك سيفه بشكل محدد وهو ما زال ينظر لها :
_ حركه يمينًا ويسارًا ...
حركته فاطمة معه يمينًا ويسارًا، ليبتسم هو بسمة جانبية رافعًا حاجبه بعدم فهم :
_ للأعلى والأسفل .
وكذلك فعلت فاطمة مثله، والرجال حوله لا يفهمون ما يفعل، بينما المعتصم يبدو وأن اللعبة قد أعجبته فأخذ يتحرك بحركات قتالية والظل يتحرك مقلدًا إياه بمهارة عالية، اتسعت بسمته يتحدث بصوت شبه مسموع لها يسخر مما يحدث
_ والآن نكرر جميع الحركات وبسرعة كبيرة .
وحين بدأ بتطبيق كل ما ردده منذ ثواني قليلة كانت هي تتحرك معه حركات متناسقة وكأنها ظل له.
كانت فاطمة والتي اكتشفت منذ ثواني عشقها للمبارزة تطبق كل ما تعلمته في ثواني بسرعة كبيرة وبسعادة كبيرة، تسبح في عالمها الموازي وحيدة وقد شردت بعيدًا عما تفعل ولم تشعر حتى باقتراب المعتصم الذي ترك رجاله يكملون ما يفعلون، متقدمًا منها يراقب ما تفعل باهتمام شديد .
وقف جانبًا يراقبها، قبل أن يتحدث بهدوء مخرجًا إياها من حالتها المثالية :
_ ما الذي جلبك لمنطقة الرجــ
وقبل إكماله لجملته أطلقت فاطمة صرخة مرتفعة ترفع العصى وتهبط بها على رأسه صارخة كردة فعل غير إرادية من جسدها، ليتراجع المعتصم للخلف بأعين متسعة مصدومة مما حدث ..
وفاطمة فقط تراقبه بصدمة تشبه خاصته، تنظر للعصى ثم له تحاول فهم ما يحدث في المكان .
رفع لها المعتصم عيونه يحدق بها في شر كبير متقدمًا منها باندفاع ليخيفها :
_ ما الذي فعلتيه أيتها الـــ
تبعت فاطمة ضربتها الأولى بالثانية متراجعة للخلف والمعتصم ما يزال متسع الأعين يحاول إدراك ما يحدث ...
رفعت فاطمة العصا في وجهه كما لو كانت تدافع عن نفسها بسيف أو ما شابه تردد بجدية كبيرة رغم نبرتها المهتزة المرتعبة:
_توقف مكانك ولا تقترب .
شعر المعتصم لثواني أنه يألف هذا الصوت وهذه النبرة، لكن أين لا يتذكر .
رفع عيونه لها يهمس بشر وصوت كاد يسقطها ارضًا باكية، كالفحيح :
_ وإلا ماذا ؟؟
ارتعشت يد فاطمة التي تحمل العصا تحدق بعيونه التي تكاد تحرقها حية، تود أن تجيبه أو تهرب، لكن لا لسانها ولا قدمها اطاعتها، كل ما استطاعت فعله هو ردة فعل غبية نتجت عن جسدها جراء خوفها، إذ وجدت يدها ترتفع مرة ثانية وهي تسقط بالضربة الثالثة على المعتصم الذي امسك العصا هذه المرة يجذبها منها بقوة وهي تراجعت للخلف تضم يدها بخوف شديد :
_ أنا آسفة....
نعم، الآن تذكر أين سمع ذلك الصوت، هي نفسها ؟! هي نفسها ؟!
_ أم بوبي ؟؟
رمقته فاطمة بعدم فهم ليرفع العصا مرددًا بتهديد :
_ هل احطمها أعلى رأسك لتدركي كم هي مؤذية ؟!
ختم كلماته ولم يكد يتنفس بعدها قبل أن يتبعها بصوت مخيف :
_ ما الذي جاء بكِ لمنطقة الرجال يا أم بوبي ؟؟
تنفست فاطمة وهي تنظر حولها بتوتر شديد تحاول تبرير وجودها هنا :
_ أنا كنت مع الجنود .
_ ماذا ؟!
توترت من جملته تصحح ما قالت :
_ اقصد كنت برفقتهم .
_ يا ابنتي نفس المعنى لا فرق، ما الذي كنتِ تفعلينه مع الجنود وما الذي اوصلك لهنا ؟؟
_كنت مع الجنود .
رمقها المعتصم ثواني قبل أن يتنهد بصوت مرتفع :
_ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، استغفر الله و اتوب إليه.
كانت فاطمة تراقبه وهي تضع يديها أمام وجهها بتحفز تتحدث كما لو أنها لا تمتلك جملة غيرها :
_ كنت أسير مع الجنود .
