رواية وبها متيم انا "الخاتمة" بقلم امل نصر
الخاتمة الجزء الأول
في غرفة المكتب الخاصة بوالده قديمًا، والتي أصبحت مقره الدائم الاَن، في متابعة اعماله الكثيرة من خلالها، كي لا يبتعد عن زوجته في هذه المرحلة الهامة من علاجها بعد الخروج من المشفى منذ عدة أسابيع، حتى وهي في كنف والدته، والتي أصرت على مجيئهم منزل العائلة من أجل مساعدته أيضًا في رعايتها ورعاية الطفل الصغير عمار، ومع ذلك أبى أن يقصر في حقها، ولذلك فضل مباشرة العمل من هنا، ومن يريده يأتي إليه، كعدي عزام الذي كان يراجع معه عدد من العقود في هذه الوقت.
- كدة كل حاجة تمام، يعني نخش المناقصة بقلب جامد.
قالها مخاطبًا عدي بحماس، والذي رد بفتور أصبح من أهم سماته الشخصية هذه الأيام:
- خلاص، يبقى انا هبتدي في الإجراءات من بكرة.
ختم عبارته وهو يدفع الملف الذي كان بيده على سطح المكتب بضيق؛ انتبه له الآخر ليترك هو أيضًا ما كان يعمل عليه، ويرمقه عدة لحظات بتفحص، ثم ما لبث أن يسأله بفضول استبد به:
- هو انت لسة برضوا متأثر بموضوع البت اياها؟
تجمد يطالعه بنظرة خاوية، وأعين فقدت لمعة الشغف والحياة الصاخبة، ليزفر طاردًا كتلة كثيفة من الهواء المشبع بإحباطه، قبل أن يقول اَخيرًا:
- وإيه الفايدة؟ اتأثر ولا متأثرش، ما خلاص.....
سأله مرددًا باهتمام:
- خلاص إيه؟
زاد عبوس الاَخر، ليطرق بأطراف أصابعه على سطح، طرقات رتيبة مملة، والكلمات تخرج بصعوبة منه:
- أنا عرفت انها كتبت كتابها امبارح على الزفت جارها، شادي اللي ساب الشغل عندي وراح اشتغل في فندق منافس، بوظيفة أعلى، نظرًا لكفائته إللي انا عارفاها كويس.
اكتنف كارم شعور جارف بالأسف، فخاطبه بما يشبه الإعتذار:
- أنا مكنتش اعرف ان الموضوع اتطور معاك للدرجادي؟ بس يعني... دي مش اَخر الدنيا، والستات على قفا من يشيل.
- لا يا كارم، عمر الموضوع ما كان كدة.
قالها عدي بصدق ما يعتمل بصدره، ليستطرد بصوت طغى عليه الشجن:
- أنا دلوقتي بس إتأكدت إن امتلاك سيدات العالم كله، بملكات الجمال اللي فيه، ما تساويش نظرة واحدة من ست انت بتحبها وتحبك بجد.
وإن إحساس الكره لما تشوفه في عيون الست الوحيدة اللي حركت مشاعرك، مفيش في الدنيا أبشع منه.
ابتلع مرار حلقه متذكرًا حديثه الاَخير معها، حينما علم بحضورها في أحد الايام، كي تنهي إجراءات فسخ العقد مع الفندق، فركض بخطواته السريعة كي يلحق بها قبل أن تغادر وكأنه يتشبث بفرصته الأخيرة معها.
" دفع بقوة باب الغرفة لدرجة اجفلت حمدي، لينتفض ناهضًا عن مقعده خلف المكتب مرددًا بجزع:
- عدي باشا، إيه في حاجة؟
لم يلتفت له، بل انصب تركيزه على من كانت جالسة مقابله، تناظرة بتحدي ولم تتحرك بها شعرة واحدة، فرد يجيب الاَخر، وعينيه لم تتزحزح عن عنها:
- سيبنا لوحدنا دلوقتي يا حمدي.
اعترض الاَخير بعدم تقبل:
- اسيبكم ازاي يعني؟ صبا اساسًا بتخلص ورقها وماشية.
هم أن يوبخه بعدم اكتراث لمكانته ولا بمنصبه، ولكن صبا كانت الأسبق:
- عادي يا أستاذ حمدي، مفيهاش حاجة......... دا مهما كان برضوا، كان رئيسي وصاحب الشغل اللي كنت باكل منه عيش.
كلماتها المنتقاة بذكاء؛ اللجمت حمدي عن المعارضة، وساهمت في ارتخاء الاَخر، وقد اتخذه بادرة جيدة منها، ثم بالطبع استجاب الأول، ليخرج محترمًا رغبتها، وثقة تامة في رجاحة عقلها.
فور اختلاء الغرفة عليهما بادرها بالسؤال الملح:
- إنتي بجد مخطوبة لشادي يا صبا؟
ردت بهدوء وصراحة أيضًا:
- هي لسة مبقتش خطوبة رسمي، يدوبك كلام في بدايته.
توسعت عينيه بذهول، ودائرة الأمل تتوسع بداخله، ليردف:
- طب كويس أوي، يعني ينفع صبا تقبلي طلبي، مدام لسة مفيش اتفاق ولا خطوبة رسمي، قولي اه وانا مستعد انفذ كل اللي تقولي عليه، أكيد عرفتي كويس اوي دلوقتي، إن انا محتاجلك قد ايه وعايزك ازاي؟
سألته بما يشبه الأختبار:
- في السر برضوا ولا عرفي؟
نفى سريعًا، وقد تغلب الشوق على العجرفة التي كان يتمسك بها:
- زي ما تحبي يا صبا، لو عايزة إشهار والدنيا كلها تعرف انا مستعد.
- دلوقتي؟!
تمتمت بها، فطالعها بعدم فهم، قبل أن تردف نحوه بانفعال:
- حضرتك جاي دلوقتي تعرض عليا الجواز؟ بعد ما زقيت ميرنا عليا أنا وصاحبتي؟
احتج بعنف، ينكر بكذب مكشوف:
- يا صبا البت دي كدابة، بلاش تصدقيها، دي اكيد بتألف من دماغها، انا لو مش عايزك في الحلال، مكنتش جيت اعرض عليكي الجواز من تاني اهو.
تكتفت بذارعيها، ترمقه بتمعن لتزيد من توتره، قبل أن يخرج ردها:
- عارف يا عدي باشا، انا ممكن اصدق كلامك، في إني عجبتك او ممكن تكون حبيتني على فكرة، مع ان دي مش متأكدة منها، بس اللي انا متأكدة منه، هو انك شوفتني واحدة زي أي واحدة تقدر تجيبها بفلوسك، طبعًا عشان الفرق الخرافي في المستوى، ودي مقدرش الومك عليها، بس انا كمان محدش يلوم عليا لم ابقى معتزة بنفسي ومبقلش بواحد يشوفني اقل منه، حتى لو كان بيعشقني بجد، مش كمان كل محاولاته في القرب مني كانت بالغلط........ يا باشا دا انت حتى لما حاولت تصلح، جيت واتقدمت لأهلي انك تتجوزني في السر وغرورك صورلك ان احنا ما هنصدق ونتمسك بالفرصة.
للمرة الأولى يتمكن شخص ما؛ من جعل عدي عزام يشعر بالخزي، لقد كانت قوية لدرجة جعلته يسبل أهدابه عن مواجهتها في إحدى المرات، قبل أن يتمسك بغروره الواهي في الإنكار، رغم فشله، لقد كانت رحيمة حينما أنهت لقاءه بها سريعًا، وقد استكفى من هذا الكم من الحقيقة التي ألقتها بوجهه.
على قدر رزانتها في الحديث، على قدر قسوة الكلمات التي كانت تلسعه كالسياط لعلمه التام أنها محقة، في كل حرف تلفظت به، لقد كان يبتغي التغير والتمرد، ونسي أن التغير لابد أن يكون بداخله"
- عدي انت سرحت؟
تسائل بها كارم لينتشله من دوامته، قبل ان يجفله رنين الهاتف أيضًا، فتناوله سريعًا يجيب الإتصال الغريب من زوجته:
- الوو.... أهلا يا ميسون.
وصله صوتها بصراخ؛
- عدي، الحقني يا عدي.
❈-❈-❈
بخطوات وئيدة، حريصة، خرجت من حمام الغرفة، تلف رأسها بالمنشفة البيضاء، بعد أن أنعشت جسدها بالماء الدافئ، والمعبأ بالروائح العطرية التي تعشقها، كي تستعيد بعض من روحها القديمة، بجرعة من الرفاهية والدلال، فقد سأمت المشفى وملازمة الفراش طوال الفترة الماضية، ما زال الدوار يكتنفها على أقل حركة، رغم اختفاء بعض الأعراض الأخرى مثل الرنين في الأذن والإرهاق الدائم وكثرة النوم، والحساسية من الضوضاء وضعف التركيز والذاكرة، وغيرها من الأشياء التي كانت تفقدها صوابها في بعض الأوقات. وتبقى معه الصداع الذي يأتي ويجيء، رغم كل الإحتياطات والعلاجات.
- حاسبي يا رباب.
تفوه بها مرافقًا لذراعيه التي تلقفتها فور ان أهتزت بسيرها، وتابع بسؤاله بعد أن تفحص وجهها جيدًا:
- لسة برضوا الدوخة؟
رفرفت بأهدابها قليلًا ثم أومأت رأسها بخفة، لم ينتظر مزيدًا من الشرح، دنا بذراعه الاَخر يحملها من أسفل ركبتيها، والمئزر الأبيض الذي كانت تريديه، ثم ذهب بها إلى الفراش يريحها عليه بكل حذر، وقال معاتبًا:
- ما استنتيش ليه على ما اطلعلك؟ مكانش ليه لزوم أبدًا تعملي أي مجهود من غيري.
اشرق وجهها بابتسامة ضعيفة لترد:
- ويعني انا عملت ايه بس؟ انا أخري بس غطست في البانيو.
- برضوا كان لازم تستنيني وانا اساعدك.
قالها منشغلًا بشد الغطاء على جسدها، فضحكت بصوت مكتوم، لتردف بمشاكسة:
- إنت باينك استحلتها يا كارم، وانا اللي فاكراك بتساعدني لكرم أخلاق منك، مش لأغراضك الدنيئة.
بادلها هو الاَخر الضكك ليندس بجوارها اسفل الغطاء، الذي غطى نصفه، وقد استلقي بنصف نومة، وقال معترفًا:
- بصراحة اَه منكرش، دي كانت من أجمل المهمات على قلبي.
