رواية هل بعد الفراق يا امي لقاء الفصل الحادي و العشرون 21 - بقلم اية حسين
الفصل الواحد والعشرون: غاضبة مبتهجة
∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆
قضى الليلة واليوم التاليين في الدفنة وحضور العزاء مع عمّه رغم عدم ترحيب عمّه بذلك، وكلٌّ منهما ينظر للآخر نظرةً تقول: أنت من خرّبت كلَّ شيء.
لم يسمح له عمّه بالتعريف عن نفسه كونه ابنهما، لأن جميع المعزّين يظنّون أن ابني "إبراهيم" و"هدى" ماتا منذ سنين طويلة. كان "عمر" منهكًا نفسيًّا وجسديًّا، لا يقوى على الكلام حتى، أقصى ما استطاع فعله هو الوقوف في العزاء.
تمنّى أن يكون كلّ ما يحدث مجرد حلم، فالقصة تبدو أكثر عبثيّةً من أن تكون حقيقية، حين اكتشف أن أبويه لازالا على قيد الحياة ماتا، هذا مثيرٌ للشفقة والسخرية معًا، بالرغم من ذلك لم تنزل منه دمعة، بل لم يبدُ عليه شيء سوى ضيق تنفسه، كان جامدًا، شارد النّظرات وكأنّه مغيّب، أو كأنّ روحه انسحبت من جسده من شدّة الألم، ليبقى جسده متجولًا بين النّاس.
عاد أخيرًا إلى بيته، فتح الباب ليصطدم بشعلته الصغيرة، "إسراء".
∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆
دخلت "أروى" غرفة مكتبه ثم عطست بسبب عطره النفّاذ، جلست ثم استمعت لتحيّته بصوته الحاد. كانت في مقابلة عملٍ جديدة، غالبًا تعرف كيف ستنتهي: كفاءتكِ عالية، سنبلغكِ بردّنا خلال مدّةٍ محددة. ولا شيء يحدث بعد ذلك، لتعلم أنها رُفضت مجددًا. رغم هذا انتابها التوتر، أن تقف بين يدي شخص يعاينك ويحددّ لك مصيرك المهني، يبدو غايةَ الترقب بالنسبة لها تلك اللحظة.
قال الرجل مغيّرًا طريقة السؤال التقليدية:
- ده الكلام الي في الـCV طلع صح!
- أكيد ماكتبتوش إثارة فضول يعني
كانت "أروى" شامخة الرأس واثقة النبرة - بالرغم من رعشة يدها التي أخفتها، وارتعادها من الداخل -ممّا جعله يسأل حائرًا:
- منين الثقة ديه كلها؟ مش خايفة نرفضك عشان نقبل واحد مبصر طبيعي؟
أجابت بذات الثقة التي أعجبته:
- أنا طبيعية الحمدلله، ولو كل واحد كان عايز يقدم على وظيفة ماقدمش عليها عشان خايف من الي أحسن منه يبقى مفيش حد هيقدم على أي حاجة.
- وأنتِ هتعرفي تشتغلي ازاي أصلًا في حالتك ديه؟
- في أجهزة كثير جدًا بتساعد، زي المسجّلات الصوتية الي بتحوّل صوتي لكلام مكتوب، والبيركينز الي بيساعدني أكتب على كومبيوتر عادي، ده غير الكتابة على الورق بطريقة برايل، وإلا ماكنتش دخلت المجال ده من الأول لو مش مناسب ليا.
- أيوة بس أنتِ هتشتغلي صحفية، هتعرفي ازاي الأخبار أول بأول وتنقليها بصورة دقيقة من غير ماتشوفيها.
- حضرتك أكيد عارف إن في مصادر كثير ثانية وحواس أقدر أستخدمها غير البصر.
