رواية طلاق بائن الفصل الحادي و العشرون 21 - بقلم ديانا ماريا
ملأت صرختها الخائفة أرجاء المكان، فتجمد مالك في مكانه، وشعر بشيء لم يألفه من قبل. كانت هذه المرة الأولى التي يسمع فيها اسمه ينادي من بين شفتيها بتلك النبرة التي امتلأت بالرهبة، شيء غريب لم يستطع تفسيره، جذب انتباهه بقوة أكبر من الألم الذي كان مسيطراً عليه.
رفع عينيه ببطء نحوها، بينما كان راكعًا على الأرض، تجمد الزمن بينهما للحظات، وارتسم الخوف الصافي على وجهها، أما هو، فقد بقي عالقًا بنظرتها، يتأمل الذعر في عينيها.
قبل أن ينطق بحرف، تقدم أحد الرجال نحوه بخطى واثقة، ثم قال بنبرة ساخرة” من أولها كدة نمت؟ ولا الكتكوت مش قادر يقف؟”
رفع مالك عيونه بغضب ونهض على قدميه قائلا بنبرة صرامة بها تهديد خفي: طب العبوا على ادكم الأول.
ابتسم أحدهم بسخرية: وأنت يا روح أمك اللي هتعلمنا نلعب إزاي طب متخليناش نلعب معاك.
قبض على يده بعصبية ونظر للرجل نظرة غضب شديد بسبب ذكر والدته التي كان يحبها بشدة ولا يتخيل أن يذكرها أحد بسوء.
نظر للرجل وقال باستفزاز متعمد: اللعب بيبقى مع الرجالة، مبلعبش مع نسوان.
تغيرت ملامح الرجل أمام استفزاز مالك وتقدم حتى يضربه فرفع مالك يده وأمسك بالعصا قبل أن تصل إليه ولكم الرجل في وجهه ليتراجع للوراء، أسرع البقية وتكاتفوا على مالك ليضربوه، حاول مالك مقاومتهم ولكن لم يستطع بسبب كثرة عددهم ليسقط على الأرض.
راقبت حلا ما يحدث بصدمة، عينيها تتسعان مع كل ضربة يتلقاها مالك، وكأنها عاجزة عن الحركة أو الصراخ. قلبها يخفق بقوة وهي ترى جسده يتعرض للركلات واللكمات من كل جانب.
صرخت بصوت مختنق وهي تهبط من السيارة وتهرع نحوهم، لا تبالي سوى بإنقاذه: “كفاية! سيبوه!”
لم يعرها أحد اهتمامًا، فتقدمت أكثر تحاول خلع أساورها الذهبية وعينها تلمع بالدموع: “هسيب لكم كل حاجة، خذوا اللي عايزينه بس سيبوه!”
اندفع أحد الرجال نحوها لينتزع منها الأساور الذهبية، فيما بقي الباقون يضربون مالك، حتى لمحتهم يبتعدون على عجل بعد أن سمعوا صوت سيارة شرطة قادمة.
أسرعت حلا نحو مالك الذي كان ملقى على الأرض، جثت بجانبه ويدها ترتعش وهي تلمس وجهه المغطى بالكدمات. همست وهي تكتم دموعها بصعوبة: “مالك… إنت سامعني؟”، ومالك بالكاد فتح عينيه، محاولًا الحفاظ على وعيه وهو يلمح خوفها الواضح عليه إلا أنه بعد عدة لحظات فقد الوعي لتصرخ حلا بذعر: مالك! رد عليا!
كانت جالسة على كرسي المستشفى شاردة والدموع تتساقط من عينيها، أغمضت عيونها بقوة حين تذكرت كيف ضربوه تعلم من داخلها أنه حاول حمايتها وقد سمعت ذلك قبل أن يضربوه، فتحت عيناها ونظرت للجدران التي أمامها بشرود تنتظر بلهفة أن يطمئنها أحد عن حالته، أن يخبروها أنه بخير.
رفعت رأسها حين سمعت خطوات تقترب منها، لتجد حسام وهديل أمامها. كان وجه حسام متجهمًا، وعيناه تحملان قلقًا عميقًا، بينما بدت هديـل متوترة.
سألها حسام بصرامة: “إيه اللي حصل؟”
تجمعت الدموع في عينيها ونظر لها الاثنين بدهشة حين ارتمت باكية في أحضان هديل.
أشارت هديل لحسام الذي أومأ برأسه بتفهم وابتعد قليلا يبحث حتى يجد طبيب ليتحدث إليه بينما ربتت هديل على ظهر حلا بعطف: أهدي يا حبيبتي بإذن الله خير فهميني بس اللي حصل.
قالت من بين شهقات بكائها: حر…حرامية طلعوا علينا وضربوا مالك.