خبئت إبتسامتها مع تذكرها للمجهود الخرافي الذي قام به، طوال الفترة الماضية، ليوفق بين رعايتها ومزوالة عمله بالمنزل، ف التفت ذراعها حوله لتريح رأسها بعناقه، وتمتمت بهمس:
- أنا تعبتك أوي معايا يا كارم، حملتك فوق طاقتك، بصراحة مكنتش اتخيل ان عندك روح المساعدة والصبر دا كله عليا.
قبلها فوق رأسها بخفة متقبلًا نقدها، ليقول:
- فاهمك انا على فكرة، بس اللي عايزك تفهميه انتي، هو اني عمري ما اتعرضت للمواقف دي مع الناس اللي بحبهم، والدي لما تعب مخدتش يوم بليلة واتوفى، وماما ربنا يخليها لسة موضعتنيش في موقف اختبار زي اللي اتحطيت فيه معاكي، انا لو بإيدي كنت شيلت كل الألم منك وخدته ليا بعيد عنك.
زادت من التشبث به، متنعمة بدفئه ورائحته التي تعشقها، تردف ردًا على كلماته:
- بعد الشر عليك يا حبيبي، حمد لله انا متقبلة اختبار ربنا.
تبسم بمكر يبعد رأسها بخفة ليطالع وجهها الجميل قائلًا:
- بس بيني وبينك يعني، فين الصعوبة اللي بتتكلمي عليها دي؟ دا انا بشتغل يدوب ساعتين، وبعدها اطلع عندك، ادلع نفسي بقعدة حلوة معاكي، يا في الجنينة تحت، او في الأوضة هنا، اخدلي حضن، او بوسة من خدود القمر.... ولا شفايفه.
قالها ودنى برأسه يقتطف قبلة متمهلة شغوفة رغم حرصه الشديد، حتى لا يؤذيها، فرأسها لم تستعد حالتها العادية بعد، ليتبعها عدد آخر على أنحاء وجهها، يبث بها عشقه الكامن بين أضلعه، داخل هذا الصغير الذي أصبح يضخ الدم من أجلها، واجل اسرته الصغيرة.
- كارم .
اجفل فجأة على صوت والدته، يتبعه طرق على باب الغرفة، تسحب من جوارها بهدوء، حتى فتح للأخرى، والتي دلفت خلف طفله الصغير:
- بابي.
- يا قلب بابي.
قالها وهو يتلقفه بين ذراعيه، ثم قام برد التحية لوالدته بقبلة على جانب وجهها، قبل أن تسبقه للداخل قائلة:
- عاملة إيه مراتك النهاردة؟ إيه أخبارك يا حبيبتي؟
همت لتعتدل بجذعها ولكن المرأة أوقفتها:
- أوعي تتحركي خليكي زي ما انتي، انا اساسًا كلمتين وماشية على طول.
- ليه طنت؟ هو انتي لسة قعدتي؟
اضاف كارم هو الاَخر:
- ايوة يا ماما اقعدي الأول، وبعدها اتكلمي براحتك.
- يا حبيبي انا مش تعبانة، انا بس كنت عايزة اخد رأيك في مشوار كدة، أصل الست مجيدة كلمتني بنفسها، دا غير الدعوة اللي وصلت من أيام، هتقدر تحضر النهاردة فرح أولاد عمك، أمين وحسن؟
سهم بنظرته نحوها، ثم انتقل نحو زوجته بشيء من توتر، وقبل أن يعترض سبقته هي:
- مش أمين دا اللي هيتجوز لينا سكرتيرة طارق؟ دي زهرة وجوزها كمان هيحضروا مع كاميليا، خلينا نروح مع طنت يا كارم.
احتج قائلًا بحدة:
- ازاي يعني؟ هو انتي حمل سهر ولا أغاني وزيطة، ثم أمين نفسه ده انا مش قابل اروح فرحه، لو كان اخوه بس كنت عديتها.
اشاحت بوجهها عنه تفمغم بكلمات غير مفهومة، جعلته يردف سائلًا بحنق:
- بتبرطمي تقولي إيه يا رباب؟
ردت بهمس وكذب:
- مبقولش حاجة، واعمل اللي انت عايزه.
كز على أسنانه بضيق فتدخلت والدته تأخذ حفيدها منه:
- براحتكم انتوا الاتنين، انا هاخد عمار ونروح لوحدنا، على الأقل يتعرف على ألأطفال اللي زيه من العيلة.
تحركت ذاهبة وقبل أن تصل للباب أوقفها بقوله:
- استني يا ماما.
التفت تجيبه:
- نعم.
القى بنظرة خاطفة نحو التي ما زالت على صمتها، تكظم غيظها، وتنظر في أي جهة إلا نحوه.
فقال زافرًا بسخط:
- إحنا كمان رايحين معاكي.
تطلعت إليه بلهفة فتابع حازمًا:
- ساعة بالكتير ونكون راجعين.
قالها وتحرك يسبق والدته في المغادرة، والتفت إلى كنتها تبادلها ابتسامة النصر وقد نجحت خطتهما
❈-❈-❈
في منزل ناصر الدكش
خرجت من غرفتها القديمة، بعد أن ارضعت صغيرتها، تهتف بأسماء أهل المنزل من شقيقاتها الفتيات:
- يا رؤى، يا أمنية، انتوا فين يا بنات؟
- احنا هنا في أؤضة شهد يا فريال .
تحركت على الصوت لتلج إليهم، وتتسمر على مدخل الغرفة ترمقهم بدهشة:
- يا ما شاء الله، فاتحين درج الفلوس بتاع اختكم، وبتندهوا عليا كدة عادي؟ طب انا هفتن عليكم
ضحكت أمنية معقبة وهي تحصي عدد الأوراق النقدية التي في يدها:
- روحي افتني يا اختي، هي علم بكل شيء، أنا أصلًا واخداهم لعبد الرحيم عشان يلف بيهم ع العمال ويقبضهم، ما انتي عارفة يا عسل، اختك في الصالون دلوقتي ومش فاضية.
- أنا كدة معايا ست الاف.
هتفت بها رؤى، قبل أن تتناولهم من أمنية لتضعهم على الحزمة التي معها، لتردف:
- ع التمانية اللي معايا، يبقى كدة اربع تاشر، حلو اوي على أجرة العمال، احنا لسة ورانا مصاريف كتير.
رمقتها شقيقتها الكبرى بإعجاب، لتكمل بخطواتها حتى وصلت لتجاورهم على الفراش قائلة بفخر:
- ما شاء الله عليكي يا أمنية، خدتي ع الوضع وبقيتي تتكلمي زي شهد بالظبط، باين الشغل نفعك.
أبت الاَخيرة أن تتطرق للماضي المخزي بنظرها، وردت بقوة جديدة عليها:
- طبعًا أكيد، الشغل للست أحسن من أي شيء، وأي راجل حتى، وانا الحمد لله مش بشتغل عند حد، انا بشتغل في ملك ابويا الله يرحمه، وبكرة المكتب بتاعه، يبقى أكبر مكتب مقاولات فيكي يا جمهورية بإيد بناته ان شاء الله، أسيبك بقى.
قالت الأخيرة وهي ترفع الحقيبة التي امتلأت بالنقود أعلى كتف ذراعها، ثم لفت حجابها على عجالة وخرجت على الفور، عقبت فريال في أثرها:
- اختك يا رؤى اتغيرت وبقت شخصية تانية، دي حتى في شكلها الخارجي، عودها خس وبقت مظبوطة.
ردت رؤى بابتسامة مبتهجة:
- ومتخسش ليه؟ وهي استلمت تقريبًا معظم الشغل مع الشهد، وطول النهار على رجليها، ما هي الانتخة زمان هي اللي كانت متخناها.
اومأت فريال تهزهز في ابنتها بتفهم، قبل أن تقول:
- سبحان الله، بعد ما فاقت من الوهم بتاع الحب مع الزفت ابراهيم، اللهي ربنا ياخده، اختي حست بنفسها، ياريتها انصدمت بحقيقته من زمان.
- كل حاجة بتيجي في وقتها.
تفوهت رؤى بالعبارة، ثم تناولت منها الصغيرة تداعبها وتشاكسها وسألتها اثناء ذلك:
- ماما فين؟ مش سامعة صوتها يعني؟
مصمصت فريال بشفتيها، لتقول بامتعاض:
- اهي اللي عايزة الصدمة صح؛ هي امك، تصدقي بالله الست دي لحد الآن بتكلم خالتك، وحزينه ع اللي حاصلها هي وابنها.
سمعت رؤى وامتعض وجهها بضيق تتمتم:
- ربنا يهدي.
❈-❈-❈
بداخل المحل الذي افتتح حديثًا، خطت حتى توقفت بجوار العارض الزجاجي، تستند عليه بمرفقها، مستغلة انشغال الأخرى بترتيب بعض البضائع من هدايا وأغلفة وعلب أدوات مكياج مختلفة، تأملتها قليلًا بتسلية، قبل أن تجفلها بصيحتها ممازحة:
عندكم شامبو يا اَنسة؟
شهقت مودة بخضة، قبل أن تلتف اليها بوجه مزعور، لكن سرعان ما استعادت توازنها، لترد مستجيبة للمزاح وتهتز بجسدها، تقليدًا للمشهد المشهور:
- لأ يا ختي، عندنا دباديب.
ضحكت صبا بملأء فمها، حتى ظهرت أسنانها البيضاء، لتردف بمرح:
- أموت أنا في قفشات الأفلام.
رمقتها مودة بتفحص، يعجبها هذا الإشراق الذي يزين ملامح صديقتها، فقالت بمشاكسة:
- انا شايفة الحلوة مزاجها عالي النهاردة، إيه؟ ناوية تحققي أمل الأستاذ شادي وتخرجي معاه؟
أطلقت شهقة تصنعت بها الصدمة، لتنكر قائلة:
- اطلع مع مين يا ست مودة؟ عايزة بت ابو ليلة تطلع مع عريسها؟ اللي كتب كتابه عليها بس امبارح كمان؟ مش كفاية انه رضي بيه وسلمه جوهرته النفيسة؟ كمان عايزاه يسمح بالسرمحة والكلام الفارغ ده؟
- يا شيخة!
قالتها بتهكم، قبل أن تتابع وتسألها بفراسة وتوجس:
-- بت انتي، كلامك مش راكب على بعضه معايا، إيه اللي وراكي؟.....