ثم جرت المحادثة بعدها كما المعتاد في أي مقابلة عمل قبل أن تنتهي مع تلميحٍ من الرجل لعدم القبول بسبب عماها. عادت "أروى" لمنزلها لتجد خالها "نجيب" يجلس على الأريكة. فور أن رآها تدخل من الباب ناداها متسائلًا عمّا جرى بالمقابلة فأجابت وهي تجلس إلى جواره متنهدة:
- زي كل مرة مفيش جديد، اشتغالة هنبقى نكلمك ومش عارف ايه ويطلع مفيش حاجة في الآخر.
ثم استكملت متذمرة:
- عشان مابشوفش طبعا.
قال "نجيب" مربتًا على كتفها مهوّنًا:
- معلش يا حبيبتي أنتِ لسة في الأول، بكرة إن شاء الله ربنا هيوفقك ويفتحها عليكِ وتعملي شغل هايل.
- مابلومش على أصحاب الجرايد والشركات بصراحة، ده المبصرين نصهم مش لاقيين شغل، أنا هلاقي؟!
شرد "نجيب" في حال ابنة أخته، الفتاة متحمسة للعمل بما درسته لكنه حماسٌ من طرفٍ واحد، ربما لو قضت عمرها كله تبحث عن فرصة لن تجد، لا أحد مستعدٌ لمنحها الفرصة، الجميع يريد المضمون المألوف. تساءل داخل نفسه، هل هناك من هم مثل ابنة أخته؟ تُرى كم "أروى" تحاول اقتناص فرصةٍ لإثبات نفسها رغم إعاقتها؟ وسّع نظرته أكثر، فشملت جميع ذوي الإعاقة وليس المكفوفين وضعاف البصر فقط.
ومضت الفكرة في باله، فكرة أن يطبّق ما فكّر فيه في مجال عمله. لمَ لا يحاول توظيف ذوي الإعاقة في عمله؟ حصل "نجيب" على منصبٍ عالٍ في شركة الشحن التي يعمل بها، لكنه ليس الآمر الناهي بخصوص التوظيف. احتفظ بشيءٍ من الودّ مع المدير الذي من اختصاصه تلك الأشياء، فكّر في عرض الفكرة عليه بطريقةٍ مهنيّة ذاكرًا مقدرة الكثير من ذوي الإعاقة على العمل.
∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆
دخل "عمر" شقته فوجد "إسراء" تسأله:
- "عمر" كنت فين من امبارح؟ كل ده في المستشفى؟!
قال بصوتٍ خافتٍ مبحوح قليلًا:
- لا ماكنتش في المستشفى جالي مشوار كده
- أنا عرفت إن أبونا وأمنا عايشين.
كان قولها بمثابة صاعقة لـ"عمر". لم يكن عاليًا بدرجةٍ كبيرة لكنه حمل لومًا كثيرًا. قالت "إسراء" بانكسار:
- ليه ماقلتليش؟
كان "عمر" مرهقًا لا يقوى على التبرير ولا النقاش، بل بقي صامتًا، فصرخت بصوتٍ مجلجل اهتزّ له قلب "عمر":
- رد عليّ ليه خبيت؟
انهمرت دموعها قائلة:
- هو أنت يعني مش عارف إني كل يوم بتمنى ألمحهم ولو في حلم؟ مش عارف إني بتعذب من غيرهم كل يوم؟ هو أنت مش عارف يا "عمر"؟
تغلّفت عينا "عمر" بالدمع، تمنّى أن يصالحها بجعلها تلقى أبويها لكن هذا غير ممكن. تغيرت نبرة صوت "إسراء" فخلا اللوم منها وهي تقول بشكلٍ يكسر القلب:
- أقول لك، خدني ليهم ومش مهم أي حاجة ثانية.
اقتربت منه فتمسكت بذراعه ترجوه مستطردة:
- وديني ليهم أرجوك يا "عمر".
وكأنّ تمسكها بذراعه، نطقها لاسمه، رجاؤها الذي لا يستطيع إجابته وهو يرجوه مثلها، القشة التي قسمت ظهر البعير، فسقط منهارًا على الأرض.
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( هل بعد الفراق يا امي لقاء) اسم الرواية