Ads by Google X

رواية بك احيا الفصل الثاني و العشرون 22 - بقلم ناهد خالد

الصفحة الرئيسية

 

  رواية بك احيا الفصل الثاني و العشرون 22 - بقلم ناهد خالد

“حب زائف!”

“أشعر بطوق يلتف حول عنقي يكاد يخنقني، ولا أجد للخلاص منهُ سبيلاً، والمضحك في الأمر إنني من لففت الطوق بيدي! فكيف لي أن اشتكي!”

شهقت بخضة حين التفت ووجدته خلفها تمامًا، لا يفصل بينهما سوى سنتيمتر واحد، حتى أن هاتفها سقط من يدها ولولا تمسكه بهِ بتلقائية وسرعة بديهه لأصبح فتات الآن، ابتسم ثغره بغيظ وهو يعقب على الموقف مرددًا:



– واضح إنك كنتِ مشغولة في المكالمة لدرجة إنك محستيش بوجودي.

التقطت أنفاسها الذاهبة بتروي وعادت خطوتان للخلف، قبل أن تجيبه بابتسامة مهزوزة:

– أنا فعلاً محستش بوجودك، أنا لفيت صدفة أصلاً، بس كان لازم تنبهني أنا قلبي كان هيوقف من الخضة.

لم يعقب على حديثها، وأصر على التحدث في نفس النقطة مندفعًا بغيظه الداخلي:

_ الحقيقة الغلط مش عندي، أنتِ الي مش مركزة خالص.

ابتسمت بهدوء وهي تقول:

_ يعني حتى مش هاين عليك تعتذر بالمجاملة!


رفع شفته العليا بحنق وهو يجيبها:

_ الاعتذار مفيهوش مجاملات.

اندثرت ابتسامتها وهي تشعر بجديته في السخافة! بالطبع سخافة، فما له يأخذ الأمر على محمل الجد لهذه الدرجة، بينما هي تأخذه من باب الدعابة، ولكن إن آخذه هكذا فستفعل هي الاخرى، وهذا ما دفعها للتحدث بجدية وهي تخبره:

_ هو الشغل متعطل ولا حاجة؟ يعني في مشاريب كنت جاي تاخدها ومكالمتي عطلتك؟

_ لأ.

اجابها باقتضاب، لتهز رأسها بلاهتمام، وهي تمد كفها له:

_ ممكن تليفوني!؟

رفع يده بالهاتف لها وهو يلاحظ تغير ملامحها، يبدو أنه بالغ في ردة فعله! فأخذته منه واتجهت للطاولة العريضة المرتص عليها الأكواب وأخذت ترتبهم بعناية رغم عدم حاجتهم لذلك، لكنها من الواضح تشغل ذاتها حتى ينصرف عنها، شعرت باقترابه منها رغم حفاظه على مسافة جيدة بينهما، فلم تهتم، لكنها سمعت صوته يقول بمرح طفيف:

_ مال وشك قلب ليه كده! كل ده عشان اعتذار المجاملة!؟



حنت رأسها قليلاً بلامبالاة وهي تجيبه بينما لم تلتفت له حتى:


_ لا عادي، مقلبتش وشي ولا حاجة.

ضحك ضحكة بسيطة وهو يعقب على عصبيتها في نقل الأكواب:

_ ماهو واضح! ده أنتِ ناقص تخبطيني بالكاس الي في ايدك ده.

وهنا نظرت له بجانب عيناها وهي ترفع كتفيها بغيظ:

_ كويس انك خدت بالك.

اتسعت ضحكته وهو يتعجب من ردة فعلها، وسألها من بين ضحكته:

_ ياساتر! ليه كل ده!

تركت ما بيدها والتفت بجسدها له وهي تخبره بحنق واضح:

_ مبحبش اكون واخده الموضوع هزار والاقي الي قدامي قفل وواخده جد، يعني انا كنت بهزر لما قولتلك اعتذر حتى لو مجاملة، لكن كان واضح في ردك عليَّ إنك بتتكلم جد، فقفلتني بصراحة.