- قلم يا مودة.
انتفضت مجفلة، وخرجت هذه المرة شهقتها بغير افتعال، لتستدير إليه وتجده أمامها مباشرةً، يرمقها بأعين مشتعلة، يعتلى تعابيره الغيظ مكررًا نحو مودة التي أردفت تحييه:
- أهلًا يا استاذ شادي نورت المحل.
- أهلًا بيكي يا مودة، ناوليني قلم حبر لو تسمحي.
اردف بالكلمات وأبصاره لم تحيد عنها، فقد كانت شهية بشكل موجع، وجهها المشرق بابتسامة ساحرة كشمس أخرى تضيء المكان من حوله، تلهث بابتهاج طفلة انتهت من الركض واللعب، اللون المميز بعينيها، يشع بشقاوتها المحببة، حتى وهي تجعله يدور حول نفسه بأفعالها
- إيه بتبصلي كدة ليه؟
سألته تدعي عدم الفهم وقد امتدت يده على العارض الزجاجي وكأنه يحاصرها، ليجيب بتحفز:
- هي مين اللي مينفعش تخرج مع خطيبها؟ حتى وهو كاتب كتابه عليها امبارح؟ وعشان ما هي جوهرة نفيسة؟
توسعت عينيها تتصنع الأجفال لتردف:
- يا نهار أبيض، هو انت سمعت الكلمتين اللي جولتلهم من شوية؟...... دا كانوا هزار.
طالعها بتشكك، يجسر نفسه حتى لا يتأثر، وقد كانت كقطعة السكر أمام عينيه، فتابعت تزيده:
- وعلى فكرة الهزار مكانش مع مودة، دا كان معاك انت، عشان كنت متأكدة انك جاي ورايا، بعد ما عديت جصادك، وعملت نفسي مش واخدة بالي منك وانت بتفتح باب العربية، جبل ما تمشي على شغلك.
كالعادة تأخذه بيدها إلى البحر وتعيده عطشان، كما يقال في الفلكلور الشعبي، زمجر بوعيد وتشكيك يتمتم:
- عارفة يا صبا لو ما بطلتي عمايلك دي هيحصل إيه؟
بتحدي نابع من ثقتها في عشقه، رددت بلهجة يغمرها الدلال:
- يعني هتعمل إيه يا أستاذ شادي؟ أنا مغلطتش فيك، أنا بت مؤدبة وماشية في طوع ابويا اللي جاعدة في بيته، فيها حاجة دي؟
لم يرد على الفور، بل ظل على تواصله البصري معها عدة لحظات بملامح مبهمة، قبل أن يغلبه طبعه وابتسم ليردف متوعدًا:
- خليكي في طوع ابوكي اللي مطلع عيني ده، ومحرم عليا حتى القعدة معاكي، كلها تلت أسابيع، شايفة؟
رفع كف يده أمامها ليشير على الأصابع الأخيرة مرددًا:
- التلاتة دول بس يعدوا يا صبا، وانا هطلع عليكي انتي وابوكي القديم والجديد.
- خلاص على ما يعدوا يعدلها ربنا، عن إذنك.
قالتها وتحركت مغادرة على الفور، لتختفي كالزئبق في كل مرة يلتقي بها، زفر أنفاس خشنة وظلت ابصاره معلقة بأثرها، يضغط بأسنانه على شفته السفلى مغمغمًا:
- ماشي يا صبا، ماشي.
حينما التف نحو الأخرى وجدها ممسكة بالقلم صامتة، وقد بدا أنها كانت مندمجة في المشاهدة، امتدت ذراعه نحوها، ليفيقها بقوله:
- القلم يا مودة.
- ها
- بقولك القلم يا مودة.
- اَه اَه خد اهو.
تناوله منها، ثم أخرج ورقة نقدية أعلى من سعرها، وضعها أمامها، ثم غادر على الفور.
- طب استنى خد الباقي طيب .
حينما لم يتراجع أو يلتف، جعدتها لتضعها في جيب سترتها، وابتسامة غزت محياها تردد:
- الله يخرب عقلك يا صبا، جننتي الراجل.
عادت لترتيب المتبقي من بضائعها، تلقي بنظرة شاملة على مملكتها الصغيرة، بعد أن تمكنت اخيرًا من الحصول بمساعدة من صبا التي أصبحت شريكتها بالسر وشادي معها، بالإضافة إلى النقود التي تحصلت عليها من جدتها بمجهود مضني، ليصبح مشروعها الصغير، بداية لحياة جديدة لها، وقد وجدت أملها به، كل أشياء الفتيات بحوزتها، بالإضافة للعائد الجيد ليمكنها من حياة كريمة، والأهم من كل ذلك، أنها حلال .
❈-❈-❈
- مزعل عروستك ليه يا أمين؟
قالها حسن ويده على مقبض الباب الذي كان يغلقه، ليدلف إليه بداخل الغرفة التي اقتحمها دون استئذان:
التفت إليه الاَخر من أمام مراَته، يهتف بضيق:
- يا عم ما تزعل ولا تتلفق، هي حرة.
طقطق حسن بفمه، يصدر صوتًا مستنكرًا ليخاطبه بمهادنة:
- يا بني براحة بس، هو ايه اللي حاصل بالظبط لكل ده؟ انا شهد لما كلمتني، مفهمتش منها حاجة، وبصراحة الخناق في اليوم ده بالذات مينفعش.
أجفله بهتافه الساخط.
- لأ ينفع، مع المجنونة دي ينفع اوي، طب هي متوترة وبتخانق دبان وشها، انا ايه ذنبي؟ كل دقيقة إتصال،
الوو شوفت يا أمين اللي حصل مع البنت اللي بتظبط الفستان؟ شكلها مش هتلحق تظبطه، انا بقول نأجل الفرح أحسن يا أمين، الوو مبترودش ليه يا أمين؟
ضرب بكفيه أمام شقيقه الذي كان يضحك، غير قادرًا على التوقف، واستطرد بغيظه:
- حتى لما روحت أوصلها على صالون التجميل، اتخانقت مع الراجل اللي بيضرب ولد صغير في الشارع، وكانت عايزة تسلمه للبوليس، ولما اتدخلت معاها اكتشفت إنه ابوه، والولد نفسه اتخض لما سمع حكاية القسم، وبرضوا مش مقتنعة، فين على ما قعدت أحايلها عشان تسيبه، وبعد ما وصلتها ما ارتحتش ساعة، ولقيتها بتتصل بيا وتصرخ، الحقني يا أمين، اتاريها اتخانقت مع الست اللي سبغت شعرها بدرجة لون مش عاجبها، وخد عندك بقى، انا شعري باظ ومش هينفع اكمل الليلة، انا بقول نأجل يا امين.
من غير حلفان لو كانت قصادي، لكنت طبقت في زمارة رقبتها.
ضحك شقيقه حتى بانت نواجزه، فتناول ذراعه ليجلسه على التخت بجواره يخاطبه بلهجته الهادئة:
- طب صلي على النبي كدة واهدى، انت عارفاها أكتر مني، قلبها أبيض، بتقوم تقوم وتنزل على مفيش، دا غير انها متوترة زي انت ما قولت بنفسك، ودا حقها، عشان يعني ما كل حاجة تمت بسرعة، والخطوبة والجواز في شهر واحد، قدر دي يا عم.
طرد من صدره زفرة متعبة، ليفرك كفيه ببعضهما، ثم تمتم بتفهم:
- اللهم صلي عليك يا نبي، ما هو دا اللي مصبرني عليها، مجنونة وبتقلب في ثانية، دلوعة ولذيذة، وفي نفس الوقت حرشة وبتلسع.
اسهب في الوصف بعدم انتباه، وقد غفل عن الاَخر، والذي تبسم باتساع فمه، يستدرجه بمرح:
- حلو أوي ده، وايه تاني كمان؟
استدرك ليناظره بقرف مرددًا:
- هو إيه اللي حلو اوي، إمشي ياللا من جمبي، إمشي وروح اشغل نفسك بعروستك، مالك انت ومالنا يا بارد؟
❈-❈-❈
وفي صالون التجميل، كانت بحالة من البكاء الذي لا يتوقف، حتى بتوسلات المرأة مديرة المكان لها، كي تهدأ وتعمل على إصلاحه بلون آخر، على الرغم أنه نال استحسان الجميع، من عاملات او زبائن مثلها، وكلمات الثناء تنصب عليها وعلى العروسة الهادئة بجوارها كما تم تصنيف شهد اليوم، والتي لم تكف عن تهدئتها:
- اهدي يا لينا، ربنا يسعد قلبك، كل دا بكا؟ بتجيبي الدموع دي منين بس؟
بنهنهات عالية والمحارم الورقية التي كانت تمسح بها على وجهها، قد ملأت الأرضية أسفلها، ردت بصوت عاتب:
- هو السبب يا شهد، مش معبرني، وكأنه زهق مني، دا احنا لسة متجوزناش رسمي، أمال نبقى في بيت واحد هيعمل معايا ايه؟
ختمت بوصلة عالية جعلت شهد تضرب بكفها على ذراع المقعد الجلدي الذي تجلس عليه بتعب، لتعود إلى محدثها في الهاتف:
- أيوة يا حسن، لسة زعلانة ومش راضية تهدى....... إيه؟
خاطبتها تعيد ما أخبرها به:
- بيقولك افتحي الفون وشوفي الرسايل عليه.
سمعت منها لتستجيب لطلبها على مضص، ثم رفعت رأسها إليها بدهشة قائلة:
- إيه ده؟ دا أمين باعت صورتي ع الوتس وبيقول انه يجنن، صورتي باللون الجديد وصلتله ازاي؟
ردت شهد بانفعال:
- انا اللي صورتك يا لينا عشان اخد رأيه، واهو بيقول انه عاجبه، ردي بقى عليه دلوقتي، أكيد هو اللي بيرن عليكي.
قالتها وقد نبهها صوت الهاتف، فرددت الأخرى بزهول اكتنف ببهجة تخفيها:
- دا هو اللي بيرن بجد..... أنا هروح اكلمه جوا في غرفة اللبس براحتي.
اشارت لها بكفها لتخرج تنهيدة قوية، تغمرها الراحة، ثم عادت لزوجها:
- ايوة يا حبيبي، اهي قامت ترد عليه، عشان يصالحها براحته.
