رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل الرابع و السبعون 74 - بقلم نهال مصطفي
-ينفـع نأجل أي مشاوير النهـاردة ونقعد سوا نتكلم ، أنا بحب وقتنا مع بعض أوي .. الوقت معاك بيطير أصلًا ..
ربت على ظهرها برفق وقال :
-بس ده مشوار ضروري .. مش هينفع نأجله ، بس ممكن بعد ما نخلصـه نروح نقعد ونتكلم فـ المكان الـ تختاريـه ..
فارقت حضنـه وهي تجفف آثار الدموع متفهمة :
-تمام .. هلبس بسـرعة وننزل ، مش هتأخر عليـك ..
ما كادت أن تبتعد عنه ثم تحركت بعجل نحو الكومود وسكبت القليل من الماء لتتناول جُرعتها اليومية من أقراص منع الحمـل وقالت بنبرة مازحة :
-أهم حاجة قبل ما أنسى ...
••••••
~بغُرفـة مُراد ..
-فيـن غاليـة ؟!
تلك كانت جملتـه الأولى بعدمـا تفتحت عيناه فوجد الفراش خاليـًا من صغيرته المدللة التي كانت تفصل بينهمـا طول الليـل .. فارقت عاليـة النافذة و أجابت على مضض :
-والله !! غالية بقيت واخدة كُل تفكيـرك وأنا اتركنت على الرف خلاص ..
ثم دنت منه بخطـواتٍ مُثقلة وهي تقفل صوت المنبـه :
-مع سيـدة قاعدة بالولاد فـ الجنينة عشان الشمس ، قالت أنهم لازم يتعرضوا للشمس كتير الفترة دي ..
ثم زفرت بامتعاض وهي تجلس على طرف التخت :
-قوم يلا روح شُغلك وأنا هجهز الشُنط عشان نمشي بالليل..
اعتدل من نومتـه بابتسامتـه العريضة التي تُنير وجهه وأخذت يداه تُداعب وجنتها بلطف :
-أنتِ لسه زعلانة ! مايبقاش قلبـك أسود يا عاليـة ..
تمادت في إظهار غضبها لتنال الكثير من الدلال :
-لسه حسابك ما خلصش .. أنت بس نمت هنا عشان عاصي اتدخل ، غيـر كده أنا لسه زعلانة !
-طيب أنا مايرضنيش زعلك !!
ثم رفع رأسه ليضع قُبلة على جبهتها وقال :
-وأدي راسك أهي ياستي ..
زام ثغرها وبأعين ضائقة قالت :
-والله !! خالتك أنا بتبوس راسها!! قوم يا مراد قوم شوف شغلك .. قوم يا بتاع الرقاصـة ..
انفجـر ضاحكـًا وهي يعاتبها ويقول :
-أهو انا نسيت وأنتِ بتفكريني !! أنا بريء ..
-أنت !! أنتَ وأخوك طلعتوا مشكلة كبيرة ، أنا أيه وقعني فـ العيلة دي بس ياربي !..
-قدري الحلو ..
كادت أن تنهض من جاره ولكنه منعها عنوة لتجلس بمكانها وهو يقترب منها مداعبًا خصلات شعرها ويقول :
-أنتِ عارفة مفيش واحدة تملأ عيني زيك ..
تململت مدللة :
-أهو كله كلام !!
-طيب أيـه !!
تأرجحت عينيها التي تتأمل ملامحه المتوقة لهـا وقالت بغنجٍ :
-أيـه !!
سافرت يداه من أرضها السوداء لـ تضاريس إقليمها المزدهر ومن الخصر للردف باتت يده المتوقة تنشر بذور نواياه .. ليردف بذلك النبرة التي تحمل باقـة من الحب لتنضم لتلال أراضيها المدججة بالمشاعر :
-إحنـا هنخاوي غاليـة أمتى !
بللت حلقها الذي جف إثر لمساته الحنونة التي سلبت عقلها وحزنها وتسألت بحماقة :
-أمتى !!
-دلوقتِ ..
سلبها من عالمها المنزعج منه إلى عالمه المليء بالمشاعر والأحاسيس الجميلة التي لا توصف حيث جنحت الشمس نحو المغيب لتذوب في بحـر الهوى مع ذلك الرجل الذي اخترق حصونها حتى باتت جزء لا يتجزأ منه ...
•••••••
~بغُرفة تميم .
-مـش شمس حامل ، والله زي ما بقول لك ، أمك حامل .. أنا كُنت متنح زيك كده لمـا سمعـت ، أبسط يا عم جاي لك أخت او أخ في السكة ..
يجلس على الأريكـة يبث أخبـاره السعيدة لصغيره الذي يستمع له بإنصات وكأنه يعي كل كلمة يقولها ، لملمت شمس سجادة الصلاة لتفرغ من ركعتي الضُحى وقالت باستهزاء :
-أنتَ ليه مش مستوعب أن مصطفى ٨ شهور مش ٨ سنين !!
ثم تركت السجادة على الأريكة وقالت بنبرة جافة تحمل العتاب الساخر :
-وبعدين أيه أمك حامل دي !!
ضحك تمـيم بهدوء ثم قال :
-أنا وابني فاهميـن بعض كويس .. ولاه يا طاطا أنت مش فاهم ؟!! ثانيا أومال أقوله أيه !! ما أمه حامـل فعلًا .. دي مفيهاش شكليات .
اكتفت بإرسال نظرة حادة لعنـده مع زفير قوي :
-قول أي حاجة غير أمك حامل دي !! كده ابني ياخد عني فكرة مش كويسة !!
رفع حاجبـيه متعجبًا :
-لا اله إلا الله !! أنتِ هتكفرينا ليه يا ستي !! ما هو أخوه جاي بنفس الطريقة الـ جيه بيها !! بقول لك أيه تزويق في الثوابت مش عايز الله يراضيكِ ! أحنا بنتشعبط فـ رضا ربنا !
شرعت تلملم الملابس المبعثرة وهي تقول بلومٍ :
-والله !! وكان فين رضا ربنا ده وأنتَ بتملي عينك من الرقاصة إمبارح !! هااه ولا نسيت ؟
خر ضاحكـًا وهو يوجـه حديثـه لصغيره قاصدًا أن يُعاتبها بطريقة لطيفة وقال :
-أمك مش بترقص لي يا طاطا يرضيك أنتَ الكلام ده !!
ثم طالعها :
-حتى الولد مش عاجبه وتنح !!
-أنا دكتورة !! أزاي عايزني أرقص والكلام الفارغ ده ..؟!
-متتعصبش ياطاطا ، سيب لي أنا الطلعة دي !!
وضع صغيـره على الأريكـة إثر اندلاع صرخة لطيفة منه .. مصدومًا بعد ما ألقى جملته .. ثم وثب قائمًا لعندها :
-وأيه يعني دكتورة!! وأنا متجوزك من مكتب تنسيق !! لا بقول لك أيه الجو ده ما ياكلش معايـا .. دكتورة برة الأوضة دي !!
ثم طوق خصرها ليُقربها لعنده وقال هامسًا :
-لكن جوه الأوضـة دي أنا عايزك مُهرة ..
تملصت من قبضته بخجل جعلها ترتبك وتحتد نبرتها :
-تميم !! أنت بتقول أيه ؟! عيب كده ، وبعدين أيه الرقاصـة دي الـ بتشبهني بيها !! أنت متجوز دكتورة محترمة يا استاذ !!
رفع حاجبه مستنكرًا وبنظرة خبيثة أردف :
-وهي الدكتورة تتمرمغ فـ حضني عادي لكن مترقصش !! دا أنتِ يومك مش معدي !! الموضوع ده لازم له وقفه حالًا .
صرخت بوجهه كي يصمت كي يكف عن إحراجها أكثر فأخذت تدفعه للخارج :
-تميم روح شوف شغلك ، يلا يلا عشان أنت شكلك فايق ورايق على الصبح .. يلا اخرج من هنا أنا غلطانة إني سمحت لك تدخل أصلًا ..
باغتـها وهي يحملهـا عنوة ليُجلسها بجوار صغيره وقال طالبًا :
-ولاه يا طاطا عقـل أمك لحد ما أرجع من الشغل ، عشان هبت منها على الآخر ..
ثم أخرج هاتفـه وقال :
-أما اطمن على كريم الغلبان أشـوف أضحك عليه زيي ولا أنا خدت المقلب كله لوحدي !!
هبت معترضـة وهي تشد الهاتف منه :
-لا أنا هكلم نوران اطمن عليهـا .. وسع كده ..
أجـرت مُكالمـة هاتفيـة مع أختها فجلس بجوارها قائلًا :
-افتحي المايك .
عاندته قائلة بدلالٍ :
-لا .. ومتقعدش جمبي وسع يا بتاع ست مهرة !!
غمز بطرف عينيه قائلًا بتخابث:
-يا ريت كل الناس تتعلم من مهرة ...
اكتفت بقرصـه مغلولة بذراعه وهي ترد على أختها:
-نوران ، صباح الخيـر يا حبيبتي .. عاملة أيه ؟!
هتفت نوران الجالسة أمام التلفاز بلهفة :
-شموسة أنتِ صحيتي .. عايزة أكلمك من أول الصبح بس خايفة أزعجك ..
-لا يا حبيبتي مفيش إزعاج .. طمنيني عنكم أنتِ وكريم كويسين ..
صمتت لبرهة ثم غمغمت :
-شمس تعالي خديني من هنا ، أنا مش عايزة اتجوز لا .. أنتوا وطاطا وحشتوني أوي ..
ضاقت عيني شمس بغرابة وهي تهمس لزوجها :
-مش مبسوطة .. فـ حاجة غلط .. !!
-طيب افتحي المايك .
ثم جهر مناديًا :
-عروستنا الحلوة .. أوعي يكون الواد كريم ده زعلك أجي اكسرلك دماغه..
تمتمت بإنكار:
-لا هو نايم معملش حاجة خالص .. بس أنا زهقت ومش عايزة أقعد هنا .. تعالوا خدوني .
