رواية جوازة ابريل (2) الفصل العاشر 10 - بقلم نورهان محسن
الفصل العاشر (مستحيل اثق بك)ج2
هناك قلوب تميل ، والإقتراب منها مستحيل ، هل علي أن أذكرك مرارا وتكرارا أن قلبي جريح ، رغم أنني أشتاق يوما ما إلى استريح على راحة يدك الدافئة ، لكني أفتقد الأمان وأخشى أن تخدعني مثلك مثلهم ، أخاف أن أثق فيك ، وأتلقى طعنة جديدة تسكن صدري الذي ينزف بشدة ، فدعني وأرحل بعيداً ، لأن المشاعر ستبقى ضائعة بيننا كالطير المهاجر الذي ترك ملجأه وهرب ، بحثاً عن وطن جديد ، تاركاً عشه القديم مثقلاً بألم الخذلان ، ويشعر بكمية هائلة من الفراغ بعد الغدر ، دعني أجلس وحدي تأنسني خفقاتى المتألمة في الطرقات ، وأنا أنظر إلى خيبات قلبي المنكسر على يد طائري الذي تركني مشتتًا بلا مأوى ولا أمان ، ارحل سريعاً قبل أن أراك أملاً جديداً ، وبكل ضعفي وغبائي ، أتشبث بك.
هذه مجرد شرارة حب صغيرة قدحت للتو بين امرأة عنيدة ورجل ذو كبرياء.
لمتى سينتظر كل منهم من يبدأ برفع راية السلام ، ولمن النصر؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في غرفة فهمي
ولجت سلمي إلى الداخل ، ورأت زوجها جالسًا على السرير وظهره منحنيًا أثناء عقده لرباط حذائه ، فهتفت بنبرة منذهلة : ايه يا حبيبي .. انت لحقت تصحي وتلبس كمان مش عوايدك!!
_مفيش وقت للشرح يلا البسي بسرعة وحصليني علي تحت
أنهى كلامه بسرعة ملحوظة ، ثم نهض من مجلسه ، وخرج من الغرفة تحت نظراتها القلقة من عجلته ، فتبعته على الفور ، وهي تصيح من خلفه بلا فهم : في ايه يا فهمي مالك قلقتني؟!
نزل فهمي الدرج ، وهو يتأكد من أن ساعته الفضية مثبتة بإحكام على معصمه الأيسر ، بينما يجيبها بإختصار لم يشبع فضولها : لازم حالا نروح المستشفي
❈-❈-❈
في المستشفي
عند عز
_انا طلقت مني
شهقت المرأتان بإنصعاق من وقع كلماته الصادمة ، ثم هتفت دعاء باستنكار وعدم فهم : ايه الجنان دا .. يعني ايه طلقتها يا عز .. امتي الكلام دا وازاي ماتقو...
قاطعها عز بانفعال شديد ونفاذ صبر ، بسبب فرط توتر أعصابه التالفة : ماما .. لو سمحتي كفاية نطمن عليها في الاول .. انا مش ناقص ولا قادر علي تحقيقاتك دي خالص
ابتلعت دعاء صدمتها بعبوس ، وظلت صامتة على مضض ، لكن سوسن لم تستطع الصمت لتتساءل بنبرة محتدة : ولما انت خايف اوي كدا عليها كنت بتطلقها ليه يا عز .. بنتي كانت عملتلك ايه عشان تطلقها
زفر عز بقوة ، وأغمض عينيه محاولا السيطرة على انفعالاته ، لكن قدرة هذا العز على الحفاظ على هدوئه والتوازن غير مجدى ، خاصة أن ما يحدث يدفعه إلى الجنون ، فبدأ يزرع الأرض ذهابا وإيابا ، يقتله شعوره بالذنب والألم فى قلبه ، وهو يقول بصوت معذب : كل حاجة حصلت في لحظة نرفزة .. اتخانقنا وزعقنا مع بعض .. ومعرفش ازاي طلعت مني الكلمة دي غصب عني..