❈-❈-❈
وفي مكان اخر خارج مصر، وفور أن حطت طائرته العاجلة على أرض البلدة التي بها زوجته وأولاده، دلف داخل القصر المهيب بقلب وجل، أول ما التقاه بعينيه كانت هي وقد كانت تنتحب على أحد المقاعد في البهو الكبير، بجوار جدتها، تحتضن طفلها الأكبر إياد.
- ايه اللي حصل يا ميسون؟
قالها والقى التحية باللغة التركية نحو المرأة العجوز، قبل أن يتلقف صغيره الذي ركض إليه على الفور، ليرفعه على ذراعيه، ويضمه ويقبله.
هتفت به زوجته بانهيار:
- زياد يا عدي، زياد اتخطف يا عدي.
سهم بنظراته لها بعدم استيعاب، ليجد الصغير يؤكد له بقوله:
- بابا الناس اللي أخدوا زياد كانوا عايزين يا خدوني انا كمان، واحد فيهم قالي تعالى معايا هوصلك لباباك.
زاد اتساع عينيه وانظاره اتجهت نحو مجموعة الرجال الضخام في الجهة الأخرى، كانوا ملتفين حول جد ميسون في اجتماع لأمر جلل، فدارت رأسه باستدرك متأخر، وقد تنبه اَخيرًا للخطأ الذي تسبب به، بفضل رعونته وغروره
❈-❈-❈
في المساء
وبداخل القاعة التي امتلأت عن اَخرها بالمدعوين لهذا الحفل الصاخب، بزواج الشقيقين، على أجمل صديقيتن، شهد و لينا، وقد جمع بينهما القدر كما تمنوها بليلة ما في الطفولة، وكانت الصدفة أن تحققت بالفعل الاَن.
كل أسرة أو مجموعة ضمتها طاولة، والفرح إعتلى جميع الوجوده المحبة.
جاسر وطارق يقومان بمهامهم على أكمل وجه، كشقيقان للعروس لينا، شقيقات شهد الثلاث يملأن الأجواء حولهم حيوية وصخب، وقد تجمعت قلوبهم المتشتتة اخيرًا بامتنان نحو شقيقتهم الكبرى، أما صبا وعائلتها من رجال ونساء التفوا على طاولة واحدة يرأسها والدهم، مسعود أبو ليلة وزوجته، فكانت تقتنص النظرات بخبث نحو من احتل طاولة أخرى بالقرب منهما مع شقيقه الوحيدة، وقد أتى بدعوة مخصوص من المهندس حسن، يرمقها بغيظ في انتظار الاختلاء بها بعيدًا عن والدها، وكل دقيقة يرسل لها بأشارة الثلاثة أصابع كتهديد لها، لتتقبلها بالضحك غير ميالية، لتزيد من تصميمه.
❈-❈-❈
وعلى الطاولة التي جمعت عائلة الريان، كانت زهرة تزفر بسخط مدمدمة بلوم نحو عمها عامر والد زوجها وجد الأحفاد
- استغفر الله العظيم يارب، يارتني ما جبتهم، انت يا عمي اللي جبرتني، دول يباتوا في البيت من المغرب، ما يجوش افراح، ولا يخرجوا أساسًا.
قالتها بإشارة نحو التوأم المزعج، والذان لم يكفان عن المناوشات الخطرة كل دقيقة فيما بينهم، وهي كالعادة تحاول درء الشجار من أوله، إما بخطابهم بلين ورجاء، أو نظرة محذرة بالعقاب، ولكن لا فائدة.
تبسم لها الرجل كالعادة ليرد بهدوءه المعتاد:
- طب وانا مالي يا زهرة، انا يا حبيبتي لما صممت على مجية الولاد، كان قصدي على البرنس الكبير، مجد حبيب جدو، وأصغر نمرة قلب جدو دا كمان.
قالها وهو يهدهد ظافر الصغير.
افتر ثغرها بابتسامة صفراء تنقل انظارها بين الاثنان الذان أصبحا يتابعا الحديث دون فهم جيد، لتردد خلفه:
- يعني الكبير حبيب جدو، والصغير قلب جدوا، وجوز المصايب دول، ايه محلهم من الإعراب؟
تولت لمياء بالنيابة عنه الإجابة قائلة بلوم:
- اخص عليك يا عامر انت وزهرة، رامي ورنا دول حبايب تيتية من جوا، رامي اللي هيبقى بطل في الكارتيه، ورنا اللي هتبقى ملكة جمال، بس هما هيسمعوا الكلام ويبقوا شاطرين النهاردة، مش كدة يا ولاد؟
- صح يا تيتة.
قالها رامي بخشونة أكبر من سنه، وتلاعبت توأمته بقصة شعرها، وقد أعجبها الوصف، لتسألها بدلال:
- يعني انا حلوة يا تيتة؟
ردت متغزلة بها:
- يا قلبي انتي قمر، وطالعة شبهي كمان، بس خليكي أمورة زي البنات الحلوين، وسيبي الخناق للولاد الوحشين.
اومأت الصغيرة برأسها بابتسامة منتشية، وكأنها استجابت للنصيحة وظهرت عليها الطاعة، عقبت والدتها بتهكم:
- يا حبيبتي دي ما صدقت، طب يا ريت بس تحافظ على فستانها سليم النهاردة من أي خناق ولا بقع أكل.
ضحك ثلاثتهم، يتبادلون المزاح، حتى اقتربت أنيسة تصافحهم ومعها مجيدة التي جاءت ترحب بهم كذلك، بمودة صافية توزع الابتسامات على ثلاثتهم حتى تناولت الصغير تقبله، مخاطبة والدته:
- قمور ما شاء الله عليه، دا أصغر الأحفاد مش كدة؟
توجهت بالاَخيرة نحو عامر، والذي رد يجيبها بفخر:
- ايو طبعًا، والتوأم دول يبقوا إخواته، دا غير البطل الكبير كمان مجد أكبرهم، بس دا مشغول مع والده وعمو طارق في استقبال المدعوين، ما هي لينا دي تبقى بنتنا احنا كمان.
تبسمت مجيدة بمودة صافية للرجل، لتضيف على قوله أنيسة بزهو داخلها، وقد أسعدها ما تفوه به:
- طبعًا دا مفيهوش جدال، بنتكم زي ما هي بنتي.
تدخلت لميا أيضًا تشاركهم:
- ربنا يتمملها بخير يا أنيسة، وانتي يا ست مجيدة ربنا يفرحك بأحفادك قريب.
- يا ختي يسمع منك ربنا.
تمتمت بها الأخيرة بتمني، تدعو الله أن يكمل عليها فرحتها بمجموعة تملأ البيت صخبًا ومرح.
❈-❈-❈
في خارج القصر، تحديدًا في الحديقة الأمامية، وبعيدًا عن أنظار الجميع، يحاول مرارًا وتكرارا في الإتصال على مجموعة الحمقى التي اتفق بغباء معهم منذ فترة، للقيام بهذا الفعل، والذي لم يُقدر شناعته إلا الآن، بعد أن التمس نتائجه المزرية بنفسه، يشعر بأن قلبه يكاد أن يتوقف من الرعب لمصير طفله، فهذا الإختفاء الغريب، وعدم توصله إلى أي طرف منهم، حتى وبعد أن ذهب إلى مسكنهم في المنطقة الفقيرة ولم يجد أحد، زاد من إحساس الذنب لديه، وفزع شديد بداخله، خشية السيناريو الأسوء إن حدث، من أشخاص لا يعلمهم، ولا تربطه بهم سوى صلة المال، أي من الممكن استبداله ان وجدوا من يدفع أكثر، يا إلهي...... كيف غفل عن هذه النقطة.
- يارب أحفظلي ابني
تضرع بها داعيًا بخشوع إلى ربه، قبل أن يجفل على صوتها.
- عدي.
إلتف إليها، ليبصرها تتقدم بخطواتها المنهزمة أمامه، وجهها الشاحب، وشعرها المبعثر بعدم اهتمام، عينيها الذابلة من كثرة البكاء، منكسرة وهشة؛ لدرجة جعلته يشعر بقبضة قاسية تعتصر قلبه، كيف لهيئتها المزرية تلك إن تحرك الحمائية بداخله نحوها، يلعن غروره وعنجعيته المتوارثة، وقد كانت أهم أسباب فشله، حتى في زواجه بامرأة كانت تعجبه حقًا قبل ذلك، بل وكان يراها أميرة من قصص الخيال، قبل ان يتزوجها ويزهد فيها وكأنه انتهى منها، رغم وجود الأطفال بينهم.
- عايزة إيه يا ميسون؟
تفوه بالسؤال فور أن توقفت أمامه، رفعت رأسها المطرقة لتطالعه بحزن شديد وشفاه مرتعشة تخرج الكلمات منها بصعوبة:
- أنا عارفة إن عندك حق، لأني فعلًا زوجة متستحقش، كنت بتهمك بالأنانية، وانا نفسي مكنتش بعمل اللي يقربني منك.....
قطعت بشهقة بكاء كتمتها بقبضة يدها، فتدخل لإيقافها:
- مش وقته الكلام دا يا ميسون...
- لأ وقته.
قاطعته بحدة لتفصح عما يعتمل بصدرها الاَن:
- كان لازم اعرف ان العلاقة بين الراجل والست، لازم يبقى فيها تنازل من الطرفين، حتى لو الطرف الأول معملهاش، من الواجب ان التاني يجرب، انا ولا مرة جربت، كل مرة كنت بستناك انت اللي تيجي وتبادر، بإيدي خليت المسافة تكبر ما بينا، انا ست متستحقش.
خرجت الأخيرة ببحة مخنوقة جعلته يزرف دمعة من طرف عينيه، ليضمها إليه بوجع ينخر بين أضلعه مرددًا:
- لا يا ميسون متقوليش كدة، متقوليش كدة يا ميسون، انتي تستحقي واحد أحسن مني كمان.
نزعت رأسها لتنفي بها:
- لأ يا عدي انا عرفت نفسي، وعشان كدة بقولهالك اهو، موافقة ع الطلاق، وموافقة تاخد الأولاد مني، لأني استاهل كل اللي يجرالي.
جذبها بعنف ليهدر بها بصرامة:
- مفيش أولاد هيبعدوا عنك، هنلاقي زياد، والاتنين هيتربوا معايا ومعاكي.
قالها ليزيد من ضم رأسها على صدره، حتى بللت قميصه بدموعها، وقد كانت ترتجف بين يديه، وهو أيضًا معها حتى أجفل الاثنان على صوت صغير قريب منهما!