تميم بـ سخرية :
-الله يكسفك!!
تبادل الثنائي النظرات المدججـة بالحيرة ، فكتم تميم ضحكتها فلكزته شمس ليصمت وواصلت الحديث مع أختها :
-أهدي طيب .. ووو يعني مادام محصلش أي حاجة أي حاجة خالص من كريم أنتِ زعلانة ليه ؟!
-مش عارفة يا شمس .. مضايقة وخلاص ومستغربة المكان .
غمغمت شمس بحكمة ما :
-طيب شغلي سورة البقرة يا حبيبتي يمكن محسودين ، أ أو لعنة الرقاصة بتاعت إمبارح ..
جاءهما صوت كريم مُناديًا باسمها وبدلالٍ :
-نونو !! أنتِ أزاي تقومي من جمبي من أولها بنبوظ الاتفاق ..
صاحت نوران بقلقٍ :
-هاه .. كريم أنا فـ الصالون هنا بكلم شمس وتميم ..
تهامس كل من تميم وشمس الذي قال متأكدًا :
-استني هنفهم من كريم أهو ..
أغمضت نوران عينيها عندما وجدته متجردًا من سترته العلوية حيث شدت مفرش الطاولة وألقته فوق صدره العاري أثناء جلوسـه بجانبها ، وجحظت عيناها معترضة :
-عيب كده !!
جذب كريم الهاتف من يدها ضاحكًا :
-ايه الصباح ده ياعم تميم ، حد يزعج العرسان كده يوم صباحيتهم !
برر تميم قائلًا :
-هنعمل أيه فـ قلق الأخوات ، حاولت أمنع شمس مقدرتش ..
رمقته متعودة ثم هتفت قائلة :
-مبروك يا كريم .. أنتوا كويسين ..
برقت نوران محذرة كي لا يردف بشيء ثم حانت نظرتها للتوسل .. فأردف كريم جاهرًا بمكر :
-كله حلاوة طحنية .. وأهي نوران في حضني وفي عنيا كمان متقلقيش..
ضربته نوران بغل ثم ركضت لتختبئ من نظراته وفضيحتها الكبرى أمام أختها .. غمغمت شمس بإحراج:
-تمام يا كريم .. أنا كُنت بس حابة اطمن عليكم .. ربنا يسعدكم ..
فتدخل تميم واعظًا وبنظراته الخبيثة اليائسة التي كانت من نصيب شمس :
-كيمو عايزك تنبسط على الآخر ياعريس وافتري في العسل عـ أد ما تقدر .. لانه مش بيدوم كتير ..
-دانا مبلبط فـ العسـل ، ربنا يوعدك بالعسل الـ أنا فيه .
تحمحم تميم مبتسمًا وهو يرمق زوجته بقهر :
-عندي البلاص كله ياحبيبي ...
ضربته على قدمه متوعدة ثم تدخلت شمس :
-أنتوا هتسافروا أمتى ؟!
-بالليل ميعاد طيارتنا .. هنكلمكم قبلها ..
انتهت المكالمة ثم عادت شمس لتميم متسائلة :
-أنتَ مصدق مين ؟!
رد بثقة :
-أختك دي بتحور باين أوي ، الواد كريم مش سهـل ومش هيعدي الليلة كده ..أنا عارفو .
ردت بشكٍ :
-مش حاسة ، في حاجة مش مظبوطة !!
رد مغمغمًا متأهبًا للرحيـل :
-والله هي مظبوطة مع الكُل الا معايا .. أنا ماشي ياشمس ..
جهر منادية :
-استنى هنا ، لسه هنتخانق ...
لوح بيده وهو يسحب سترته بفتور :
-أجليها لخناقة قبل النوم ....
~بشقـة كريم .
-على فكرة أنا اتخدعت فيك وطلعت شخص مش أد كلمتك وأنا مش هسمع كلامك مرة تاني ؟
قالت نوران جُملتـها وهي تجلس على طرف السرير بغيظ من إعتراف كريم الصريح لأختها .. فجلس بقربها مندهشًا :
-أنا عملت أيـه لكُل ده ؟!
أشارت بسبابتها معاتبة وبارتباك :
-أنتَ أزاي تقولها نوران فـ حضني وهي مضايقتش !! وعدت الموضوع كده عادي ..
حاول بإعجوبة إخفاء ضحكته عنهـا ليُطمئنها :
-عشان ده الطبيعي يا روح قلبي ، أومال عايزاني أقولها أننا طول الليل بنلعب عسكر وحرامي !! عيب فـ حقي والله!
انفجرت ضاحكـة إثر ذكره لوصف العسكر والحرامي والذي يعكس حالتهما طول الليل وهو يسايس تلك الصغيرة ، فأشاد بإعجاب :
-ياستي اضحكي كده وكفاية نكد أنا فـ عرضك ! طيب حتى أجليـه لبعد شهر العسل ..
تأرجحت عينيها بخجل وهي تحاول التطلع بملامحـه ولكن دوما ما تنتهي محاولاتها بالفشـل ثم قالت بتوجس :
-كريم أنا أسفة .. أنا يتيمـة وشمس وفوفا كانوا قافلين عليا أوي .. أقصى أفكاري كانت أزاي أخد حقي من بنات الحارة واللي تدوس لي على طرف أعرفها مقامها .. فجاة كل ده اتغير والحال اتشقلب .. مفيش حد قعد معايا وفهمني المفروض يحصل أيـه !! وأنا واقفة فـ النص ما بين تربيتي المغلقة وبيـن أن ده حقك فيـا والصح ..
قدر تلك المشاعر ومصارحتها واعترافها به وهو يدنوها منه بحنان ويمسك بذقنها ليتأمل ملامحها البريئة :
-أنا عارف ومقدر كُل ده ، دا أنا طول الليل بأكل بعلقك حلاوة عشان تطمني ونكسر حاجز الخوف ده .. وبعدين هو أنتِ مش مبسوطة معايا !!
أشاحت بنظرها عنه للحظه فعارضها :
-لالا بصي لي كده !! مش عايز عينك تروح كده ولا كده .. أنا قدامك أهو .. مبسـوطة !
لُطخت ملامحها بحُمرة الخجل وهزت رأسها ببراءة معلنة رضاها عن وجوده معها وأكملت بسعادة :
-وكمان لعبة عسكر وحرامي دي لذيذة أوي .. نلعبها كل يوم !!
قطب حاجبيه متحسرًا :
-أنتِ كل يوم ناوية تفرهديني فـ الجري وراكي !! أيه أهدار الصحة ده هو مال سايب !
-يعني أيه !! مش فاهمة ؟! مش أنتَ الـ قولت كده !!
عض على شفته بجزعٍ وهو يضرب على كتفها برفقٍ :
-طيب قومي أجري هنلعب ...
هزت رأسها نافية وقالت :
-لا مش هجري أنتَ كده كده بتمسكني ..
تأرجحت عينيه محاولًا إدراك نواياها الخفيـة وهو يدنو منها تدريجيًا :
-يعني نلغي الشوط الأول .. ونبدأ بالتاني على طول !
رقيقة كسُنبلة مالتّ بها رياح حبه العاصف وهو يمازحها بضحكات خفيـة جعلتها تختبأ خجلًا بكتفه حتى أصبحت تحت يداه وهي تضحك وتزلزل قلبه المتيم بتلك الصغيرة التي تتعلم أسمى معانٍ الحب على يديه حتى عبرت عن ساعدتها قائلة :
-تعرف أن حضنك بطعم المانجـا ؟!
خمدت شرارة شوقه وهو يسألها بنبرة متحيرة وهو يشم رائحته:
-أبو فصلانك ياشيخة !! يعني ده حلو ولا وحش وأيه طعم المانجا ده كمان !!فاكرة نفسك متجوزة فكهاني !!
تململت بدلال أنثوي وهي تُقـر بحياء متدفق من مُقلتيها يغمره الضحك :
-قصدي بأنها لذيذة ومتعرفش تشبع منها ..
-ياوعدك ياكريم !!
"الألفة العقليـة توجِب الحب في أغلب الأحيان"
بسيـارتـه " الرانج روڤر " شديـدة السواد .. ومن المرات القليـلة التي يستقل فيها تلك السيارة ومن المرات الشحيحة التي يذهب لمكان بدون سائقه الخاص ورجاله .. تجلس حيـاة بجواره عاقدة ذراعيها أمـام صدرها وتتأمله بملامح متوهجة بالحب تنافس حرارة الشمس وكأنها تفصح مُعلنـة أن وجهك كافيـًا ليحو به مُر العالم .. أردفت متسائلة :
-تحب تسمع أيه ؟!
أخذ نفسًا طويلًا من سيجارتـه الإلكترونيـة التي تحول دخانها لسحابة كبيرة تملأ السيارة و غمغـم :
-أي حاجـة على ذوقك ..
-الأول مشوارنا طويـل ولا ؟!
-يعني حركة ساعة كمان من دلوقتِ ..
أومأت متفهمـة وهي تبحث بالهاتف :
-يبقى أم كلثـوم .. رفيقة المشاويـر الطويلة وحُبك .
ثم تنهدت كأنها تود أهداء الـكلمات إليـه :
-أنتَ عُمــــريّ ...
تركت الهاتـف من يدها متسلطنـة بالموسيقى وهى تطالع الطريق من النافـذة وبين كل دقيقة والأخرى تنهيدة طويـلة كأنها تتنفس حُبه فينظر لها وكأنه يملأ قلبـه من تلك المرأة التي تُشبـه نرد الحظ كُل شيء بها فائز ، شردت بالطريق الصحراوي أغلبه والمُدن الجديدة التي ما زالت تحت الإنشاء والكثير من القصور والڤلل الرائعة التي تُقابلها .. فذهبت لتفاصيـل ذلك اليـوم ... وهو يوم ولادتهـا ...
~فـ الماضي ....