_ علمنا يا ابنتي علمنا أنكِ كنتِ تسيرين مع الجنود، ما السبب لتسيري معهم ها ؟؟
نظرت له ثواني قبل أن تردد بصوت منخفض وقد أخذ التوتر يلعب على أعصابها، حتى أصبحت لا تدرك ما يجب فعله في هذه اللحظة :
_ كنت أسير معهم .
مال المعتصم بنصف جسده يهمس لها بصوت منخفض :
_ أم بوبي هل أنتِ حمقاء ؟!
حدقت فاطمة بوجهه وهي تتراجع للخلف بريبة قبل أن تهمس له بصوت منخفض وهي تشير للعصا :
_ أريد الذهاب للمنزل اعطني سيفي .
_ من الأساس ما الذي اخرجك وحدك من المنزل ها ؟؟ من مثلك يُحرم عليهم الخروج كي لا يتسببون لأنفسهم بالمشاكل .
رفع يده بالعصا يقول بحنق :
_ هاكِ سيفك وتحركي من هنا ولا تعودي لهذه المنطقة مجددًا فهمتي ؟؟
انتزعت منه فاطمة العصا، ثم ظلت تنظر له طويلًا دون رد وهو يتابعها ينتظر منها رد على سؤاله، وما كان ردها سوى أنها رفعت العصا وضربته بها على كتفه، ثم هرولت بعيدًا عنه دون مقدمات ودون كلمة واحدة، لدرجة أنه انتفض للخلف، يراقبها تركض بعيدًا كمن يتبعه شبح، لا يدري ما الذي حدث وكيف ومتى، كل ما يدركه، أن هذه الصغيرة، مجنونة...
_ أيتها المجنونة ....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمر الأيام وما أسرعها، مرت أيام كثيرة لم يحدث بها الكثير سوى أن أنمار نفذ ما طلبه أرسلان بالفعل وأرسل لسحب جنود سبز من الحدود الداخلية لمشكى، لكن إضافة لذلك أرسل لاجتماع الملوك وقد عقد العزم على رد كرامته وأمام الجميع .
في حين أن رحلة سول كانت تسير بشكل رائع، إذ لم يكن صعبًا على سول سواء بشخصيتها الاولى أو الثانية أن تتعامل مع اثنين كصامد وصمود .
كانت تعاملهما بكل عفوية ورقة ولطف وهذا ما جعل الاثنين يتعاملان معها بتحفز وخوف من غدرٍ، فمنذ متى عاملهما أحد بهذا الشكل الرقيق..
وسول كانت تدرك هذا جيدًا، لذا تعاملت معها كما لو كانت تتعامل مع طفلين صغيرين ...
توقفت تتنفس بصوت مرتفع، ثم ألقت جسدها على أحد جذور الأشجار ترتاح قليلًا تشير لهما بالتوقف :
_ مهلًا يا صامد، دعنا نرتاح بعض الشيء هنا، تعال يا صمود معي شطائر المربى التي أحببتها.
اتسعت عيون صمود بسعادة شديدة يندفع صوبها لولا يد صامد الذي امسكه وهو يرمق سول بشك :
_ توقف هنا أيها العملاق الاحمق، هل تثق بتلك الفتاة حقًا ؟؟ ماذا إن كانت الشطائر مسممة ها ؟؟ هي في النهاية أحد المفسدين .
تناولت سول قضمة من الشطائر تراقبهما بسخرية :
_ وما الذي سأحصل عليه من تسميمكما سوى جثة منتفخة كريهة الرائحة وشعور قاتل بالذنب ؟؟ هيا اقترب وتوقف عن الحمق .
أبعد صمود يد صامد عنه يردد بضيق من تصرفات شقيقه :
_ ما بك يا أخي، الفتاة لم تتصرف معنا تصرف واحد سييء منذ بداية الرحلة، أحسن الظن بها .
تحرك بعدها صوب سول يلتقط منها الشطيرة لتبتسم له الأخيرة بلطف، ثم رفعت عيونها صوب صامد تبتسم له بلطف وهي تمد له شطيرة أخرى، رمقها صامد ثواني بتردد قبل أن يقترب منها يسحب منها الشطيرة بملامح حانقة وكأنها تجبره على اكلها .
أطلقت سول ضحكات مرتفعة وهي تتمتم باستمتاع :
_ أنتما طفلان حقًا .
مدت يدها ببعض الفاكهة لموزي الذي يتخذ من كتفها مسكنًا له منذ بداية هذه الرحلة، ثم صمتت تبتلع الطعام وهي تشرد في الغاية حولها، رحلة طويلة ولا تدري متى نهايتها .
_ إذن متى نصل لمشكى ؟! كم تبقى من الوقت .
