رواية وابقى بدون لقاء الفصل الرابع 4 - بقلم حور طه
«في شقه اسر»
*****************
يجلس أسر على الكنبة، وعيناه تتجولان في كل زاوية من الشقة، وكأنها ستظهر فجأة من خلف الأثاث لتحتضنه. يشعر بفراغ البيت يلفه، ويستنشق هواءً أثقل من المعتاد، وكأنه يحمل ذكرياته معها. يمسك الريموت بأصابع متوترة ويشغل التلفاز على أي قناة عشوائية، لكن لا شيء في الشاشة يمكنه ملء الصمت. يسند رأسه للخلف على الكنبة بتعب واضح، فتسقط دمعة ثقيلة من عينه ببطء على خده. يغرق في شروده، وذكرياته معها تجتاحه بلا رحمة، وكأنها شريط سينمائي لا ينتهي،
«فلاش باك»
**********************
بشرى::أسر، ممكن نتكلم شوية؟”
أسر يبتسم ويغلق التلفاز::طبعًا يا حبيبتي، قولي.”
بشرى تقترب منه وتجلس بجواره بتوتر::أسر…”
أسر بنظرة حب وهو يبعد خصلات شعرها عن عينيها::يا عيون أسر، قولي لي إيه اللي شغلك.”
بشرى بتردد::أسر، ليه بقالك فترة بعيد عني؟”
أسر بدهشة::بعيد عنك إزاي؟ أنا كلي ملكك، حياتي كلها ليكي.”
بشرى بخجل::هو أنا وحشة؟ ما بقتش أعجبك زي زمان؟”
أسر يبتسم::إنتِ أجمل ست شافتها عيني في حياتي كلها.”
بشرى بتوتر وحياء::طب ليه مش عايز تقرب مني؟ وحرمني من لمستك.”
أسر يمسك بيدها بلطف::يا بشرى، مفيش حاجة في الدنيا تبعدني عنك. أنا بس كنت بفكر في شوية حاجات تخص الشغل، لكن ده مش معناه إني بعيد عنك. إنتِ كل حاجة ليا.”
بشرى::تعرف إني بفهمك من نظرة عينك وببقى عارفة إمتى بتبعد عني بسبب الشغل وإمتى بتبقى متعمد إنك تبعد. وللأسف، أنت دلوقتي بتبعد متعمد، مش بسبب الشغل.”
أسر بقلق يظهر على وجهه، يحاول إخفاء توتره::بشرى، الموضوع مش زي ما إنتِ فاكرة. أنا بس خايف عليكِ… وعلى صحتك.”
بشرى تنظر إليه بعينيها اللامعتين::خايف عليّ؟ من إيه؟”
أسر يتنهد بعمق، محاولًا أن يبقى هادئًا::الدكتور قال إن لو حصل حمل دلوقتي ممكن يكون فيه خطر عليكِ. أنا بحاول أحميكِ، مش بُبعد عنكِ.”
بشرى بصوت مرتعش::يعني إنت مش متضايق مني؟ مش زعلان؟”
أسر يمسك يدها بلطف، ينظر في عينيها بجدية::مستحيل أكون زعلان منكِ. إنتِ كل حاجة بالنسبة لي. أنا بس مش عايز أخسرك.”
بشرى تبتسم بخجل ودمعة تلمع في عينيها::وأنا كمان مش عايزة أخسرك. بس كنت محتاجة أفهم.”
أسر يمسك يدها ويقبلها بحنان::أنا ما كنتش حابب أقول لك علشان ما تتوتريش… وكمان علشان عارف إنتِ قد إيه متعلقة بموضوع الأولاد ده.”
بشرى بنبرة حزينة::كان نفسي أخلف منك طفل… أشوف جزء منك في حياتي، يكبر قدام عيني ويكون دليل على حبنا.”
أسر يتنهد بتأثر::وأنا كمان كنت بحلم بكده… بس دي حكمة ربنا ولازم نقول الحمد لله.”