ضبت حقائب سفـره ثم ذهبت لعنده ببطن منتفخ كالبلون وأقدام متورمـة من ثِقل عبء آلآلم الوضع وهي تتخذ أنفاسهـا بصعوبة ، تسلل كفهـا لأعلى كتفه وسألته :
-أول ما توصـل كلمنـي .. ولو موبايلي كان مقفول أعرف إني روحت المينـا .. بس ابعت لي رسايل كتيـر ...
دار لها متعجبًا :
-شغل تاني يا حياة !! حبيبتي أنا عايز راحتك وأنتِ مصممة تتعبي نفسك ؟ يعني أنا بتعب عشان مين ما هـو كُله عشانكم أنتوا .
بصعوبة بالغـة أخفت مشقة الألم عنه وقالت بابتسامة تخفي ألف طعنـة خنجر بجوفهـا :
-آخر يوم ومش هنزل من بكرة .. هرتاح في السرير لحد ما ترجع لنا بالسلامة ..
ثم نفضت ياقته برفقٍ :
-المهم تخلي بالك من نفسك وتفكر فيـا كتير عشان قلبـي بيحس .
وأكملت ممازحـة :
-وبلاش سهرات وحفلات وعينك متروحش كده ولا كده .. عشان قلبي هيعرف بردو..
فـ رفعت كفـه لقلبها وقالت :
-خاف منه ، ده مخبري السري!!
ضحك بطاعة وهو يقبل كفها :
-من الشغل للبيت متقلقيش مفيش وقت لأي سهرات أصلًا .. يادوب أخلص بسرعة عشان أرجع لك .
طالعته بحبٍ وأكملت بأعين معتذرة :
-أنا عارفة إني مقصرة جامد الفترة دي ومش عارفـة أكون معاك .. بس وعد هعوضك عن كل الأيام الـ فاتت ، وارجع لي بسرعة عشان أنت بتوحشني ..
مسح على رأسها بحنان مفرط .. وقال :
-لولا الحمل كُنتِ جيتي معايـا .. المهـم كل حاجة جاهزة هرجع ونسافر على طـول على المستشفى ..
تمتمت بخفوت :
-تمام يا حبيبي ..
رحل عاصي بعد جولة طويلة من الوداع والتوصيات على صحتها وما أن غادرت سيارته ، فارقت النافذة وفتحت الخزانـة وأخرجت حقيبتهـا المجهزة للوضع .. جاءت سيدة ركضًا وفتحت الباب :
-تمـام يا ست حياة !! عاصي بيه مشي .
كانت ترتدي فستان طويلًا وواسعًا باللون الأصفر المنقوش فقالت بوهنٍ :
-خلي يونس يحط الشنطة ف عربيته وأنتِ روحي معاه ، وأنا هطلع بعربيتي عادي عشان الحرس ماياخدوش بالهم ..
ثم اقتربت من سيدة التي تأهبت لحمل الحقيبة وأوصتها :
-سيدة لو جرالي حاجة تــ ..
قاطعتها بلوم :
-استهدي بالله يابنتي ، كلها ساعتين وهترجعي تنوري بيتك أنتِ وولادك ..
تشبثت بيدها راجية :
-البنات يا دادة .. وصي المُربية عليهم وميخرجوش بره البيت الجو سقعـة .. وأكلهم في وقته ، وتخلي بالها من تاليا عشان نوبة الحساسية..
-ياحبيبتي ريحي بالك أنتِ بس ويالا بينـا ..
لحظة من أصعب اللحظات التي تمنيت أن تكون فيها بجانبي ، أن اتشبث بيـدك أن تعانقني أن تطمئني ، أن تكون آخر صورة بعيني هي وجهك الجميـل .. أود أن أخبرك بأن كل شيء هنا مُرعب بدونك ، المكان يملأه البرد والخوف وكأن بغيابك غربت معك الشمس .
أنفض داخلها وهي بغُرفة المشفى تستعد للتجهيزات الأولية للوضع وفي اللحظة التي جاءت فيها طبيبة التخدير ارتجف قلبها وانكمشت وأخذت ترتعد حيث تطلعت لسيدة الواقفة بجوارها ترتب على ظهرها وتمتمت وهي تحضن أجنتها:
-لا .. سيدة كلمي عاصي ، عشان خاطري محدش غيره هيطمني ، لا أنا مش قادرة أنا خايفة أوي ..أنا عايزاه هو .
ثم انفجرت باكيـة بوهن :
-مش عايزة أولد، أنا هفضل متحملة الوجع لغايـة ما يرجع .. بس لا أنا خايفـة .. كلميه يرجع .
تدخلت الطبيبه ناصحة :
-مادام حياة اهدي عشان الضغط .. بلاش توتري نفسك .. لو سمحتي ممكن تهدي ..
بأعينها المحمرة أشاحت إليها :
-طيب أكلمه بس فـ التليفون اطمن عليه ، هسمع صوته بس .. هاتي الموبايل يا دادة .. اسمع صوته .
عارضتها سيدة:
-ياحبيبتي هيحس صوتك فيه حاجة وهتقلقيه .. استهدي بالله وأنت هتنامي وتصحي تلاقي ولادك فـ حضنك .. شوفي شغلك يا دكتورة ..
جاءت طبيبة النسـاء وتدخلت كي تسيطر على الأمر :
-حياة ، أحنا اتفقنا وأنتِ الـ صممتي .. أهدي عشان صحة ولادك ، ممكن تمددي مددي بس وأنتِ هتأخدي حُقنة البنج ومش هتحسي بأي حاجة .. المهم تهدي عشان العملية وضغط الدم ..
قررت أن تستسلم للأمر وهي تتراجع للوراء وتبسط ذراعها لطبيبة التخديـر وهي في أشد لحظـات احتياجها إليه .. تنخرط العِبرات من مقلتيها حتى حفرت وديانًا على وجنتيهـا والمخدر الطبي يسـري بجسدها شيئًا فشيئا أخذت تُراجع شريط حياتهمـا مع من تلك اللحظة التي اجتمع فيها الثنائي بمنتصف البحر لهذه اللحظة التي تحوي مضغتي حبهما بين أحشائهـا ..
شيئًا فشيئا أرخت قبضتها على يد سيـدة وباتت جفونها تتغلق ببطء وآخر ما سمعته هو أمر الطبيبة بنقلها لغُرفة العمليـات فورًا ...
بالخارج ؛ جاء رشيد راكضًا وهي يعاتب أخيه :
-يعني أيه قررت تولد وعاصي مسافر !! أختك اتجننت ؟! هي بتعاند مين ..!
انفجر يونس بوجهه الذي انفطر قلبـه على أخته :
-اسكت بقا يا رشيد وادعي لها .. أنا مش مكلمك عشان تتخانق معايـا ..
شرع أن يُخرج هاتفه ويبلغ عاصي ولكن يونس منعه بإصرار :
-أنتَ هتعمـل أيـه !! حياة مأكدة عاصي ما يعرفش .. رشيد بلاش تتصرف من دماغك .
وبخه رشيد خائفًا على أخته :
-أنتَ عارف لما يعرف هيعمل فينـا ايه !! أختك بتتصرف من دماغها والرجل مجهزلها جناح كامل في أمريكا تولد فيه وله شهور مرتب لليوم ده ، وفـ الآخر مايشوفش ولاده ..
صمم يونس :
-بردو مش هينفع تكلمه .. وأهدى هي جوه فـ العمليات مفيش فايدة ..
في تلك اللحظة أتاه صوتًا مسجلًا يعلن بغلق هاتفـه ، فزمجر رشيد غاضبًا :
-آكيد ركب الطيارة ، مقفول ..
-يبقى تعقل وتدعي لها وبلاش توترني عشان أنا أصلا على أخري ..
على متن طائرتـه الخاصـة قدمت له المُضيفة مشروب القهـوة الساخنـة فلم يلتفت له لما كان يشغـله ويسلب عقله بالهاتف .. يُقلب بصورها كـ فتى بعمر الطيش وبابتسامة ساحرة تتدفق من معالمـه .. توقف عن صورتهمـا معًا بالبحر فأخذ يكبر حجم الصـورة وكأنه يتأمل تفاصيل أيامه الجميله التي رُسمت على وجهها ثم انتقل إلى الإعدادات و جعلها خلفيـة لهاتفـه وهو يتذكر تفاصيـل ذلك اليـوم وعيناه تعانق السحاب وأرجله تطير فوق الماء وقلبـه يعانق قمر لياليه وشمس نهاره ..
شرد قليـلًا في تفاصيـل ذلك اليـوم وخاصة بقريته السياحية بالغردقة والتي كانت أول مكانًا نزلت فيه من قبل والذي يعتبر خاصًا بعاصي فقط ولا تطأه أي قدم بشرية .. نائمـة على الرمل مرتدية ملابس السباحـة المختصـة وما يسمى بـ " مايوه " يعلوه وشاحًا من الشيفون مربوطًا حول خصرها .. بنظارة شمس تأكل نصف وجهها .. مرتخيـة تمامًا والموج يداعب اقدامها الحافية مستمتعـة بدرجة حرارة الشمس حتى جاءها هاتفًا بإعجـاب :
-كتير بنسمع عن حوريـة البحـر ، بس أول مرة أشوفها !!
ثم جلس بجوارها مستندًا على كفه وبيده الأخرى كان يداعب تقاسيم بطنها المنحوتة على يد فنان :
-بس محدش قال لي أنها جميلة أوي كده وتاخد العقـل ..
-ما أنت سبتها ورحت تشـوف شغلك .
ثم تململت بغنـج وهي ترفع القبعة عن رأسها وسألته :
-خلصت مكالمات شُغلك ولا لسـه .. أنا بقيت حاسة أن الشُغل ده هو ضُرتي الـ مشاركاني فيـك .
أومأ قائلًا وهو يمرر ظهر كفه على تفاصيلها المتعرية :
-فضيت لك أهو ..
تناولت هاتفه ووضعتـه على وضع طيـران ثم اعتدلت في نومتهـا :
-كده أضمن أن مفيش حد هياخدك مني بعد كده .. يلا ننزل البحـر .
طالعها بحـب مبطن بالفضـول :
-هتعلميني أيه جديد النهاردة؟!