ابتلع صمود ما يأكل بتلذذ شديد، ثم أجاب ببسمة واسعة :
_ لم يتبقى الكثير كدنا نصل لحافة العالم .
توقفت يد سول قبل أن تصل لفهما تردد بعدم فهم لما نطق به :
_ ماذا ؟؟ حافة ماذا ؟! أي حافة عالم هذه ؟؟ هل تقع مشكى هذه في الجحيم أم ماذا ؟؟
_ لا تقع خلف الحافة، لا تقلقي الأمر سهل، سيستغرق الأمر ثلاثة أو أربعة أيام ونصل هناك بسلام .
صمت بتردد، ثم نظر لها يبعد عيونها عنها بسرعة ولأول مرة يتدخل في الأمر ويتحدث بهذا الشكل لأحدهم، لكن سول كانت في غاية اللطف معهم ولا تستحق الموت على يد أرسلان بعد كل هذا .
_ آنستي .
رفعت سول عيونها لصمود بعدما كانت شاردة بعيدًا عنهما، ترمقه باهتمام ليتنحنح الآخر يجلي حلقه ثم قال بخجل مشيرًا لثوبها :
_ لا اعتقد أنه يمكنك دخول الممالك بهذا الشكل .
رمشت سول دون فهم قبل أن تبعد عيونها عنه تمررها على ثوبها والذي كان مكونًا من بنطال من خامة الجينز مع حذاء اسود برقبة طويلة تدخل به أطراف البنطال كي يلائم السير في تلك الطرقات الوعرة، يعلوه سترة وردية تتنافى رقتها مع خشونة الحذاء والبنطال .
_ ما به شكلي صمود ؟! هل الجينز من الممنوعات داخل الممالك أم ماذا ؟؟
ابتلع صمود ريقه ولم يستطع الرد عليها، لكن صامد لم يكن بمثل هذا التردد وهو يردف بجدية :
_ حسنًا إن تحدثنا بجدية، فأنت بالكامل ستكونين من الممنوعات ولا ادري ما ستكون ردة فعله للملك، لكن لندعو الله ألا يكون هو من جاء لاستقبالك .
رفعت سول حاجبها وقد شعرت بالضيق يعتريها، تميل برقبتها للجانب، ثم رفعت عيونها لموزي الذي كان منشغلًا في تناول طعام بكل لطف .
_ لا افهم ما علاقة ملككم العزيز بثيابي، هل يتحكم بثياب جميع أفراد شعبه ؟؟
_ بل هي تقاليد نلتزم بها جميعًا داخل الممالك .
كانت تلك كلمات صامد الباردة وهو يكمل تناول طعامه بهدوء، بينما هي فقط رددت كلماته باستنكار :
_ تقاليد ؟؟
_ هكذا يأمرنا ديننا آنسة سول، النساء في الممالك لا يمكنهن ارتداء مثل هذه الثياب الـ ....
صمت صمود عن التحدث، وهو يرى ملامح سول قد تغضنت بمشاعر سلبية كثيرة لم يفهم منها شيئًا، أبعدت الشطيرة عن فمها، ثم قالت بهدوء :
_ لقد انتهيت من تناول الطعام، حينما تنتهيا لنكمل الطريق رجاءً فقد مللت من هذه الرحلة وقد طالت عما تستحق، ولا أدري حقًا إن كنت سأصل في النهاية لمشكى هذه، أم اكتشف في النهاية أنني كنت من الحمق للبحث عن سراب ومملكة خيالية مع رجلين غريبين فقط لأن أبي أمرني بذلك .
ختمت حديثها تجمع اغراضها داخل حقيبة الظهر، ثم تحركت بعيدًا عنهما بينما موزي ينظر صوب صامد وصمود بغضب وكأنها هما سبب تعكر مزاجها لسول .
والأخيرة فقط ابتعدت تشعر بغصة في حلقها، وشعور غريب بالرفض لما تفعله، منذ متى كانت بهذا التهور لتتخلى عن حياة مضمونة لأجل مجهول ؟!
والله وحده يعلم ما الذي يخفيه هذا المجهول لها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سفيد القلب النابض للمالك الأربعة وأكثر الممالك تماسكًا على مر العصور رغم كل ما مرت به سابقًا، تلك المملكة التي كانت مقرًا لجميع الاجتماعات سابقًا هي نفسها مقر التجمع الحالي للحكم بين سبز ومشكى بعدما لجأ لهم أحد رجال سبز لاغاثتهم من أفعال أرسلان لهم مرتعبين أن يهجم عليهم في أي لحظة من لحظات غضبه .