انهت حديثها وهي تحرك عيناها لأعلى دليلاً على ضيقها من موقفه، مما جعله يبتسم مرة أخرى وهو يجيبها:

– لا في دي معاكِ حق، أنا فعلاً اوقات مبعرفش افرق بين الجد والهزار، بس على فكرة انا كمان كنت بهزر.

رفعت حاجبها الأيسر بعدم تصديق وهي تسأله مستنكرة:


_ بقى كده كنت بتهزر! اومال لو كنت بتتكلم جد بقى، ملامحك كانت باينة على فكرة، فانت كده مش بتصلح الموضوع أنتَ بتبوظه.

حك مؤخرة رأسه بكفه الأيمن وهو يعقب بحرج طفيف:

_ ماشي، انا فعلاً كنت قفل ومفهمتش إنك بتهزري، بس المرة الجاية هاخد بالي واهزر معاكِ.

ابتسمت بلطف جعل عيناه تلمع، وهي تحني رأسها قليلاً وقالت بهدوء:

_ ماشي.

_ خير سايبين الشغل وواقفين ترغوا؟!

التفا على صوت “طارق” الذي صدح من خلفهما، ليضغط “مراد” على نواجزه محاولاً التحكم في أعصابه فقد علم الآن ماهو مقبل عليهِ “طارق” من فرض سيطرة سخيف، مستغلاً عدم قدرته على الرد أمامها، التفت له ونظر بأعين محذرة:

_ ابدًا يا استاذ طارق مش سايبين الشغل ولا حاجة.

التمعت أعين “طارق” بتلاعب ماكر، وهو يسأله ساخرًا:

_ والله! ده انا سامع رغيكوا بقالي فترة.

_ مفيش مانع نتكلم واحنا بنشتغل.


قالها “مراد” بحدة واضحة جعلت “خديجة” تهمس له من خلفه:

– اهدى ليرفدك.

وما زاده جملتها إلا اشتعالاً، هل أصبح “مراد وهدان” عُرضه للرفد! ومِن مَن! مِن “طارق” الذي يعمل لديه!

ضغطت على أعصابه وتحكم في ذاته وهو يقول:

_ اقصد يعني اننا بنسلي وقتنا واحنا بنشتغل مش اكتر.

اومئ “طارق” برأسه وقد قرر تمرير الأمر بعدما رأى احتقان وجهه الذي يدل على وصوله لأقصى حالات تحكمه بذاته، وللحق لا يتمنى “طارق” أن يكون محل افراغ شحنة غضبه هذه لاحقًا، فاكتفى بهذا القدر وقال قبل أن ينسحب:

_ تمام، اهتموا بالشغل شوية عن كده.

لو باستطاعته لذهب خلفه الآن واشبعه ضربًا، لكنه لا يريد لفت نظرها، لذا اخذ نفسه بعمق والتف لها بابتسامة هادئة، فوجدها تقابله بعتاب واضح وهي تقول:

_ طريقتك معاه كانت ممكن تعمل مشكلة، أنتَ أول مرة تشتغل في مكان ولا ايه!؟ الطبيعي أننا بنكون اهدى وبنتجاهل طريقة المدير لو مش لطيفة عشان منترفدش.

هز رأسه بلامبالاة وهو يخبرها:


_ مبحبش حد يكلمني بلهجة متعجبنيش، بس كويس انك هدتيني عشان كنت هغشم معاه.

ضحكت بعدم تصديق وهي تعقب:

_ ده كويس إني لحقتك فعلاً، لا لازم تكون اهدى وأبرد من كده، الشغل مبيمشيش بالطريقة دي.

جاء أحد العمال الآخرين في المكان، وهو يقول موجهًا حديثه ل “مراد”:

_ واحد اوريو واتنين جوافة لطربيذه ٧.