بشرى بعينين ممتلئتين بالدموع::مش عارفة أعمل إيه… مش عارفة أتخطى الشعور ده.”
أسر يحتضنها برفق::إحنا لسه مع بعض، وده أهم حاجة. هنكمل مع بعض مهما كانت الظروف.”
بشرى بحزن وقلق::تفتكر هم هيسيبونا نكمل حياتنا عادي كده؟”
أسر بحزم وثقة::أنا ما يهمنيش أي حد غيرك إنتِ. مش هسمح لحد يبعدك عني، أنا بحبك.”
بشرى بخوف وتردد::وأنا علشان بحبك مش قادرة أتخلص من الشعور ده، إني عاجزة ومش قادرة أكون أم لطفلك.”
أسر بحنان ودعم::أوعي تقولي كده، دي حكمة ربنا. وإحنا مهما حصل هنرضى بقضائه. ليه بتسبقي الأحداث؟ أكيد ربنا شايل لنا حاجة أحسن. خلي إيمانك قوي، خلي عندك ثقة في ربنا دايمًا وما تتهزيش.”
بشرى بتنهيدة عميقة::أنا عارفة، بس الخوف مالي قلبي. حاسة إني مش هقدر أتحمل لو ما قدرتش أكون أم.”
أسر برقة وإصرار::إحنا في رحلة مع بعض، مهما كانت التحديات. أنا هنا علشانك، علشان نواجه أي حاجة مع بعض. ممكن يكون الطريق صعب، لكن إيماننا بربنا وبعض هيخلينا نعدي كل حاجة.”
بشرى بتردد::إنت دايمًا بتعرف تطمني، بس ساعات بحس إن الدنيا ضدنا.”
أسر بثقة::مفيش حاجة في الدنيا هتقدر تهزمنا طول ما إحنا مع بعض. كل تحدي بيقوينا، وكل عقبة بنعديها بتقربنا أكتر من اللي ربنا كاتبه لنا. أوعدك، هفضل جنبك مهما حصل.”
بشرى بتأثر::أنا محظوظة بيك، إنت الدعم والسند اللي دايمًا محتاجاه.”
أسر بابتسامة::وأنا مش ممكن أكون غير كده معاكِ. إنتِ نصي التاني، وهنكمل مع بعض مهما كانت الصعوبات. ثقي في ربنا وفي حبنا، وإن شاء الله الخير جايلنا.”….
******************
«عوده من الفلاش باك»
*****************
أسر، بعد أن غرق في ذكرياته مع بشرى، يُفيق فجأة من شروده وكأن الهواء عاد ليتحرك من جديد. يمسح دموعه سريعًا، ينظر حوله بارتباك، ثم يحدث نفسه بصوت منخفض::ليه عملت كده؟ ما كانش المفروض أسيبها تمشي.”
يقف ببطء ويتوجه نحو النافذة، ينظر للخارج وكأنه يبحث عن إجابة،بغصة::كنت خايف عليها… بس هي ما فهمتش… ما فهمتش إني كنت بحاول أحميها.”
يصمت لبرهة، ينظر إلى الهاتف على الطاولة، يفكر للحظة قبل أن يهز رأسه.بحزم::لا… لازم أرجعها… لازم أحارب عشانها.”
*************************
«منزل كارم»
****************
في الغرفة، كان الضوء خافتًا من أباجورة بجانب السرير. يجلس كارم على حافة السرير، ينظر إلى كاميليا بتساؤل هادئ::”شهد نامت؟”
تلتفت كاميليا نحوه بنظرة هادئة، تحاول إخفاء تعابيرها. تجلس على السرير وتستعد للنوم، ثم تقول بنبرة مرهقة::”آه، نامت. وعايزاك تنسى الموضوع ده نهائي، علشان أنا تعبانة.”