سفيد والتي رزقها الله بملك هادئ عاقل، يفكر مئات المرات قبل أن يخرج كلمة من فمه، فإن كان أرسلان يجيد المبارزة بالسيف، فملك سفيد يجيد المبارزة كذلك بكلماته .
وهذا ما جعل سفيد قلب الممالك ومقر الحكم واجتماع جميع الملوك على مر العصور لمناقشة كل ما تمر به الممالك من أوضاع والبحث عن حلول لمشاكل الجميع .
تحرك بهدوء بين الممرات يهز رأسه لرجاله باحترام، جواره يرافقه الكثير من رجاله، لكن أهمهم كان قائد جيوشه الذي سايره في الخطوات يردد بهدوء ونبرة جادة :
_ أنت لا تصدق ما يقال صحيح ؟؟ أرسلان نعم مختل لكن ليس لهذه الدرجة، هو لم يفعلها سابقًا ليفعلها الأن .
ابتسم الاول بسخرية لاذعة :
_ نحن نجاريهم يا سالار، دعهم يفضون بكل ما يثقل قلوبهم وفي النهاية ننفذ ما نريد نحن، حسنًا ؟؟
ابتسم سالار يدخل مع إيفان " ملك سفيد " لقاعة الاجتماعات الفسيحة يستقبلان بها ملك آبى " آزار" والذي كان أول الواصلين، ويعز عليهم أن يبصروه وحيدًا وقد اعتادوا رؤيته جالسًا مع العزيز بارق .
ابتسم إيفان للملك آزار مرحبًا به وهو يتحرك صوبه :
_ أنرت سفيد ملك آزار..
_ اشكرك ملك إيفان.
ألتفت صوب سالار يفتح ذراعيه بحب شديد :
_ مرحبًا بالغالي، اشتقت لك عزيزي .
اندفع سالار لأحضان خاله يستقبله بالقبلات والترحيب :
_ والله ما قلّ شوقي عن خاصتك يا أبي، أدام الله لي وجودك وليشفي الملك بارق .
أمن على حديثه آزار وايفان في اللحظة التي أعلن بها الحاجب وصول رجال سبز، تحركت جميع الأعين صوب الباب ليبصروا مجموعة من الرجال بملامح مقتضبة يتوسط أنمار الذي كان يرتدي صوب ملك سبز، نفسه صوب الملك بارق .
انقبضت ملامح آزار وقد ارتسمت بسمة مغتاظة على فمه وكم يعز عليه أن تتوسط تلك العباءة جسدًا غير جسد رفيقه العزيز بارق، بينما كانت ملامح سالار جامدة، وخاصة إيفان محايدة بشكل كبيرة .
وصل لهم أنمار يهتف بهدوء شديد وبسمة راقية :
_ شاكر تلبيتكم لطلبي بالاجتماع وأتمنى أن نوفق فيما جئنا لأجله جلالة الملك .
هز له إيفان رأسه ببسمة صغيرة يشير له بيده مرحبًا :
_ بإذن الله، استرح ريثما نكتمل رجاءً سيد أنمار .
ورغم أن أنمار لم يعجبه أن يلقبه إيفان بسيد دون أن يذكر لقبه الجديد كملك لسبز، إلا أنه احترمه وتحرك ليجلس بهدوء شديد ومعه بعض الرجال الذي رمقهم سالار باستنكار :
_ أراك جئت وقد تجهزت للحرب أنمار .
رفع له أنمار رأسه يجيب باقتضاب شديد :
_ هم هنا لحمايتي و....
قاطعه سالار بكل بساطة يشير للرجال بالتحرك للخارج :
_ أنت هنا في سفيد وفي قصر الملك إيفان، سيكون من المهين أن تصطحب حراسك حاملين أسلحتهم بهذا الشكل في وجودنا، وإن لم تكن تفهم في مثل هذه الأمور، يمكنك أن تسأل ولا تخجل .
اشتعلت عيون أنمار ينظر لهم، يشعر بالخطر من وجود سالار في المكان، لم يحسب له حسابًا هو سيتحمل وجود أرسلان بصعوبة، الآن هناك أيضًا سالار، هذا سيكون كثير .
_ إذن بما أن الأمر سيكون خاص بين الملوك، اعتقد أن سالار عليه الخروج .
صمت فجأة حين أبصر نظرات سالار الذي تحرك بهدوء يجذب المقعد الخاص به بعنف، ثم ألقى جسده عليه بأريحية :
_ لا تخف أنمار فأنا لا احمل سيفي الآن، عليك أن تحمل هم أرسلان الآن وليس أنا، أو ربما لا .....
صمت ثواني يرمقه بنظرات جعلت الاخير يبتلع ريقه ثم أكمل سالار بهدوء :
_ ثم أراك تعُد نفسك مع الملوك، فاللهم خير ؟؟
ابتسم إيفان بسمة واسعة وهو يجلس على مقعده يراقب سالار يتعامل مع الأمر وقد أثار استياءه كذلك .