اومئ “مراد” برأسه ليذهب الآخر، وبدأت “خديجة” في اعداد المشاريب، قبل أن تسمع لصوت “مراد” يسألها:

_ هي رنا اتأخرت ليه؟

عقدت حاجبيها بجهل وعقبت:

_ مش عارفة، انا برضو مستغربة ده احنا لسه تاني يوم شغل.

_ مكلمتيهاش؟

نفت برأسها وهي تجيبه:

_ مخدتش رقمها لسه.

اومئ برأسه متفهمًا، وتابعها وهي تعد المشروب، عيناه تلتهم كل شيء يخصها، كل تفصيلة بها تتروى نظراته عليها ببطء، يشبع عيناه منها، ولا يصدق أنه أصبح يستطيع فعل هذا، لم تعد في مخيلته فقط، بل أصبحت أمامه، يتحدث معها، وينظر لها، ويستطيع لمسها لولا الرقابة!


في لحظة واحدة كان يقبض على كفها بنفس اللحظة التي اصطدم ظهرها بصدره، كل ما حدث لم يأخذ ثانيتان ولا يعرف أحدهما كيف أصبحا متلاصقان هكذا! كل ما في الأمر أن الخلاط الكهربائي الذي استخدمته لصنع المشروب أصابها بماس كهربائي طفيف جعلها تنتفض للخلف، بنفس اللحظة التي لاحظ هو بها ما حدث فاندفع يبعدها عنه ليصبح المشهد كما هو الآن، ملتصقة بصدرة وكفه الأيسر يقبض على معصمها الأيسر، لم يتعدى الأمر الثانية الواحدة قبل أن يبتعدا، ولكنها كانت كفيلة لبعث الكثير من التساؤولات، والمشاعر!

انتفاضة أصابت قلبها حين شعرت بهِ خلفها، ورعشة لذيذة سرت في جسدها أثر تلامسها معه، ولكن تلك اللمسة لم تكن عادية بطبيعة الوضع الذي هما فيه، لكنها كانت رعشة خاصة، ترتبط بشيء ما في الماضي البعيد!

“حين تتشتت ذاكرتك، وتفقد ذكرياتك، تتبع دقات قلبك، فإنها.. لا تخيب!”

زفرت أنفاسها بتوتر بالغ وهي تشعر بقلبها يعيد التعرف عليه، بالأمس شعرت بؤلفة عيناه، واليوم شعرت بؤلفة لمسته!

وعنه فقلبه استكان بعد ركضًا طويلاً قُطعت فِيهِ أنفاسه، منذُ قليل اشتكى من عدم شعوره بلمستها، وكانت هي الناقصة لتكتمل صورة واقعها لديه، وها قد حدثت، فبات قلبه متأكد من وجودها، وعودتها، وهويتها، فإن كان لديهِ شكًا ولو واحد بالمئة من كونها هي نفسها “حبيبته” فالآن بات موقنًا من هويتها الحقيقية، قلبه عرفها.. كما عرفتها روحه بالأمس، وجسده تعرف على لمستها كما كان يفعل سابقًا.


لملم شتاته وأجلى حنجرته وهو يقول:

_ خليني اشوف الخلاط ده بيكهرب ليه.

تنحت بعيدًا وهي تخبره بقلق:

– حاسب ليكهربك.

هز رأسه لها وهو يتفحصه بعناية، بينما وقفت هي تتابعه بقلق من أن يؤذيه مثلما فعل معها منذ قليل، ولا تعرف هل هي قلِقة على شخصه، أم قلقها طبيعي كقلقها لأي شخص آخر محله..!!

______________

ها هي تخطو اولى خطواتها صوب “القاهرة” أو “مصر” كما يسمونها أهل القرى، وكأنهم يعتبرونها ممثلة عن مصر بأكملها، ووجدتها كما يقولون، تعج بالكثيرون، والزحام المروري المتكدس رحب بها من الوهلة الأولى، الأبخرة المتصاعده مع الهواء جعلتها تشتاق لنقاء هواء بلدها، التفت لخالها حين استمعت له يقول:

_ مالك مصدومة اكدة من وجت ما اتدلينا مصر.