لم تستطع الإكمال وظلت تبكي فلم تضغط هديل عليها وتركتها حتى تهدئ، جلست هديل وأجلست حلا بجانبها التي وضعت رأسها على كتفها.
أتى حسام بعد قليل مع الطبيب فنهضت حلا على الفور تقول بقلق: طمني يا دكتور؟
الطبيب ابتسم بهدوء ليطمئنها، ثم قال: الحمد لله مالك وضعه مستقر هو أصيب بنزيف وكسر في ذراعه، بس الحمدلله الإصابة كانت سطحية ومش نزيف داخلي.
تألقت عيون حلا بالدموع مرة أخرى وهي تقول: يعني… يعني هو هيكون بخير؟
أومأ الطبيب مطمئنًا: بإذن الله متقلقيش الوضع مش خطير ويقدر يخرج بعد أسبوع.
أطلقت حلا زفرة طويلة وكأن حملًا ثقيلًا قد انزاح عن صدرها، بينما ابتسمت لها هديل بتشجيع، تمسك بيدها لتعطيها دعمًا إضافيًا. لكن حسام، بعينيه الذكيتين، لم يتوقف عند السطح؛ رصد تفاصيل صغيرة في ملامح حلا، طريقة ارتجاف يديها وقلقها رغم حديث الطبيب.
فكر حسام بعمق، وبقى ينظر لها متسائلاً في صمت.
قال الطبيب فجأة بابتسامة: تقدر تشوفوه بعد شوية هيكون فاق بإذن الله.
تجمدت حلا وهي تشعر بتوتر غامض يسري داخلها لسبب ما أحست أنها لن تقدر على مواجهة مالك أبدا.
بعد قليل، التفت إليها حسام وقد بدا عليه الحزم وقال بهدوء: “يلا نروح نشوفه، الدكتور قال إنه فاق.”
بدأ حسام وهديل في التحرك بخطوات ثابتة نحو الغرفة، لكن بعد خطوتين، لاحظا أن حلا لم تتحرك من مكانها. استدارا نحوها باستغراب، وظهرت في عيني هديل حيرة صامتة.
سألتها هديل باستغراب: “واقفة مكانك ليه؟ مش هتيجي؟”
شعرت حلا بارتباك واضح، وأبعدت نظرها عنهما كأنها تخشى من انكشاف مشاعرها. أجابت بصوت منخفض: “روحوا… وأنا جاية وراكم.”
تفهمت هديل حالة التشتت والضياع التي تمر بها حلا بينما نظر لها حسام نظرة غريبة، وضعت هديل يدها على ذراع حسام وحتثه بهدوء: طب يلا إحنا يا حسام.
أومأ حسام برأسه، لكنه استمر في التحديق في حلا بنظرة حملت خليطًا من الفضول والشك، وكأنّه يحاول قراءة ما بداخلها. شعرت حلا بتلك النظرة فزادت من توترها
شدّت هديل على ذراع حسام مرة أخرى وقالت بصوت منخفض، كأنها تحاول كسر تلك اللحظة الغريبة لأنها ترى مدى توتر حلا: “حسام، يلا.”
ذهبوا في هدوء ونظرات حلا تتبعت خطواتهم وهي تشعر بالذنب واللوم لذاتها على جبنها وضعفها.
لم تستطع الانتظار أرادت رؤيته بنفسها والاطمئنان عليه كان الشوق يضغط على قلبها، وجدت الباب نصف مفتوح، فتجرأت ورفعت رأسها لتنظر من خلال الفراغ، تأمل ألا يراها.
خفق قلبها بقوة حين أبصرت عينيه مفتوحتين. كان يتحدث بصوت هادئ، يملؤه التعب، مع حسام وهديل الواقفين بجانب سريره. رأت الشاش يلف رأسه، وذراعه المكسورة بجانبه على وسادة مرتفعة.
شحب وجهها، لكن قلبها خفق بقوة لا تقاوم عندما رأت تلك الابتسامة الخفيفة التي ارتسمت على شفتيه المتعبتين، رغم آثار الألم الواضحة. تنفست بارتياح، وارتسمت على وجهها ابتسامة باهتة لأنها رأته بخير.
لكن فجأة، أدار رأسه نحو الباب، كأن إحساسه أدرك وجودها هناك، شهقت بخفوت وتراجعت بسرعة، قلبها ينبض بعنف من الرهبة، وأملت من أعماقها ألا يكون قد رآها.
في تلك اللحظة التفتت حلا حين سمعت شخص يناديها فوجدت إسراء وشادي يقتربان منها، أسرعت إليهم حلا تقول بارتباك وهي تتنفس باضطراب واضح على وجهها: إسراء عايزة أقولك على حاجة مهمة أوي.
نظرت إسراء باندهاش لحالتها قبل أن تقول بتفهم: طب تعالي نقعد تحت.