داعبت أرنبة أنفه بمرح وقالت :
- هعلمـك أزاي حورية البحر بترقص مع حبيبها في المية على لحن الموج ..
عبث بملامحها بحب وقال :
-وبعد كده ممكن حورية البحـر تسيبلي نفسها خالص عشان ناوي أنا كمان أعلمها كام حاجة بس فـ البر مش البحر ..
-أنا كُلي ملكك أصلًا ..
كانت امرأة متجددة كل يوم تأتي في صورة جميلة متنوعة تجعله لا يمل بل يقع في حُبها من جديد .. وقبل أن يتحرك الثنائي أوقفته طالبـه منه التقاط صورة لهما معًا على البحر لتوثيق ذلك اليوم بتفاصيله المميزة و الذي يعد من أهم الأيام المطبوعة بذاكرة قلوبهما لهذه اللحظة .....
مرت الساعات بسرعة حتى فرغت حياة من عمليتها المتيسرة وتم أخذوا صغارها لطبيب الأطفال ليفحصهما ثم تم احتجازهما بالعنايـة لصغـر عمرهما ولادتهم المبكرة.. أمـا عنهـا استردت وعيها وهي تفتش عن صغـارها ، طمئنتها سيدة على صحتهما ولم تهدأ الا عندما جاءوا لعندها وارتوا من نهر أمومتها الجارية ..
انتهى اليـوم وسمحت الطبيبة بخروج رسيل بدون صغارها.. عادت للبيت وهي تعاني من فراغ جوفها وقلبها معًا .. ما أن هبطت من السيارة لم يتحمل يونس أن يستمع لآهات وجعها فحملها بين يديه لغُرفتها ، لاحظ أحد الحرس حالة حيـاة وسرعان ما أبلغ عاصي برسالة مسجلة :
-عاصي بيه ، واضح أن مدام حياة تعبانة ..
ثم شرع بسرد التفاصيل التي رأها .. هُنا جن جنون عاصي وفارق اجتماعه وأخذ يهاتف أخواتها وهو يتشاجر مع الهواء الذي يتنفسه .. جميع الهواتف خانته ما بين رشيد الذي يراعي صغار أخته .. ويونس الذي يهتم بأخته المتألمـة .. وهاتف المنزل الذي لم يرد عليه أحد .. حتى هاتف المربية فأخبرته بخبر ولادة زوجته وأن فتياته بجانبها ...
هاج قلبـه بنيران العجـز وعدم استيعاب الخبـر تفجرت حمرة الغضب والخوف من ملامحه واكتفى بسؤاله الأخير :
-ازاي ؟!!! طيب حياة كويسـة !
هتفت المربية بفرحة :
-زي الفـل يا عاصي بيه .. تحب أديها التليفون ..
أردف بحزم :
-لا أنا جاي.. ومش عايزها تعرف إني عرفت ...
مع فجـر اليـوم التالي ..
كانت تستند على ظهر فراشها وتُعد الأيام الباقية لعودته على مراجل من نار .. تناولت هاتفها وحاولت الاتصال به على أحد مواقع التواصل الإجتماعي، ترددت قليلًا ولكن شوقها أجبرها أن تسمع صوته في هذه اللحظة .. الكثير من الاتصالات التي لا تحمل ردًا حتى كتبت له قائلًا :
-أول ما تصحى كلمني .. بليز يا عاصي ..
هنـا فُتح البـاب فظهر منـه سقط الهاتف من يدها وهي تُراقب عودته ومجيئه بقلب يكاد أن ينخلع منهـا .. ما أن رأته فانفجرت بالبكاء وكأنها تصف له بصورة أعمق عن درجة مُعاناتها بدونه .. اندفع لها بكل مشاعره الفياضة ليأخذها بين يديه ولم تمنحه الفرصة لمعاتبتها فقالت باكية :
-أنا كنت هموت من الخوف .. كنت محتاجالك أوي ، أنا أسفة محبتش أقلقك عليـا ، بس كنت غبية واتحملت صعوبة يوم زي ده لوحدي .. اتمنيت كتير تكون معايا ، بس مش هين عليا أشوفك موجوع .. عدى كله عدى واحنا سوا مع بعض ..
لخبطة من مشاعره المضطربة وهو يمسح بكفيه على ظهرها بنبرة خالية من عتابٍ :
-أنتِ كويسة ! في حاجة بتوجعك !
بملامحها اللاهثة من كثرة البكاء:
-غيابك الـ كان تاعبني وأنتَ رجعت أهو ..أنا بقيت كويسة خلاص .
تمتمت ملهوفة لرؤية صغاره :
-هما فين !!
بنبرة يخالطها أنفاس الألم تمتمت :
-الدكتور حجزهم فـ الرعاية .. بكرة نروح نشوفهم ..
ثم ضغطت على كفوفها معبرة عن ألمها :
-الرحلة كلها كانت صعبة يا عاصي .. أخر ٣ شهور أنا كنت بموت من الوجع والتعب .. وببذل مجهود أكبـر علشان متأخدش بالك وأقلقك أكتر ..
ثم ارتجفت مكملة :
-مش مهم ، فرحة ولادنا بالدنيـا .. أنا أول ما شوفتهم نسيت كُل التعب .. هتحبهم أوي .
مال على كفوفها ليُقبلهمـا بلهفة عجزت الكلمات أن تعبر عنها ، لا يعلم أيعاتبها أم يعانقها أم ينهرها عن مخالفة أوامره .. كل ما فعله أنه ظل صامتًا وساكتًا وهى آخيرًا أمنت فنمت بحضنه بعد يوم شاق انقسم من روحها .. لكن ظل متيقظًا لمطلع النهار وهو يمطر سيل قبلات متوزعه فوق ملامحهـا النائمة كي يتأكد من سلامتهـا .. تململت بوهن وهي تصدر بعض التأوهات الخفيفة فسألها ملهوفًا :
-أجيب لك دكتور!
تمتمت بصوت متهدج متعب وهي ترفع رأسها عن صدره الذي كان مسند رأسها :
-أنت لسه صاحي ؟!
-أكلم دكتور يا حياة! طمنيني عليكِ حاسة بأيه .
ضمت كفه بتوسل :
-لا يا حبيبي تعب الجرح بس متقلقش .. أنا بس عايزة آخد شاور حاسة هيفوقني ممكن تساعدني بس للحمام ..
حملها بين يديه وقال بلهفة :
-هعمل لك كل حاجة بنفسي متشليش هم ، أنا جمبك ومش هسيبك ...
أجلسها فوق أحد المقاعد بالحمـام ثم شرع بنزع الجزء العلوي من بذلتـه وقال متحيرًا :
-المفروض نعمل أيه !
ترجته بوهن :
-عاصي بليز اخرج .. أنا هعرف اتعامل .. بس بلاش بلاش مش حابـة إنك تشوف شكـل الجرح و جسمي كده .. أخرج .
جثا على رُكبتيها رافضًا طلبهـا الغريب وقال بحنو :
-مفيش الكلام ده !! أنا مش هسيبك ..
ثم رفع كفها لمستوى شعرها ولفه وبعدها غطى رأسها بـ " تربون " الاستحمام فتدلت يداه لسحاب فستانها الواسع وسحبـه لأخر ظهرها .. كانت جميعها تفاصيل يعيشها لأول مرة ولكنه كان مُتبعًا بوصلة حبه التي كانت دومًا ما ترشده ..تمسكـت بفستانهـا كي لا يكشف ستر آثار عمليتها الجراحية وتمدد بطنها المترهلة من الحمل .. ترجته لآخر مرة :
-أخرج عشان خاطري ...
سحب كفهـا لعند شدقه وطبع تلك القبلة الخفيفـة الرافضة ثم أتبع بحنان أم مع جنينها الأول بنزع تلك الملابس عنها .. تعرت أمامه وهي تراقب تعابير وجهه التي انكمشت إثر رؤيتها لجرحهـا وتمتـم بمعاناة كانت تعتصر بقلبه :
-المية لو جات عليه مش هيوجعك .. !!
ردت بجهل تام :
-مش عارفـة !!
ثم وثب وفتح الخزانـة التي تحوي الـفوط بالحمام وأخرج منهـا واحدة .. فتح صنبور الماء الدافئ وضبط حرارة المـاء ثم عاد لها لتستند عليه وتجلس على حائط حوض السباحة " البانيـو " .. بلل المنشفة بالماء الجاري ثم جر المقعد الذي كانت تجلس عليه بقُربها وهمّ بكفكفة القماشة على جدار عنقها بحنية مفرطة .. كانت تراقب حنانه بأعين لامعة يفيض منها الانبهار .. عاد ليغسل القماشة من جديد مواصلًا مهمته في إزالة آثار المخدر عن جسدها ولكنـه لم يمنع مشاعره المدججة من قطف ثمار حبه .. بهمهمات الحب المرتدة بجدار عنقها همس :
-حمدلله عـ سلامتك ياروح قلبي .. سلامتك عندي بالدنيـا والـ فيها ..
بحب متسرب في تلك القُبلات الناعمة التي كانت من نصيـب عظام ترقوتها ، رست أناملها فوق آذنيه وهي تبادله بنفس المشاعر المُدججة التي ختمتها بسؤالها :
-عاصي ، هنسمي الولاد أيه ، حابة أنتَ الـ تختار اسمائهم !
-مش بتفكري في حاجة معينة ؟!
-لا عايزة باباهم يختار الاسمـاء .. هتسميهم أيه يا حبيبي ؟!
تأمل عينيها الفائضـة من اللهفة وشرع في مداعبة تفاصيل روحها التي آسرته .. يبدو أنه أحبها للحد الذي تأكد بأن جمال الكون نُسج من عيونها .. فتمتم متهامسًا:
-لو هتختار .. يبقى ريـان ، نهـر حبك الـ روى قلبي ..
تغنجت بألم يعطره الحُب وهي تتشبث بمعصمه كي تعتدل في جلستها وقالت معجبـة :
-حبيت ...