صرخت ميسون فور أن رأت طفلها يخترق الباب الخشبي الصغير للحديقة ويتقدم بخطواته نحوهما:
- مامي وبابي أنا جيت.
- زياااد.
ركضت لتعتصره بين ذراعيها تشدد عليه بلوعة أم كادت أن تفقد طفلها، فتوقف عدي يطالعه بعدم تصديق، ينتظر دوره في العناق والتقبيل، وتزامنًا مع ذلك تفاجأ بآخر شخص يتوقعه، يخترق الحديقة خلف طفله الذي كان يهمس لوالدته:
- عمو هو اللي جابني يا ماما.
- مصطفى.
دمدم بها نحو المذكور، والذي توقف يرمقه بنظرة مظلمة، وملامح مغلفة أنبأته بحقيقة ما توصل إليه شقيقه.
يتبع في الجزء التاني من الخاتمة
ياريت بقى تعليق يبين حبكم لرواية
الخاتمة الجزء التاني
بداخل الحديقة، وبعد مغادرة الجميع، وقف الشقيقان في مواجهة غير محسوبة من جهة الطرف الثاني وهو عدي، فلم يكن يتصور في أقصى خيالاته أن يصل الأمر إلى شقيقه الأكبر؛ فيتصرف بحنكته المعتادة ويأتي هو بالطفل، بنجاح يلازمه كالعادة، وهو الحامي والمسيطر، رافع رأس العائلة بنزاهته وعقليته الفريدة في التفكير السليم، عكسه هو في كل شيء، فاشل حتى في تدبير الخطط!
- مش ناوي تسألني، جيبت الولد ازاي؟
كان السؤال كفخ شعر به عدي، أو بالأصح، هو بداية لجره نحو الحديث المتوقع، ولكنه تجاهل يدعي عدم الفهم بقوله:
- وهسألك ليه تاني؟ ما انت جيبت الفايدة لما شرحت من شوية لميسون عن علاقاتك المتشعبة في البلد واللي مكنتك من معرفة مكان الولد في اسرع وقت، بجد انا مش عارف اشكرك إزاي؟
جمود جسده والتعابير المنغلفة على ملامحه، لم تتغير ولو حتى بشبه ابتسامة ساخرة، بل كان يطالعه بهدوء ما يسبق العاصفة، حتى تكلم اَخيرًا:
- بتلف وتدور معايا في الكلام معايا يا عدي، حتى وانت عارف إني وصلت للحقيقية بنفسي، يعني مش محتاج تأكيد منك ولا سؤال.
علم عدي أنه لا مناص من التهرب والإنكار، طالما شقيقه يحدثه بهذا الهدوء الخطر، وجميع الطرق سوف تذهب به لنفس النتيجة، فخرج سؤاله بفضول ملح:
- طب مدام كدة يبقى تقولي انت عرفت ازاي؟ ما هو مش معقول يعني في ظرف ساعات قليلة تنزل من مصر وتيجي بالولد على هنا، وكأنه كان مستنيك في المطار.
رمقه مصطفى بتعجب قبل أن يفتر فاهه بابتسامة جانبية ساخرة لم تصل لعينيه قائلُا:
- مشكلتك يا عدي انك دايمًا بتاخد بالظاهر زي الست والدتنا بالظبط، ما بتركزش في بواطن الأمور، ولا في تحليل الشخصية اللي بتكلمك، يعني أنا مثلًا لما اقولك بإني عرفت بموضوع الولد منك انت شخصيًا مش هتصدني، لأنك متأكد انك ما اعترفتش بحاجة قدامي، وهو دا فعلا اللي حصل، لكنك ناسي اني فاهمك وحافظ أكتر من خطوط إيدي، يعني عارف بطريقة تفكيرك،
توقف برهة يراقب تعقد ملامح الاَخر، وهذا الصمت منه دون أي إعتراض أو مجادلة على غير عادته، وكأنه متقبل تقريعه، فتابع:
- كان ممكن اقدر موقفك، رغم اعتراضي على الطريقة الكارثية، بس دا لو كنت هتحافظ عليهم وتعوضهم عن افتقاد والدتهم، مش تتجوز وتعيش حياتك وتدمرهم.
زفر عدي يخرج دفعة من الهواء المشحون بإحباطه، ورد مصححًا:
- معدتش في جواز خلاص يا مصطفى، دي كانت فكرة وراحت لحالها، أهم شيء عندي دلوقتي هو الأولاد
- مش فاهم، يعني خلاص قررت تسيبهم لميسون؟
سأله بتوجس، رغم ارتيابه لهذه النبرة المنهزمة، وأتت الإجابة تزيد من حيرته:
- لا يا مصطفى، مش هسيبهم ولا هسيب مراتي، طمن قلبك.
تحرك بخطوتين ليقف بجوار إحدى أشجار الحديقة، يضع كفه على جزعها، ليردف بتنهيدة خرجت من العمق:
- أنا خلاص عرفت نصيبي، وحمد لله نصيبي مش وحش للدرجة اللي تخليني اهرب ولا اصر على الفراق، أينعم انا كان نفسي في الحب..... أعيش المشاعر اللي كنت بشوفها دايمًا في عنيك انت ومراتك...... بس خلاص بقى.
وضحت الرؤيا جلية امامه الاَن، ليستنبط بعقله الراجح؛ أن شقيقه بدأ يستفيق من غفوته، فرد بنبرة تجلى فيها الحنان الأخوي:
- إنت قولت ان نصيبك مش وحش، وانا شايف إن دي كلمة قليلة عليه، لإنك في نعمة يا عدي، مراتك وولادك من أروع ما يكون، ولو ع المشاعر اللي نوهت عنها، فدي تقدر تخلقها مع ميسون بكل سهولة، خصوصًا وانا عارف كويس انها بتحبك، يعني في انتظار إشارة بس منك ، وتلاقيها فكت جمودها، بل وسلمت كل حصونها ليك، ولو بتثق في رأيي، فدا شيء انا متأكد منه.
لاح على وجه الاَخر الإقتناع، ولكنه ظل صامتًا، ليرتب الأفكار برأسه جيدًا هذه المرة، كي يصلح ما فات بنهجه الجديد، ناسيًا عنجهيته القديمة وتعاليه حتى على اقرب الأشخاص إليه.
أما مصطفى وبعد أن اطمئن لجانب شقيقه، استل هاتفه من جيبه، ليتصل بالقطعة الغالية من قلبه، حبيته وزوجته:
- الوو يا مصطفى، انت اخيرًا اتصلت؟
هتفت بها عبر الاثير بنبرة أجفلته، ليجيبها على الفور بتبرير:
- ايوة يا حبيبة قلبي ما انتي عارفة اللي حصل، وع العموم اسف لو اتأخرت باتصالي عليكي، المهم بقى انتي عاملة ايه؟
ردت بصيحة أعلى من سابقتها، وكأن الامر جلل:
- انا محتاجكاك بسرعة يا مصطفى، عايزاك دلوقتي حالًا تبقى معايا، أشتاقتلك وعايزة احضنك اووي،
❈-❈-❈
وعودة إلى الوطن
وبالتحديد داخل القاعة مع أجواء حفل الزفاف، وهذه الأغنية الرومانسية، التي كانت تصدح بقلبها، وزوج العروسان يتراقصان عليها
ادي اللي في بالي بالملي
قمر ومن السما نزل لي
دي بِاسم الله ما شاء الله تشوفها تسمي وتصلي
ما دي اللي في بالي بالملي
قمر ومن السما نزلي
دي بِاسم الله ما شاء الله تشوفها تسمي وتصلي
عشان اوصفها مالهاش حل
كلام اغانيا كله اقل
دي خير في حياتي جاني وهل ومن حظي انه متشالي
عشان اوصفها مالهاش حل
كلام اغانيا كله اقل
دي خير في حياتي جاني وهل ومن حظي انه متشالي
المهندس حسن، وشهد العسل عروسه.
تتمايل برقة استعادتها على يده، وأناقة لم تغب عنها حتى وهي بملابس الرجال التي كانت تخفي بها أنوثتها، كي لا تكن مطمع لأي كان، أما اليوم فقد كانت ترتدي فستانها الأبيض، بهيئة ملوكية تليق بها، حيث كان ضيقًا حتى الخصر، ثم يتسع بعد ذلك بعد ذلك بطبقاته العديدة من الشيفون، والدانتيل المزين بالنقوش الدقيقة، وزينة الوجه الرقيقة كطبيعتها التي كانت تدفنها سابقًا، بين يدي حبيبها والذي لا يمل من تأملها، حتى والعيون منصبة نحوهم، يجعلها تخجل مهما حاولت الإنكار:
- بتبصي على إيه؟ ركزي معايا.
قالها بهمسة محذرًا حينما التفت نحو شقيقاتها تبادلهم الابتسامة حينما لوحوا لها بطريقة كوميدية، لتعود إليه
مرددة باضطراب:
- اركز فين تاني يا حسن؟ إنت مزهقتش تركيز؟.
ضحك ينفي بهز رأسه:
- لا طبعًا، هو انتي لسة شوفتي زهقان؟ دا احنا لسة مدخلناش في الجد، أمال لما ندخل بجد بقى، هيحصل أيه؟
قال الاَخيرة بنبرة موحية جعلتها تستدرك على الفور، لتنهيه:
- خلي بالك يا حسن، الناس مفتحة عيونها أوي معانا، بتلقط كل إشارة، يعني اظبط كدة.
ضحك بملأ فمه، ليزيد بتصميم:
- لا ما انا مبيهمنيش، أصلي قلعت برقع الحيا من زمان، وامي واخويا عارفين عني أوي الحكاية دي، ناقص بس انتي تعرفي، وهعرفك؟
ختم جملته بغمزة بطرف عيناه فاجأتها، لتكتم شهقة الأجفال، مع ضحكة لم تقوى على كتمها، مرددة بيأس:
- أنت مفيش فايدة منك يا حسن، ناوي تفضحنا.
شاركها الضحك يومئ رأسه يؤكد تخمينها
❈-❈-❈
وبالجوار كان الزوج الاَخر،
الضابط أمين ، وعروسه لينا، والتي كانت اية من الجمال هي الأخرى، بفستان لا يفرق عن ما ترتديه شهد سوى أنه كان عاري الذراعين وجزء مكشوف في الأمام مما جعل هذا الأمر سببًا في عدد من المشاجرات والمناوشات بينها وبينه، فقد كان على حافة الأنفجار، يكبح شياطين غضبه بصعوبة في عدم الفتك بها أمام الجميع، وكان هذا ما يظهر جليًا في لمساته والكلمات الموجهة إليها:
- اَه، ما براحة يا أمين، إيدك ضاغطة أوي على ضهري.
