رواية هل بعد الفراق يا امي لقاء الفصل الخامس 5 - بقلم اية حسين
الفصل الخامس: لستُ أدرس كيف خان
∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆
تمر الأسابيع أسبوعًا يتلو الآخر، و تتلون لنا الحياة بألوانها يوم أبيض مضيء ويوم أسود معتم، و يوم رمادي ساكن، ويوم زهري مفعم، وتبقى ارواحنا تتخبط بين هذا وذاك، نزعم أننا قادرون على مواجهة الشدائد وحدنا، ونحن كالأوراق في مهب الريح نسقط، ولا نقوم إلا حينما نتذكر أن نطلب العون من خالقنا فلا نقوم إلا بعونه.
تمشّت "إسراء" في كليتها فظهر لها ذاك المزعج "مروان" يستوقفها وهو يقول:
- بقى ينفع الجميل يقف لوحده كده؟
لم تعره إهتمامًا بل تابعت مسيرتها فأمسك ذراعها لكي تقف قائلًا و قد تحول للجدية:
- "إسراء" استني، أنا بجد مش فاهم أنا عملت ايه عشان آخد منك المعاملة ديه.
عادت "إسراء" للخلف و هي تسحب ذراعها من قبضته قائلة بتوعد:
- ايدك لتوحشك.
- طب ممكن بس تسمعيني، مش هاخد من وقتك كثير.
قررت سماعه عله يريدها في موضوع مهم حقًّّا فربّعت ذراعيها و هي ترد:
- اتفضل
- أنا عارف إننا مابقالناش كثير نعرف بعض، بس عينيكِ ديه توقع أي حد الصراحة. أنا مش عارف ده حصل امتى بس أنا حاسس إن أنا معجب بيكِ.
- و الله؟!
أومأ لها مجيبًا فقالت بجدية شديدة حملت الغضب في طياتها:
- و بعد الإعجاب؟
- يعني حاسس لو اديتينا فرصة نتعرف و تشوفي كده مميزاتي ممكن يبقى في بيننا حاجة.
قالت في نبرة حملت الكثير من الإستهزاء:
- معجب بيا؟! وأديك فرصة؟! ويبقى في بيننا حاجة؟!
و كانت الجملة التي حظت بأكبر قد من الإستهزاء:
- ومميزاتك؟!
قال بإنزعاج من طريقتها:
- اه مميزاتي، أنا واثق إنك هتموتي ونرتبط أصلا بس بتثقلي.
أردف و هو يغمز:
- خلينا نتعرف بس و هتشوفي الدلع كله
- نتعرف في أنهي إطار؟
لم يجبها فتابعت هي:
- بص يا لذيذ أنت جو نتعرف و نتصاحب و الكلام العبيط ده أنا ماليش فيه و مبفهموش، معحب بواحدة و عايز تتعرف تروح تخبط على الباب سلام عليكم أنا عايز أخطب بنتكم، مش هتقدر تتجوز دلوقتي يبقى تتبط لحد ما تقدر، فياريت تتكل على الله من هنا.
أردفت تتوعده:
- و لو شفتك لازقلي في أي حتة ثاني ولا بتعمل حركة من حركاتك المتخلفة ديه هحفرلك قبرك بايدي.
اقترب صديقين لـ"مروان" فقال أحدهما بين ضحكاته:
- بهدلتك جامد
رد عليه "مروان" ساخطًا:
- بس يلا
ثم أضاف ونظره معلق على "إسراء" التي وقفت بعيدًا:
- بس بتتقل على فكرة
قال الثالث المنزعج من أفعال صديقيه:
- بتتقل ايه يابني أنت، سيبها في حالها يا "مروان" شكلها محترمة بجد.
قال الثاني والذي كان اسمه "فارس":
- محترمة؟! هو ده لبس ولا ديه طريقة كلام محترمة؟
أضاف عليه "مروان" فقال باسمًا:
- أسيبها ده ايه، ده أنا مش هحلها إلا أما تكون واقعة فيّ.
كانت "آية" تقف بالقرب منهما فاقتربت منها "إسراء" وهي تقول متأففة:
- عيل مستفز.
ردت عليها "آية":
- كنت واقفة قريب منكم وسمعت حبة من الي اتقال، منطق الصحوبية ده بقى منتشر ومستفز اوي بجد.
قالت "إسراء" باستخفاف:
- سيبك منه أنا هزأته واديته الي فيه النصيب... و لو جالي ثاني ههزأه ثاني.
