رواية هل بعد الفراق يا امي لقاء الفصل السادس 6 - بقلم اية حسين
الفصل السادس: المصائب لا تأتي فُرادى
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أعتذر إن كنت قد نسيت فصل يوم الاثنين.
جلست تهز قدميها في توتر و زوجها يطمئنها متعجبًا من توترها
قالت "هدى" و هي تلوِّح بيديها في انفعال:
- مش معقول الي بيحصل ده، احنا بقالنا حوالي شهر ما دخلناش بيتنا...
أضافت ببعض التهكم:
- أصل عاملكم مفاجأة، هنغير جو يومين في فندق، المكان ده حلو نجربه، في مشاكل في الشقة...
ثم التفتت لزوجها تسأل و قد علا صوتها:
- هو أخوك ناوي على ايه بالظبط؟!
قال "ابراهيم" محاولًا تهدئتها:
- يا ستي مش ناوي على حاجة، أنتِ مكبرة الموضوع ليه؟
- يعني الي بيحصل ده عادي؟!
- هو في حاجة غريبة طبعًا ما أنكرش، بس مش مستاهلة القلق ده كله.
في المساء زارهما "اسماعيل"، و لم يتوقف "إبراهيم" عن طرح الأسئلة بحسن نية، كما يفعل منذ شهر و لا يجد إجابة شافية عند أخيه.
أثناء جلستهم أتى "إبراهيمَ" اتصالٌ فقام ليرد، حينها نظرت "هدى" لـ"إسماعيل" فسألته:
- أنت ناوي على ايه يا "إسماعيل"؟
نفى ادّعاءها قائلًا براءة زائفة:
- مش ناوي على حاجة.
قالت "هدى" بلهجة المُحَذِّر:
- اسمع يا "إسماعيل"، أنا مش عارفة أنت عايز ايه ولا بتعمل كده ليه... بس مهما كان الي هتعمله فهو مش من حقك لأن مش كل حاجة عاوزها بتاخدها... أخوك مش ذنبه إنه اتجوزني... ولا أنا ذنبي إني ماحبيتكش.
∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆
كانت "آية" تجلس داخل قاعة المحاضرات تتابع ما يُقال حين دخلت عليها "إسراء" ثم جلست بجانبها فدفعتها للجانب الآخر دفعةً يسبرةً مقصودة. قالت "آية" بفتور فور أن لاحظت وجودها دون النظر إليها:
- و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته، نسيتي تسلمي.
لم تعلق "إسراء" فاستمر الصمت قبل أن تقول "إسراء" بنبرةِ العابث:
- بقولك يا ايوش
لم ترد "آية" بل اصطنعت التركيز في المحاضرة، لم تعرف "إسراء" إن كانت "آية" لاتزال غاضبةً منها أم أنها تركز على المحاضرة ولا تنتبه لها بالفعل، فقالت و قد التزمت الجدية هذه المرة:
- طب بصي، هو أنا آسفة على الي حصل امبارح، ماكانش المفروض أتعصب معاكِ كده ولا أعاملك بالأسلوب ده... أنا حتى معرفش عملت كده ليه.
صمتت هنيهة فاستطردت:
- رغم إني مش مقتنعة بكلامك أنا بعترف إني غلطانة في حقك و بعتذر لك.
مرت دقائق صمت و "إسراء" تترقب قولها بارتياب من صمتهت قبل أن تنظر لها "آية" ببسمة خفيفة ثم تقول:
- و أنا قبلت الاعتذار.
ثم مدَّت يدها للتصافحا علامةً للصلح.
ثم قالت و هي ترفع سبابتها:
- بس هنتكلم في الموضوع ده ثاني على فكرة
زفرت "إسراء" بضجر.
حين رحلت "آية" من أمام "إسراء" في المرة السابقة، كانت غاضبةً منها و من أسلوبها و سلاطة لسانها، فعزمت على عدم مرافقتها إلا إذا اعترفت بخطئها.
لم تكن تنتظر منها إلا اعتذار، و بهذا الاعتذار سامحتها و أزالت الخصام.
جميلة تلك الصداقات التي مهما تشاجر اطرافها يعودون و كأن شيئًا لم يكن، نغضب، نسيء الفهم، نقول لا حديث بيننا ثانيةً ثم ننسى كل شيء.