ثم انحنى ليبث شوقـه المتدفق بوجهها وأكمل بنفس النبرة التي تحمل صبابتـه لتلك المرأة التي خُلقت من لهيب الحب :
-وركان .. السكينـة والهدوء الـ بحسهم فـ حضنك ..
لا يوجد منزل أدفئ من صَدْر رجل أحبك من حُشاشـة قلبـه .. مسحت على شعره بمشاعر يفيض منها الحب وقالت دامعـة وبتنهيدة طويلة :
-أنتَ حبيب عمري ...
~عودة للحاضر ...
صالحت بيك أيامي سامحت بيك الزمن
نسيتني بيك آلامي ونسيت معاك، معاك الشجن.
كانت مثيرة للحد الذي يُجبره كل برهة بأن يُقبل يداها فاقت على كلمات أم كلثوم الأخيرة وقُبلته الرقيقة وهي تتنفس حبـه وحنيته وتتأمله بأعين يفيض منها العشق :
-عيـد ميلادك الأربعين بعـد كـام يوم .. أنا متحمسـة أوي .. وعد هيكون احلى يوم .. يوم عمرنا ما هننساه ياحبيبي.
كانت نبرتهـا دافئة حنونة يملأها الحماس عكسـه تمامًا ؛ شاردًا قليـل الكلام ولأول مرة يشغله الطريق عنها ، اكتفى بإصدار إيماءة خافتة وقال بملل:
-عادي يا حيـاة ، مش هتفرق .. المهم أنك معايـا .
قطبت حاجبيها بإمتعاض ودارت للخلف تبحث عن شيء ما ثم قالت بنبرة يتسرب إليها الشـك :
-عاصي مالك ساكت من أول الطريق !! وبعدين دي أول مرة تروح مكان من غير رجالتـك والحرس ..
ثم تأرجحت عينيها بتوجس وأكملت :
-مش شايـف إننا بعدنـا أوي عن القاهرة !! أحنا رايحين على فين !!!!!
صف سيـارته أمام مبني عملاق ولكن لا يبدو عليـه أي تفاصيـل ترضي فضولها :
-خلاص وصلنـا !
أردفت بقلق :
-وصلنـا فين ؟!!! عاصي أيه المكان ده ......؟!
سحـب مفاتيح سيارته وقال بهدوء :
-انزلي ..
ترددت :
-أخد شنطتي وموبايلي ؟!
-مش لازم .
رد بفتور وهو يأخذ سترته المُعلقـة بالخلف ويهبط من السيارة تابعته بخطوات مترددة حتى وقف ومد يده لها كي تشبث بها وقالت :
-مش هسألك رايحين فين ، بس أنا واثقة فيك .
اكتفي بضم كفها وسحبها برفق نحو بوابة ذلك المبنى المشيد .. استقل المصعـد فكانت بجواره تُرافقه حتى ذلك النفس الذي كان يخرج من جفوفه كانت تستنشقه .. فُتـح الباب عند الطابق المطلوب تبادل الاثنان النظرات ثم دخل لقسم الاستقبال فرحبت به الفتـاة العالمة بخبر مجيئه لـ هذا المكان الذي يتردد عليـه سِرًا مرة كل شهـر :
-عاصي بيـه ، اتفضل استريح .
تمتمت له بعتبٍ يخالطه المزاح :
-أنتَ كُل الستات كده تعرفك ! أعمل فيك أيه ؟!
اكتفى بهز رأسـه بهدوء مع ابتسامة مثقلة بالقلق :
-تعالى أقعدي ..
جلست على الأريـكة وأخذت تفرك كفيها وهي تفحص المكان الخالي من أي بيانات تُرشدها .. لاحظ الارتباك بكفوفها المتراقصة فأكتفي بضمهـما كي تهدأ ، تفهمت حركته التي أراد أن يطمئنها بها فأومأت متفهمة .. دقائق محدودة حتى خرجت الفتاة من أحد الغُرف وأشارت :
-مادام حيـاة ، اتفضلي !
بللت حلقها الذي جف من شدة الحيرة وطالعته كأنها تسأله كيف يمكنها أن تدخل غرفة لا تعلم خباياها بدونـه .. أردف بهدوء وهو يطبطب على كفها :
-روحي معاها وهتفهمي كُل حاجة !
انهارت فلسفة الكلمات أمام هدوئه ، فتحركت على مضض ودخلت الغُرفة المقصودة ، أشارت لها الفتاة على أحد المقاعد على الطاولة المتوسطة التي تضم ثمانية مقاعد:
-أقعدي هنـا ..
ثم قفلت البـاب وعادت لعاصي المتساءل بقلق ينفطر فيـه قلبه :
-تمام !!
هزت الفتـاة رأسها وعادت لمقعدها .. أما بالغُرفة التي تجلس بها حياة على مراجل تغلي فوق نيران القلق و التي تحتوى على طاولة فقط والعديد من المقاعد وهناك بـاب أخر للغرفة ظهـرت منـه فتاة ثانية ورحبت بها قائلة :
-مدام حياة ، أزيك ؟
توقّد القلق في خدها :
-أنتِ تعرفيني ؟! أنا فيـن !!
اقتربت منها الفتـاة بثغر مبتسـم وقالت :
-هتفهمي كُل حاجـة دلوقتِ ..
ثم استئذنت منها أن تضع تلك الشريطة السوداء على عينيهـا ، فتراجعت بالمقعد للوراء رافضة بخوفٍ :
-نعم!! ليه ؟! لو سمحتي فهميني فـ أيه ، وعاصي فيـن !!
حافظت الفتاة على هدوئهـا :
-ممكن تهدي طيب ..
كادت أن تنهض لتغادر الغُرفـة بصـوت مرتفع :
-أنا عايـزة أمشي .. في حاجة غلط ..حد يفهمني !
ظهر رجل في الخمسين من عُمره مرتديـًا بذلة سوداء ، قامته طويلة وبشعر يخالطه المشيب ، يرتدي نظارة طبية وقال بهدوء وهو يجلس على المقعد الأمامي للطاولة :
-أقعدي يا مدام حيـاة .. وهتفهمي .
تكلفت العبوس فجلست على مضض متأففة .. فقدم نفسه قائلًا :
-أنا دكتور عمر الوكيـل .. ممكن تهدي !
تسـرب القلق لجوفها وتمتمت :
-دكتور ! دكتور أيه .. ؟! لو سمحت عاصي راح فين مش حلو التهريج ده والله !!
أشار الطبيب لمساعدته ريهام أن ترحـل وقال :
-لو عايزة تعرفي كُل حاجـة تهدي ونتكلم مع بعض بهدوء ..
تأرجحت عينيها بتوجسٍ وتمتمت :
-عاصي فين ، أنـا عايزة جوزي ؟!
رد الطبيب بنبرة هادئة :
-مشي ..
ردت بيقين ممزوجًا بالهدوء التام :
-مستحيـل يمشي ويسيبني هنـا ..
استنـد الطبيب على سطح الطاولـة بمرفقيه :
-ليـه مستحيـل ! هو عمل كده فعـلًا .. سابك ومشي .
أصدرت صوتًا نافيـًا وبيقين لا يخالطه شك :
-تؤ .. مستحيل..
ثم أطلقت ضحكة ساخرة :
-بطلوا هزار بقا .. ممكن تقولي أنت دكتور أيه وأنا هنا بعمـل أيه ؟
-عاصي قبل ما يجيبك هنـا ، قال لك رايحين على فين ؟!
هزت رأسها نافيـة :
-لا .. ماقالش .
-وأنتِ جيتي معاه من غيـر ما تعرفي !
ردت بثبات :
-طبعًا ، أنا بثق فيـه ..
-حتى ولو عرفتي أنه جابك هنـا عشان هو مقرر يسافـر ويمشي .. قرر يأخد بناتـه يبدأوا حياة جديدة بره مصـر ، ولأنه خايف عليكي جابك هنـا عشان متتعبيش في بُعده ..
انفجرت ضاحكـة وهي تضرب كف على الأخر بضحكة لا تتناسب مع صعـوبة الموقـف ؛ فأردفت :
-أنا شايفـة أن الـمفروض يتعالج بجد حضرتك ..! أيه التخاريف دي .. ممكن موبايـلك أكلم جوزي عشان يجي ياخدني من الجنان ده ..
أصر الطبيب على موقفـه :
-بقولك مشي يا حيـاة ..... مش عايزة ليه تصدقي أنه مشي .
-وأنت ليه مش عايز تصدق أنه ميعملش كده !
شبح ابتسامـة خفيفة ارتسمت على محياه وأتبع :
-للدرجة دي بتحبيه .
ردت بإختصار :
-بعشقـه ..
ثم وثبت قائمـة لتُغادر الغرفة ولكنها فؤجئت بأن الباب مقفولًا ، عادت له بنبرة آمرة :
-قولهـم يفتحوا البـاب ده ..
لم يتحرك الطبيب من مجلسـه ، فأكمل :
-مش هيتفتح غير بأمري .. وأنا مخلصتش كلامي عشان اسمح لك تمشي ..
وبخته ساخرة :
-وأنا مش مجبرة أسمع التخاريف بتاعتك .. قولهم يفتحـوا الباب عايزة أروح لولادي اتأخرت عليهم .
ببرود لا يتناسب مع الموقف قال :
-ولادك كمان مش موجودين .. سافروا معاه .
شدت أحد المقاعد وجلست وهي تقاوم أحساسها المضطربة:
-قعدت أهو ، اتفضل كمـل خرافات لحد ما أشوف أخرتها أيه ..
-أعرفك بنفسي ، دكتور عمر الوكيـل مختص في الأمراض النفسيـة والعصبية ودكتور جوزك عاصي دويدار..
برقت عينيها بذهول :
-وهو عاصي بيجي لك ليـه ؟! وأنا أزاي معرفش حاجـة زي دي ؟!
ثم تنهدت بحرقة تأكل بقلبهـا :
-أف !! أنتَ عايز مني أيه دلوقتي...
-عايز أواجهك بالحقيقـة الـ أنتِ مش مقتنعة بيها .