أشار إيفان لآزار أن يترأس هو الطاولة بهدوء :
_ ترأس أنت الطاولة والاجتماع ملك آزار فأنت اكبرنا عمرًا بعد الملك بارق شفاه الله واعاده سالمًا لبلاده .
كان يتحدث وعيونه مثبتة على أنمار الذي بادله النظرات بأخرى متحدية مبتسمة، ليرفع له إيفان حاجبه بسخرية .
وبعد ثواني من الصمت الخانق الذي مر على القاعة أبصر سالار انتفاضة غير محسوسة في جسد أنمار حين سمع الحاجب يعلن وصول أرسلان ..
ابتسم بسخرية وهو يهمس لإيفان بصوت منخفض :
_ يبدو أن عزيزنا أرسلان قد أجرى محادثات طويلة مع أنمار .
بادله إيفان البسمات وهو يحرك عيونه صوب باب القاعة الذي فُتح كاشفًا عن أرسلان الذي جاءهم بحلته التي يرتديها عادة في الحروب :
_ نعم فعل، ذلك الــ ...لقد تعهد لي أن يحاول التحكم في أفعاله ولسانه .
تقدم منهم أرسلان بهدوء شديد ومعطفه الاسود يتحرك خلفه، يمرر نظراته على الجميع حتى توقفت على أنمار الذي تجمد وجهه بنظرات غاضبة جعلت أرسلان يرميه ببسمة خبيثة، قبل أن يتجاهله وهو يتحرك صوب الجميع يرحب بهم ببسمته الودودة ومشاعر حارة .
ثم نظر حوله قبل أن يتحرك صوب المقعد الذي يقابل أنمار ويجلس عليه بكل تعنت، تحت نظرات إيفان وسالار له .
ثواني حتى تحدث آزار بجدية :
_ إذن دعونا نبدأ رجاءً فيما جئنا لأجله .
تحدث أرسلان بهدوء وجدية يضع يديه على الطاولة أمامه يعرض وجهة نظرة بكل تحضر :
_ والله أنا لا اعلم سبب هذا الاجتماع، جعلتم العجوز آزار يتكبد عناء المجئ من آبى لأجل أمر كان سيُحل بمنتهى البساطة، من الأساس أنا وأنمار كدنا نصل لحل سلمي، أليس كذلك عزيزي أنمار.
احتدت أعين انمار بشدة وقد التوت ملامحه بغيظ وغضب شديد ودون شعور تحركت كفه يتحسس وجنته وجسده يهتز بغضب لم يفهم له المحيطين سبب، بينما أرسلان نفخ بضيق وحنق شديد يرفع إصبعه في وجه أنمار مستاءً من كل ذلك :
_ أنت ذو قلب اسود .
رماه ايفان بنظرات مرتابة ليبادله أرسلان النظرة بأخرى في غاية البراءة، ثم استدار يتنهد ببراءة أكبر :
_ حسنًا لا بأس، إن أردتم نتعامل بشكل رسمي فلنفعل، هيا أنمار يا عزيزي أخبر الرجال ما فعلته معي ومع حدودي .
_ ماذا فعلت أنا ملك أرسلان غير أنني طالبت بحقوقي وحقوق شعب سبز، أنت تود أخذ خيراتنا بلا مقابل معتمدًا على طيبة قلب الملك بارق و....
قاطع حديثه ضربة أرسلان على الطاولة وعيونه التي اشتعلت وهو يردد بصوت كالفحيح :
_ التزم حدودك فأنت لا تريد اغضابي أنمار، أنا لم أكن انتظر صدقات منكم ولا من الملك بارق شفاه الله، رغم أني أدرك طيبة قلبه كما تقول، لكنني اتفقت معه أنني سأعطيه حقه لا ينقص شيء، وهذا كان سيصل بعد استلامنا للغلال بعشرة أيام حسب اتفاقي معه، كون أنك لا تعلم بالأمر لا يعنيني، لكن أن تحقر من شئني وشأن شعبي وتظهرني كما لو أنني أتلقى صدقات منكم ؟؟؟
صمت يتنفس قبل أن ينتفض صارخًا بجنون :
_ فخسئت أنت وكل سلالتك، ما كان لي أن أمد يدي لأخذ صدقة ولو من والدي رحمة الله عليك، فما بالك من أشباه الرجال امثالك .
انتفض انمار بقوة عن مقعده حتى أنه سقط ارضًا يصرخ بجنون في المكان بصوته كله حتى أن إيفان اغمض عيونه بضيق وهو يعود بظهره للخلف يتابع ما يحدث ليرى نهاية الأمر .