لم يعجب "آية" ما فعلته "إسراء" وتفتخر به بل هي تراه لا يليق بها فقالت بعد تردد:
- بصي بصراحة يا "إسراء" أنا شايفة إن الي أنتِ عملتيه ده غلط.
تعجبت "إسراء" من قولها كثيرًا فسألت:
- ايه الي عملته غلط مش فاهمة؟
- يعني... إنك تكلميه بالأسلوب ده وتقفي تتخانقي وتزعقي كده مش حاجة صح.
قالت كلماتها بتردد، تخشى أن يخونها التعبير فتصبح و كأنها تُنَظِّر و في ذات الوقت لا تريد كتم النصيحة. أردفت تشرح:
- الإنسان المفروض يبقى عنده رُقي في التعامل مع الناس، حتى لو الشخص الي قدامي مش كويس أخلاقي ليا أنا والمفروض أحافظ عليها حتى لو اتعصبت أو مهما حصل. و...والبنت بالذات لازم يكون عندها حياء، يعني صوتها واطي و كلامها راقي و على القد. وأنتِ الصراحة يا "إسراء" ماعندكيش أي حاجة من ديه في تعاملك مع أي حد.
- قصدك إن أنا بجحة وقليلة الأدب؟
فوجئت "آية" باتهام "إسراء" واندفاعها الغريب فأسرعت وكأنها تبرئ ذاتها من جرم ما:
- لا طبعًا أكيد مش قصدي كده!
كانت "إسراء" مغتاظة من كلام "آية" السخيف فقالت بعصبية لم تكن مبررة بالنسبة لـ"آية":
- اومال قصدك ايه بقى يا حلوة؟
- مش قصدي حاجة كل الموضوع إني شايفة حاجة غلط قدامي فمحبيتش أكتم النصيحة.
كانت "إسراء" لاتزال في وضع الهجوم و "آية" في وضع الدفاع.
قالت "إسراء":
- والله؟! يعني أنتِ شايفة إني لما أصد واد زي ده صايع عايز يلعب بيا أبقى غلط؟!
- أكيد لا، بس في طريقة أحسن تصديه بيها.
- طريقة أحسن؟ الي هي ايه بقى؟ اقوله معلش يا حبيبي يا قمر أنت يا جميل يا كتكوت مبصاحبش ولاد؟
- لا كان ممكن تقولي بصوت واطي وتون صوت طبيعي مبصاحبش ولاد وتمشي على طول.
ثارت ثورة "إسراء" أكثر دون سبب منطقي و هي تقول:
- معلش بقى يا ست "آية"... أصلك واقفة مع واحدة بلطجية، ماشافتش تربية، وما تعرفش حاجة عن الرقة والرقي الي بتتكلمي عليهم دول... هو ده الي عايزة تقوليه صح؟
استنكرت "آية" رد فعلها بشدة، لمَ تهوِّل الأمر هكذا؟! قالت:
- "إسراء" هو في ايه بجد؟ مالك؟ مكبرة الموضوع كده ليه؟
- أنا بتاعة مشاكل يا ستي، وياريت تمشي بقى من هنا... امشي يا "آية".
رحلت "آية" بالفعل وهي تتمتم بكلمات تعجب واستنكار مما تفعله رفيقتها.
شردت "إسراء" بنظرها للأمام، أزعجها كلام "آية" كثيرًا، لم تقتنع أبدًا بأن عليها الصمت إن ضايقها أحدهم لأجل أخلاق وحياء وتلك السخافات، تذكرت- أثناء شرودها- زوجة عمها التي كانت لاتبرح تخبرها بكلام جارح بالنسبة لطفلة مثل: 'أنتِ التربية ماعدتش عليكِ قبل كده؟'، 'أنتِ جاية من الشارع أكيد' ،'ايه البلطجة الي أنتِ فيها ديه؟!' و لم تكُن حينها إلا طفلة بريئة تتصرف بعفوية.
دمعت عينها عندما تذكرت ذاك اليوم حين كانت صغيرة وضربت زميلة لها في المدرسة حين رأتها تتنمر على فتاة أخرى ظلت تبكي، أتى أبو الفتاة التي ضُربت لعمها بالمنزل، لأن عمها لم يُجِب طلب مدير المدرسة بالتأكيد.