قال شادي بعفوية: هروح أنا أشوف مالك.
أوقفته حلا بهلع وهي تضع يدها أمامه حتى تمنعه وصرخت به: لا!
تداركت ردة فعلها المبالغة حين رأت ذهوله: قصدي مش دلوقتي يا شادي الدكتور قال لازم يرتاح تعالى معانا تحت لو سمحت.
أطاعها رغم أنه لم يفهم سر موقفها الغريب وهبطوا للأسفل.
بقيت عينا مالك معلقة على الباب قبل أن ينتبه يعود ويكمل حديثه مع حسام.
ابتسم له حسام وقال مازحاً لتخفيف الأجواء: بس شايفك زي الفل رغم كل الضرب اللي كلته.
ضربته هديل بمزاح على ذراعه: قول ماشاء الله مش شايف دماغه ودراعه المكسور.
ابتسم مالك بضعف بسبب التعب الذي يشعر به ويظهر على وجهه فقال حسام بجدية: على العموم متقلقش اللي عملوا كدة هيتجابوا ويتعمل معاهم الصح.
أومأ له مالك وحدق إليه بامتنان وقال بصوت مبحوح: شكرا يا حسام.
وضع حسام يده على كتفه وشد عليه بحزم: عيب، مفيش بيننا شكر.
عاد مالك يحدق إلى الباب عيناه تظهران الانتظار الذي يشغل عقله وكأنه يتوقع أن تظهر حلا في أي لحظة، فهم هديل وحسام ما يجري فتبادلا النظرات ثم قال حسام لمالك بوقار: هنيجي بإذن الله بكرة من بدري أنت نام وارتاح دلوقتي.
عاد مالك يحدق إليه وفي عينيه سؤال غير منطوق كان يتحرق شوقا للنطق به لكنه تنفس بعمق وقال: تمام، شكرا ليكم.
غادروا بينما بقى مالك وحيدا تغمره حالة من الحزن، في الأسفل كانت حلا تبكي على كتف إسراء وقد باحت لها بكل ما حدث في الحفلة حتى الحادث الذي تعرضوا له وتناست وجود شادي في الغرفة.
هتفت بها إسراء بعدم تصديق وعيناها تتسعان في دهشة: هو قال كدة بجد؟
تنهدت حلا واضعة وجهها بين يديها: أيوا مصدقتش اللي سمعته يا إسراء أنا قولت….
توقفت للحظة ثم تابعت بصعوبة: أنا قولت كان بيساعدني شفقة أو إحساس بالذنب متخيلتش أنه لسة بيحبني.
ضحكت إسراء بحماس، عيناها تتألقان بالفضول: طب وأنتِ كان رد فعلك إيه؟
نظرت لها حلا بتعجب: رد فعلي؟ أنا معرفتوش أني سمعت حاجة أصلا.
نظرت لها إسراء بعدم رضى وعلامات الاستغراب تملأ وجهها: ليه يا حلا؟
أجابتها حلا باستنكار ظاهر على وجهها كأنها ترفض تصديق ما تسمعه: ليه يا إسراء؟ هو أنتِ بتهزري صح؟
تغيرت قسمات وجه إسراء للصرامة: لا مبهزرش؟ أنا مش فاهمة رد فعلك أبدا!
بقيت حلا تناظره بعدم تصديق فعادت إسراء تؤكد بنبرة انتقاد لحلا: أيوا! أنتِ عرفتِ أصلا أنه كان بيحبك من زمان قبل ما الزفت ياخدك منه ويتجوزك هو وساعدك ترجعي حقك ولحد دلوقتي بيحبك إيه المشكلة بجد؟ فيه عيب؟ بالعكس أنا شايفاه شخص كويس جدا.
وقفت حلا قائلة بانفعال، عيناها متقدتان بالألم: “أيوا هو كويس، وأنا أعمل إيه؟ أنتِ عارفة أنا اتدمرت إزاي من اللي حصلي، عايزاني أعيده تاني!”
إسراء، وقد ارتفعت حاجبها وضحكت بدهشة، ردت: “تعيده؟ هو أنتِ مقتنعة بكلامك ده؟”
تابعت بلوم: “ولا دي محاولة هروب علشان تقنعي نفسك بعذر شايفاه كويس ومتديش لمالك فرصة، وهو أحق واحد بيها!”
تصاعد الإضطراب داخل نفس حلا وهي تعلم أن إسراء محقة لكنها لم تطق سماع أي شيء في هذه اللحظة فقالت بحدة محاولة إخفاء مشاعرها: خلاص يا إسراء!
غضبت إسراء من موقف حلا الذي تراه ظالمًا لمالك بوضوح فقالت بحدة أكبر: لا مش خلاص لحد ما تعقلي من الجنان اللي أنتِ فيه ده!