هزت راسها يمينًا ويسارًا وهي تنفي حديثه :
-قول أي حاجـة غير انه مشي، عاصي بيحبني ومستحيـل يعمل كده .. أنا عارفة بقول لك أيه كويس أوي .
-قُولتِ بيحبك ؟! والـ يحب حد يخونه وكل ليلة مع واحدة تانية .
استولى على صوتها الأسى والجوى وقالت:
-هو مستحيل يعمل كده .. أنا واثقة فيه .
-أيه دليلك ؟!
-قلبـي...
رفع الطبيب حاجبه مستنكرًا :
-وقلبـك معرفش أن بيتعالج عند مختص نفسي له سنـة ونص ..؟!
لقد كان الأمر مرهقًا لقلبها الرقيق .. كان الموقف يتطلب عشرة قلوب لتحمُل جملة السخافات هذه .. و لكنها بقلب واحد فعلت وواجهت .. يبدو على ملامحه التعب والكدر:
-دي غير دي !
رد الطبيب متعمدًا أن يُسرب الشـك لجوفها :
-لا دي هي دي .. معنى كده أن في حياة عاصي اسرار كتير أنتِ لسه معرفتهاش ..
ثم ختم جملته عندما لاحظ تأثرها بجملته :
-المنطق سُم المشاعر .. ودي الحقيقة الـ لازم تتقبليها ..
ثم توغر في حرق جروحها المخدوشة إثر عبث بها باستمرار :
-أول أيامكم في الغردقة مش كان بعيد عنك لمدة شهرين ، تفتكري ممكن يكون ليه !! طيب خلال فترة حملك شخص زي عاصي وعلاقاته النسائية المتعددة كان يا ترى .... أنا وأنتِ عارفين طباع عاصي كويس.
تعمدت أن تتظاهر باللامبالاة، وقلبها يحترق .. لوحت بكفها كي تضع حدًا للآمر ، وقالت بيقين وهدوء تحسد عليه :
-الحقيقة الوحيدة الـ قلبي مصدقها أن عاصي مستحيل يعمل أي حاجة تزعلني .. ممكن ما تتدخلش في علاقتي الخاصة مع جوزي أكتر من كده !
بملامح عجوز على اعتاب السبعين ثم زفرت بملل وتعب اعصاب انعكس بكفها المرتجف:
-وممكن ننهي السخافات دي بقا عشان أنا بجد تعبت ..ومش عايزة اسمع حاجة .
ثم هبت واقفة وكأن عقرب لدغها متجهـة ناحية الباب وأخذت تطرق بقوة ، وتصيح :
-افتحوا الباب ده وإلا هكسروا !! عاصي ؟!
يجلس بالغـرفة الآخرى يراقبها من وراء الشاشة مصدومًا من تصرفات وحديث الطبيب معها ، كاد أن يجن جنونه حيث نهض ليغادر الغُرفة معترضًا :
-ده مش اتفاقنا ، دكتور عمر بيعمل أيه ؟!
تدخلت الفتاة متوسلة له :
-دكتور عمر بيعمل شغله .. لو سمحت يا عاصي بيه اهدى وكمل الجلسـة للآخر ..
ألقى نظـرة خاطفة على الحالة التي أصبحت عليها وهي تجوب الغُرفة كالسكير الذي تاه رشده وقال بقلب يتمزق :
-حياة اضعف من أنها تتحمل كل ده هي بتقارح بس أنا عارفها .. ريهام كلمي دكتور عمر قوليلو كفاية كده ..
حاولت الطبيبة المساعدة أن تقنعه كي يجلس ويهدأ راجيـة أن ينتظر حتى السؤال القادم فقط .. جلس عاصي على مضض وهو يتذكـر ثاني جلسة مع طبيبه عندما أمره قائلًا :
-أول خطـوة في مشـوار علاجنـا هي المنع للطرفين .. فاهمني يا عاصي بيـه !
رد بعد اقتناع :
-يعني أزاي ، لا مستحيـل يا دكتور عُمر .. طيب ومراتي !!
أجاب مُصرًا على طلبـه :
-دي بالذات لازم تبعد عنهـا وتحارب نفسك كمان .. ومن غير ما تحس بحاجة ، الأمور طبيعية جدًا...ومش بس كده ، أنتَ كمان هتبطل تروح أي مكان سابق كُنت تتردد عليه .. حفلات ، سهر ،نايت كِلآب .. أنا عايز شخص حياته كلها شُغل وبس .. وقتك كله ليك لوحدك .
ارتفعت جفـونـه لـتلك الشاشة التي يُراقبهـا منها عند سؤال الطبيب الأخير :
-قولي لي ناويـة تكملي حياتك أزاي من غيره ...
ملت من تلك الطريقـة التي تخنق في روحهـا بالبطيء ، تشبثت بجدار عنقها لتعكس تلك الحالة النفسية السيئة التي وصلت لها وقالت بإصرار :
-أفكر في أوهام وأصدقها ؟!!أنا أعقل من كده بكتير !
ثم ضربت على سطح الطاولة معبرة عن حالة الجزع التي أصابتها:
-أنتَ بتحاول توصل لأيه !! وأصلًا عاصي بيشتكي من أيه عشان يجي لدكتور مريض زيك !!
تقبل إهانتها بصدر رحب مقدرًا ذلك الوضع السيء التي وصلت إليه ، أشار بهدوء ناحية زجاجة الماء:
-اشربي ميه !!
نظرت في ساعة يدها وقالت بيأس:
-مش هشـرب حاجة ، أنا عايزة المسرحية السخيفة دي تنتهي .. ممكن تكلمه ! كلمه قُوله يجي عشان نروح لولادنا ..
-ولو أثبتت لك بالدليـل والسـاعة خيانة جوزك ! هتصدقي !وتقتنعي !
مالت لعنده بتحدٍ ، وأردفت :
-لو شوفته بعينيا هكذبهم وأصدقه هو .. جوزي مستحيل يلمس ست غيري ..
بدّ الانشراح على محياه وقال مستمتعًا بحواره مع تلك السيدة الواثقة بنفسها قبل زوجهـا وقال :
-ده عشق ولا جنان ؟!
ردت بملل وهي تضغط على فكيها بغل :
-دي حاجة ماتخصش حضرتك .. !
-لو الزمن رجع واتقابلتـو بطريقة تانية كنتِ بردو هتحبيه ؟!
سئمت من برود أعصاب الطبيب ولكنها قررت أن تحاربه بنفس أسلحته وقالت بسخط :
-مفيش زمن بيرجع ، أنا حبيت عاصي بالقدر المكتوب لنـا وبس .
ثم فرغت القليل من الماء بالكوب الزجاجي بتلك اليد المرتعشـة وقالت :
-خلصت كلامك ، أنا لازم أروح اتأخرت على ولادي...
-تفتكري عاصي جابك هنـا ليـه ؟!
ثم برر قائلًا :
-يعني مش مصدقة كلامي وماشية ورا وهم ، بس اسألي نفسك لدقيقة هو جابك هنا ليه ؟!
ردت بثبات لا يُهزم بعد ما تجرعت كوب الماء :
-مش هسأل نفسي وأقع ضحيـة أوهام ، لما هقابله بره هسأله وهو هيجاوبني ...
لن يهزم الشخص الذي وثق بالطرف الآخر مهمـا حدث .. مـد لها ملفًا وقال :
-ممكن تبصي في ده !
رفعت حاجبها ساخرة :
-كذبة جديدة ..؟! وبعدين مش عيب رجل كبير زيك كده يكذب !
بيدها كوب الماء الزجاجي وباليد الأخرى همت بفحص الملف المُقدم لهـا .. قرأت الاسم من أعلى فوجدته باسم عاصي شهاب دويدار .. تدلت عينيها لتفحص التقريـر الطبيـة بأعين مهتمـة للغـايـة ورقة وراء الأخرى حتى رفعت جفونها متسائلة :
-التحاليل دي بتاعت عاصي !!
-أنتِ شايفـة أيه ؟!!
ثم وثب قائمًا وشرع في سرد حالتـه الصحية :
-أنتِ صح ، أنا حاولت كتير أشكك في جوزك عشان العلاقـة دي تنتهي بأقل وجع حسب رغبته .. ، كان هيمشي ويسيبك عشان متتوجعيش بعد فراقه .. عاصي ياحياة عنده مشاكل صعبـة فـ القلب والتحاليل والفحوصات معاكِ .. وأيامه الباقيـة معدودة .. ممكن فـ لحظة يبقى مش موجود .. وهو خايف عليكِ من بعده .
هل هي ساعة باردة أم أنّ فكرة غيابك لامست قلبي فارتجفت .. أشاحت بأعينها المدججة بالعبرات وحمرة الألم بعد ما فقدت سيطرتها على كوب الماء الذي اصطدم بالأرض فتحطم مثل قلبها تمام :
-أنتَ بتكذب تاني !! مستحيـل ، عاصي صحته كويسة جدًا ..
رد بتلك النبرة التي تساعد في انهيارها :
-أنتِ هنـا عشان نعالج الموضوع ده مع بعض ..
غمغمت بحالـة من الانهيار التي شُلت مدارك عقلها وهي تفتش بالأوراق :
-لا ، عاصي عمره ما اشتكي من وجع .. الورق ده كله مزور .. هو فين !! أنا عايزة أكلمه ..
ثم انفجرت صارخة وهي تخبط على الباب بوجع وتضرب الأرض بقدميها :
-افتحوا الباب كفاية كفاية كده ..
بحالة تشبه ظُلمة البيت المهجور ، بل ساءت حالتها كنافذة صغيرة تختنق في ظلام زنزانةٍ ممتلئة بالمساجين لا ترى ضوء الشمس أبدًا .. عادت لعند الطبيب عمر وهي تنفطر من البكاء وتتوسل إليه :
-قولي أنك بتكذب متعملش فـ قلبي كده !! طيب خرجني من هنا همـوت في حضنه بدل ما هتجرالي حاجـة هنا من خوفي عليه .. هو وعدني أن عمره ما هيسيبني ..