إعتصر الحزن قلب دعاء على حالة وحيدها الذي تراه على وشك الانهيار ، لينخر عذاب الضمير خلاياها ، لأنها السبب الأكبر فيما وصل إليه ، فنظرت إلى سوسن ، لتقول بهدوء وجدية : دي اكيد كانت ساعة شيطان بتحصل بين اي اتنين متجوزين يا سوسن احنا المفروض نحل بينهم براحة
تنهدت سوسن بحرقة تعتمر قلبها ، والدموع تتجمع في عينيها ، ثم تحدثت بنبرة حزينة : من حرقة قلبي علي بنتي اللي كانت كل مناها في الدنيا تجيب منك عيل
_المريضة فاقت تقدروا تتفضلو عندها
قالتها إحدى الممرضات بابتسامة هادئة ، ثم ذهبت إلى عملها ، لتنتعش روحه متلهفة لرؤية معشوقته ، وتفوقت على شعور التردد الذي اجتاح ذهنه المحذر له ، فوجد خطواته تقوده نحو غرفتها ، لكنه استوقفه سماع صوت والدتها التي تناديه بهدوء لا يخلو من الصرامة النابعة من شعورها الأمومي الغريزي الذي دفعها إلى إبعاد هذا العاشق الضارى عن ابنتها ولو مؤقتا : معلش يا عز اعذرني في اللي هقوله .. بس انا شايفة انك تأجل مقابلتك بمني لحد ما يوصل اخوها .. ونفهم سبب طلاقك ليها كان عشان ايه وليه عملت كدا في روحها طالما مش عايز تقولنا؟!
رفع عز حاجبيه مستنكرا منعها له من الدخول على زوجته التي لا يريد إلا أن يشبع عينيه المشتاقتين لرؤيتها والاطمئنان عليها ، حتى يهدأ ذلك الثائر داخل ضلوعه ، طالبا القرب منها بإلحاح ، ليرد بإنفعال حارق : وانا عايز اشوفها مش مضطر استنيـ...
دعاء بمقاطعة حتى تحد من توتر الأجواء بينهم : خلاص يا عز سيبها تدخل تطمن عليها في الاول معلش اديها فرصة تستوعب اللي حصلها.. الخبر اكيد هيبقي صعب عليها وهتكون محتاجة امها اكتر
أطلق زفرة قوية عبرت عن مدى استيائه قبل أن يهز رأسه بالموافقة في استسلام متوتر لهم ، وذهب ليجلس على أقرب مقعد ، وعيناه لم تفارق سوسن التي إتجهت إلى غرفة ابنتها وأغلقت الباب خلفها.
أحنى عز رأسه ، ووضعه بين كفيه ، وأغمض عينيه بألم حاد يدق كالطبول في خلايا عقله ، ليتمتم بصوت مختنق مليء بالندم ، وكأنه يتحدث مع نفسه ، فوصل إلى أذني دعاء : جرحتها اوي بكلامي .. معرفش اذا حتي هتبص في وشي تاني ولا هتقولي ايه؟
حاولت دعاء أن تنقل له كلمات تمده بالقوة والصبر ، بصوت هادئ حنون : اسمع ايا كان اللي قولته ووصل الامور بينكم للمرحلة دي .. افضل وراها لحد ما تسامحك يا عز وخليك صبور وهادي فهمني يا عز .. ماتنفعلش من اول ردة فعل ليها هي اكيد مجروحة وتعبانة يا حبيبي
ابتلع عز غصة الألم العالقة في حلقه بصعوبة ، وامتلأت عيناه بالعبرات الحارقة ، يحاول بكل طاقته أن يتمالك نفسه ويستجمع الرد على لسانه ، لكن عينيه المحتقنتين منعته ، وأعرب عن أسفه لخسارته : خايف عليها .. وخايف منها .. مش عارف هتسامحني ازاي بعد اللي عملته معاها .. تفتكري ممكن تسامحني بعد ما خسرت الحاجة الوحيدة للي كانت هتشفعلي عندها خايف تكرهني وماترضاش تديني فرصة وتسامحني
انهمرت دموعها على خديها بأسف ، وهي ترفع يدها المرتعشه بتردد على راسه المنحني ، وتمسح على شعره بحنان ، وهي تقول بهمس حزين : اللي يحب مابيقدرش غير انه يسامح ويغفر لحبيبه ومهما عمل مابيعرفش يكرهه ممكن يقسي عليه بس مابيقدرش يمحي معزته وحبه من جواه
همس عز بصوت أجش نابع من قلبه المفطور ، وشعور مظلم بالألم ومرارة القهر تجتاح روحه بمنتهى القسوة ، مما زاد من وخز قلب أمه عليه دون أن يدرك عذاب الضمير الذى إنتابها متأثرة بشدة بعبارته التالية : مش عارف ليه حاسس اوي اني محتاج بابا في اللحظة دي .. محتاج يكون جنبي ويقف معايا .. ومحتاجلو ينصحني يوجهني او حتي يضربني .. عايزو يقولي اعمل ايه .. حاسس اني تايه اوي من غيرو
كانت دموعه تتساقط الواحدة تلو الأخرى مع كل كلمة تخرج من شفتيه من شدة الألم والإحتياج ، لم تحتمل دعاء رؤيته على هذه الحالة الضعيفة ، فازدادت تعابيرها بالحزن والخزى ، وهي تحتضنه بذراعيها المرتجفتين بحنان بالغ ، ولا تدري هل تواسيه أم تواسى نفسها بهذه اللحظات القريبة فيها منه ، وهى تخشى بشدة من عدم غفرانه لها ، حينما يعلم الحقيقة المستترة حتى الآن.