كانت الأجواء متوترة بشدة في غرفة الانتظار حين قال شادي فجأة بمزاح لكسر تلك الأجواء: تعرفي أنا المرة دي موافق جدا يا حلا.
نظرت له حلا عاقدة حاجبيها كأنها تذكرت وجوده فتابع وهو يرفع كتفيه لأعلى بعبث: لأول مرة هقف في صف حد بياخدك مني وأكون معاه بس مالك مفيش زيه بجد كفاية والله أنه فضى نفسه خالص علشان يساعدك.
رغم عنها ابتسمت وهي تعي أنها كشفت جميع أسرارها أمام شادي، قالت إسراء بجمود: يلا نمشي دلوقتي علشان الوقت أتأخر وهنيجي بكرة تاني بإذن الله.
نظرت لحلا وقالت بتأكيد: كلنا.
لم ترد حلا وغادروا عائدين لمنازلهم، كانت والدتها تنتظرها حين عادت فهتفت بها بعتاب: إيه يا بنتي كل ده قلقتيني عليكِ!
تنهدت حلا وهي تجلس بجانبها ثم سردت لها ما حدث في طريق عودتها مع مالك.
شهقت والدتها وهي تضرب على صدرها بعدم تصديق: ياحبيبي يابني!
أردفت والدتها بتعاطف: طب عامل إيه دلوقتي؟ المفروض بإذن الله نروح له من بدري ده ملوش حد ياعيني ياخد باله منه.
نظرت حلا لوالدتها بذهول فكيف تعرف مالك وأنه ليس لديه أقارب؟
سألتها بتعجب: وأنتِ عرفتِ منين أنه ملوش حد يا ماما؟ وبعدين نروح بصفة إيه؟
بهتت والدتها للحظة وردت بتلعثم: عادي عرفت لما كان في المستشفى وبعدين نطمن عليه ده ساعدك كتير يا بنتي.
ابتسمت بحنان وتابعت: راجل شهم وحنين ربنا يشفيه ويبارك له وقد المسؤولية ربنا يجعله من نصيبك يابنتي.
انتفضت حلا: نصيبي إيه يا ماما إيه اللي بتقوليه ده؟
زفرت والدتها بحنق ونظرت لها بتأنيب: أيوا فيها إيه؟ ماهو بيحبك من زمان وكلما عرفنا وبعدين تعالي هنا فيكِ إيه كدة؟ ماله الراجل؟ هو أنتِ فاكرة كان مين اللي واقف جنبنا الشهور اللي فاتت دي كلها؟
اتسعت عيونها بصدمة فتابعت والدتها: أمال أنتِ فاكرة إيه! إحنا لوحدنا بعد ما خالك اضطر يسافر وإحنا بعد وفاة أبوكِ ملناش حد حتى لو بنت خالك موجودة هنعمل إيه وأنتِ حتى في حالة ما يعلم بيها إلا ربنا! فاكرة مين يعني اللي كان بيقف جنبنا وياخد باله مننا ده الراجل كان بيجيب طلبات البيت لحد هنا علشان مطلعش برة اتبهدل بين الناس!
لمعت عيون والدتها وتابعت بحزن: ويا حبيبي لما عرفت أنه أمه ميتة وملوش حد في الدنيا قولتله اعتبرني أمك وكنت ساعات ببعت له أكل بدل ما كل الوقت مقضيه أكل من برة ونسي طعم أكل البيت!
عادت والدتها تنظر لها بحدة بينما حلا تستمع في ذهول: اعقلي يابنتي وفكري بدل ما تخسري الراجل شاريكِ في الحلال وبيتمنى لك الرضا فكري علشان هتخسري بجد!
ثم نهضت وتركتها في دوامة من المشاعر المتضاربة، لما لا يفهموها! أنها تعلم كل ذلك بالفعل، تعلم أن مالك شخص جيد للغاية وأنها حتما ستخسر إن لم تكن معه لكنهم لا يفهمون أنها لا تخاف منه بل من نفسها!
مازالت تشعر أنه يستحق الأفضل، شخص أفضل منها يمكنه أن يعطيه الحب الذي يستحقه!
وضعت رأسها بين يديها بشعور من الانهاك، ماذا لو قبلت وندم هو على اختياره لاحقا؟
مر أسبوع وحلا تذهب لمتجرها في الصباح وتعود متأخرة في المساء، تذكرت حين ذهبت إليها إسراء في اليوم التالي بعد الحادثة لتذهب معها للمستشفى رفضت حلا بعناد الذهاب مما أدى لمشاجرة أخرى بينهم وقد صاحت بها إسراء بحنق: أنا مش فاهمة أنتِ غبية كدة إزاي! ده شادي قالك الراجل ساب شغل أسبوع في واحدة من أكبر شركات البرمجة واشتغل علشان خاطرك هكر وكل اللي عملوا علشانك ده ومش كفاية ليكِ! طب حتى المحل اللي فتحتيه ده مفكرة مين اللي سهل الدنيا عليكِ؟ أيوا هو وحتى ده مش مخليكِ تعقلي كلنا شايفين هو بيحبك أد إيه وبيعمل علشانك إيه خليكي أنتِ العامية وعيشي دور الضحية براحتك بس مترجعيش تندمي!