في تلك اللحظة لم يتحمل، انخرط قلبه وهو لا يرى أحد أمامه .. تجاهل نداءات ريهام المتكررة واخترق درجات السُلم ركضًا وبنفس اللهفـة التي تحركه فتح الباب فوجدها فقدت وعيها تمامًا وسقطت مغشيًا عليهـا .. أشار الطبيب لمساعدته :
-ريهام حقنة مهدئة حالًا .. دي حالة انهيار عصبي ..
لم يرى غيرها انحني وحملها بصعوبة لثقل الصدمة على ساقيه التي عجزت أن تحمله .. أشار له الطبيب أن يُدخلها الغرفة الثانيـة الخاصـة به وهو يلهث من وقع الصدمة على صدره.. وضعها على الأريكـة فتمددت بوهن وهي تهزى بدون وعي :
-هو مستحيل يسيبني .. عاصي بيحبني ..أنتَ كذاب .
انخرط على كفوفها ليقبلهمـا معتذرًا عمـا حدث منـه ويقسم لها بأنه لم يعلم عنه شيىًا طالبًا منها العفو .. جاءت ريهام لتقيس ضغطتها وكان الطبيب يعد تلك الحقنـة المهدئة لتسترد وعيها .. شرعت ريهام في قياس الضغط وسار عاصي لعمر قائلًا بغضب :
-ده مش اتفاقنا ، أنت ازاي تعمل فـ مراتي كده ، أنت وعدتني هتفهمها حالتي وبس ..
رد عمر بهدوء :
-أنا عارف أنا بعمل أيه يا عاصي .. في أقل من ساعة هتبقى كويسة ..
ضرب على سطح مكتبه بغضب عارم :
-أنا غلطان إني سمعت كلامك.. اتفضل فوقها والا ههد المركز ده عـ الـ فيه ..
تجاهل الطبيب تهديداته وضرب الحقنه بذراعهـا ومازالت تهذى بكلمات غير مفهوم وعبراتها تتساقط بسرعة هستيرية.. أمره قائلًا :
-خدها في حضنك لحد ما تهدا ..
سارت ريهام مع معلمها وجلس الاثنان على المكتب ، تمتمت ريهام بصوت منخفض :
-دكتور حضرتك شايف أيه !! عاصي خلاص كده !!
تأرجحت عينيـه عليـه وهو يحتويها كطفلته الصغيرة ويقبل كفوفها وملامحها النائمة وقال من خلال خبرتـه بقانون العلاقات :
-أنا عمـري ما قابلت الحُب ده في حياتي .. كُنت دايمًا بقول لك واحد زي عاصي كونه يأخد خطوة زي دي أنه يجي عند طبيب نفسي عشان يحافظ على مراته من نفسه دا آكيد بيحبها ، بس مكنتش متوقع أنها بتعشقه كده !!
رمقتهم ريهام متعجبـة وقالت :
-كان قاعد فـ الأوضة هيتجنن عليها ، أنا كُنت مرعوبة .. طيب الخطوة الـ بعد دي أيه ؟!
-دي الخطوة الأخيرة الـ فضلت مأجلها سنـة ونص .. مفتكرش أن عاصي ممكن يرجع لدقيقة واحدة لماضيـه بعد الـ شافه .. وشاف حالتها دي أنا كنت متعمد أخليه يشوف انهيارها وحبها في نفس الوقت .. عاصي كان عنده إرادة أنه يفوق من المجتمع الـ كان مغروس جواه وإنه مش عارف يكتفي بواحدة وبس .. وساعدنا كتيـر وهي كمان ساعدته كتيـر من غير ما تحس ..
تمتمت ريهـام بتساؤل:
-يعني هو خلاص كده !! تعافي تمامًا ؟!
-الخطوة الجايـة بتاعتها هي وبس ..
ثم أتبع قائلًا :
-كان لازم يا ريهام ياخد الصدمـة دي عشان تفضل محفورة في قلبه العمر كله .. أنتِ عارفـة إنه من أصعب الحالات الـ مرت عليـا .. أنا فضلت أذاكر في شخصيته دي أسابيع وأفكر أزاي أعالج شخص زيه قادر يشتري كل حاجة يهواها بفلوسـه .. شخص كانت دي حياته لمدة ٢٠ سنـة ، اتربى على السيطـرة والأنانية من ست انتقامية استخدمته كسلاح لدوافعها .. لأب دي حياته أصلًا .. أنت قدامك مبنى منهار هتعيدي بناءه من جديد ..
نظرة سريعة من عيني ريهام المفعمة بالشفقة على تلك الحالة المزرية التي وصل لها الاثنان وقالت بإعجاب :
-مراتـه شخصيتها جميلة أوي .. وعرفت أزاي تحتوي طير حُر زيه .
اتكئ عمر على مقعده مستريحا لنجاح خطته العلاجيـة :
-أهي دي الست الـ يترفع لها القبعة بصحيح ..
قد يُكلفك خدشًا واحدًا في الطفولة، عمرًا كاملًا من الخوف والتخبط بدروب الحياة ولكن لا نُدرك ذلك إلا بعد أن يُصبح ذلك الخدش صدعًا غائرًا .. كانت مميزة جدّاً ونادرة كالجواهر مما جعل لها تفاصيل لا تُغادر الذّاكرة أبدًا .. يضمها لقلبه ويعتني بتلك الحورية التي تتقوس بحضنه كعصفور بنى عشه بين يديه .. برضوض ثقيلة من يدي الألم يحنـو عليها راجيًا بهمس :
-حياة ، افتحي عينك عشان خاطري .. قومي أنا جمبك أهو .. حياة ....
كانت حياته جرحًا لم يكف نزيفه فـ ضمَّده مجيئها لعالمه .. قبل كفها المُثلج بنفس لوامة وتأنيب ضمير وبنبرة لاذعة :
-قومي مش هقدر أشوفك كده .. حقك عليـا .
تتراقص جفـونها السابحة في موج الحزن وهي ترى صورته المشوشـة هامسـة باسمه :
-عاصي !!
-حياة عاصي .. أنا جمبك .
تغلغلت أصابعهما ببعض بطريقـة مـا تعبر عنها القلوب عن صعوبة شعـور لا يوصف .. شعور لا يمكن تجسيده بكلمات وحروف ، بل هو شعـور تائه يتتضور جوعًا عن الأمان .. شعور يونسه ويتناغم مع تلك الروح المشتتة .. تململت على شوك الألم وسألته :
-هو أيـه اللي حصل . ؟!
-فوقي كده وهتفهمي كل حاجة أنا جمبك أهو ومش هسيبك أبدًا ..
هناك نصًا قديمـا احتفظت به بين ثنايا دفترها قبل أعوام وهي تناشد القدر أن يأتي برجل أحلامها :
" أن يَكونَ حنونًا يَعرف كيف يجعلني أطمئن بِجواره،
كأنني لم أعرف معنى الخوف أبدًا، أن لا يَهونَ عليه حُزني، يُصبح الوَنس لِقلبي بعد سنوات من الوِحدة،
أن يكون شخصًا؛ أستطيع أن أقول عنه لقد وجدتُ ما كُنتَ أبحث عنه دائمًا "
اعتدلت من نومتها بمعاناة وأخذت تتفقد ملامحه كأعمى يرى ضوء الشمس لأول مرة ، مررت كفوفها الصغيرة على وجهه وسألته بعتبِ :
-أنتَ سبتني ومشيت ليـه ؟! عاصي أحنا جينا هنـا ليه ، يلا بينا من هنا .. الدكتور ده كل كلامه كذب مش كده !!
ثم توسلت له بأعين باكية وهو تحوى وجهه بكفيها :
-أنت عمرك ما كذبت عليا ، قول لي أن كل كلامه كذب ..
لم تمهله الفرصة كي يجيبها ولكن شدته لحضنهـا بقوة عاتية وهي تعتصر حزنًا وألمًا بين يديه تتأوه ترتجف .. تبكي طويلًا فتعود لتقبيله محاولة تكذيب ذلك الأمر ، تتوسل له أن ينهي هذا الكابوس في أسرع وقت ممكن؛ ثم عادت له وطالعت عينيه المدمعة وسألته:
-أنتَ كويس؟! مش تعبان .. وغلاوة حياة عندك قول لي ..
ثم وضعت كفها الذي يضخ حُبًا على قلبه لتتحسس نبضـه وأردفت بثرثرة لم تمهله الرد :
-قلبك لو كان فـ شكة برد أنا كُنت هحس بيها .. لكن مفيش الكلام ده !! صح صح !! طيب قوم قوم نروح لدكتور غير الكذاب ده ، لالا نسافر بره نعمل شيك آب كامل..
لم يتحمل رؤيتها لهذه الدرجة من الضعف فـشدها لحضنه مرة ثانية ودفن رأسها بصدره وقال متأملًا :
-عمري ما اتخيلت أنك بتحبيني كده .. أنت زلزلتي كل ساكن جوايـا ، أنا عملت أيه حلو في حياتي عشان تكوني أنت فيها ..
فارقت حضنه وهي ترتجف كالمصاب بحُمى وأخذت كفوفها المرتعشة تجفف عبراته المترقرقة التي رأتها لأول مرة .. فسألته وهي تلهث :
-خلاص أهدى طيب .. أنت كويس !
-أنا عمري ما كُنت كويس غير النهاردة .. حد يشوف واحدة زي القمر كده زيك بتحبه الحب ده كله وميبقاش كويس !!
عانقته مرة آخرى وهي تمسح على شعره بحنان زاخر وسألته :
-أنت قلبك سليم ، هو كان بيكذب عليا مش كده !
مسح على ظهرها بحنو ثم قال ممازحًا كي يلطف تلك الأجواء المشحونة بينهما :
-في حد قلبه بيوجعه يخلف بالجوز كده !! طيب أعقلي الكلام !!
رغم عنها انفجرت بضحكة مكتومة مبطنة بنشيج البكاء وضربته في ظهره برفق بأنين :
-كنت هموت عليك... هو عمل فيـا كده ليه ؟!