❈-❈-❈
خلال ذلك الوقت
عند ابريل
نطقت بالكلمة الأخيرة بتلعثم مصدوم ، وهي في وسط أفكارها المتضاربة تميل بجسدها نحوه أكثر ، محدقة به بعينيها الفيروزيتين المذهولتين اللتين تشبهان عيون القطط ، ولم تكن منتبهة إلى كف يدها التي وضعتها بعفوية فوق يده على السرير دون سابق إنذار ، مما أدى إلى تصلبه كالتمثال في مكانه جراء إحساسه بملمس بشرتها الناعمة ، بالطبع لم تكن المرة الأولى التي تتودد إليه امرأة وتمسك يده ، لكن عنصر المفاجأة من تلك القطة الغامضة المزاجية أثار حب الإستطلاع لديه حتى يكتشفها على المهل.
_ممكن تكون هي اللي عملت كدا؟!
إستطردت تهمس بصوت مذهول دون أن تنظر إليه ، فلم تكن تستوعب بعد أن المرأة التي زارتها ، لتحذيرها من خطر هذا الزواج ، هي ذاتها وراء هذه الفضيحة المشينة التي قد تؤدي إلى ضياع مستقبلها.
بلّل شفتيه بطرف لسانه بتوتر ، مستمعاً إليها بقلب مضطرب ، وبتلقائية بحتة وجد نفسه يقترب منها ، وكفه لا يزال أسير قبضتها ، وكأنه لا يريد أن يبذل جهدا ليسحبه بعيدا ، أو ربما يريد أن يطيل الاستمتاع بلمستها اللطيفة.
استقر براحة يده الأخرى على ذراعها ، يربت عليه برفق قبل أن يرفع ذقنها به حتى تتمكن من النظر إليه مباشرة ، خاطبها بقساوة صوته الرجولية المتأنية : مش دا اللي المفروض يشغلنا دلوقتي..
انخفضت نبرة صوته أكثر ، وتحولت إلى طبقة عميقة أشد جدية كان لها تأثير مغناطيسى خاص على مسامعها ، إذ تختلف بشكل واضح عن طريقته الساخرة في التحدث : الاهم أننا مغلطناش في حاجة عشان نداريها ولا الهروب من المشكلة للي واقعين فيها هيخليها تتحل لوحدها زي ماكنتي بتخططي..
_ومعلش لو حظك كان ضدك ووقعتي معايا انا بس مابقاش فيها رجعة وصعب نغير كلامنا .. اذا مكنش في حاجة رسمي وبسرعة ولو بشكل مؤقت بينا قدام الناس .. هيتأكد الخبر عندك استعداد ان سمعتك ومستقبلك هيدمروا
نسيت للحظات من هو ، بل تاهت بإنجذاب في أعماق تلك الفضة الذائبة داخل مقلتيه ، واستمعت إليه بنصف عقل ، لكن حالما وصل إلى منتصف حديثه أضاءت إنذارات اللاوعي الحمراء في رأسها ، وتحديدا عند ذكره أن الانخراط في هذه اللعبة معه أمراَ حتمياً عليها بلا رجعة ، وهي ترفض بشدة أن تُجبر على شيء لا تريده.
❈-❈-❈
في منزل فهمي الهادي
اندفعت سلمى خلفه على الدرج بخطوات سريعة ، لتراه يتجه إلى إحدى الطاولات في الردهة ، فسألت بصوت منزعج وهي تقترب منه : لسه بدري مش لما نفطر الاول ليه السربعة دي يعني؟!