بأعين يكسوها الإحمرار المخيف، وغضب يقطر مع كل كلمة يردف بها، همس مهددًا بوعيد:
- احمدي ربنا انها ضاغطة بس، يعني ما ترفعتش ونزلت على وشك بقلم، ولا طيرت صف سنانك بلوكامية.
- يا عم بقى، هي توصل لدرجادي يعني؟
قالتها ببعض العشم متغاضية عن تهديداته الصريحة، ولكنه عاد مؤكدًا دون تراجع:
- اه لدرجادي وأكتر كمان، تحبي تجربي لينا؟
أخفت بصعوبة ابتسامتها، فبرغم طبيعتها الحادة دائمًا في الشجار معه، إلا أنها هذا اليوم كانت متفاهمة بعض الشيء، لانفعاله المبالغ فيه منذ أن رأها، بصالون التجميل، حينما دخل ليأخذها منه، فهذا الفستان الذي غيرته في اَخر لحظة بالأمس، لم يتسنى له رؤيته على الإطلاق سوى عليها اليوم، وقد كانت مفاجأة له بكل ما تحمل الكلمة، حتى انها خشيت من أن يقتلها بحق أمام مديرة المكان التي جاهدت مع شقيقه وشهد في فض الإشتباك، والذي انتهى بعد مدة من الوقت والمحايلة للتقبل حتى وافق على تكملة اليوم بشرط تغطية المكشوف، تصرفت المرأة بذكائها لتغطي على الذراعين بكومين من الشيفون، ولكن تبقى الجزء الذي في الأمام والذي لم يجدا له حالاً على الأطلاق، حتى وافق به على مضض، مع تهديد ووعيد طوال الوقت.
ردت بلهجة يشوبها الدلال:
- لا يا سيدي مش عايزة اجرب، مدام انت صعب أوي كدة، كل ده ومكفكش؟
وكأن بكلماتها تصب بالوقود لتزيد من اشتعاله، احمرت عينيه يدفعها بغلظة نحو صدره يهدر بصوت خفيض كازًا على أسنانه:
- بلاش تختبري صبري أكتر من كدة، انا على اَخري، سبيني ماسك نفسي بالعافية دلوقتي.
دب الخوف بداخلها من هيئته ولكن طبيعتها العنيدة لم تثنيها عن المواصلة بعتاب:
- ما انت لو كنت فضيت نفسك شوية معايا امبارح، أو حتى بصيت ع الصور اللي كنت ببعتهم عشان تختار منهم، كنت نقيت على كيفك كمان، بدل ما تتفاجئ بزوقي.
هم أن يزيد بانفعاله، ولكنه انتبه على صياح الجميع مع حمل شقيقه لشهد ليدور بها مع قرب انتهاء الأغنية، وجاء صوت لينا معقبة:
- دا بيشلها وبيلف.......
قطعت بشهقة مجفلة فور أن شعرت بنفسها هي الأخرى وكأنها تطير، وقد ارتفعت قدميها عن الأرض، بعد ان باغتها هو الاَخر وحملها بذراع واحدة، ليدور بها مثل شقيقه، وسط الصياح والصفير وزغاريد النساء حولهم، لفت ذراعيه حول عنقه بابتسامة ساحرة تهديها له، وكأنها ميثاق تصالح، كي يرضى عنها، اهتز قلبه لها، رغم الجمود الذي يدعيه، فعقله الخبيث ما زال متمسك بالانتقام، ولكن بعد انتهاء الحفل.
❈-❈-❈
مشهدهم ابهج الجميع وأثر بهم، خاصة تلك التي كانت تتابع بحالمية هي الأخرى وأنظارها معلقة بمن كان يناظرها في الجهة المقابلة لها، وعيونه منصبة عليها من جهته، قبل أن تنتهي الفقرة، ف يلوح لها بيده كي تترك مقعدها وتأتي خلفه، مستغلًا انشغال والدها مع ضيوف الحفل، وابتعاده بمسافة كافية.
اذعنت مستأذنة من والدتها، بحجة الذهاب إلى المرحاض، ثم تسحبت تتبع أثره حتى انتهى بها المطاف بأن وجدت نفسها بالحديقة الخلفية للقاعة، تطلعت في الظلام تهتف منادية بإسمه، بعد أن اختفى عن عينيها:
- شادي يا شادي .
ظهر فجأة من خلف العمود القريب، ليصبح أمامها على الفور، فلا يفرق عنها سوى سنتميترات قليلة، طوله المهيب وحضوره الطاغي يبعث بقلبها ذبذبات لذيذة من الخوف والترقب، وقد بدا أنه على حافة الأنفجار:
- إيه بتبصلي كدة ليه؟
تفوهت بها وهي ترتد بأقدامها للخلف، وهو على نفس خطواتها محتفظًا بالقرب المهلك، ليردف بتسلي اختلط بغيظه:
- تفتكري هعمل فيكي إيه؟ وانا جايبك من القاعة على المكان الضلمة هنا؟
توسعت عينيها الجميلة لتردف بدراما:
- يا نهار أبيض، لتكون هتموتني يا شادي؟
اومأ برأسه، وابتسامة ارتسمت على ملامحه الخشنة، فجعلته أوسم الرجال بعينيها، ليستمر تراجعها مع خطواته في القرب منها حتى اصطدم ظهرها بالجدار خلفها، فاستند بذراعه عليه ليكمل حصارها،
ودنى برأسه ليقارب مستوى طولها، فيسألها اخيرًا:
- إيه؟ خايفة يا صبا؟
بأعين إلتمع فيها الشغف، ردت بثقة ودون تردد:
- عمري..... عمري ما اخاف منك يا شادي.
ضحك بدون صوت، قبل ان يعود لانفعاله ضاربها بكفه على الجدار بجوارها قائلًا:
- حتى وانا عايز اخنقــ ك بإيدي دلوقتي ع العمايل اللي بتعمليها فيا يا صبا انتي وابوكي؟
ضحكت تزيد من حنقه مرددة:
- طب وانا عملت ايه طيب...
قاطعها يقبض على كفها التي كانت تلوح بها أمامه:
- متقوليهاش الجملة دي قدامي تاني، سامعة؟ عشان دي أكتر جملة بقيت اسمعها منك، إنتي عايزة تشليني صح؟
- يدي يا شادي.
قالتها ليستدرك بضغطه على كفها التي احتجزت بيده الضخمة، تطلع بها، ثم رفع ابصاره نحوها، قائلًا بانتشاء:
- ومالها إيدك بقى؟ مش انا جوزك برضوا ويحقلي ان
امسكها واقرب كمان لو حبيت...
- أها.
خرجت منها لتتابع بلهجة ماكرة:
- يبجى الحج ابو ليلة بجى معاه حج؟
وكأنها تعزف على أوتار نبضات قلبه التي تصرخ بمحبتها، يتقبل منها كل شيء حتى وهي تتعمد إغاظته، بألعابها المستمرة، وكأنها طفلة في ثوب امرأة كاملة الأنوثة.
زاد بضغطه يكبح ابتسامة ملحة تجاهد للظهور، وردد بتوعد:
- العبي وهيصي على كيفك يا صبا، بس خلى ابو ليلة بقى ينفعك لما تبقي تحت إيدي وفي بيتي.
همت لتنزع يدها عنه، ولكنه لم يسمح فقالت بتحذير:
- خلي بالك، لو حد طب فوج راسنا دلوك هتبقى وجعة، وابويا ما هيصدج، عشان تبجي تتوعدلي بجى براحتك بعد كدة.
ظل صامتًا، يأسره السحر بعينيها الجميلة، وقد ساهمت الإضاءة الخفيفية، لإضافة مزيدًا من الهالة العجيبة
حولها، حتى خرج صوته بتأثر:
- أنتي طلعتيلي منين يا صبا؟
توقف برهة ثم اردف:
- قلبتي حالي وزرعتي في قلبي الحب اللي بيتقال عنه في الحواديت، وانا اللي طول عمري بقول عنه كلام فارغ ويصلح بس للرويات.
لم ترد ببنت شفاه وقد جذبها الصدق في عينيه، لتظل صامتة تبتغي المزيد، مزيدًا من عشقه الذي يعيد تشكيلها من جديد، فإن كان هو يتعجب من حالته نحوها، فهي الأخرى متفاجأة من حجم المشاعر التي تكتشفها يوميًا في التعلق به.
❈-❈-❈
وفي خارج القاعة حيث التقت أمنية بمساعد شقيقتها سابقًا ويدها اليمني هي حاليًا، عبد الرحيم، بعد أن اخبرها عن أمر ما في العمل، يجب الأسراع في البت فيه، القت عليه ببعض التعليمات كي ينفذها صباحًا، قبل أن يتركها عائدًا إلى منزله، وتعود هي إلى حفلها.
كانت تسير شاردة، وقد أصابها ما كان يحدث مع شقيقتها الكبرى، تفكير وقلق، مع كل بداية عمل تتولى أمره، وقد أصبحت الاَن هي المسؤلة الوحيدة حتى عودة شهد.
- حاسبي يا اَنسة.
صدرت من أحد الأشخاص، فقد كانت على وشك الاصطدام به، استدركت لتتراجع على الفور مرددة باعتذار:
- معلش معلش انا اسفة مخدتش بالي والله.
ردد خلفها مصححًا بجرأءة ينتقدها:
- لا انتي كنتي سرحانة، مش موضوع مخدتيش بالك
لم يعجبها قوله، فانتصبت بوقفتها رافعة حاجبها، تردف بشراسة:
- سرحانة ولا مش سرحانة، انتي مالك؟ ما انا اعتذرت وفضيناها على كدة.
لم يأبه لفظاظتها، بل فاجئها بأن اقترب برأسه نحوها، مضيقًا عينيه بتركيز يسألها:
- هو انا ليه حاسس اني شوفتك قبل كدة؟ هو انتي جيتي عندنا القسم من قريب.
تفاجأت حتى ارتدت رأسها للخلف تبتلع ريقها بحرج قائلة:
- قسم مين؟ وانت ايه دخلك بالاقسام اساسًا؟
ذاكرته القوية تنشطت حتى علم بهويتها ليجيب عن سؤالها بتركيز شديد، غير منتبهًا للإصفرار الذي غزا ملامحها، مع انسحاب الدماء من وجهها، وذلك بنبش هذا الغريب وتذكيره لها، بهذا الأمر المخجل:
- انا النقيب عصام، بس مش انتي برضوا البنت اللي فتحت دماغ خطيبها اللي حاول يتهجم على اختها.