لا تعلم لما تصر على عنادها ذلك لكنها تخاف من ترك قلبها ليحب مالك بحرية! لقد أدركت أخيرا أنها تحبه وكيف لا تحبه؟ لقد اعترفت بينها وبين نفسها أنه بقى في أفكارها طوال تلك الشهور التي لم تره فيها ولكنها كانت تخبر نفسها أن ذلك أمراً طبيعياً وسيذهب مع الوقت لكنها الآن تعترف أنها تحبه ولكن شعور الذنب والنقص الذي عاد إليه يشتتها كثيراً.
كانت ترتب شيئا على الرف حين فُتح الباب من ورائها فالتفت بابتسامة ترحيب تجمدت على وجهها حين رأت من الزائر.
تقدم حتى وقف على بُعد خطوتين منها كان هناك ضمادة صغيرة على رأسه وقد خف أثر الكدمات وذراعه مرفوعة بحامل على عنقه، نظراته متسائلة، كأنه يقرأ أفكارها. قال بنبرة هدوء واثقة: “ازيك يا حلا؟”
لم تتمكن من الرد في البداية، شعرت بضغط في صدرها وكأن الكلمات عالقة. تلعثمت، أخيرًا قالت: “أ.. الحمدلله. أنت خرجت امتى من المستشفى؟”
أجاب بنبرة عادية، لكن عينيه تحملان معاني غير مرئية: “من شوية.”
قالت بتوتر جلي: “حمدا لله على السلامة.”
رفع حاجبه، وتجلت مشاعر العتاب في نظراته، فتابع: “الله يسلمك. مش حاسة أنها متأخرة شوية؟”
خفضت نظراتها بحرج، وجدت نفسها تفكر في كل تلك الأيام التي قضتها بعيدًا عنه. تابع: “يعني أنا متوقعتش أنك بتكرهيني لدرجة أنك متجيش ولا مرة تشوفيني في المستشفى!”
رفعت رأسها وانكرت على الفور بقوة: أنا مش بكرهك!
هز رأسه وطالبها بإجابة: أمال مجتيش ليه؟ ولا مرة؟ حتى متصلتيش!
لم تعلم كيف ترد عليه فقلبت بصرها بعيداً، قال بحزم: أنا جاي النهاردة طالب منك رد ومش عايز غيره وأيا كان الرد أنا هقبله منك، أنا متأكد أنك عارفة مشاعري كويس علشان كدة مفيش داعي للف والدوران.
نظرت له بترقب وهي تتنفس ببطء فقال بوضوح: أنا بحبك تقبلي تتجوزيني؟
شعرت أنه سيغمى عليها فلم تتوقع أن يقولها بكل تلك الصراحة في وجهها ولم تكن مستعدة بتاتاً لهذه المواجهة، تداخلت الأفكار في رأسها، وبدأت تراجع كل اللحظات التي قضتها معه، وكل المشاعر التي كانت تخفيها في أعماقها.
“مالك، أنا…” بدأت تتلعثم، لكنها لم تستطع إكمال جملتها وزفرت بإحباط.
طالبها بإصرار: أنا سامعك وعايز إجابة واضحة يا حلا وصدقيني لو كانت سلبية أنا هتقبلها وهخرج من حياتك ومش هتشوفيني تاني أبدا بس أنا تعبت ومبقتش عايز أبقى تايه تاني وبرفض المعاملة دي منك أنا ممكن أتفهم أي حاجة إلا كدة!
انخفض صوته قليلاً و ظهر فيه خيبة الأمل: أنا كان بدأ يبقى عندي أمل لما شوفتك قلقانة عليا وكنت مستعد استنى لحد ما تبقي مستعدة بس كل اتمحى لما مجتيش حتى تشوفيني.
أغمضت عيونها بندم وهي ترغب في ضرب نفسها بشدة على غباءها فهي لا تتحمل سماع خيبة أمله فيها بهذا الشكل، كان يجب أن تكون أكثرا شجاعاً، لم يجب عليها فعل كل تلك الأمور الغبية لكنها فعلتها بدافع الخوف.
حاول استشفاف الحقيقة من وجهها فبحث بعينيه عن أي إجابة، لم تتحمل النظر في عينيه فاستدارت وبدأت دموعها في الهبوط كأنها تعبر عن مشاعرها التي لم تستطع التعبير عنها.