أثناء كلامها جلس فهمى على الأريكة ، يعبث بشكل عشوائي بين صفحات الصحف ، قبل أن ينقل لها خبر بمثابة قنبلة موقوتة ، وكان كلاهما يعلم أنها سوف تنفجر حتماً : مصطفي لسه مكلمني بيقول رجع من السفر
فغرت فاهها بمفاجأة ، عندما رأته يواجهها بنظرات تحمل القلق فى أغوارها ، لوهلة هربت الحروف من طرف لسانها ، ثم سرعان ما تغلبت على الصدمة وهي تصرخ بتساؤل مرعوب : قالك ايه عرف حاجة .. اوعي تكون قولتلو حاجة يا فهمي!!
_الدنيا كلها عرفت الخبر مالي الجرايد والنت يا هانم
قال لها بصوت حانق ، وهو يمد لها الجريدة ، فأخذتها منه بتردد ، وما إن قرأت المقال حتى جحظت عيناها حتى كادت تخرج من تجاويفها ، وتجمد الدم في عروقها ، مما جعلها تشعر وكأنها انسلخت عن الواقع ، وكل ما طرأ فى مخيلتها أن هذه الكارثة ستدمر بالتأكيد كل المشاريع المستقبلية التي بدأت بالفعل في تنفيذها ، لم تستفيق إلا علي صوت زوجها الذى زمجر بنفاذ صبر : انتي لسه واقفة .. يلا اطلعي البسي .. خلينا نروح لإبريل قبل ما مصطفي يوصل عندها
أومأت سلمى له بملامح شاحبة قبل أن تصعد بهرع إلى الطابق العلوي ، تاركة فهمي يزرع الأرض تحت قدميه ذهابًا وإيابًا بقلق بالغ.
❈-❈-❈
عند هالة
_اذا في حد كان عنده استهتار واستخفاف بالتاني فهو انت يا دكتور
ارتبك لوهلة من هجومها المضاد ، ثم رفع حاجبيه باستعلاء ، ونطق بنبرة رجولية متعجبة : انا!!
_وهو انا عملت ايه يخليكي تقولي كدا عني؟!
طرح هذا السؤال بلهجته واثقة حد الإستخفاف ، ليبلغ غضبها أقصى درجاته ، وردت بضحكة هازئة : ليك حق .. ما انت لو واخد بالك من تصرفاتك عاملة ازاي ماكنتش سألتني عملت ايه!!
استفسر ياسر بتوتر من أسلوبها الغامض في الحديث ، مما جعل ابتسامتها الساخرة تتسع على شفتيها : انهي تصرفات للي بتكلمي عليها وضحي كلامك وفهميني؟!
بذلت هالة جهدًا مضاعفًا للحفاظ على اثباتها الإنفعالى ، هى تسأله دون قناعة : والله مش فاهم..!!
أومأ ياسر لها بالإيجاب بتأنٍ ، إذ تجلت علامات الحيرة على وجهه ، منتظرا أن تكمل حديثها ، لتقوس شفتيها بتعبير مليء بالأسى الساخر ، قبل أن تأخذ نفسا عميقا ، لتشرح له بحدة خافتة لأول مرة يسمعها منها ، لكنها لم تقلل من جاذبية صوتها : تمام .. اللي اتحط في موقف سخيف يا دكتور قدام اهله وقدام الناس كان انا..
رفعت هالة يدها لإبعاد خصلات شعرها البني الكثيف المتطايرة عن عينيها بسبب الريح ، وأشارت باليد الأخرى نحو نفسها ، مكررة بصوت منخفض الطبقات مفعم بالقهر على ذاتها ، ضاغطة على كل كلمة خرجت من شفتيها : انا اللي حفلة خطوبتها اتقسمت نصين .. خطيبي شوية بيرقص معايا وشوية مع البيست فريند بتاعته .. ولما شوفتها بترقص مع واحد تاني انت ماتحملتش روحت تضربه
تجمعت العبرات في مقلتيها كطبقة بلورية متلألئة بشكل رائع ، رغم نظراتها الحزينة دليل على حالتها النفسية السيئة ، لتنقر بإصبعها السبابة على موضع قلبه ، وهي تسأل بإنفعال مرتجف : ليه وقتها مافكرتش في الناس .. ليه مهمكش خطيبتك!!