جاء الرجل وأخذ يصرخ بعمها، و لم يُبكِها الآن إلا غيرتها من تلك الفتاة التي تمتلك أبًا يغضب من أجلها ويذهب ليردع من أذاها. غضب العم كثيرًا من أسلوب ذاك الرجل ومن "إسراء" التي وضعته في هذا الموقف الحرج فحبسها في غرفة مظلمة وهو يرغي و يزبد وزوجته تقول:
- أنا قلت إن ديه بت بلطجية وما اتربيتيش من الأول... أنا مش عارفة أبوكِ و أمك جابوكِ من الشارع ولا منين.
تذكرت كيف بكت طوال الليل بتلك الغرفة، ثم ابتسمت حين تذكرت وقفة "عمر" أمام الباب طوال الليل حين خرجت لحضنه، حينها أخذها لغرفتهما وعرَّفها خطأها قائلًا:
- ماكانش ينفع تروحي تضربيها عشان هتطلعي غلطانة، كان المفروض تروحي تنصحيها و تتكلمي معاها بهدوء، و لو ماسمعتش كلامك تقولي للمدرسة، وكده تبقي عملتي الي عليكِ.
ردت عليه بصوتها البريء النقي:
- أنا مكنتش عايزة أضربها بس هي الي عصبتني.
تبسم "عمر" ضاحكًا من قولها و رد:
- هي عصبتك؟! ماشي ياختي ابقي اكتمي عصبيتك بعد كده.
- حاضر
ثم رفعت إصبعها وقالت في لهجة المحذر:
- بس لو فضلت تضغط عليّ أنا مش مسؤولة.
ضحك "عمر" مما تقوله وكذلك تبسمت "إسراء" الكببرة وهي تتذكر الموقف.
∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆
- "عمر" هو أنت أكيد بتهزر صح؟
قالها "علي" غير مصدق لـ"عمر" الجالس على الكرسي في المقهى أمامه فرد عليه "عمر":
- لا مبهزرش
قال "علي" بملامح وجه مذهولة:
- اومال ايه يعني؟ ما أصل أكيد الموضوع وراه أي حاجة ثانية غير إن أمك وأبوك صحيوا من الموت.
رد "عمر" بخفوت:
- أو ماماتوش أصلا.
رد "علي" قاطعًا:
- أكيد لا!
أردف وقد ارتخت أوصاله:
- بص هي تسعة و تسعين في المية اشتغالة.
كان هذا الحوار يدور بعد أن أخبر "عمر" صديقه "علي" بأمر والديه الذي يشكّ في وفاتهما، لقد سئم من التفكير في الأمر دون جدوى فأراد إخبار أحد بالأمر عله يفكر معه ويجد حل، لم يجد إلا رفيقه "علي" ليخبره.
قال "عمر" مستنكرًا حين سمع قول "علي":
- والصورة؟
- فوتوشوب
قال "عمر" ساخرًا:
- ديه ورق؟
- عادي مفيش حد بيغلب اليومين دول.
- والناس الي سألتهم وقالوا لي إنهم شاوفوا أبويا واتعاملوا معاه؟
- مدفوعلهم
كانت ردود "علي" بسيطة جدًا لكنها لم تقنع "عمر" إذ قال:
- والي عملها هيعمل كده ليه؟ و مين؟
- و أنا ايش عرفني يابني؟ أنا بتوقع لكن أنا قاعد معاك اهو معرفش حاجة
صمت "عمر" للحظات ثم قال شيئًا، لكن "علي" لم يسمعه إذ وجده شاردًا ينظر أمامه، وتحديدًا إلى شيءٍ خلف "عمر".
∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆
في الوقت ذاته كانت "مي" تحدث "كريم" الجالس أمامها ببسمة شغوفة قائلة:
- وحشتني.
ثم أردفت:
- ومستنية اوي اليوم الي نبقى فيه مع بعض قدام الناس كلها.
لم تصمت بل تابعت و قد تخلل الحزن صوتها:
- هو أنت كمان مستني اليوم ده؟
قال وهو ينظر نحو عينيها:
- طبعًا يا عيوني.
- طب مابتيجيش ليه بقى عشان تريحني من الي أنا فيه؟
كاد يرد لولا سمعها تستطرد:
- النهارده كنا بنشوف الشقة... الشقة الي المفروض إني هعيش فيها مع غيرك.
نزلت من عينها عبرة حيث قالت:
- أنا خايفة ده يحصل.... ده لو حصل أنا ممكن يجرالي حاجة يا "كريم".
قال بنبرة بدت دافئة حنونة تخمد النيران داخلها:
- مش هيحصل يا عيوني، صدقيني مش هيحصل.