_ أشباه رجال ؟! من تصف باشباه الرجال يا هذا ؟! أشباه الرجال هؤلاء هم من سقطت بلادهم من ضربة واحدة، أتعيب علينا وأنت....
وقبل إكمال جملته كان جسد أرسلان يقفز على الطاولة يمسك بجسد أنمار بشكل مخيف يهتف من بين أسنانه:
_ أشباه الرجال أنفسهم هم الذين نسوا ما عاهدوا الله عليه، أشباه الرجال هم من لا يلتزمون بكلماتهم، أشباه الرجال هم أنت أيها القذر، تصف نفسك رجلًا وتسخر من بلادي وشعبي ؟؟ شعبي الذي صمد في وجه محتل، وحاربوه بدمائهم بعدما أُنتزعت منهم أسلحتهم ؟!
صمت يمسكه من رقبته يهمس بصوت كالفحيح :
_ شعب صمد في وجه غدر وخيانة ما كان لك بالصمود أمامها لثانية أيها الوسخ، أحذية شعبٍ ناضل لأجل حياته أكثر قيمة من أمثالك أيها الــ......
_ أرسلان...اهدأ .
استدار أرسلان صوب إيفان وقد كان جسده بالكامل ينتفض غضبًا، يتنفس بعنف يدفع أنمار للخلف بقوة جعلت الاخير يسقط ارضًا قبل أن يتماسك .
يرمق أرسلان بكره وحقد شديد، يحاول التنفس بشكل سليم بعدما خنق أرسلان الهواء عنه .
بينما أرسلان رفع يديه في الهواء مبتسمًا بهدوء رغم عيونه الحمراء المشتعلة يقول بصوت وضع به كل ذرات صبره الوهمية :
_ أنا في غاية الهدوء ملك إيفان، فقط اجيب على أنمار فهو يكره حين التزم الصمت، ولا يهدأ إلا حينما يسمع ردي، انظر إليه أصبح صامتًا هادئًا لأنه سمع ردي عليه .
كان يتحدث وهو يشير صوب أنمار الذي كان ساقطًا ارضًا لا يجيب بكلمة ولا يتحدث بشيء فقط يحدق في وجهه بغضب .
ردد آزار بصوت مرتفع رغم تشفيه :
_ أرسلان ما فعلته لا يجوز، أنت تحتاج لتعلم الصبر والتحكم في ردات فعلك أكثر من هذا .
هز أرسلان رأسه بحسنًا دون أن يدخل في نقاش عقيم يخبر به الجميع أنه بالفعل في أقصى حالاته ضبطًا للنفس وإلا لكانت روح أنمار تطوف بينهم الآن، ثم هو مؤخرًا بدأ يتدرب على التحكم في لسانه ويده .
جلس على المقعد مجددًا بهدوء مبتسمًا ينتظر نهوض أنمار الذي نفض ثيابه يقول بصوت حاد وكرامه مجروحة :
_ ما فعلته لن امرره لك أرسلان، الأمر لن ينتهي هنا على هذه النقطة .
هز له أرسلان رأسه يجيب بكلمة واحدة :
_ حسنًا .
كبت إيفان ضحكته وهو يرمق أرسلان بطرف عيونه يعلم أنه الآن يتماسك بصعوبة عن قتل أنمار.
وسالار فقط يراقب ما يحدث دون كلمة من جهته وقد كان يساند أرسلان وللمرة الأولى فيما فعل، فمثل تصرفات أنمار وحديثه لا تخرج إلا من رجل خسيس لا يعلم عن دينه شيئًا، لذا فقط التزم الصمت يراقب الجميع ينتظر الفرصة المناسبة للتحدث والتدخل .
صدح صوت آزار مجددًا :
_ نحن هنا للتحدث والوصول لحل لا لصنع عداوات لا فائدة منها، سبز ومشكى جيران منذ قديم الزمان، لن تأتي الان وتخرب العلاقات بينهما بسبب حديثك هذا أنمار.
مسح أنمار وجهه يتحدث بجدية :
_ أنا لم أخطئ بشيء ملك آزار ما أطالب به حق شعبي وأموالهم، ولا أجد عيب في المطالبة بحقي .
فتح أرسلان فمه للتحدث لولا يد إيفان التي أمسكت ذراعه يمنعه الحديث والقاء كلمات كالسم :
_ ومن منعك حق شعبك أنمار ؟! الملك أرسلان اخبرك للتو أن أموال الغلال ستصلك بعد استلامه البضاعة بعشرة أيام، أين الخطأ هنا ؟!