_ زحمة جوي يا خال.

رددتها بينما عيناها تدور بتفحص من حولها لكل شيء يمر بجانب السيارة المستقلان بها، ضحك “منصور” على اندهاشها الواضح، وغمغم بتفهم:


_ بكره تتعودي على زحمتها.

هزت رأسها بلاهتمام وهي تتابع حركة السير وتركض عيناها فوق المحلات والمستعمرات السكنية، تتعرف على الحياة الجديدة التي تخطو إليها في سبيل تحقيق ذاتها ونجاحها.

_____________

اسبوع مرَ على ابطالنا بسلام..

تغيرت حياتهم بمختلف الأحداث، ربما ليست أحداث مهمة لكنها حققت تغيرًا ما..

القى نظرة أخيرة على ذاته في المرآة معدلاً من سترته الكحلية، وتأكد من ترتيب خصلاته، قبل أن يلتقط هاتفه ومفتاح شقته وباقي اغراضه واغلق نور الغرفة خارجًا من الشقة بأكملها قاصدًا حفل عائلة وهدان المدعو له، اغلق باب شقته وكاد يتجه للدرج، لكنه توقف على صوت فتح باب الشقة المقابلة وظهرت “فريال” من خلفه ملتفة بوشاحها الأسود أعلى جلبابها المنزلي، وأردفت:

_ باهر أنتَ خارج؟

ابتسم بهدوء وهو يجيبها:

_ ايوه، محتاجة حاجة اجبهالك وأنا جاي؟

اتسعت ابتسامتها للطفة وبدلاً من أن تجيبه على سؤاله حدقته بنظرات مرِحة، قبل أن تقول مُغازلة:


_ ايه الشياكة والألاجة دي؟ وه شكلك وكأنك رايح تتجدم لعروسة.

اتسعت ابتسامته فبرزت الحفرتان المزينتان لوجنتيهِ وهو يساير مرحها:

_ يعني ميمشيش معاكِ اني رايح حفلة مهمة وعشان أنا دكتور لازم اهتم بشياكتي.

نفت برأسها وهي تضيق عيناها بتفكير زائف:

_ له، مامشيش.

ضحك بخفة وهو يخبرها غامزًا لها بجانب عيناه:

_ عشان هو فعلاً مش ده السبب.

اتسعت عيناها بشكل مضحك وهي تسأله بعدم تصديق:

_ هو في عروسة بچد؟ لا متجولش! بجى في عروسة وبتداري علينا يا باهر؟ لا ومفهمنا انك محترم!

ضحك على سخافة حديثها وهو يعقب باستنكار:

_ يعني لو في عروسة هبقى مش محترم؟ أنتِ هبلة يابت؟

انتبهت لِمَ قالته فوضحت مقصدها:

_ مجصديش، بس كنا ابتدينا نشك انك مهتحبش صنف الحريم كله، من كتر ما كنت بتجفل أي كلام يتفتح في موضوع جوازك، طلع في واحده واحنا مش عارفين.. طب ايه الي معطلك تتجوزها؟


هز رأسه بيأس منها وهو يقول:

_ مين قالك إني اعرف واحدة؟ ومين قالك اني اعرفها من زمان، لأ وفي حاجة معطلاني اتجوزها، أنتِ بتخترعي كلامك من دماغك؟

_ وه! مانت لساتك جايل اكده!

_ انا مقولتش فيه عروسة، انا قولت ان سبب شياكتي مش الحفلة بس مش معناها ان في عروسه! وعشان تفهمي اكتر، مش عروسة ولا حاجة، كل الحكاية انها بنت حاسس ببوادر إعجاب من ناحيتها، وهتكون موجودة في الحفلة.. ده كل الحوار.