ازدرد لعابه بصعوبة ، يشيح ببصره عن عينيها الدامعتين ، محاولاً تجاهل نبرتها الحزينة ، لكن كيف سيفعل ، إذ أن الوجع لا يحتاج إلى حديث طويل ، أحياناً تكون نبرة الصوت نصف الكلام ، ليستجمع الرد المناسب فى ذهنه ، لكن تفكيره لم يسعفه على النطق بكلمة ، فهو يعلم مدى صدق حديثها ، لكن من ناحية أخرى هناك صوت يهتف داخل عقله ، يحثه على الإنكار والصمت.
أما هي فكل ما أرادته هو أن يطمئنها ، يربت على كفها المرتعش بحنان ، نظر إليها بحب ، يقضي على كل الشكوك التي تنخر فى خلاياها مثل ما يفعل السوس فى الخشب ، لا أن يتهرب من التحديق بها كما يفعل الآن.
ابتلعت غصة مريرة في حلقها كالعلقم ، ورغم الخوف الذى يرتعد فى أعماقها من معرفة حقيقة مشاعره ، إلا أنها أرادت إجابة حاسمة ، ولو كانت قاسية ، لكن صمته الطويل صب الوقود على هواجسها ، فاشتعل غضبها بقوة ، ولم تتمكن من السيطرة على انفعالاتها أو إظهار عكس ما تشعر به كعادتها، بل تابعت بصراخ أجفله : رد عليا!!
❈-❈-❈
عند باسم
تفاجأ باسم بها ، تحدجه بفيروزتين تقدحان شرراً من الغضب ، الذى تناقض مع هدوء ملامحها الوديعة منذ لحظة واحدة ، لدرجة جعلته يشرد فيها لا شعورياً ، ولم يكن يعلم أن جزءاً كبيراً من هذا الحنق كان موجهاً إلى نفسها عندما لاحظت يدها تستريح علي يده ، كأنها تستمد منه بعض الأمان.
أصبحت وجنتاها محتقنتين بالدماء من فرط خجلها ، وكم كرهت هذا الشعور؟
من بين كل الناس ، وقع اختيارها الأحمق على هذا الباسم ، الذي توهجت عيناه الفضية ببريق غريب ، ومر شبح ابتسامة على شفتيه بمجرد أن لاحظ تلون خديها الشهيتان ، ونظراتها مثبتة على يديهما.
تجهمت ملامحه فور أن أبعدت كفها عنه سريعا ، وفركتها بعنف فى الغطاء ، وكأنه يحمل وباء خطيرا قد يصيبها به ، قبل أن تحدق به برأسها المرفوع بشموخ ونظرات قوية ، متحدثة بنبرة باردة : اذا قاصد تخوفني بكلامك فأنت غلطان انا مش محتجالك ولا محتاجة لأي حد و زي ماقولت انا مغلطتش في حاجة عشان اخاف واستخبي منها
أشارت ابريل نحوه بإصبعها السبابة بإزدراء ، لتتابع بحدة ناعمة : واوعي تفكر لو لثانية اني ممكن اثق فيك بعد اللي عملته معايا دا مستحيل
اختتمت ابريل كلامها بتأكيد وأنفاس متسارعة ، فرفع باسم ذقنه بغطرسة ، لتظهر اللامبالاة جلية على ملامحه ، وداخلياً يغلى من الإغتياظ ، ها هي ذا مرة أخرى ترمي سهامًا مسمومة في منتصف جبين كبريائه ، لكن هذه المرة لن يتهاون معها ، لأنها استنفدت بالفعل كل طاقته ، ليرد عليها بجمود مخيف : انتي حرة
وبعينيه ذوات نظرات الباردة التى لم تحيد عن عينيها المستهجنتين ، ليتابع من بين أسنانه بصرامة مذكرا إياها بكلامه السابق : بس افتكر وضحتلك الصورة وقولتهالك اني لو بإيدي كنت خليتك تتعاقبي علي تصرفاتك الغبية اللي خلت الكارثة دي تحصل
كانت عيناه الرماديتان تتلألأ ببريق قاسي جعل أي كلمات لاذعة على لسانها تفر هاربة ، بعد أن عبثت مع هذا الذئب الذي قرر إظهار أنيابه الحادة مرة أخرى أمامها حتى يحجم تمردها عليه ، لتزيد تفاصيله شراسة ووسامة فائقة ، وهو يضيف باستخفاف جاف ، مشيراً نحو الباب : زمان أهلك هيوصلو في اي لحظة..
رمقته ابريل بغيظ ممزوج بالتوجس ، ليقابلها بنظرات تبرز برقاً مهتاج ، ولقد استفزه كثيراً الازدراء الذي يلوح في آفق فيروزيتها الرائعة ، وأنذهل أكثر من تهاونها في هذا الأمر الجلل ، في حين كان ينبغي لها أن تطلب منه المساعدة ، لا أن تصده عنها كما تفعل الآن
لوى باسم شدقه بسخرية ، وهو يميل برأسه نحوها ، حاولت الابتعاد لكنها تجمدت مكانها ، حالما واصل الهمس العميق بجوار أذنها ، مستوطناً بين أوتاره تحذير غامض : كملي علي العناد وتنشيف الدماغ دا قدامهم .. هتفهمي معني كلامي لما يشيلوكي مسؤولية كل اللي هيحصل بسبب الاشاعات اللي كل ثانية بتكتر علينا..
نبرته الماكرة المغلفة بالقسوة ، وأنفاسه التى ترتطم برقبتها بلا رحمة أصابتها بقشعريرة غريبة رغم ادعائها بالصمود أمامه ، لكنه بسهولة أحس بإحتراق أعصابها ، التي استنشق رائحتها من خلال لهاثها المحتقن ، ورفعت فيروزيتها إليه بنظرة متحدية ، لتبرهن له بإستماتة ، عدم اكتراثها بقولها البارد : سبق وقولتلك مايهمنيش انت مابتسمعش
وشت بها خفقاتها المتصاعدة بارتباك لقرب وجهيهما من بعضهما البعض ، إذ يستمر هذا الرجل الوقح في انتهاك حدود خصوصيتها بلا هوادة ، ونيران التحدي المشتعلة بين السطور جعلته أكثر حماساً لإخضاعها تحت سيطرته على طريقته الخاصة ، فوجد نفسه يرد بذات البرود : ماشي .. يلا واجهي دا كله لوحدك .. انتي مش محتجالي وانا هقف معاهم واتفرج عليكي
أنهى باسم كلامه بابتسامة مغلفة بالتلاعب لينجح في استفزازها ، وبدلا من أن تثير غضبه وتأجج حنقه ، ليرحل بلا رجعة ، انقلب الأمر ضدها ، لتتأكد أن خلاصها محكوماً بقبضة يده ، وبكل برود وتريث ، وجدته ينهض عن الفراش وتحرك نحو الباب ، ليتركها خلفه ، والخوف يحفر مخالبها في نياط قلبها المرتعد ، فيفجره بقسوة ، مما جعل نبضات قلبها تتوقف جراء حديثه الصحيح ، وتزايد سخطها تجاهه بشكل كبير ، مما جعلها تنبس من بين أسنانها بقهر مكبوت : في ستين داهية
❈-❈-❈
في المنصورة
كادت خالة أبريل صابرين أن تفتح باب شقة والدتها ، لتتفاجأ بهبوط نادية على السلم ، فتركز نظرها بذهول على الحقيبة الكبيرة التي كانت تحملها بصعوبة بسبب ثقلها ، وعلى ذراعها الأخرى ، كانت تحمل ابنتها النائمة ، لتهتف بنبرة ودودة : صباح الخير يا نادية
ابتسمت لها نادية ، وقالت بنفس النبرة بعد أن توقفت أمامها : صباح النور .. ازيك يا صابرين؟!