سمعت مالك يقول من خلفها، صوته يحمل نبرة مؤلمة: أعتقد كدة وصلتني الإجابة…..أوعدك مش هتشوفيني تاني.
شعرت بقبضة باردة تمسك قلبها من الرعب من فكرة عدم رؤيته مرة أخرى، فكرة خروجه للأبد من حياتها كفيلة بجلب المرض لها وعدم الرغبة في الحياة مرة أخرى.
التفتت بسرعة لتجده يخطو نحو الباب ويرفع يده ليمسك المقبض. صرخت لاشعوريًا: “استنى!”
تجمدت يده على المقبض، وأسرعت لتقف خلفه، تشعر بالدموع تنهمر على وجنتيها. “متمشيش،” قالت باكية، صوتها يرتجف.
تحت ضغوط مشاعرها، شعرت أن كل شيء ينهار حولها. لم يكن بإمكانها تحمل فكرة فقدانه، لذا واصلت حديثها، محاولة إيصال مشاعرها إليه. “أنا آسفة على كل شيء، على غبائي، على تصرفاتي وغلطي معاك واللي أنت أكيد متستاهلوش بس أنا كنت خايفة والله.”
توقفت لحظة، تشعر بأنفاسها تتقطع، ثم تابعت: “كنت خايفة أوي وأنا أنانية علشان خوفي ده كان على نفسي، كنت خايفة أجرب وأحاول تاني، كنت خايفة انجرح تاني، كنت خايفة أكون مش كفاية، أنا عارفة أني غلطت كتير ويمكن اللي بقوله يكون متأخر بس أنا مش عايزة أخسرك أنا… أنا بحبك.”
كان مالك لا يزال واقفًا، لكنه لم يتحرك، وكأن حياته تعتمد على هذه اللحظة.
تابعت حلا، متمسكة بأمل أن تصل إليه: “صدقني العيب مش فيك أبدا كان فيا وجوايا أنا عارفة أنك شخص كويس جدا علشان كدة كان جوايا إحساس بالنقص بعد كل اللي حصل أني مكنش كويسة كفاية ليك، الخداع اللي عشته كان صعب عليا جدا اتجاوزه، كان صعب عليا أني أصدق أنه سنين عشتها من حياتي كانت كلها كدب وخوفت أفشل، علشان كدة اتصرفت غلط أنا آسفة بجد.
حاولت الاقتراب أكثر، لكن الخوف من رد فعله كان يعصر قلبها. “أنا مش عايزاك تمشي بس لو مش قادر تسامحني، أنا هفهم أنا اتصرفت بطريقة مش كويسة خالص وأنت معاك حق تزعل.”
ظل صامتًا للحظة، ثم أخيرًا، قال بصوت منخفض، يكاد يُسمع: “حلا…”
انتظرت بترقب وقلبها يكاد يتوقف عن النبض لانتظارها إجابته،نظرت إليه بعينيها الممتلئتين بالأمل والخوف معًا، تشعر بأن كل لحظة تمر تزداد ثقلاً على قلبها. كأنها تعيش على حافة قرار قد يغير حياتها بالكامل.
التفت أخيراً وابتسم لها كانت ابتسامته صافية، تملؤها الراحة والتفاؤل، وكأن اعتراف حلا فتح أمامه أبوابًا جديدة للأمل. لمعت عيناه بحنان دافئ، واسترخى وجهه بطريقة لم يعتدها، وكأن حملًا ثقيلًا قد زال أخيرًا عن كاهله. ارتسمت على شفتيه ابتسامة عفوية، ليست فقط ابتسامة، بل انعكاس لمشاعر جياشة غمرت قلبه.
نظر إليها بحب لم تستطع أن تخطئه. لم تكن هناك حاجة لكلمات كثيرة؛ فقط تلك النظرة، وذلك الوميض في عينيه. قال بصوت يملؤه السعادة والراحة: أنا…. أنا مش قادر أصدق اللي بسمعه ده!
كانت كلمات بسيطة، كفيلة بأن تحرك مشاعر حلا بقوة. ابتسامته، ذلك النور الدافئ في عينيه، أزاح عنها كل الشكوك والخوف.
أكمل مالك بعمق وهو ينظر في عينيها: “أنا استنيت ده كتير أوي لدرجة مش قادر أصدقه.”
شعرت حلا برعشة خفيفة من التأثر، ولم تستطع منع نفسها من الابتسام بخجل.
توردت وجنتا حلا وهي تبتسم بخجل، تشعر بدفء كلماته يتسلل إلى أعماق قلبها. لم تكن تتوقع أن تعبيرها الصادق سيُحدث هذا الأثر العميق في نفسه ولكنها قالت بشجاعة غير معتادة منها: لا صدقني بجد، ولو عايزني أثبتت لك مستعدة أثبتت لك.
نظر مالك إليها بابتسامة واسعة، وكأن كلماتها أزاحت آخر ذرة من الشك في قلبه. شعر بتلك الشجاعة التي ظهرت فجأة في عينيها، وجعلته يزداد تعلقًا بها. اقترب منها خطوة أخرى، وقال بصوت دافئ: “صدقيني، أنا مش عايز غير إننا نبدأ من جديد مع بعض، من غير أي خوف أو تردد.”
شعرت حلا بقلبها يرفرف من السعادة، وكأن كل مخاوفها بدأت تتلاشى. همست: “معاك، مستعدة أبدأ من جديد.”
مر كل شيء بسرعة لدرجة لم تستوعبها فحين صحبها مالك بعد ذلك للمنزل تفاجأت بوجود الجميع والذين كانوا يعدوا المنزل ويزينوه للاحتفال.
قالت بدهشة: إيه كل ده؟
اقتربت منها إسراء تنفخ بالون وقالت ببهجة ممزوجة بالسخرية: حفلة الخطوبة أصلنا كنا بندعي ربنا تعقلي والحمد لله الدعوة استجابت.
حين أخذوها لإبدال ملابسها على عجل وقد ارتدت فستان جميل وواسع من اللون الأبيض معه حجاب مناسب، وقد ساعدتها إسراء وهديل وابنة خالتها بسعادة ووضعت زينة خفيفة على وجهها.
ذهبت للجلوس بجانب مالك بخجل الذي كان ينظر لها بسعادة وقد أبدل ملابسه وهي لا تفهم كيف لبدلة أنيقة وهو لم يغادر.
لحظات وسمعت حسام يدلف ويقول: من هنا ياعم الشيخ.
رفعت رأسها بصدمة: الشيخ؟
نظرت بهلع لإسراء التي اقتربت ووضعت منديل كتب الكتاب المزين باسمها واسم مالك وسألتها: هو فيه إيه؟
قالت إسراء بتهكم: أصل إحنا عارفين أنه أنك هبلة ومحدش يضمنك فقولنا نضمن نفسنا أحسن.
قالت حلا لمالك وقد ارتجف صوتها: “إحنا يعني… هنتجوز دلوقتي؟”
شعرت حلا بارتباكها يتزايد، لكن لم يكن لديها الوقت لتفكر كثيرًا. كان مالك ينظر إليها بترقب، وكأن تعبيرات وجهه تقول لها: “لا تخافي، أنا هنا معك.”
عاد تحدق لذلك المنزل المزخرف باسميهما وتسربت الطمأنينة إليها واكتمل عقد القرآن بسلاسة بينما يراقبهم الجميع بسعادة.
لم تصدق حين وقعت أنها أصبحت زوجة مالك بالفعل!
نظرت إليه بعيون مليئة بالدهشة والسعادة. كانت الابتسامة ترتسم على وجهه، وكأنها تنير المكان من حولهما. لم يكن هناك شيء يمكن أن يعكر صفو هذه اللحظة، أعلن الشيخ زواجهما فانطلقت التهاني من كل حد وصوب حولهم واحتضنت حلا والدتها التي كانت تبكي بسعادة.
قالت لها بتأثر: ربنا يهنيكي ويسعدك يا بنتي.
قبلتها حلا على خدها بحب واستقبلت التهاني من إسراء وهديل وابنة خالتها حتى شادي الذي كان يمزح بفرح.
قالت والدتها بحنان: هتمشي والبيت هيفضى عليا من تاني أهم حاجة تكوني مبسوطة.
اقترب مالك منهما وأمسك بيد والدة حلا وقال بنبرة واثقة: إحنا مش هنمشي في حتة من غيرك يا ماما.
نظرت له حلا ووالدتها بدهشة التي سارعت تقول: لا طبعا يابني أنت بتقول إيه!
قاطعها مالك بصرامة: مش هقبل أي أعذار منك، هتيجي تعيشي معانا بإذن الله بعد ما نرجع من شهر العسل وبعدين أنتِ عارفة أني محروم من حنان الأم من سنين يرضيكي دلوقتي تبخلي عليا بحنانك؟
تأثرت والدة حلا بشدة: لا طبعا يا حبيبي.
نظرت له بمزيج من الإعجاب والتقدير أنه لا يتوانى عن فعل ما يجعلها تحترمه أكثر فأكثر، بعد انتهاء الحفل أصرت والدة حلا على ذهابهما لوحدهما وأنها ستنتقل بعد شهر العسل كما قال مالك.
أوصلهم حسام بسبب إصابة يد مالك، كان يمسك بينما يصعدان لشقته ونظراتهما لا تفترق، فتح الباب بحماس وقال بلهفة: اتفضلي ياريت تعجبك ولو عايزة تغيري حاجة قوليلي.