ارتفعت وتيرة أنفاسها، وقد بلغ الحنق بداخلها آخره، فقالت بلهجة معتزة رغم الألم الذي كان ينخر بعظامها، في عودتها لماضي تكرهه، وتتمنى طمسه من تاريخها لتنسى معه هذه الحقبة من الحمق والغباء وغياب العقل:
- ايوة انا اللي فتحت دماغ خطيبي، وعندي استعداد اعملها مية مرة تانية، لو حد حاول يتحرش بيا بكلمة واحدة حتى، انا او أي حد يخصني، عن إذنك بقى.
قالتها وتحركت تتخطاه ذاهبة بعدم انتظار، غافلة عنه، وقد توقف محله يطالع انصرافها بإعجاب شديد، فهي لا تعلم انه كان متابعًا للقضية، بحكم صداقته لأمين وذلك لأن الأمر يخص زوجة شقيقه، رأها مرة أو مرتين أثناء التحقيقات وكانت في حالة مزرية، ليست هي من يراها الاَن على الإطلاق، معتزة بنفسها، ورأسها مرفوعة رغم خجلها من عمل يشرف أعظم العائلات، وفوق كل هذا جميلة بحق.
❈-❈-❈
- اخيرًا جيتي يا كاميليا؟
هتفت بها زهرة فور اقتربت منها الاخيرة لتجلس بجوارها وتأخذ مكانها حول طاولة العائلة، اشارت لها بالأنتظار قليلًا حتى تلتقط أنفاسها، فقد كانت تلهث بتعب اصار القلق بقلب لمياء لتسألها:
- حبيبتي ليه كدة؟ هو انتي كنتي بتجري ولا ايه؟
نفت برأسها وتولت زهرة مهمة الرد عنها:
- لا طنت مش جري، بس هي الحمل بتاعها صعب المرة دي، وأي مجهود بيأثر عليها.
- يا قلبي، ربنا يعينك ويكمل حملك على خير، دا انا فرحت قوي لما قالي طارق.
قالتها لمياء بتأثر، فتدخل زوجها يقول بمرح:
- أيوة يا بت يا كاميليا، شدي حيلك بقى وهاتلنا قمورة لظافر كمان، عشان مجد واخوه يبقوا عدايل.
قالها عامر وانطلقت ضحكات الجميع حتى أتى على أثرها جاسر وطارق الذي التصق بزوجته ليعلق سائلًا:
- إيه يا جماعة؟ ما تضحكونا معاكم.
اجابته زهرة تنقل انظارها منه وإلى جاسر:
- أصل انكل عامر بيحجز من دلوقتي، عايز مراتك تجيب بنت تانية لظافر، بعد ما خلاص ضمن مجد لفريدة.
سمع زوجها ليضرب كفًا بالاَخر معلقًا بدهشة:
- انتي كمان يا زهرة بتقولي ضمن؟ في إيه يا جدعان؟ دا العيال لسة مكبروش، ولا يفهموا أي يا حاجة من الكلام ده.
رد عامر بتصميم مخلافًا له:
- وانت مالك انت؟ كبروا ولا مكبروش انا قررت وخلاص، ولا انت عندك اعتراض يا سي طارق انت كمان؟
نفى الاَخير بهز رأسه:
- لا يا عم وانا اقدر، خد البت واللي جاي في السكة كمان، ان كان ولد ولا بنت حتى، انت تؤمر يا باشا.
- أيوة كدة.
قالها عامر، لتضج الطاولة بضحكاتهم، حتى زوج الأطفال ، مجد الذي كان واقفًا برزانة كعادته، وفريدة التي كانت تضحك بخجل وكأنها تعي المقصود من الكلمات
❈-❈-❈
بطاولة بعيدة شيئًا ما على الحفل الصاخب، والأصوات القوية للسماعات، حيث كانت تتابع الأجواء الرائعة بابتسامة تزين محياها، بجوار زوجها الذي كان جالسًا على مضض، يحصي الدقائق والثواني حتى تكمل ساعة، ثم يذهب بها مغادرًا كما اشترط عليها مقدمًا،
عقبت بحالمية تلفت انتباهه:
- الله يا كارم، شكلهم يجنن وهما بيروقصوا مع بعض، وولاد عمك دول طلع زوقهم يجنن، البنات قمامير
ناظرها من طرف عينيه بامتعاض، وظل على حاله من الصمت، فاستطردت هي:
- ولا كاميليا، اللي يشوفها يقول اخت العروسة، واقفة مع لينا هي وطارق، ولا اكنهم أهلها بجد، ولا العروسة التانية مرات المهندس اخوه، بصراحة الفرح كله يجنن يا كارم.
التف إليها وقد فاض به، ليهمس بضيق لا يقوى على إخفاءه:
- في إيه يا ستي؟ عمالة توصفي وتشعري ولا اكنك حضرتي افراح، يجي إيه ده في فرحنا، اللي مصر كلها تشهد بيه.
ذهب عنها العبث، وطغى ملامحها شيء من حزن دفين داخلها، حتى ظهر في ردها له:
- انا مش بتكلم على قيمة في الفرح والا اللي اتصرف فيه، انا بتكلم على العفوية، الفرحة اللي طالعة من القلب وبتظهر على الوشوش، إحنا فرحنا كان اسطوري يا كارم، وانت مقصرتش معايا في أي حاجة ربنا يخليك، بس انا كان ناقصني أوي الحتة دي
وصله مقصدها الصريح، وعلى الرغم من تأثره بوجهة نظرها، إلا أنه رد بفظاظة باختلاف تام عما يدور بداخله من شفقة نحوها:
- مفيش حد بياخد كل حاجة يارب، وعمر السعادة ما كانت كاملة مع أي بني أدم، ولا انتي كمان مش شايفة نفسك سعيدة؟
شعرت بغيرة مستترة خلف غلظة كلماته، فلطفت قائلة بابتسامة عذبة تعلم جيدًا بتأثيرها عليه:
- وهو دا سؤال برضوا يا روح قلبي، دا انت فرحت عمري كله، مش سبب سعادتي وبس.
ارتخت عضلات وجهه المتقلصة، وتحرك جفنيه بحركة بسيطة جعلتها تدرك حجم اضطرابه، على عكس فعله، حينما اظهر تجاهلا ليلتف نحو متابعة الحفل، دون الرد بكلمة، وزادت هي من سحرها، بأن أطبقت بكفيها على ذراعه المستند أعلى الطاولة، لتريح برأسها عليه، وكي تذكره باحتياجها الدائم إليه.
رق قلبه لفعلتها، ودنى بوجهه طابعًا قبلة خفيفة على أعلى رأسها، قابلتها بابتسامة، قبل أن تنتبه لزوج السيدات الاتي يقتربن مع والدة زوجها:
- مين دول يا كارم؟
سألته فانتصبت راسهِ يجيبها بهمس حذر:
- دي الست مجيدة والدة العرسان والتانية باينها والدة لينا عروسة أمين.
اعتدلت بجذعها وشعور بالحرج ظل يكتنفها لا تعلم سببه، ولكن سرعان ما تبدد كل ذلك مع اقتراب مجيدة ترحب بود وابتسامة عذبة بها وبكارم:
- حمد الله على سلامتك يا حبيبتي، اقسم بالله لو اعرف كنت جيتلك لحد عندك.
- الله يسلمك يا طنت، كأني جيتي والله.
خرجت منها باضطراب واضح لسماحة المرأة الغير عاديه، فتكلف زوجها بالرد أيضًا:
- كأنك جيتي يا طنت مجيدة، دا انتي أم الأصول.
اضافت والدته هي الأخرى:
- انا قولت كدة من الأول، بس هي بقى اللي محبكاها، يا ست خليكي في فرحك.
خرجت الأخيرة في مخاطبة لمجيدة التي تبادلت معها الرد بمزاح كعادتها، قبل أن تنصرف مع رفيقتها أنيسة والتي لم تقوي على كبت السؤال الملح برأسها:
- هي مرات كارم دي ممثلة مشهورة ولا حاجة؟ اصلي حاسة اني شوفتها قبل كدة، بس مش عارفة فين؟
بابتسامة صافية، مشبعة برضا يغمر قلبها، وقد اكرمها ربها بالعوض الحقيقي لأبناءها، ردت مجيدة:
- اه يا أنيسة هي فعلا مشهورة، واتجوزت كارم عشان هو نصيبها اللي مكتوب لها، بالظبط زي ولادنا كدة.
توجهت بالأخير نحو المنصة الجالس عليها ابناءها وزوجاتهم، لتخرج بتنهيدة ارتياح خرجت من العمق وهي تتأملهم:
- الحمد لله.
❈-❈-❈
عادت أمنية لتجلس على طاولتها بجوار شقيقتها الكبرى فريال والتي كانت تلاعب طفلها مع متابعة أجواء الحفل، ووالدتها التي علقت بتهكم:
- اخيرًا يا اختي جيتي تريحي رجلك، ما تكملي لحد الصبح أحسن، ما انتي اتعديتي من الهبلة الصغيرة.
مالت أمنية برأسها تتأملها بدهشة افقدتها النطق، فتكفلت شقيقتها بالرد:
- وماله يا ماما لما ترقص للصبح، مش فرح اختها الكبيرة.
التوى ثغر نرجس بعدم تقبل والتفت تشيح بوجهها للناحية الأخرى، فخرج صوت أمنية:
- سبيها يا فريال، أصلها زعلانة على اختها اللي بتقطمها كل ما تشوفها، صعبان عليها يدخل قلوبنا الفرح، ولا اكن الراجل اللي مات ده مكانش جوزها، لما قتله المحروس ويتم بناتها.
بوجه مكفهر التفت لها نرجس تردف الكلمات من تحت أسنانها:
- عيب عليكي يا أمنية الكلام، انا بتكلم على منظرك قدام الناس، ثم كمان ابن اختي بيأكد انه معملش حاجة، دي اختك هي اللي بتفتري عليه....
تدلى فك أمنية بذهول شديد، تتبادل النظرات المصعوقة لبلاهة والدتها، أم هو الحقد الذي يعمي القلوب، فيحجب عنها روية الحقيقة، ولكن في كل الحالات، تجنبها هو الأفيد.