بادلتها صابرين الابتسامة قبل أن تقول بتساءل : انا كويسة .. انتي عاملة ايه .. وايه الشنطة دي يا نادية .. حصل حاجة ولا ايه؟
ربتت نادية على ظهر الطفلة تهدهدها ، وهي تشيح ببصرها بعيداً هرباً من نظرات صابرين القلقة ، وأجابت نادية بنبرة كافحت ، لتبدو طبيعية رغم شعورها الشديد بالاختناق ، إلا أنها إعتادت إلى الكتمان داخلها ، رافضة الكشف عن شكواها لأي فرد من أسرة زوجها ، لأن ببساطة ستكون الملامة الوحيدة بينهم : لا مفيش ما انتي عارفة احمد سافر .. قولت اروح لماما كام يوم اقعد عندها
شعرت صابرين بالشفقة عليها ، عندما رأت الألم يتبلور في انعكاس حدقتى عينيها ، فقالت بلطف : ولزومها ايه البيات يعني يا نادية!! زوريها وارجعي .. كدا كدا احمد رايح يوم وراجع علي طول
تابعت صابرين حديثها بتريث ، وهى تضع يدها فوق كتف نادية برفق : نادية ماتزعليش دا واجب ابريل مالهاش غيرنا انتي طول عمرك عاقلة ماتاخديش علي خاطرك وتحطي في نفسك احمد مالوش غيرك انتي وبنته
نادية سخرت سراً في قلبها الممزق من القهر على ما سمعته ، هل هي تكذب عليها أم على نفسها؟ الجميع يعرف الحقيقة الواضحة للأعمى ، فإبتلعت الغصة التي تشكلت في حلقها ، وردت بنبرة مهزوزة : اصل ماما صحتها تعبانة شوية واسيل مشغولة في بيتها قولت اكون جنبها الفترة دي
أومأت لها صابرين بتفهم ظاهرى ، حيث إنتبهت لعلامات الكذب الواضحة عليها ، ولم ترغب في الضغط عليها أكثر لتخاطبها بإستسلام : الف سلامة عليها .. طيب يا حبيبتي علي راحتك روحي .. وابقي طمنينا عليها
هزت نادية رأسها بالموافقة ، ونبست بصوت خافت : ان شاء الله سلامو عليكو
وما أن قالت الكلمة الأخيرة حتى رفعت الحقيبة عن الأرض ، واختفت عن نظرها ، قبل أن تتدفق دموعها ، التى تملأ عينيها بأسى شديد على حالها.
❈-❈-❈
عند باسم
فور خروجه من غرفة أبريل ، إنمحت ابتسامته ، وأطلق زفرة قوية ، وهو يحاول السيطرة على عاصفة غضبه الهوجاء التي سببتها تلك الهرة العنيدة.
فرك باسم جبهته ، وهو يشعر بألم يفتك بجمجمته من التوتر وقلة النوم ، بالإضافة إلى تصرفاتها وتحديها المستمر له وكأنه ألد أعدائها ، نظراتها لغز غامض خليط بين القوة والضعف بنفس الوقت ، لم يفهم لماذا عاملته بهذه الشراسة التي تقوده للجنون وتروق له في آن واحد.
وفي غمرة تشتت أفكاره لم ينتبه لإشارة إحدى الممرضات التي كانت واقفة على بعد مسافة منه.
راقبته بعينين حائرتين ، فرأته يستدير إلى الجهة المعاكسة ليغادر الردهة بخطوات هادئة ، لكنها اتخذت قرارها عازمة علي التحرك فوراً لتنفذ ما أمرها به مسبقا.
❈-❈-❈
فى نفس الوقت
سار صلاح فى الرواق ، وهو يتحدث عبر الهاتف مع مدير مكتبه : مشي انت الدنيا عندك مع باقي المديرين وبلغني بالجديد معاكم ..
هتف مقاطعاً الطرف الآخر بنفاد صبر ، حالما رأى باسم مقبلاً نحوه : طيب اقفل يا حسام خليني افكر في الكارثة اللي وقعت علي دماغنا .. يلا سلام
وصل صلاح إليه ، وسأل بلهجة مطوقة بالغضب والسخرية : رايح علي فين البيه؟!
رد باسم بإيجاز متعجب : الكافيتريا .. حضرتك هنا من امتي؟
أجابه صلاح ساخراً : من بدري يا بيه .. عمال الف علي سيادتك من الصبح وتليفونك مقفول
أغمض باسم جفنيه بتعب للحظات ، فهو غير يستعد لعاصفة التوبيخ التي هبت بكلام والده ، علي مضض فتح عينيه ، ونظر إليه بلا مبالاة قائلا بلسان ثقيل الحروف : فاصل شحن
تأجج لهيب غضبه بقوة من برود ابنه ، فصاح بصوت أجش حانق جعل المارة يلتفتون نحوهم في دهشة : يا برودك هو انت مش مقدر حجم الكارثة اللي وقعنا فيها بسببك وشغلنا اللي خرب من تحت عمايلك وطيشك
❈-❈-❈
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية جوازة ابريل) اسم الرواية