بدا رداؤها مختلفًا عن كل يوم، كانت ترتردي رداءً أبيضًا نُقشت الفراشات الزقاء على أطرافه، تتكاثف الفراشات عند نهاية الرداء ثم تقل عند الوسط ثم تكثر مجددًا قرب الأكتاف، و ارتدت شالًا أزرقًا بلون الفراشات أنزلته ليستر جسدها كعادتها. أجابت ببسمة:
- اه، هو مختلف شوية عن الي متعودة ألبسه، شكله حلو؟
- قمر بصراحة، جديد؟
- أيوة
ثم ردت على مجاملة "إسراء" بلطف.
شردت "إسراء" قليلًا تلك اللحظة، نظرت لـ"آية"، تلك الفتاة الرقيقة العفيفة، بريئة بسيطة لا يحتاج المرء للتكلف أثناء تواجده معها، تأملت "إسراء" فيما تلبس، رداء فضفاض بسيط لا يظهر مفاتنها و حجاب رقيق أنزلته على جسدها، لفتت نظرها الآن لشيء ما... لم تفكر "إسراء" يومًا بالحجاب، حين تنظر لـحال "آية" تستغرب، ترتدي حجابًا واسعًا بحق و تتصرف على أساسه ليس كالكثير من الفتيات المحجبات، هل يُشعرها بالضيق ربما من كونها أنثى أصلًا؟ كيف استطاعت المواظبة عليه و ما الذي دفعها لترتديه بالأساس؟ ما هو الذي جعل "آية" ترتدي الحجاب و لم يجعل "إسراء" تلتفت له حتى؟
قالت فجأة:
- "آية" هو أنتِ ايه الي خلاكِ تلبسي الحجاب؟
استغربت "آية" من مفاجأة السؤال لكنها أجابت:
- عشان ربنا أمرنا بكده،
إجابةٌ بسيطةٌ سهلةٌ تلقائية، لكنها عظيمة، "لأن ربي أمرني بهذا" لم تتفلسف، لم تضف شيئًا من عندها، ترتديه لأن الله أمر! أن تفعل الشيء لأن الله أمرك به، أن تسلم له فلا تحاول التفلسف و إيجاد حلول حول هذا الأمر، لأن الحل ببساطة هو تنفيذ ما أمر الله، أن تنظر إليه من وجهة أن أحكم الحاكمين و أعلم العالمين قد أمر، فلا تحاول التشكيك في غرضه أو فائدته لأن عقولنا الصغيرة قد تعجز أحيانًا عن فهم الحكمة من الفرض أو النهي، و لأن لا حكم بعد حكمه، و هو يرى و نحن لا نرى، و هو يعلم و نحن لا نعلم.
ألحقت "إسراء" سؤالها بسؤال:
- ماشي يعني أنا قصدي لبستيه امتى؟ يعني امتى الوقت الي قررتي إنك لازم تلبسيه؟
- في الوقت الطبيبعي الي المفروض ألبسه فيه، أول ما بلغت.
- لبستيه و أنتِ صغيرة اوي كده على طول؟!
رفعت "آية" كتفيها فقالت:
- ماكنتش صغيرة اوي كده أنا كنت بلغت فده طبيعي.
- مابتحسيش ساعات إنك مش عاجبك شكلك ولا إنه مكبرك و مغطي جمالك مخليكِ شاذة عن الي حواليكِ و كده؟
- زمان و أنا صغيرة، دلوقتي أنا اتعودت عليه فخلاص.
شردت "إسراء" تبحث داخل عقلها عن سؤال آخر لتتضح الصورة الكاملة، كيف تفكر فتاة كـ"آية" بحجابها؟ و ما الذي يدفعها باستمرار لترتديه؟ لمَ تحاول المعرفة؟ هي لا تعلم، لقد شُدت لمظهرها الذي لم تفكر به منذ عرفتها فجأةً و دون سبب.
تكلمت "آية" تكمل بعد أن شعرت بأن "إسراء" تريد إجابات أكثر فقالت:
- بصي هو أنا أول ما لبسته كنت متضايقة منه اوي و مش عاجبني خالص، و كل أما أشوف بنات صحابي أحس إني أكبر منهم عشان لبسي، عشان كان مفروض عليّ من أهلي من الأول ما ألبسش أي حاجة ضيقة أو تبين، عكس أغلب بنات سني الي كانوا حتى الي اتحجبت منهم بتبقى لابسة ضيق و كده عشان لسة في الأول. كنا خناقات كل يوم تقريبًا على موضوع لبسي، كنت دايمًا بحاول أقنعهم إنه لو البلوزة قصرت شوية و البنطلون ضاق حبة مش هتبقى مشكلة، و لما ما يرضوش أقلبها عياط.