غادر عمر مكتبه برفقة الطبيبة ريهام متجهًا لعندهم ثم قال بمازح :
-أنا لو لقيت ست تحبني كده ، هعتزل مهنة الطب والعالم كله وأقعد جمبها ..
اعتدلت حياة بجلستها وهي ترمقه بنظرات ساخطة وقالت بعتبٍ :
-أنت عملت فيا كده ليه !! وعاصي فيه أيه ..
أشار عمر للطبيبة ريهام أن تغادر ليكسر حواحز الخجل بين الاثنين قائلًا بلطف:
-نجيب لمون للمدام حياة يا دكتورة ريهام ، أنتِ عايزاها تقول علينا بخلا !!
تفهمت ريهام على الرحب والسعة:
-حالا يا دكتور ..
انتظر حتى غادرت ريهام ثم قال عمر متسائلًا :
-أحسن دلوقتِ يا مدام حياه !
نظرت لعاصي مضطربه وتمتمت :
-فهمني طيب !
احتوى كفها بحنان وقال :
-الدكتور هيفهمك ...
بدأ عمر الحديث عن حالتـه قائلًا :
-أول يوم شفت فيها جوزك ، فضل ساكت لربع ساعة مش بيتكلم لـحد ما قام ولف فـ الأوضة دي ولقيتـه صرخ وقال " أنا كُنت بحب مها مراتي ، بس كُنت بخونها عادي .. لكن دي لا .. حياة مش الست الـ تتخان ، أنا عايز اتخلص من العالم بتاعي كله ، عايز أبقى صفحة بيضة معاها هي وبس ! أنا مش عايز أخسرها بسبب غبائي وأنانيتي "
طالعتـه بأعين تحمل الكثير من الحب وقلب ينتفض حزنًا على عناء تلك الرحلة التي قطعها لوحده ، ثم عادت لحديث الطبيب باهتمام وأكمل :
-من أول جلسه لحد النهاردة السؤال الوحيد الـ شاغلني هي الست دي عملت فيـه أيه خلته بالحالة الجنونية دي ! ولما قابلتك عرفت أنه معاه حق يخاف يخسرك ..
خفق قلبها حزنًا وهي تضم على يده ، فأتبع الطبيب :
-بدون فلسفة طبية هكلمك بوضوح عاصي كانت مشكلته كلها أن عاش حياته بطريقة ونهج معيـن وفجاة قابل الـ فوقته ، فـ بقى خايف يرجع للماضي ده تاني ويخسر كل شيء .. هي جُملة مشاعر متراكمـة أدت لظهور لتكون شخصيته النرجسية دي !!
تمتمت بإعتراض :
-أنا من وقت ما قابلتـه وهو شخص حنين ، شوفت الحب والحنية فـ عيونـه ، قصدي أقول أنه عمره ما لمح لي أنه شخص بيعاني من أي مشاكل نفسية!!
برر الطبيب قائلًا :
-لو كُنتِ قبلتي عرضه في الليلة أياها كُنتِ هتشوفي شخص تاني خالص .. أنتِ خدتيه على الهادي لحد ما وصلتي بيه لبـر الأمان !! الأمان الـ مبقاش قادر يستغنى عنه ..
لاحظ الطبيب لهفتها الممزوجة بالخوف وأكمل :
-متقلقيش كده ، عاصي مش بيعاني من أي اضطراب نفسي ممكن أوصفه بيه ، هو مش شخص سام مش مؤذي ، بس هو نتاج تربية خاطئة علمته أن أي حاجة يدفع فيها فلوسه دي بقيت بتاعته ويرميها أول ما يزهق منها ... بقيت دي حياته الـ مش عارف هيغيرها ازاي !!
غمغمت بحيرة وسألته :
-ليه ماقولتش كده ، كنا عدينا المرحلة دي سوا !!
قبل رأسها كإعتذار بسيط منه وقال :
-مش حابب تحسي بأي حاجة ، كنت عايز دايمًا أفضل في نظرك عاصي الـ حبتيه وبس !!
فتدخـل عمـر وقال :
-وكانت أول خطوة في علاجه هو تشتيته عن أي علاقة في حياته وعن كل حياته القديمة .. ضبط للنفس زي ما بيقولوا .. أنا قدامي صنية الكنافة الـ بحبها بس مش هاكل منها لا .. بقى رقم واحد في حياته الشغل وبس ...
أومأت متفهمة :
-أنا فاكرة الفترة دي ..
-تسمحي لي اسألك سؤال ؛ هل كُنتِ هتقبلي تكوني زي مهـا !!
ردت بتردد :
-بصراحة لا .. عمري ما كُنت هقبل أنه يكون مع واحدة غيري..
-كُنتِ هتسيبيه !!
نظرت لعيني حبيبها بتشتت :
-لو قبـل كان ممكن أبعد .. لكن دلوقتِ مستحيل أسيبه كنت هلاقي حل غير أني اسيبه ، لاني مش هقدر ..
مالت على كتفـه وهي تضم ذراعه لصدرها وأكملت :
-هي المرحلة الجاية هتكون أيه !
-أنا دوري كمختص انتهى .. الدور الجاي دورك أنتِ !
ردت بحماس :
-أنا !! ازاي .. ؟!
بابتسامة هادئة أردف عمر قائلًا :
-أزاي دي بردو بتاعتك أنتِ، أنتِ ست ذكية وهتعرفي تحافظي عليه بطريقتك ..
ثم أعلن اعتذاره الشديد :
-وحقيقي أنا بعتذر منك عـ الأسلوب الـ اتكلمنا بيه .. بس كنت مستني منك لحظة انهيار واحدة تعلم في قلبه لحد ما أجبرتيني استخدم أصعب اختبار ..
تدخل عاصي شاكرًا :
-دكتور عمر حقيقي أنا مش عارف أشكرك أزاي وشكرًا لذكاء حضرتك الـ أجبرني أكمل علاج فـ الرحلة دي لحد المرحلة دي بالذات ...
تبسم عُمر قائلًا :
-المفروض تشكرها هي .. مش أنا ...
ضمها لصدره وهي يمسح على كتفها بامتنان :
-هي عارف هشكرها أزاي .. نستأذن أحنـا !!
غادر الثنائي ذلك المركز بعد مرور ثلاثة ساعات بداخله وهذا اليوم الذي يحجزه من أوله لآخره كي لا يعلم أحد بتردده على ذلك المكان .. وصل الاثنان للسيارة ففتح لها الباب كي تصعد بداخلها ولكنها أبت ولجأت لعناقه معتذرة عن كل اللحظات الصعبة التي عاشاها لوحده وبدونها .. هي الوحيدة التي يمكنها أن تُنسيه تلك الأيام المُرة بدهائها وحبها الكبير ؛ تهامست قائلة :
-أنتَ عملت كُل ده عشاني وعشان تحافظ على حبنا !
-أصلك لو روحتي من بين إيديا مش هعرف أعوضك تاني .. اللي زيك بيجي مرة واحدة وبس فـ العمر ..
قطعت عليه وعدًا :
-من النهاردة مفيش سر ما بينـا .. فـ أن كل خطوة هنخطيها سـوا ومع بعض لأن دي حياتنـا أحنـا وبس ..أوعدني !
فارق حضنهـا وهو يسحبها صوب السيارة :
-اركبي في مفاجأة على بُعد نص كيلو من هنا .. وبعدين نكمل كلامنـا ..
استقل سيـارته وقادها نحـو الجهة المقصود تحت ثرثرة فضولها الذي لم يرويه بطيف الجواب حتى وصل لتلك الأرض المسورة والمتكدسـة بالعُمـال .. وقف سيارته ثم هبط منها وفتح لها الباب ، تجولت مُقلتيهـا بالمكان متحيرة :
-أيه ده !!
اقترب قليلًا من الأرض وأشار لتلك اليافطة المُعلقة والمكتوب بها " دار الحيـاة لرعاية الأيتام " بشهقة تكاد سحبت أوكسجين المكان صارخة بفرحة لترتمي بحضـه وهي تقفز كالاطفال ولم تصدق ما رأته :
-عاصي !! مش معقـول لا !! أنتَ قريت الأمنية دي جوة الصندوق بتاعي صح !!
ثم صاحت صارخة وهي تضمه بشدة :
-بحبك ..
حملها ليدور بهـا بالمكان بسعادة تسور قلوب الاثنان حتى وقف أمام بعضهما وهي تعانق حلمها بأعينها المتلألأة فأكمل قائلًا :
-عـ فكرة ، أنا مدفعتش ولا مليم ، المكان كله بتاعك وباسمك..
-ازاي ؟!
طوق خصرها وقال :
-أنا بعت الدهب الـ فـ البحر ، واشتريت بيه المكان ده .. بصراحة فكرت كتير نعمل بيه أيه ، أنا ومش محتاج فلوسه .. وأنتِ مش محتاجاه .. فقررت أني أحقق لك الحلم الجميل ده ..
تفقدت المكان بأعين مستشرق وكأن شمسها أشرقت من بين عينيه ثم نظرت إليه :
-أنت حلمي الجميـل يا عاصي الـ سعيدة أني حققته ...
من أي نجم نسّجت عينيك التيسرقت قلبًا تابَ عن الحُب .. داعب خصلات شعرها بحب ذائبًا بملامحها الجميلة التي يجب أن تكون كبوصلة لكل تائه :
-وأنتِ حياتي الجميـلة ..
ثم مال على آذانها متهامسًا :
-كده مش باقي غير حاجـة واحدة وبس !
-هي أيـه ؟!!
غمز لها بطرف عينه وقال :
-هتعرفي فـ وقتها ....
تعلقت بعنقه معترفة بتلك النبرة المُشيدة بحالة قلبها بأنه لم يبقى جُزء صغير بجسدها إلا وقد امتلأ بك :
-أنا بحبك .
-وأنا أختصرت حياتي فـ حُبك .
•••••
••••••••
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية غوي بعصيانه قلبي ) اسم الرواية