يبتسم كارم ابتسامة دافئة، ويحاول الاقتراب منها، قائلاً بلهجة محبة:: “تعبانة من إيه بس يا حبيبتي؟ ده أنا لي شهر مسافر وإنتِ وحشتيني قوي.”
تشعر كاميليا بضيق، وتحاول تجنب اقترابه. تتراجع قليلاً على السرير وتقول بصوت جاف:: “كارم، نام علشان أنا تعبانة ومش قادرة. الموضوع مفهوم، مش محتاج شرح، نام.”
ينظر كارم إليها بتفهم، يشعر أن هناك شيئًا ليس على ما يرام، لكنه لا يريد أن يضغط عليها أكثر. يبتسم بحزن::”تصبحي على خير يا حبيبتي.”
بينما كانت كاميليا تضع رأسها على الوسادة بجانب زوجها كارم، كانت مشاعرها مضطربة بداخلها. قلبها وعقلها كانا معلقين في مكان آخر، بعيدًا عن هذا السرير وهذا الرجل الذي يشاركها الحياة. تشعر بمرارة في حلقها وتفكر بعمق::”لحد إمتى حياتي هتفضل كده؟ مضطرة أعيش مع راجل مش بتحمل قربه مني.”
تغمض كاميليا عينيها، تحاول أن تغفو، لكن تلك الأفكار والمشاعر تظل تلاحقها، تاركة قلبها في صراع.
تظل كاميليا مستلقية في السرير، تحاول طرد تلك الأفكار من عقلها، لكن تعود للظهور بقوة. تتساءل في نفسها كيف كانت حياتها ستكون لو أنها اختارت طريقًا مختلفًا، لو لم يدخل كارم حياتها.
تبدأ دموعها بالتسلل إلى عينيها، تحاول كتم صوت بكائها حتى لا يلاحظ كارم، الذي يبدو أنه بدأ في الاستغراق في النوم. لكن الصراع الداخلي ينهش قلبها. تفكر في كل لحظة تمر عليها، في كل وعد وكل أمل كانت تعيش لأجله، وكيف أن تلك الأحلام تحطمت فجأة عندما فرضت الحياة عليها مسارًا مختلفًا.
في تلك اللحظة، تقرر كاميليا أن شيئًا ما يجب أن يتغير. لا تستطيع الاستمرار في العيش بهذه الازدواجية، هذا الشعور الذي يأكلها من الداخل. تعرف أنها لا تستطيع البوح بمشاعرها لكارم، لكنها تشعر بضرورة مواجهة الحقيقة، الحقيقة التي تعيشها كل ليلة في أحلامها وفي لحظات الوحدة.
بينما كان قلبها ينبض بقوة، تأخذ كاميليا قرارًا داخليًا::”لازم أعيش حياتي زي ما كنت عايزة، مهما كان الثمن.”
تظل مستيقظة لفترة طويلة، تترقب اللحظة التي يمكن فيها أن تحقق هذا القرار. هي تعلم أن الأمر ليس سهلاً، لكنها لم تعد تستطيع تجاهل هذا الصوت الذي يصرخ بداخلها.
**************************
«بعد مرور شهر،في منزل بدر ولد بشري»
*****************************
يجلس أسر مع بدر يبدو التعب واضحًا على وجهه.:: يا عمي، لو سمحت، خليني أقبلها وأكلم معاها…
بدر::يا حبيبي، أنا مش ممنع انك تتكلم معاها. بس هي حابسة نفسها في أوضتها، مش بتخرج ولا بتكلم مع حد…
يشعر أسر بصداع يشتد في رأسه، محاولًا إخفاء إحباطه.:: أعمل إيه يا عمي؟ هي رافضة حتى تشوفني…
بدر::معلش يا أسر، اتحمل شوية كمان، وهي أكيد هتهدأ وتتكلم معاك…
تتزايد حدة الصداع في رأس أسر، وكأن الأمور تتداخل حوله.:: حاضر يا عمي… ثم يقف ليغادر، ولكنه يشعر بدوخة شديدة تفقده الوعي.