انتفضت فجأة تترك مقعدها مخاطبة شقيقتها:
- بقولك ايه يا فريال، انا رايحة اكمل رقص، لو قعدت اكتر من كدة هيجرالي حاجة، عن اذنك يا أختي.
تبسمت لها الاخيرة بتشجيع، غير عابئة باحتجاج والدتها، والذي كان بمصمصة شفتيها مغمغمة:
- ارقصي يا اختي على خيبتك، اهي ضيعت ابن خالتك منك، وسابتك في الهم والشغل عشان هي تتهنى، يا عالم بقى مين هيرضى بيكي؟
أما أمنية فقد اندمجت مع الفتيات في الرقص الرزين بهز الذراعين مع شهد ورؤى، وحتى لينا، غافلة عمن حدد هدفه بمتابعتها من وقت ان اصطدم بها في بداية اليلة، حتى انه لمح لصديقه العريس من أجل أن يمهد له الطريق في الارتباط بها، فور عودته من رحلة العسل.
❈-❈-❈
انتهى الحفل وعاد كل فرد إلى مؤاه، صبا التي أكملت ليلتها بالحديث على الهاتف مع حبيب قلبها، ليسمعها من كلمات الغزل الجميل وذكر ما تم في حفل اليوم، لمناقشة الترتيبات لحفلهم الذي اقترب ميعاده، وهذه التفاصيل الجميلة التي تعشقها الفتيات.
- شوفت لما حسن وأمين شالوا العرايس وجعدوا يلفوا بيهم.
جاءها صوت بضحكة ماكرة ليسألها:
- وانتي بقى عايزاني اشيلك يا صبا، مش خايفة ابوكي يطخك بالبندجة.
بادلته الضحكة ولم ترد، ما بين اعتراض وأمنية ترادوها صمتت تاركة أمرها له، فجاء رده يفاجئها:
- طب والله ليحصل يا صبا.
- هو اللي يحصل؟
سألته بعدم فهم، فضحك يردد بسعادة مراهق في بداية شبابه:
- هيحصل اللي في بالك يا صبا ومكسوفة تطلبيه، لكن والله انا ما هتكسف، بس يجي يومنا وانتي تشوفي، بس ادعي ربنا مقعش بيكي.
- ايه؟
صدرت منها عالية وقد اثارها الحماس بقوله، ف استعادت رشدها سريعًا لتتابع بصوت خفيض:
- انت بتجول إيه يا عم انت؟
ضحك ليكمل حديثه الممتع معها، برسم الأحلام والمشاكسة والمشاجرة احيانًا، في تدريب يومي، حتى بجمعهم بيت واحد
❈-❈-❈
في اليوم التالي صباحًا
دلف لداخل جناحه معها بعد استقلاله أول طائرة عائدة للوطن، وعلى عكس ما توقع وجدها مستيقظة في هذا الوقت المبكر، وكأنها لم تنم ليلتها من الأساس،
- نور .
سمعت بإسمها منه، ف التفت بلهفة تترك الشرفة، راكضة نحوه، فتلقفتها ذراعيه يرفعها عن الأرض بضمة قوية، وكأن الغياب مر عليه سنوات، وليس يوم واحد بليلته.
غاصت في عناقه ببكاءه حارق أجفله ترتجف بين ذراعيه، حتى أثارت بقلبه الجزع، ف استل نفسه عنها بصعوبه ليكوب وجهها بين يديه مرددًا وهو يتأملها بمزيد من الخوف:
- مالك؟ ليه العياط دا كله؟ حصل حاجة في غيابي؟
نفت تهز رأسها دون صوت، فتابع بأسئلته يستكشف الأمر المريب
- مفيش، طيب ماما تعبت معاكي ولا جرالها حاجة؟
فعلت نفس الأمر، ونهنات بكاءها ازداد علوها، حتى صرخ بعدم احتمال:
- أنا قلبي وقع في رجلي يا نور، جيبي من الاخر الله يخليكي.
سمعت وحاولت التماسك لتتحرك من أمامه حتى تناولت ملف طبي من أعلى الكمود، لتضعه أمامه، تناوله بحركة سريعة، يلقي نظرة استكشاف لمحتواه، حتى ارتفعت رأسهِ إليها يردد بعدم فهم، أو بالأصح يخشى التصديق:
- يعني ايه؟ فهميني.
من بين بكاءها الحارق كانت تخرج الكلمات بابتسامة غريبة:
- اللي فهمته صح يا مصطفى.... دا تحليل الدم اللي بيقول..... إني حامل.
تجمد يطالعها ساكنًا بأعين توسعت بشدة، فعادت هي للبكاء تومئ برأسها مؤكدة:
- والله زي ما بقولك يا حبيبي، انا حاسة من فترة بس كنت بكدب نفسي، الدكتورة شافت التحليل وهي كمان مكانتش الفرحة سايعاها انا.......
قطع استرساله بأن خطفها ليسحقها بين ذراعيه، وصوته يتردد ببحة ترافقها دمعة ساخنة سقطت على أطراف عينيه:
- بتتكلمي بجد يا نور؟ يعني هخلف طفل منك يا نور.؟
على صوت بكاءها مع التماس الضعف والارتجاف الذي تخلل نبرته، مشفقة عليه بشدة، لقد ذاق الأمرين في الصبر عليها ولم يمل، حتى حدث المستحيل اَخيرًا.
ظلا الاثنين على هذه الحالة حتى هدأت أنفاسهم، ليسقط جالسا بها على التخت، فقد كان بحالة غير عادية من عدم التوازن، تميد به الأرض أم أنه دوار لف رأسه، أم هو القلب الذي اصبح يضرب بعنف بين جنباته، أم هي برودة أصابت أطرافه، لم يشعر بنفسه إلا وهو يقبلها بعنف، ولا يترك انشًا من وجهها دون تركه في حاله، ليعود بضمها مرة أخرى، ولكن هذه المرة بهدوء، وقد استكانت انفاسه، ليغمر روحه بدفئها.... ولا يشبع.
❈-❈-❈
وفي مكان آخر
داخل غرفتها وقد استيقظت باكرًا كعادتها لتؤدي فرضها وحين انتهت من الورد اليومي لتجد الساعة تقترب من السابعة، هبت منتفضة، تتذكر موعد الأولاد وسفرهم،
وصلت إلى غرفة حسن الأقرب إليها لتطرق بصوت عالي أجفله مع ندائها:
- قوم يا حسن، انا عارفاك خوم نوم، وانتي يا شهد، قوم انتي كمان.
انتفض من امام المرأة التي كان يهندم أمامها هيئته:
- انا صاحي يا ماما، اقسم بالله صاحي وعارف بميعاد الطيارة، وشهد كمان صاحية اطمني.
وصله صوتها المشاكس كعادتها من خلف الباب:
- خلاص يا خويا متعصبش نفسك، براحة كدة، هروح انا اشوف الحلوف التاني، صباحية مباركة يا عرييس.
عقب من خلفها مغمغمًا باستهجان:
- عريس فين بعد حلوف دي، دايمًا ست الحبايب تختمها.
تفوه بالاَخيرة نحو شهد اللي كانت تضحك من خلفه، ليتابع مستطردًا بمرح:
- ولا إيه يا عروستي؟
اقتربت تشاركه المساحة الصغيرة أمام المراَة، لتصفف شعرها بجواره قائلة:
- انتي بتاخد رأيي؟ امك دي عسل.
- والله انتي اللي عسل.
قالها ليجذب نحوها يضمها مقبلًا لها بعشق، يتابع بروحه المرحة بتغزله:
- يا شهد حياتي وقلبي كمان، يا عسسل.
❈-❈-❈
وفي الغرفة المجاورة
وقد كان ينتظرها على طرف التخت بغيظ يفتك به، حتى إذا طلت اخيرًا بهيئتها المهلكة، ترتدي مئزر الحمام، وشعرها المبتل يحاوط وجهها ويزيد من فتنته، وهدوء اثار استفزازه ليهتف بها ساخطًا:
- ما كنتي كملي نومك احسن في البانيو، ساعة مستنيكي.
القت الفوطة الصغيرة من يدها بإهمال، فلم يعجبها رده، وردت غير مبالية:
- ولا اما انت مزنوق أوي كدة، ما كنت خرجت للحمام اللي في الصالة، حبكت يعني اللي في الأوضة.
افتر فاهه بذهول، لينهض مستقيمًا يقابلها بحنق مرددًا:
- مزنووق! كل تفسيرك راح ع الزنقة؟ وكمان عايزاني اخرج في أول يوم ليا على حمام الشقة، دي كانت امي تاكل وشي بتريقتها.
تخصرت تميل برأسها باستخفاف ردًا على كلماته، غير واعية بحجم ما تفعله به:
- وانا اعملك ايه يعني؟ ما انت اللي جايبه لنفسك بخناقك على أول الصبح، دا بدل ما تسمعني كلمتين حلوين على بداية اليوم.
قارعها بانفعال ظهر بتقليد طريقتها في الكلام مرددًا:
- كلام حلو، وهيجي منين الكلام الحلو وانتي عصبتيني من أولها، دا غير انك مأخرانا اصلًا.
اشتعل حجري الفيروز بعينيها، لترمقه بنظرات حارقة، تحتج على سخريته منها:
- أنا صوتي مسرسع كدة؟ بتتريق عليا أمين؟ ما انا لو صوتي وحش كدة اتجوزتني ليه؟ عشان تعكنن عليا في اول يوم كمان......
رافق كلماته الاَخيرة الضرب بقبضتيها على صدره حتى أوقف كل شي، الضرب بتكبيل يديها الاثنتين بيده، والكلمات التي ابتلعها بحلقه، بعد أن أخرسها بقبلته، قاومته في البداية، ولكن سرعان ما استكانت مستجيبه له، غير انها استدركت الوقت، لتباغته فجأة بدفعة بقوة أجفلته يناظرها بذهول مستفسرًا ، وكانت إجابتها:
- ميعاد الطيارة يا أمين، هو انت نسيت؟
نظر إلى الساعة بيده فارتفعت راسه قائلًا بعجالة:
- لسة فاضل نص ساعة، تعالي بقى.
........ تمت ........
كدة يبقى خلصنا الجزء التاني من السلسلة والجزء الثالث دا اللي شغال حاليا ( حان الوصال) لمن ارد التكملة
•تابع الفصل التالي "رواية وبها متيم انا" اضغط على اسم الرواية