_ عشرة أيام ؟؟ حقًا ؟؟ نحن نريد أموال الغلال حين التسليم كي نستخدمها في بداية الموسم الجديد، أي تأخير قد يؤثر علينا وعلى الإنتاج .
ضم إيفان كفيه على الطاولة أمامه يردد بهدوء :
_ نعم أنت محق، وبما أننا فتحنا هذا الموضوع، إذن هي فرصة مناسبة لمطالبتك بثمن الأسلحة التي اخذتها من مملكتي منذ ما يزيد عن اسبوع فأنت تدرك أن أي تأخير قد يؤثر علينا وعلى الإنتاج .
بُهتت ملامح أنمار وتوتر وهو يرى نظرات إيفان له، بينما سالار ابتسم بهدوء يوافقه :
_ هذا صحيح مولاي، فمنذ يومين تحدث معي صانع الاسلحة يخبرني أن حركة التصنيع كلها توقفت ولن يحركها سوى الأموال التي ننتظرها من سبز .
انتفض انمار عن مقعده يهتف بصوت جهوري متحفز :
_ أنتم تتعاونون ضدي، تتحدون ضدي فقط لأنه رفيقكم صحيح ؟! وأنا من ظننتم انكم ستعدلون الحكم، تريدون نهب سبز فقط لأن ملكها يمر بحالة صحية سيئة ؟!
تمتم أرسلان بصوت مسموع :
_ لا حول ولا قوة الا بالله، والله لا ينهب سبز غيرك أيها....الأنمار .
نطق اسمه كالسبة في النهاية حين أبصر نظرات سالار المحذرة له، ومن ثم قال بعد تنهيدة مرتفعة :
_ لننتهي من هذا الهراء وأخبرني ما الذي تريده ؟! الثمن قبل الشحن ؟! لك هذا يا عزيزي .
تنازل لأجل شعبه وكم يعز عليه أن يقول ذلك أو يتعامل مع أنمار بعد ما صدر منه، لكن إن كان المقابل هو شعبه فسيختار شعبه على ذلك القذر .
لكن أنمار ابتسم بسمة صغيرة يردد بهدوء :
_ أو ربما نصل لحل افضل، أنت احتفظ باموالك وتستخدمها في اشياء اخرى أكثر إفادة لشعبك .
_ مقابل ؟؟
_ الحدود المشتركة بيننا، والتي تخص سبز قبل أن ينهبها والدك منا، اريد استعادتها مقابل الغلال التي ستأخذها منا، ما رأيك ؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توقفت أعلى الحافة تراقب بأعين متسعة تلك السحب التي تخفي ما أسفلها بانبهار وانفاس مسلوبة، تشعر كما لو أنها اقتحمت إحدى الروايات الخيالية التي كانت تدمنها في مراهقتها، ابتلعت ريقها تحاول التنفس بشكل طبيعي هامسة بصوت شبه مسموع ...
_ ما هذا ؟؟
ابتسم لها صمود يردد بفخر شديد وهو يقف على الجيل المشرف على الاربعة ممالك :
_ هذا الجانب الآخر من العالم حيث نحيا، وحيث ستعيشين أنتِ .
استدارت له تهتف بعدم تصديق :
_ أنا سأعيش هنا ؟؟ وكيف سنتخطى هذا الجزء، هناك طائرة ستقلنا ؟؟
أجابها صامد ببسمة جانبية :
_ سنرفرف للاسفل.
ضيقت ما بين حاجبيها :
_ ماذا ؟! كيف ؟!
وقبل أن تتبع كلماتها بتساؤل آخر أبصرت صامد يقترب من الحافة مرددًا :
_ أحضرها وأنا سأسبقكم لابلغ مشكى بوصولها.
وفي ثواني كانت السحب تبتلع جسده لتطلق سول صرخة مرتفعة تتراجع للخلف بسرعة تشعر بموزي يمسك رقبتها برعب شديد حتى كاد يخنقها .
تقدم منها صمود للحديث وهي فقط تهذي برعب :
_ لقد سقط شقيقك من الـ
_ لم يسقط، بل قفز، هيا دورنا.
تشنجت ملامحها تنظر له بصدمة :
_ أنت مجنون ؟!
_ هذه الطريقة الوحيدة للوصول إلى مشكى .
_ بل الطريقة الوحيدة للوصول إلى الآخرة، أنت لا تظن أنني سألقي بنفسي بهذه الطريقة ؟!
نظر صمود حوله بضيق، الحقير صامد قفز وتركه هو يتعامل معها، تنفس بصوت مرتفع، ثم قال :
_ فقط اغمضي عيونك واقفزي .
_ نعم وافتحها لأجد روحي تحلق في السماء .