رفعت حلا فستانها ودلفت بخطوات حذرة وهي تستكشف المكان بابتسامة خجولة، وقف في منتصف الصالة وقالت له بابتسامة عريضة: ماشاء الله شكلها جميل.
لاحظت نظراته المطولة لها فأخفضت نظراتها بخجل، مدي يده السليم ليضعها تحت ذقنها ويرفع وجهها له ويحدق في عينيها قائلا بصوت أجش: أخيرا.
فهمت ما يعينه ولكن كانت المشاعر أكبر من الكلمات فلم تتحدث، غمرته العواطف في تلك اللحظة فضمها إليها أخيرا بكل قوته رغم يده المصابة وهو يدفن وجهه في عنقها فيما حاوطته حلا بذراعيها عناقه يمدها بالأمان والسكينة، كانت هذه اللحظة دافئة وخاصة للغاية وقد تبخر كل شيء آخر من حولهما وبقى هما وحدهما ليمدا بعضهما بالحب والعطاء كأنه وعد لحياة جديدة مليئة بالحب والسعادة والثقة.
بعد أربع سنوات كان قد خرج من السجن بعد قضاء عقوبته في محاولة القتل وقد تنازلت حلا عن بقية التهم إكراماً لعمه ووالدته ورغبة منها في بدء حياة جديدة كلياً خالية من الماضي تماماً، كان السجن قد لقمه درساً قاسياً ليخرج إنسان آخر
راغباً في تطهير نفسه من كل خطاياه السابقة فذهب واعتذر من والدته وحاول أشقائه الإصلاح بينه وبين عمه فسمح له عمه بالعودة للمنزل وبعد بعض الوقت سامحه وبدوره اعترف أيضا أنه أخطأ في بعض النواحي، بدأ العمل في ورشة العائلة بدون تذمر وقد لاحظ الجميع التغيير في شخصيته خصوصا أنه أصبح أهدأ على غير العادة وكان يعمل بصمت ولا يعلموا أنه قد احترق حين أفاق وأدرك فظاعة أفعاله وضعف شخصيته السابقة وكم كان قريباً من تدمير حياته دون رجعة للأبد أمضى الوقت نادماً منذ ذلك الحين ويتمنى أن تسامحه حلا في يوم، كان يعمل بصمت وجد حين اقترح عليه عمه الزواج مرة أخرى بعد أن تأكد بنفسه من تغير شخصيته.
كان يجلس بصمت بينما عمه يعرض عليه الأمر وهو لا يستطيع أن ينكر أنه يرغب في البدء من جديد، أخبره عمه أنها أرملة لديها طفلة في الثانية من عمرها وتوفى زوجها حين كانت حامل.
كان يستمع بصمت حين قال عمه: الست هند عارفها؟
بحث في ذاكرته حين تذكر أنه بالفعل يعرفها لقد أتت عدة مرات بسبب تعامل بينهم.
حين رآه عمه صامت قال: إيه رأيك فيها؟
ليس بإمكان بسام إنكار إعجابه بها لقد كانت سيدة مكافحة رغم صغر سنها وتحملها المسؤولية بعد وفاة زوجها.
قال بسام بخفوت: اللي تشوفه ياعمي.
ابتسم فهمي برضا وهو يشير بعصاه: يعني عاجباك! أنت فاكرني مش عارفك يا واد!
ابتسم بسام خفية ليتابع عمه بجدية: على العموم أنا كلمتها وحسيت من ناحيتها قبول وهي متعرفش أي حاجة عن اللي حصل، خلي الماضي ماضي وطالما ربنا سترنا ندعي يكملها بالستر دايما.
أومأ بهدوء وقد أختفت ابتسامته وشعر بالتوتر من تذكر ذلك الماضي ربما عمه محق فلا داعي لذكر ذلك الماضي.
فجأة تطرق عمه لموضوع حساس وقال بتحذير: وأهم حاجة لازم تراعي ربنا في البنت الصغيرة دي، فاهم؟ أنا بنفسي هقف لك لو حسيت في يوم أنك بتبص لها بصة مش عاجباني ولا كلمتها كلمة تزعلها، دي أمانة.
قال بسام بحزم، عاقدا العزم: مش محتاج تقول ياعمي في عيوني.
لم يكن يحتاج لتلك الوصية فهو قرر من نفسه أنه لن يسئ معاملتها أبدا لقد تغيرت شخصيته بالفعل ولن يعود لأي من أفعاله السابقة ويرغب بصدق في إنشاء عائلة.
تنهد فهمي بعمق وقال بحكمة: أنا بنصحك لمصلحتك يابني، لازم تتقي ربنا فيها علشان ربنا يبارك لك، واسمع مني لو مقدرتش في يوم تكون أب، أوعى أبدا تكون جوز أم!
تمت….
•تابع الفصل التالي "رواية طلاق بائن" اضغط على اسم الرواية