أردفت تسخر من نفسها:
- كنت هبلة شوية،
تابعت حديثها بحب و هي تذكر دور والديها:
- بس عارفة الحلو ايه؟ إن اهلي ما وافقوش إني أضيق لبسي أبدًا مهما كنت بعيط و أتخانق و أستعطف، كنت بتضايق اوي، بس دلوقتي ديه أكثر حاجة بشكرهم عليها عشان لو كانوا سابوني ألبس الي عايزاه كان هيبقى صعب اوي أوسع لبسي بعد كده، عشان كنت هبقى اتعودت و صعب الإنسان يغير حاجة اتعود عليها، لكن دلوقتي هو سهل جدًا عليّ عشان أنا لابساه من و أنا صغيرة فاتعودت.
استغربت "إسراء" حديثها، كان لباسها واسعًا لا يليق بفتاة في الثالثة عشرة. قالت:
- يعني أنتِ لبسك كده من و أنتِ صغيرة؟!
- اه، بس الطرحة كانت أقصر شوية.
تشعر "آية" بامتنان كبير لوالديها لأنهما لم يجعلاها ترتدي ما تهواه في مراهقتها إذ كانت تعلم أن هناك نوعٌ من الحب لا يتضمن الكلام، إنه حين يريدك مُحبك في أحسن صورة لك، يريدك دومًا إلى الله أقرب، يريد أن يلقاك في الجنة، فيدفعك دفعًا للطاعات، قد يخلق هذا الدفع بعض المشاحنات، و قد يكون هذا النوع من الحب خانق أحيانًا إن زاد عن حده، لكنه يبقى من أجمل صور الحب.
تساءلت "آية"، لماذا فتحت "إسراء" ذاك الحوار؟ هل تفكر بالحجاب؟ بدا الحماس عليها فجأةً و احتلت محيّاها أمارات البهجة و هي تسأل:
- "إسراء" هو أنتِ بتفكري في الحجاب؟!
لا تملك "إسراء" إجابةً محددةً الآن، لقد قفز السؤال إلى بالها فجأة. أجابت:
- مش عارفة، يعني أنا عمري ما فكرت في الحجاب ده في حياتي أصلًا، يعني ما حدش قال لي قبل كده البسيه، عمري ما حسيت إنه مهم ولا إنه هيفرق في حاجة.
فور أن أنهت جملتها أتاها ردُّ "آية" قاطعًا:
- مهم جدًا طبعًا، ده فرض عليكِ كمسلمة، و من غيره بتاخدي ذنوب كثير.
هزّت "إسراء" كتفيها و لم تعلق. تفكرت في حالها، لم يقم أحد بتعليمها أساسات دينها، حتى الصلاة تعلمتْها في المدرسة. شعرت بغصّة حين تذكرت كلام "آية" عن والديها، هل كانت ستصبح أفضل حالًا إن كان والداها هنا؟
∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆
استيقظ "علي" على صوت ابنة شقيقته تحاول ايقاظه و تربت على كتفه بيديها الرقيقتين ليصحو، حين فتح عينيه و رآها ابتسم، تحمل تلك الكائنة الصغيرة كمًا كبيرًا من اللطافة تجبر الإنسان على الابتسام فتجعله يذعن لها. أحيانًا أو ربما كثيرًا تكون مزعجة كثيرة البكاء تجعل "علي" يلعنها و يلعن شقيقته التي ولدتها في ساعة واحدة لكنه سرعان ما يعود ليُقَبِّلها و يعتذر لها حين يرى أمارات الحزن على محيّاها، تلك الطفلة لديها سحر!
قام من سريره، فعادت إلى ذاكرته تفاصيل ما حدث بالأمس، فأصيبت دماغه بالصداع، مشى بخطوات متثاقلة حيث الحمام، لمَ ييدو المشي أصعب؟ هل هو الغم حين يثقل صاحبه؟ لمْ يجلس كثيرًا في البيت بل نزل فورًا إذ كان متأخرًا على عمله في العيادة.