بدر، بخوف، يحاول إفاقته:: أسر… فوق يا بني… أسر… بشري!
تخرج بشري بسرعة من غرفتها، تراها ملقاة على الأرض مغشيًا عليها. تجري نحوها وتلمس جبينه.بقلق:: أسر… إيه اللي حصل يا بابا؟
بدر:: كان جاي عشان يشوفك، ولما قولت له إنك مش عايزة تقابلي حد كان ماشي، بس فجأة أغمي عليه…
تأخذ بشري أسر في حضنها بحب ودموع.:: أسر، فوق… ماتوجعش قلبي. أنا مش قادرة أتحمل…
يبدأ بدر برش عطر على وجه أسر، ويشمه حتى يفتح عينيه ببطء.
أسر، بصوت خافت: بشري… أنا بحبك…
تضم بشري أسر أكثر، والدموع تتدفق من عينيها.:: وأنا كمان بحبك. انت دوا الجرح اللي فتحته عندي…
تنهمر الدموع من عينيها، بينما تشعر بأن الأمل يعود بينهما، رغم كل ما مروا به.
*************************
وسط غرفة مظلمة مضاءة بشموع تتراقص نيرانها على الجدران المتهالكة، يقف الدجال متكئًا على عصا خشبية غليظة، مشبّعة برموز غامضة محفورة بأيدٍ خفية. يلتف حوله دخان كثيف، وكأن الغرفة تعج بالأرواح الهائمة. عيناه لا تظهران سوى شرار متقد، نظراته تخترق القلوب وتزلزل النفوس. يرتدي ثوبًا ممزق الأطراف، تتدلى منه خيوط رثة، إلا أنه يبدو مهيبًا وكأن الزمن نفسه يخافه. صوت همساته منخفض، لكنه يكفي ليملأ المكان رهبة؛ كلماته تتسلل كالسم، تتسلط على عقلها::راجعتي تاني ليه.؟
المراه بصوت متردد::”أنا عملت كل اللي طلبته، جيت لك تاني عشان تساعدني. أنا تعبت… خلاص مش قادرة أستحمل، كل شيء بيضيع مني.”
الـ ـدجال بابتسامة غامضة وهو ينظر إليها بنظرة حادة::طلباتي كانت بسيطة، وكنتِ ملتزمة. لكن الآن، الطلبات بقت أكبر، وده مش من أجل مصلحتي… بل من أجل مصلحتك.”
المراه بقلق واضح:”أكتر من اللي دفعته؟ دفعت فلوسي كلها في اللي فات. لسه محتاج إيه.تاني؟”
الـ ـدجال يميل نحوها بخبث، صوته ينخفض كأنما يحبس الأسرار بين كلماته::”اللي محتاجه مش هيوصل إلا لما تضحّي بحاجات أعمق… جسدك هو المفتاح للبوابة اللي هتنفتح. وعشان نوصل اللي إنتِ عايزاه، لازم يكون في اتصال… اتصال روحاني بينّا. أنتِ عارفة ده، مش كده؟”
المراه تتراجع قليلًا، تتعرق ويدها ترتجف::”اتصال… يعني إيه؟ مش فاهماك…”
الـ ـدجال بابتسامة مخيفة::”أنتِ فاهمة كويس… جسدك، يا بنتي، هو اللي هيكمل العمل. الطقوس محتاجة لشيء حقيقي، قربان من نوع آخر. وأنا الوحيد اللي أقدر أديك القوة اللي بتدوري عليها. بس لازم تسلمي لي كل حاجة… كل حاجة.”
المراه بصوت متقطع، وكأنها تحاول أن تقاوم، لكن كلماتها تكشف ضعفها::”يعني لازم…؟”
******************************
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية وابقى بدون لقاء) اسم الرواية