مسح صمود وجهه يقول بنفاذ صبر :
_ إذن لن تقفزي ؟؟
نهضت تنفض ثيابها تضم لها موزي، ثم استدارت صوب الغابة تردد بجدية :
_ لا ولن اكمل في هذا الهراء و.....
ولم تكد تبتعد خطوة عن صمود، حتى شعرت به يجذبها من حقيبة الظهر بقوة يجرها من ظهرها صوب الحافة وهي تصرخ تضم لها موزي وقد اندمجت صرخاتها مع صرخاته ليرن صداهما في المكان، وفي ثواني شعرت باقدامها ترتفع عن اليابسة وجسدها يطير في الهواء وصرخاتها هي وموزي الذي جُن وضم رأسها بعنف تصدح في المكان .
وصوت صمود يردد بصرخات مرتفعة :
_ خذي شهيق طويل فنحن على وشك السقوط في بحيرة ...
انطلقت اصوات الصراخ من فهم سول :
_ تبــــــــــــــًا لــــكـــم جميعـــــًا ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ إذن هل نتحدث له ؟!
استدار المعتصم صوب زيان، ثم نظر صوب أرسلان الذي يجلس في شرفته بهدوء مرعب منذ عاد من اجتماعه في سفيد قبل ساعتين تقريبًا، يتأمل السماء بهدوء مرعب .
_ يا بني هل تشتاق لقبرك ؟؟ إن أردت التحدث له، اذهب أنت وتحدث له وأخبره ما تريد، لكن أنا مازلت صغيرًا لأموت بطريقة غير آدمية على يده .
زفر زيان بشفقة على حالة أرسلان :
_ أنا حقًا لا ادري ما الذي حدث بسفيد ليعود بمثل هذه الملامح يبدو كمن .....
_ كمن كان بحرب ضروس .
كانت تلك كلمات المعتصم والذي اكله الفضول ليدرك ما حدث باجتماع اليوم، لكن يبدو أن أرسلان اكتفى من إدعاء الجهل والجلوس على النافذة صامتًا :
_ إن انتهيتما من الحديث، هلّا تقدمتما وتحدثتم فيما جئتم لأجله .
نظر له المعتصم بتردد بينما زيان شعر أن وقت الهروب قد حان يستأذن منهم سريعًا :
_ لقد تركت المشفى دون رقيب وأخشى أن يأتي أحدهم ولا يجدني، اعذروني فالواجب يناديني .
رمقه المعتصم بشر يمسك يده يمنعه من الرحيل :
_ توقف أيها الجبان لقد اتفقنا أن نخبره سويًا و....
_ لست جبانًا بل ذكيًا بما فيه الكفاية لانجو بحياتي، والآن اعذرني فالواجب يناديني، والموت يناديك .
ابتسم يربت على كتفه وكأنه يودعه الوداع الأخير، ثم رحل بسرعة تاركًا المعتصم يحاول أن يتمالك نفسه ويتحرك ليخبره ما جاء به .
_ اقترب يا المعتصم لن اعضك .
اقترب المعتصم وهو يدقق النظر لملامحه:
_ العفو مولاي، لكن منذ عودتك وملامحك لا تبشر بالخير، ما الذي حدث هناك ؟!
ابتسم أرسلان بسمة مظلمة وهو يتذكر ما حدث، قبل أن تصدح ضحكته ويخبره بهدوء :
_ لا شيء فقط أنهينا المشاكل بشكل ودي وسلمي .
رمقه المعتصم بشكل جعل أعين أرسلان تزداد غموضًا يتحدث بهدوء شديد عكس ما يموج داخله :
_ قل ما جئت لأجله يا المعتصم أعلم أنك تكبت الكثير داخلك .
تقدم المعتصم من الشرفة التي تتوسط نهاية ممر الطابق الثالث تتخذ شكل قبة واسعة ذو حافة اسمنتية بارزة يستخدمها أرسلان للجلوس .
جلس جواره يردد بصوت خافت :
_ إذن هل أنت بمزاج يسمح لك بالقيام برحلة مسائية ؟؟
لم يفهم أرسلان ما يقصد المعتصم، قبل أن يبتسم الاخير بسمة واسعة يقول بهدوء ملقيًا قنبلته :
_ لقد جاء صامد منذ دقائق قليلة كي يوصل لك رسالة بأن مهمته انتهت .
مجددًا ضيق عيونه ينتظر منه توضيحًا أكثر، فابتلع المعتصم ريقه يقول :
_ لقد وصلت ابنة السيد رائف ولا بد أنها الآن على حدود مشكى تنتظر وصولك لتتسلمها مولاي ..........
___________________
ربما نعتبرها بداية حربٍ بلا راء........
دمتم سالمين
رحمة نبيل
•تابع الفصل التالي "رواية اسد مشكي" اضغط على اسم الرواية