رفعت حاجبيها بتفهم للأمر وقالت بغمزة:

_ اعجاب، جولتلي، يلا ربنا يهني سعيد بسعيدة.

رفع جانب شفته العليا باشمئزاز وأشار لها برأسه مردفًا:

_ امشي يابه ادخلي جوه واقفلي الباب، قال سعيد وسعيدة قال..

رمقته بجانب عينها بضيق وهي تغلق الباب في وجهه بشدة، ليتملكه الغيظ وهو يرفع صوته كي تسمعه:

_ يلا يالي مشوفتيش رباية.

عدل سترته للمرة الألف قبل أن ينزل الدرج لاسفل فيكفي ما أضاعته تلك المعتوهة من وقت..


_______________

في غرفة مكتب “حسن وهدان” جلس قبالته نجله “مراد” الذي انتهى للتو من ترتيب اوراق الصفقة الأخيرة وعرضها عليه كي يقوم هو بدوره بعرضها على مرؤوسه، احنى “مراد” رقبته قليلاً بارهاق وأردف بنبرة مرهقة أكثر:

_ كده تمام، الورق كله اتستف وجاهز انك تسلمه.

اومئ “حسن” برأسه وقد رجع بظهره للوراء باسترخاء هو الآخر، وقال:

_ كويس اننا خلصناه، البوص مستعجل عليه.

اومئ الآخر برأسه بعدم رد، لكن تحفزت كل ذرة بجسده الذي تصلب لوهلة وهو يستمع لوالده يقول:

_ مقولتليش يعني إنك لقيت خديجة، ده أنا حتى كنت هفرحلك.

ثُبت نظراته القوية على “حسن” لقليل من الوقت، كأنه يزحزح ثبات الآخر بتلك النظرات قبل أن يسأله بعدم راحة وحذر:

_ وأنتَ عرفت منين؟ ولا مخلي حد يراقبني؟

لوى فمه ساخرًا وهو يجيبه:

_ يراقبك؟ أنا مش محتاج اعين عليك رقابة عشان اعرف اخبارك، انا اخبارك بتجيلي من غير مجهود، ولا نسيت مين حسن وهدان؟

لم يهتم بكل هذه الهرتلة في الحديث، وهو يرفع كتفه بلامبالاة قائلاً بنبرة جامدة:


_ معتقدش كان هيهمك تعرف حاجة زي دي، يمكن لو كنت شايفك مهتم بموضوعها اصلاً كنت عرفتك اني لاقتها.

وحتى هو لم يهتم بحديثه، وكأن الولد والوالد يتطبعا بنفس الطبع! وأردف بسخرية بطنت جوانب حديثه:

_ وهي برضو الي خلتك تروح تشتغل مرمطون في مطعم؟

ابتسم باستفزاز له:

_ هي تعمل الي هي عاوزاه.

وبالفعل نجح في استفزاز الآخر وإثارة غضبه حين ضرب بقبضته على المكتب بعدما اعتدل في جلسته، وظهر الغضب جليًا على وجهه وهو يهتف بصوتٍ مرتفعٍ:

_ بطل استفزاز، أنتَ ازاي تسمح لنفسك تبهدل نفسك وتنزل بمستواك كده، بقى ابني أنا، ابن حسن وهدان يروح يشتغل جرسون في مطعم عشان حتة ب…

قاطعه “مراد” على التو بعدما تحفزت ملامحه للغضب والشجار، وأردف من بين أسنانه بنبرة محذرة:

_ كلمة واحدة عنها متعجبنيش، تصرفي مش هيعجبك.

اهتاج “حسن” اكثر لتهديده فسأله صارخًا بغضب:

_ هتعمل ايه يا مراد بيه؟ هتضربني؟


نهض “مراد” بجسد متصلب ونظرات غاضبة، وأردف بنبرة هادئة لكنها حملت وعيدًا واضحًا:

_ في حاجات عندي لو اتعرفت مش هتتبسط.