في طريقه للذهاب، ظلَّت الذكريات ترن في رأسه كذبابة مزعجة، أول مرة لقيها فيها، أول مرة اخترقت ابتسامتها حواجز قلبه، أول مرة سحرته عيناها، أول مرة... أول مرة... سخر من نفسه، ما تلك المشاعر إلا وهم، كانت هي تتجول بعقله و قلبه و تعبث بهما بحرية، أما هو فلم يتعدَّ حدود الهواء الذي يفصل بينهما.
نزل من وسيلة المواصلات و هو يتشمم رائحة الدخان القوية التي تنبعث من المبنى الذي يحترق هناك، لم يهتم في البداية، لكنه كلما اقترب خطوة من حيث تكون عيادته زادت الرائحة و بدا الدخان أقرب، وصل حيث العيادة فصُدم بالحقيقة..... إنها عيادته التي تحترق!
وجد الرجال يحاولون إطفاء النار بسطول الماء فأخذ سطلًا من أحدهم و تحرك معهم و قد شعر أن النار تشتعل في قلبه كذلك. و النساء و الأطفال الذين يشاهدون المنظر من بعيد يصرخون ذعرًا. كانوا على هذا الحال حتى أتت الإسعاف و المطافئ لتلملم هذا الشعث.
∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆∆
كان "عمر" في طريقه حيث عيادة "علي" بعد أن انتهى من عمله، يريد أن يقضي معه يومًا لطيفًا علّه يخفف عنه و يلهيه عن ألمه، يعلم كم بلغ حبه لـ"مي"، كان يبدو أحيانًا في حبها كبطل قصة رومانسية، مما يدعو "عمر" للتعجب، تذكر كيف كان عندما وافق أبوها عليه، أخذ يركض و يصيح كطفل و كأنه بتلك الطريقة يعبر عن السعادة بداخله التي قد تؤدي لانفجاره.
أراد أن يقول له: «إنجازٌ عظيمٌ أن تقوم من سريرك، أن تحاول من جديد، أن تكمل حياتك و تشق طريقك، رغم ما بك من شعور بالخذلان... أنا فخورٌ بك! قد يبدو هذا الحدث عظيمًا و قد تسبب في شرخ كبير في قلبك ثم تعمق حتى كسره، لكنه سيخف و تخف وطأته، و إن بقى هناك منزويًا في ركنٍ صغيرٍ داخل قلبك، فاصبر... اصبر و اعلم أنني هنا من أجلك... و أنني فخورٌ بك»
لكنه لم يعرف كيف يصوغها فلم يقل شيئًا.
عندما وصل هاله المنظر، فقد كان المبنى الذي به العيادة أسودًا مدمرًا ممتلئًا بالرماد وكأن بركانًا قام فيه منذ دقائق. و بعض الناس مجتمعة تتطلع نحو هذا الشاب الذي يجلس على الرصيف متحسرًا، لقد كان "علي".
اقترب منه "عمر" و سأله فَزِعًا عمّا حدث، أجابه "علي" بصوت مرهق و نبرة يملؤها التحسر:
- زي ما أنت شايف، ولعت باللي فيها.
جلس "عمر" بجانبه و هو يفرش أسئلته:
- أيوة يعني ايه الي خلاها تولع؟ أنت كنت جوة ولا ايه الي حصل؟ في حد جراله حاجة؟ اديني التفاصيل.
- معرفش أنا جيت لقيتها بتولع، لقيت الرجالة بيحاولوا يطفوا بجرادل مياة لحد ما جت الإسعاف و المطافي أخذوا الممرضة و الاثنين الثانيين الي كانوا جوة المستشفى و طفوها.
- و أنت سليم ما جرالكش حاجة؟
رد "علي" بتذمر لغباء سؤاله:
- ما أنا قاعد قدامك اهو.
كان "علي" يندب حظه قائلًا:
- ده أنا كان بقالي سنين بحلم باليوم الي هفتح عيادة فيه، و أول ما أفتحها تولع، ديه كانت يادوب بدأت يجيلها ناس.
ابتسم "علي" متهكمًا من حاله، بالأمس يكتشف أن خطيبته العزيزة تخونه، و اليوم تحترق عيادته التي كثيرًا ما حلم بفتحها، صدق العرب حين قالوا أن المصائب لا تأتي فُرادى.
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( هل بعد الفراق يا امي لقاء) اسم الرواية