لم تعبأ بما قاله على عكس عادتها إذ سألته والعبرات تنزل:
- "كريم" هو أنت شايفني تسلية؟! يعني واحدة خاينة وقذرة كده أتسلى بيها شوية؟
- أكيد لا! محدش يقدر يقول عليكِ حاجة زي كده.
زادت عبراتها و ارتفع صوت نحيبها وهي تقول:
- "كريم" أنا بحبك ماتسيبنيش عشان خاطري أنا خايفة.
لا تعلم "مي" ما بها ولا ماذا حدث لكنها غير مرتاحة، تشعر بأن شيئًا سيئًا سيقع.
لم يدُر هذا الحديث في ذات الوقت فقط بل في ذات المكان كذلك إذ كان "عمر" و "علي" يجلسان على الطاولة التي خلفهما كانت "مي" توليهما ظهرها لذلك لم تره، أما "كريم" فقد رآه لكنه لا يعرف شكله. أتاح هذا الفرصة لـ"علي" ليرى ويسمع كل شيء.
بدا "علي" ساكنًا وهو ينظر إليها دون أن تراه ودماؤه تغلي كحمم البركان، وقد غطّت عينيه طبقة من وخز الدمع وكل ما يتردد في ذهنه هو: لماذا يا "مي"؟
لماذا يا من سهرتُ أدعو لأنال رضاها؟ لماذا يا من رسمتُها في أحلامي مرّات و مرّات؟ لمَ رفعتِني لأعلى سماء ببسمتكِ ثم أطرحتِني أرضًا بقسوة؟
نظر "عمر" خلفه ليعلم ما يشغل بال صديقه فاتسعت عيناه دهشةً مما رآه، تلك الفتاة التي سرقت لبّ "علي" وجعلته يفكر بها حين يستيقظ وحتى ينام! لم يحتمل "علي" المكوث أكثر من ذلك فقام وخرج من المقهى بسرعة خاطفة. قام "عمر" للحاق به وهو ينادي اسمه، سمعته "مي" يناديه حين قام فلطمت خدّها وقد أدركت أنها كُشِفَت و أن يومًا أسودًا سيمرُّ عليها.
∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆
مشى "علي" دون وجهة محددة و"عمر" يتبعه، حتى توقفا عندما اعترض "عمر" طريق "علي" بعد أن كان يسير خلفه. سأله "عمر":
- أنت رايح فين كده؟
أجابه "علي" وقد سكنت الحيرة عينيه العسليتين:
- مش عارف
طال الصمت بينهما بعدها قبل أن يقول "عمر" ذاك الكلام التقليدي الذي يُقال في تلك المواقف:
- ماتزعلش نفسك علشانها هي ماتستاهلكش، أنت أكيد عارف إن أنت تستاهل واحدة أحسن منها مليون مرة، واحمد ربنا إنها اتكشفتلك و أنتم لسة في الخطوبة، مين يعلم ممكن يكون ده خير ليك وليها.
طلب منه "علي" الانصراف لأنه يريد أن يبقى وحيدًا، رحل "عمر" فهو يعرف صديقه، عندما يغضب يفضل الجلوس وحيدًا، يحلل الموقف ويفهمه ثم يقرر كيف يتصرف معه، كان ذلك أسلوبه المُتَبَع منذ الصغر.
لم يرد العودة لمنزله فوقف في أحد الشوارع وطال شروده تطوف عيناه في كل اتجاه حوله بطريقة تجعله يبدو كمن يستطلع المكان لكنه في الحقيقة لم يكن يرى أو يهتم يأي شيء يحيط به.
يشعر الآن وكأنه كان على أرض ساكنة آمنة ثم اهتزت و زُلزلت فجأة، فسقط فاقدًا كل شيء، سقطةً كسرته وآلمته. كيف "مي"؟ تلك التي لا ترفع عينيها عن الأرض، كلامها قليل و إن تكلمت يكون صوتها خافت يوحي بقدر حيائها تـخـ... تـخـ...
لا يقدر على نطق الكلمة في ذهنه حتى فكيف فعلتها هي على الواقع؟ كان دومًا يكرر أنه لم يرَ في حيائها وأدبها وخجلها فكيف؟
يصف حاله بشدة ما قال "فاروق جويدة":
«كان في عينيك شيء لا يخون.... لستُ أدري كيف خان»
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( هل بعد الفراق يا امي لقاء) اسم الرواية