نهض يواجهه وهو يسأله بعدم فِهم:

_ حاجات، حاجات ايه؟

أخرج علبة سجائرة، والتقط واحدة بين إصبعيهِ واخرج قادحته مشعلاً إياها بعدما وضعها في فمه، كل هذا تحت نظرات “حسن” المشتعلة من تصرفاته المستفزة، أخذ منها نفسٍ عميقٍ ثم أخرجه بتروي قبل أن ينظر للآخر ويسأله ببرود:

_ أنتَ عارف إني بحبها، والي بيحب مستعد يعمل اي حاجة عشان حبيبه، واعتقد إنك عملتها قبلي ولا ايه؟

لم يفهم “حسن” تغييره لضفة الحديث، لكن سؤاله الأخير نجح في استدراجه لفخه، فوجد ذاته يسأله مستفسرًا:

– قصدك ايه؟

أخذ نفسًا آخر من لفافة التبغ وزفره على مِهل قبل أن يجيبه:

_ قصدي إن ماما لما عرفت حقيقتك العلاقة انقطعت بينكوا، ايه الي خلاك متتجوزش عليها مثلاً! رغم انه حقك، بس أنتَ خوفت تاخد الخطوة دي عشان كنت عارف إنها هتقضي عليها، وعشان كده مفكرتش تتجوز لإنك بتحبها وخايف عليها، صح ولا غلط؟

هدأت انفعالات “حسن” قليلاً، وهو يستمع لتحليل ولده للوضع القائم بينه وبين والدته منذُ عدة سنوات، فأجابه بهدوء:


_ صح، رغم كل الي عرفته عني، والي مش سهل بالنسبالها، لكن كنت عارف إن ده كوم وحكاية جوازي عليها دي كوم تاني، كنت عارف هتأثر فيها ازاي، وهتوجعها ازاي، ورغم انها بتبين انها مش طيقاني طول الوقت، إلا أني في اوقات بشوف في عنيها نظرة حنين، النظرة دي عمري ما كنت هشوفها لو اتجوزت عليها.

_ وعرفت.

رددها “مراد” مكملاً حديث والده الذي نظر له بعدم فهم، ليعود ترديد كلمته في سياق الجملة:

_ عمرك ما كنت هتشوف النظرة دي لو اتجوزت عليها وعرفت..

انعقد حاجبي “حسن” بعدم فهم وهو يسأله:

_ قصدك ايه؟

نفسًا آخر اخذه بعمق قبل أن يخرج دخانه، وهو ينظر لوالده باستمتاع قبل أن يلقي عليهِ قنبلته المدوية، والتي أردف بها بنبرة متلذذة وهو يجيبه:

_ قصدي إنك محبتش تتجوز عليها وهي تعرف عشان السبب الي قولته، لكن تتجوز عليها من غير علمها ده مكانش عندك مشكلة فيه… وده يخليني مفهمش حبك ليها الحقيقة، يعني أنتَ بتحبها وكل شوية في حضن واحدة شكل تحت مسمى جواز عرفي! بتعرف تعملها ازاي طيب! ده الواحد لما بيحب واحدة بيقرف من جنس الحريم كله وعينه مبتفكرش تشوف واحدة غيرها، ولا جسمه يقدر يقرب لواحدة غيرها، ازاي أنتَ بقى بتعملها مش عارف! ولا أنتَ مبتحبش ليلى وواهم نفسك ولا ايه حكايتك؟


شحوب وجه “حسن” بهذا الشكل كان قمة الامتاع لعين “مراد”، شعر بالانتشاء وهو يرى أثر الصدمة على وجهه، لقد صمت لسنوات ولم يرد فتح حديثًا في هذا الأمر كي يستغله في الوقت المناسب، وشعر إن هذا هو الوقت المناسب تمامًا.. “مراد” بإمكانه فضح والده أمام “ليلى” التي ستصدق ولدها دون مجهود أو دليل منهُ، وهذا ما أوصله لوالده الآن وبالطبع الآخر قد فهم الرسالة جيدًا، ابتلع “حسن” ريقه بصعوبة قبل أن يقول باضطراب:

_ أنتَ… أنتَ عرفت منين؟

ضحك ساخرًا وهو يجيبه بنفس إجابته منذ قليل:

_ من غير مجهود أخبارك بتوصلني، واعرف ده من زمان على فكرة، من ٣ سنين كده.. وأنا عارف إن جوازاتك دي اصلاً من بعد ما انفصلت عن ليلى تقريبًا.

جلس “حسن” على مقعده بقلة حيلة، يعلم جيدًا أن “مراد” لم يصمت كل هذا الوقت عبثًا، بل سيستغل الأمر لصالحه بطريقة ما هو يجهلها، وعلى أي حال ما باليد حيلة، فما عليهِ الآن سوى مسايرته، فأردف موضحًا موقفه:

_ انا متجوزتش على ليلى غير بعد ٤ سنين من انفصالنا، ومش معنى كده إني مبحبهاش، أنا بحب ليلى وهفضل احبها، بس كل راجل وله احتياجاته، وهي قفلت أي طريق يوصل بينا، مع ذلك محبتش تعرف بجوازاتي، رغم إني كنت اقدر اتجوز رسمي،او حتى مهتمش تعرف ولا لأ، بس معملتش ده لأني خوفت عليها، ومحبتش تكرهني بجد.


اطفأ “مراد” لفافته في المطفأة وهو يرفع شفته العليا مستنكرًا:

_ احتياجات! أنتَ لو بتحبها بجد مش هتعرف تشبع احتياجاتك دي مع حد غيرها اصلاً! مش تروح تتجوز ولا ١٠ عليها وتقول بحبها!

انفعل “حسن” عند هذه النقطة وهو ييضرب بقبضته فوق المكتب مرة أخرى وقال بوجهٍ محمرٍ:

_ مين قالك إني لاقيت راحتي معاهم! كوني اتجوزت كذا مرة ده مش اوحالك بحاجة؟ انا ولا واحدة منهم عرفت ارتاح معاها، وكل مرة بقرر اتجوز واحدة جديدة بقول يمكن دي الي تريحني، بس بكون غلطان، عشان كده مفيش واحده منهم استمرت معايا اكتر من ٥ شهور، أنتَ مش فاهم حاجة ولا فاهم الي بمر بيه، فياريت تسكت.

رفع منكبيهِ ببرود ولا مبالاة:

_ ميهمنيش افهم، بس يهمني ميكونلكش علاقة بأي حاجة تخصني او تخص خديجة، عشان انا الي يفكر بس يكون سبب في مشاكل بيني وبينها مش هعمل اعتبار هو مين ومش هبقى على حاجة.. واظن انك فاهم كلامي.

وايحائة الأخيرة كان واضحًا بما يقصده، وانسحب من أمام “حسن” الذي اطاح بعدة أشياء من فوق مكتبه أرضًا بغيظ، وقد نجح “مراد” باثارة غضبه وحنقه، فهل وقف أمامه يهدده بدمًا باردًا هكذا! هل أصبح إصبعه تحت ضرس ولده الذي لم يتخطى العشرون عامًا بعد! لقد هُزلت حقـًا! ولكنه عاد يفكر وعقله يدور حول حديث ولده، وسؤال واحد بدى يتردد على عقله هل كان حبه لليلى حبًا زائفًا!؟ هل بالفعل وُهم بحبها!!!؟….. والإجابة مجهولة..


_________________

عمومًا جو الحفلات لا يليق بهِ، ولا يستثيغه، ولكنه لا يدري السبب الحقيقي وراء تواجده هنا، هل هو من اجل بوادر اعجابه بها كما اعترف لفريال! أم فضولاً منه للتوغل في حياة تلك الفتاة التي أثارته بتصرفاتها العفوية وطريقة حياتها التي وضع حولها علامة استفهام، فلديه شعور داخلي بأنها تصطنع وان خلف حياتها المليئة بالعفوية والضوضاء حياة أخرى كئيبة لا يتسلل لها شعاع نور، وصدقًا يتمنى أن يكون مخطئ.

رأى “نبيل” مقبلاً عليه من بعيد، فشد قامته يستقبله بابتسامة هادئة، فسمع الآخر يقول بينما يمد يده ليصافحه:

_ ازيك يا دكتور، منور الحفلة.

صافحه “باهر” بود:

_ الحمد لله، اخبار حضرتك ايه؟

_ تمام، وادي المدام جت ترحب بيك بنفسها اهي.

التف فوجد تلك السيدة الأنيقة، المرتدية لثوب بني ناسب سنها وشياكتها تمامًا، تقبل عليهِ مبتسمة، وحين أصبحت أمامه مدت يدها تصافحه بابتسامة، مرددة:

_ اهلاً دكتور باهر.


صافحها وهو يقول:

_ اهلاً بحضرتك، ماشاء الله هو التعب بيحلي كده؟!

ضحكت برقة وهي تضيق عيناها التي تشبه عينا ابنتها:

_ دول عنيك الحلوين يا دكتور، والله ياريت كل الدكاترة زي حضرتك كده.

_ والله في مني كتير، خصوصًا بقى لو تحت التدريب زي حالتي كده.

قاطع حديثهم إشارة “نبيل” على موضع ما وهو يقول بابتسامة:

_ اهي برنسيس الحفلة ظهرت اخيرًا.

التف بنظره ناحيتها، فاختفت ابتسامته رويدًا وهو يرى ما ترتديه، سحقًا ووالدها يبتسم! لقد كان فستانًا بحمالة واحده مائل يأتي من الناحية اليمنى ليزين كتفها الأيسر، بلون زهري رائع، ولكن ما له قصير لهذا الحد! بالكاد يصل لأسفل فخذيها، ومجسم بشكل مستفز لمنحنياتها، ووالدها يبتسم..!!!

_هاي يا جماعة.

عقبت والدتها مبتسمة:

_ ايه القمر ده ياروح مامي.


_ ثانكس مامي، وأنتِ كمان تجنني.

قالتها بابتسامة رائعة، وأعين لامعة فرحًا وزهوًا، ثم التفتت له ترحب بهِ مبتسمة:

_ هاي دكتور باهر، نورت البارتي.

ابتسم لها بالكاد وهو يجيبها بهدوء:

_ شكرًا.

_ تعالى يا نبيل نسلم على الوزير وعيلته وصلوا اهم.

وانسحبا الوالد والوالدة، نظرت له مبتسمة برقة، وهي تأخذ خطوة واحدة تجاهه وقالت محاولة فتح حديث:

_ اصل دادي كل معارفه ناس مهمة..

لم يستطع مواكبة حديثها، فرد باقتضاب:

_ كويس.

عقدت حاجبيها باستغراب من رده المقتضب، ولكنها لم تعقب، وقررت الخوض في حديث آخر، فسألته وهي تدرك الإجابة جيدًا والتي بالطبع ستكون اطراءًا كبيرًا:

_ايه رأيك في الفستان؟


وبغبائها اعطته الفرصة على طبق من ذهب، فبدون أن يطالع فستانها، اجابها ونظراته الساخرة مثبته على وجهها:

_أنتِ شحتاه؟

عقدت حاجبيها بعدم فهم تسأله:

_ شحتاه؟ يعني ايه؟

وضح مقصده وهو يقول بنبرته التي بدت جادة:

_ واخداه من حد يعني؟

اتسعت عيناها برفض:

_ of course not, انا مستحيل البس مكان حد!

لوى فمه ساخرًا وهو يخبرها:

_ اصله صغير عليكِ، فبالنسبالي بالمنظر ده، شحتاه.

وكان ردها شهقة خرجت منها كادت تزهق روحها…

 

  •تابع الفصل التالي "رواية بك احيا" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent