رواية بك احيا الفصل الثامن و العشرون 28 - بقلم ناهد خالد
“دروب العشق”
“عذرًا يا سيدتي فالعاشق غير مُلام”
لم يعتاد يومًا التحكم في ذاته كما يفعل الآن، لو كان الأمر مختلفًا، لاختلف رد فعله أيضًا، لو فقط كانت تعلم بهويته وأحقيته بها لآراها الآن كيف تضع يدها على جسد آخر، ضم قبضته بقوة مخفيًا إياها وراء ظهره يحاول اخراج غضبه بتلك القبضه، او ربما هي وسيلة ليتحكم في ذلك الغضب كي لا يظهر أمامهم الآن، ابتسم بالكاد وهو يهتف بنبرة هادئة كالصقيع:
_ مساء الخير.
شخصت ببصرها تجاه الصوت لتجده واقفًا أمام مدخل البيت, وعيناه ليست معها, بل هي مثبته تمامًا فوق كفها الممسك بذراع “باهر”, وكرد فعل تلقائي كانت تفلت ذراعه من قبضتها وهي تهمس بقلق من ظهوره في هذا الوقت بعد أن تعمدت تجاهل مكالماته:
– زين!
قطب “باهر” حاجبيهِ جهلاً بهوية من يقف أمامه، خاصًة وأنها تعرفه! فقد استمع لهمسها جيدًا، ليتحرك لسانه يسأله وهو يقترب منه خطوتان:
_ مساء النور، مين حضرتك؟
أو له الحق في التساؤل عنه؟؟ ايقربها لهذه الدرجة؟ ولِمَ لا وقد كانت تتمسك بذراعه منذُ ثواني! ضغط على نواجزه بغضب يعصف بصدره قبل أن يجيب الواقف أمامه:
_ أنا زين، زميل الآنسة خديجة في الشغل.
ازدادة تقطيبة حاجبيهِ وهو يسأله باستغراب أكثر:
_ ايوه وزميلها تجيلها البيت ليه؟
هنا ولم يستطع التحكم في ذاته أكثر، هل كان ولي أمرها ليقف أمامه يستجوبه بهذا الشكل؟ فاطلق العنان لذاته وهو يردف بنبرة هادئة تسبق عاصفة غضبه:
_ وحضرتك مين عشان تسأل!؟
ما هذا التبجح؟ هذا اول شيء جاء لعقله من رد هذا الغريب الذي استفزه بشدة، وما كاد يجيبه بحدة، حتى تدخلت “خديجة” تنهي سوء الفِهم بينهما حين شعرت بقرب تعقد الأمر:
_ ده باهر ابن عمي، وده زين زميلي في الشغل زي ما قالك يا باهر.
باهر! ليته لم يعرف هويته لكان أرحم مما شعر بهِ الآن، أهذا الذي كانت تحدثه وهي تضحك وتدلله ب “بهبوري” كما دعته حينها! أهذا هو ذلك السِمج الذي تمنى لو يقابله فيخنقه بيده جراء علاقته الغير ملتزمه بأي حدود مع فتاته! تفاقم غضبه، وازداد حنقه حيال الواقف أمامه، لقد كانت تمسك بذراعه منذُ قليل، ويترجل من شقتها، غير طريقتها مع في الهاتف، كل هذا جعله يشك في علاقتهما، هل يمكن أن تكن علاقة من نوع خاص! لقد سمع عن هذا الباهر منذُ عرِفَ بمكانها، وسمعَ عن علاقته بها، ولكن وعلى أي حال، ومهما كانت شكل علاقتهما فلا يهمه، فالحقيقة هو من سيحدد شكل هذه العلاقة لا أحد غيره، هو من سيضع الحدود التي نسيا أن يضعها، فليتركوا له هذه المهمة بكل رحب وسعة، استمع لصوت باهر وهو يتسائل بفظاظة:
_ ايوه حضرتك ماجاوبتنيش، جايلها البيت ليه؟
_ اعتقد هي عارفة.
قالها بعبث وهو يوجه نظراته لتلك التي انتفضت ذعرًا وقد أدركت مقصده تمامًا، فاسرعت تنهي اللقاء وهي تدفع بجسد “باهر” للأمام وهي تخبره:
_ يلا يا باهر هتتأخر، مش قولت عندك شغل.
حاول التوقف والتحرر من دفعها له وهو يقول بنزق:
– مش لما اعرف عاوز ايه الأول، في ايه يا خديجة اصبري يا بنتي!
تنحى “مراد” جانبًا وهو يبتسم بتشفي والأخرى تدفعه خارج مدخل المنزل بهذا الشكل، ولكنه لم يفته كفها الذي يدفع ظهر الآخر، فأمسك برسغها يوقفها وهو يهمس بصوت وصل لمسامعها هي فقط:
_ هو عارف طريق الباب.
وترك رسغها محذرًا إياها بعيناه من التمادي، اتسعت عيناها ذهولاً وهي ترى جرأته ليلمسها بهذا الشكل، لكنها فاقت من صدمتها على صوت “باهر” الذي أصبح خارج المنزل الآن وهو يقول بعدم رضا:
_ خديجة انا مش ماشي غير لما اعرف بيعمل ايه هنا ده، بعدين ازاي اسيبك معاه وامشي أنتِ اتجننتِ!
_ جن اما يلغلطك.
همس بها “مراد” بداخله ناقمًا على هذا السِمج سليط اللسان، ورفع صوته تاليًا يخبره بابتسامة بدت مُهذبه:
_ استاذ بهير، مفيش داعي للقلق ده، انا بس هبلغها حاجه عن الشغل وامشي، اتفضل أنتَ عشان متطعطلش.
_بهير!
رددها “باهر” بضيق وهو ينظر له وقد بدأ غضبه يتصاعد تجاه هذا الشخص ذو الابتسامة المستفزة، وأردف بنبرة ضائقة:
_ باهر يا استاذ اسمك ايه أنتَ، ثم مين قالك همشي واسيبها معاك؟
_ زين، شكلك بتنسى باين، معلش معذور باين انك دخلت في التلاتين تقريبًا! وفي ناس بتجيلها الاعراض دي في السن ده.
رغم كلماته التي تصرخ بالاستفزاز والوقاحة، إلا أن ملامحه الهادئة ونبرته الأهدأ وبسمته المزينة لثغره توهمك بأنه لا يقصد إهانه! ولكن “باهر” لم يستطع التحكم في غضبه من كلماته المستفزة، وما كاد يدفع “خديجة” دالفًا للداخل مرة أخرى يواجه المستفز بارد الأعصاب حتى سبقته “خديجة” وهي تخبره بهمس:
_ يا باهر عشان خاطري امشي، والله ماتقلق هو بس هيعرفني حاجه عن الشغل ويمشي.
رفع صوته وهو يهدر بها:
_ بطلي تقولي امشي، أنتِ شيفاني بقرون؟ والله ما همشي غير لما يمشي الأول.
وقفت حائرة بينهما، تعلم أن “زين” أتى ليتحدث معها في أمر جريمتهما، ولا يجب التحدث أمام “باهر” على أي حال، لذا عادت بنظرها ل “زين” الذي رفع حاجبيهِ إليها بعبث وهو يخبرها بمكر:
_ خليه عادي.
رفعت حاجبها الأيسر له بنزق، وتوعدته بسرها وهي تعود بنظرها ل “باهر” وتخبره بترجي:
_ خلاص هنتكلم وانت واقف، بس ممكن نتكلم بعيد شويه، اصل.. اصله هو غشيم شويه في كلامه واخاف يقولي حاجه كده ولا كده تمسكوا في بعض وانتوا اصلاً شكلكوا مش طايقين بعض.
_ وهو يكلمك وحش ليه؟ غشيم على نفسه.
_ ماهو اصل انا بقالي يومين مروحتش الشغل وهو رئيسي في الشغل.
_ هو زميلك ولا رئيسك ولا ايه مبقتش فاهمكوا.
رددها “باهر” ساخرًا، لتبتلع ريقها بتوتر وهي تجيبه كاذبة:
_ لا، هو زميلي اه، بس اقدم مني وكده فيعتبر مسؤول عن شغلي.
طالعها بضيق لثواني رافضًا رغبتها، ولكنه اسفل رغبتها الملحة وترجيها الظاهر في عينيها كان يقول:
_ ماشي، خمس دقايق مش اكتر وانا واقف اهو.
اومأت برأسها موافقة بلهفة، وهي تلتف متجهة ل “مراد” الذي نظر ل “باهر” الذي اتخذ باب المدخل مسندًا له وهو يعقد ذراعيهِ أمام صدره معبرًا عن عدم تحركه انشًا واحدًا، ليرفع جانب فمه ساخرًا واشاح بنظره عنه مثبتًا اياه على “خديجة” الواقفة أمامه ليبتسم لها بغضب دون حديث، فباشرت هي وهي تسأله:
_ أنتَ جاي ليه؟
التمعت عيناه بالغضب وهو يسألها:
_ وأنتِ مبترديش على مكالماتي ليه؟
اتسعت عيناها من جرأته الغريبة عليها لتهتف بنزق:
_ وأنا مش مجبرة ارد! افرض مش عاوزه ارد أنا حرة، بس ده ميخلكش تجيلي البيت!
_ قلقت عليكِ، خصوصًا إنك مجتيش الشغل، خوفت تكوني تعبتي بعد الي حصل وقولت لازم اجي اطمن عليكِ.
قال ما قاله برفق جعل غضبها يتبخر بلحظات، بل واصابها التوتر الذي اشعل وجنتيها بالحمرة، وهي ترى نظراته الخاصة التي تشعرها وكأنها شيئًا مهمًا له، فاخفضت نظرها عنه وهي تسأله خجِله:
_ خوفت عليَّ ليه؟
أتته فرصته على طبق من ذهب، وهو خير من يستغل الفرص، فلم يتوانى عن استغلال هذه الفرصة وهو يخبرها بصدق ونبرة اذابتها:
_ عشان في مشاعر جوايا ليكِ بتكبر كل يوم عن التاني، مسألتيش نفسك ليه مهتم بيكِ كده؟ ليه غضبت يوم ماعرفت ان الحيوان الي مات اتعرضلك؟ ولا ليه ساعدتك تخلصي منه؟ محدش هيعمل كل ده من فراغ يا خديجة، انا عملت كل ده عشان مشاعري الي بتحركني ليكِ، خوفي عليكِ هو الي خلاني مستعد حتى اشيل جريمته بس أنتِ متتأذيش.
رفعت نظرها له بوجهها المشتعل بالحُمرة، تشعر بحرارة قاتلة تغزو كل شبر في جسدها، لم تتعرض لموقف كهذا من قبل، قضمت شفتيها بتوتر وهي تعدل حجابها، لا تدرك ما يجب عليها قوله في هذا الموقف، وادرك هو حيرتها وخجلها، فابتسم بهدوء مقررًا رحم خجلها:
_ على فكره انا كنت عاوز اعترفلك من فترة بس مجاتش مناسبة.
تلفت حوله ليطالع المكان ساخرًا ثم قال باستنكار جعلها تضحك بخفة:
_ فملقتش انسب من بير السلم عشان اعترفلك فيه.
تنحنحت بارتباك وهي تسأله متحاشية النظر له:
_ بس.. يعني اكيد مكنتش بترن عليا وجاي هنا عشان كده.
رفع منكبيهِ وهو يجيبها:
_ قولتلك كنت جاي اطمن عليكِ.
_ مش هنخلص بقى ولا ايه؟
هدر بها “باهر” بضيق من طول مدة حديثهما، ليناظره “مراد” بتحدي قبل أن يتجه إليه يقف أمامه وجهًا لوجه وهو يخبره بتحدي وابتسامته المستفزة عادت لتزين ثغره:
_ استاذ باهر، انا عارف ان المكان مش مناسب، بس انا حابب اخد ميعاد عشان اتقدم للانسة خديجة.
شهقة منخفضة صدرت منها وهي تضع كفها فوق فمها غير مصدقة لعرضه الذي ظهر الآن فجأة! متى اعترف بمشاعره تجاهها ومتى طلب زواجها؟؟!
—————-
بعد ثلاث ساعات …
في ميناء الاسكندرية تراصت السفن الحاملة للصناديق الضخمة التي تخص الشحنة الجديدة لهم، اقترب “مراد” وهو يدخن سيجاره بكبرياء شامخ، تحرك بخطواته الثابته حتى وقف أمام من نزل من السفينة، كان رجلاً يرتدي بدلة وقبعة كلاسيكية، يبدو عليه الترف، اقترب من “مراد” وهو يهتف بلكنة ايطالية:
_ مرحبا سنيور ابرام.
هز “مراد” رأسه بهدوء وهو يجيب تحيته:
_ مرحبا سنيور ماركوس، هل كل شيء جاهز؟
اومئ “ماركوس” وهو يخبره بهدوء:
_ نعم، هل المال جاهز؟
_ وهل تسألني حقًا؟ وكأنك تتعامل معي للمرة الأولى!
اردف بها “مراد” ساخرًا، ليتنحنح “ماركوس” مجيبًا:
_ عذرًا، ولكن أتيت لأسلم الشحنة لسنيور فكتوار ولست أنتَ.
كاد أن يجيبه لينتبه لسيارتان يأتيان خلفا بعضهما، فالتوى فمه ساخرًا وهو يقول:
_ ها قد وصلَ.
وبالفعل توقفت السيارة ليترجل منها “دياب” ورِجاله ومن ضمنهما “هاجر” التي ألقتهما بنظرة غاضبة، قبل أن تتبعه، اقترب “دياب” منهم ليهتف بنبرة غاضبة موجهًا حديثه ل”مراد”:
_ أنتَ ايه الي جابك هنا؟
التفت له يحدقه بنظرته القاتمة وهو يجيبه:
_ نفس الي جاب جنابك.
_ هو الباشا من امتى بيجمعكم في مهمة واحدة!؟
أدرفت بها “هاجر” ساخرة، ليلقيها “مراد” بنظرة متهكمة قائلاً:
_ ابقي روحي اسأليه، بعدين ما تعلم رجالتك ميتكلموش في وجودك، ولا أنتَ قائد على ماتفرج!
ضغط “دياب” على أسنانه غاضبًا، وهكذا فعلت “هاجر” الذي شعرت بالغضب من اسلوبه المتهكم معها ونعته لفظ “رجال” عليها، ونظرت ل” طارق” الواقف خلفه بنظرة غاضبة، فحرك الآخر عينيهِ بعيدًا عنها غاضبًا من الموقف برِمته.
صدح صوت “مراد” يحدث “ماركوس” :
_ انا المسؤول عن اتمام الشحنة سنيور ماركوس، وحقيقًة لا أعلم ما هو الدور الخفي للسيد فكتوار.
كانت جملته الأخيرة تحمل سخرية واضحة، جعلت “دياب” يزمجر بغضب وهو يهتف:
_ أتيت بأمر من الزعيم، لأتفق مع سنيور ماركوس على شحنة جديدة.
قطب “ماركوس” حاجبيهِ مستغربًا:
_ ولكن لَمَ لم يكلف سنيور ابرام بالأمر؟ بما أنه هنا بالفعل ليستلم مني البضاعة.
لمعت عينا “دياب” بمكر وهو يجيبه:
_ سنيور ابرام لا يكن طرفًا في مثل هذه الصفقات، لديهِ معتقدات خاصة.
احتل الغضب الجحيمي وجه “مراد” وهو يردد من بين أسنانه:
_ تجارة اعضاء.
القى “دياب” نظره جانبية له قبل أن يشيح بنظره بلامبالاة، فكور “مراد” قبضته هادرًا ب “طارق” :
_ طارق أمن على البضاعة، خلينا نخفى من هنا.
تحرك “طارق” فورًا ينفذ الأمر، و”مراد” بالكاد يقف متحكمًا في اعصابه، دقائق وعاد “طارق” برجاله هاتفًا باختصار:
_ تمام.
_ هات الفلوس.
أمره “مراد” ليشير “طارق” لرِجاله فتحركوا على الفور يضعوا اربع حقائب سفر كبيرة ممتلئة أمام قدم قائدهم، وانحنى أحدهم يتولى فتح الحقائب لتظهر الاموال متراصة بالداخل، فهزَ “ماركوس” رأسه راضيًا وهو يهتف:
_ عهدتك أمينًا سنيور ابرام.
حرك “مراد” رأسه بلاهتمام وتحرك الرجال ينقلون البضاعة للسيارات الكبيرة، وما إن انتهوا حتى تحرك “مراد” واقفًا بجوار “دياب” يهمس له:
_احتفل بآخر صفقة هتعملها في الو**** دي عشان مش هتتكرر تاني، وبكره تقول مراد باشا قال.
انفجر صدر “دياب” غضبـًا من حديثه المقلل من شأنه، ليردف بنبرة كالفحيح وهو يميل على “مراد” أكثر:
_ معتقداتك معقدة زيك، السلاح والدعا*ره وتجارة المخدرات والاعضاء كلها واحدة يا… يا باشا، مفيش حاجة اسمها بعمل ده ومعملش ده، ولو طبلت على دماغنا هتطبل على الكل.
نفى برأسه وهو يقترب الخطوة الفاصلة مبتسمـا بخبث:
_ تؤ، فهمتني غلط، أنا قصدت آخر صفقة ليك أنتَ.
انهى حديثه وخبط بكفه على كتفه منفضًا غبار وهمي قبل أن ينسحب من أمامه بكبريائه الملازم له، وهيبته التي تفرض نفسها في أي مكان، قضم شفتيهِ غاضبًا وهو يهمس بينما عيناه مسلطة على ظهر “مراد”:
_ يابن ال****، اعمل بس خطوة واحدة، وانا اطلع عليك القديم والجديد يابن وهدان.
_ وليه تستناه ياخد خطوة؟ ماتخلص أنتَ منه يا باشا.
قالتها “هاجر” التي استمعت لهمسه ليجيبها باختناق:
_ البوص لو عرف اني هوبت ناحيته مش بعيد يخلص عليَّ، انتِ عارفة قواعد المنظمة، ممنوع حد منا يغدر بالتاني او يأذيه من غير مبرر يستاهل، وخصوصًا لو كان الحصان الأسود ده.
اومات برأسها بتفهم، وقد اتضح أمامها سبب تواني “دياب” عن أذية “مراد” بطريقة مباشرة رغم كرهه الواضح له..
______________
انتفضت فزِعه من نومها، وهي تلهث بتعب، قد كان كابوسًا آخر رأت فيهِ شخص جديد يُقتل، وللغريب هذه المرة رأت المكان جيدًا، حتى أنها شعرت بمعرفتها لهذا المكان، وبالفعل بعد بعض التفكير أدركت هويته، أنها المستشفى التي يعمل بها “باهر”!
انتفضت ممسكة بهاتفها وطلبت رقمه بانفاس لاهثة، ثواني وفُتح الخط، لتهتف بلهفة:
_ باهر، أنتَ في المستشفى صح؟
استغرب نبرتها الفزِعة لكنه رد بهدوء:
_ ايوه، أنتِ عارفة عندي نبطشية بليل النهارده.
_ أنا جيالك استناني في الاستقبال.
اغلقت الخط فورًا تاركه الآخر في حيرة من أمره، وليست حيرة فقط، بل فزع أيضًا، يبدو أن أمر جلل قد حدث لتحدثه بتلك النبرة وتأتي اليهِ والساعة قاربت على الثانية صباحًا.. الثانية صباحًا! وهل ستأتي بمفردها في هذا الوقت!؟
حاول مهاتفتها لأكثر من مرة لكنها لم تجيب، ليزفر بضيق ملقيًا الهاتف فوق المقعد لاعنًا من بين انفاسه الثائرة فلن يستطع فعل شيء الآن، لن يقدر على الذهاب اليها فبالتأكيد قد تحركت من المستشفى بالفعل، فما عليهِ سوى الانتظار الذي سيقتله قلقًا..
____________
_ اه، تعبت خلاص مبقتش شايفة، هقوم انام.
أردفت بها “خديجة” وهي تنظر للساعة التي تخطت الثانية صباحًا، وقد قضيا الوقت في الحديث عن كل ما مر عليهما في الفترة السابقة، وانحصر الحديث بشكل خاص على “إبراهيم” وافعاله التي سخطت خديجة منها، فانهت حديثها لها بنبرة قاطعة:
_ فريال، طول مانتِ سلبية وهايفة كده في تعاملك معاه، هيركب ويدلدل رجليه يا حبيبتي، وبكره يعاملك زي الجارية عنده، ومش هتقدري تعترضي ولا ترفعي صوتك، الي بيتعود على حاجه بيتعود عليها دايمًا، ومستحيل تغيري فكرته بعدها، أنتِ الي بتفرضي شخصيتك متستنيش حد يعمل كده، خصوصًا مع عدو المرأه ده.
تنهدت “فريال” بتعب وهي تخبرها بحزن حقيقي:
_ بحبه يا خديجة، بحبه ومش قادره اخد موقف معاه.
لوت فمها ساخرة متشدقة:
_ حبيه يا روح قلبي بس مترجعيش تشتكي، يلا هقوم انام، سديتي نفسي بسيرته،انا عارفه بتحبي فيه ايه ده، ده حتى وشه يقطع الخميرة من البيت بتكشيرة امك دي.
_ الله! وأمي مالها؟
صاحت بها “فريال” معترضة، لتبتسم لها “خديجة” بسماجة:
_مهو امه وابوه مش كشريين، وناس زي السكر، محدش في العيلة يشبهه غير الحرباية عمتي.
شهقت “فريال” بتفاجئ من سب “خديجة” لوالدتها علنًا فحذرتها:
_ خديجة! دي أمي متنسيش!
اشاحت بيدها بلامبالاة مرددة:
_ والله لولا انها أمك كان زمانك بتشتميها معايا.
والتزمت “فريال” الصمت غير قادره على النفي، فحولت ضفة الحديث وهي تسألها:
_ قوليلي طيب، هتعملي ايه في العريس ده؟
ارتبكت، وتوترت ملامحها وهي تجيبها:
_ مش عارفة والله، هو فاجئني، متوقعتش انه يعترفلي بمشاعره من هنا، ويطلب يتقدملي بعدها بالشكل ده، حسيت اني اتشليت من المفاجأة، خصوصًا وهو بيقول لباهر هستنى ردك عليَّ بكره! مجنون ده في حد بيقرر في سواد ليل!
_ ليه باهر مقالوش كده؟
تنهدت حائرة وهي تجيبها:
_ لا باهر قاله، بس هو رد عليه وقاله انا بقالي معاها في الشغل اكتر من شهر ونص، هتفكر في ايه، مهو يا متقبلاني يا لأ.
اقتنعت “فريال” بحديثه لتقول:
_ بصراحة معاه حق، يعني لو عندك قبول له، ييجي ويتقدم انتوا مش هتتجوزوا، ده لسه هيتقدم ويقرأ فاتحة وبعدها خطوبة الموضوع طويل.
_ بس المفروض نسأل عليه يا فريال.
_ انتِ عارفه هو منين؟
ضمت شفتيها بجهل:
_ لا، بس المفروض باهر يعرف ويسأل عليه.
اقترحت “فريال” وهي تقول بحماس:
_ عندي فكرة، ايه رأيك ييجي ويتقدم وقبل ما تقرأوا فاتحة باهر يبقى يسأل عليه، اصل اكيد لما ييجي يتقدم هيجيب حد من اهله، وساعتها هنشوف برضو اهله ايه نظامهم، فهماني، يعني كحاجة مبدئية، وباهر بعدها ياخد وقت يسأل عنه براحته.
هزت “خديجة” رأسها موافقة وهي تهتف:
_ خلاص هكلم باهر بكره واقوله كده، اشوفه هيقتنع ولا ايه، ولو اقتنع اخليه يحدد معاه ميعاد ييجي يتقدم.
ابتسمت لها “فريال” باتساع وهي تضمها لها في عناق دافئ مردده بفرحة:
_ ربنا يرزقك بابن الحلال ويكتبلك الخير يا روح قلبي، ويجعل نصيبك احسن من نصيبي.
أردفت جملتها الأخيرة بحزن جلي، لتخرج “خديجة” من حضنها هاتفة بمغزى:
_ احنا الي بنختار نصيبنا بايدنا، محدش غصبنا يا فريال، وحتى لو في يوم اتغصبنا، اي خطوة بتيجي بعد كده بتكون بايدنا.
انهت حديثها وخرجت من الغرفة بهدوء لتدلف للحمام قبل أن تعود لتنام بجوارها، تاركة “فريال” غرِقة بأفكارها التي تعصف برأسها، وحديث خديجة لا يتوقف عن التردد في عقلها.
______________
وأخيرًا ابصرها تأتي تجاهه بمظهر مزري، لا يصدق أنها خرجت من المنزل بهذا الشكل! ترتدي ثياب بيتيه عبارة عن ترنج بكنزة قصيرة لحد ما، وبقدمها ارتدت خُف منزلي! حتى انها لفتت انظار الناس إليها، هرولت إليه حتى توقفت امامه، وقبل أن يسألها عن شيء كانت تبادر هي بالحديث:
_ انا شوفت واحد بيتقتل هنا، في حد هيدخل يخنقه، انا شوفت رقم الاوضة… ٣٤٥ هي فين يا باهر، يلا بسرعة أنتَ متسمر كده ليه؟
جذبته من يده قبل أن يُبدي أي رد فعل حتى، وهرولت بهِ في طرقات المستشفى وهي تخاطبه أن يرشدها لمحل الغرفة، وقد كانوا عرضًا مزريًا لكل من في المستشفى خصوصًا من يعرفه! وهم يرونه يهرول مع فتاة ترتدي ثياب بيتيه بل وهي التي تجذبه تحثه على الركض! ضاعت هيبته!!
وصلا أخيرًا للغرفة المنشودة لتقتحمها دون سابق إنذار فاتسعت عيناها ذهولاً وصرخت وهي ترى حلمها يتحقق، رجل يحمل وسادة ويضعها فوق وجه المسجي فوق الفراش، ازاحها “باهر” من طريقه حين اقترب الرجل منها يكتم صرختها، فواجهه “باهر” ودارت بينهما معركة دامية، اصبحت الغرفة ساحة قتال، وهي ركضت خارجة من الغرفة تصرخ في طرقات المستشفى تطلب الأمن، او المساعدة بشكل عام، فأتى الأمن وبعض الممرضين لينتشلوا الرجل من بين يدي “باهر”، وتدخلت الشرطة في الأمر بعد ان طلبوها، وتبين ان ذلك الرجل المريض لم يكن سوى لواء في الداخلية، وشُكر “باهر” من قِبل كل رجاله الذين اتوا للإطمئنان عليه، وبعد انتهاء الأمر، جلس “باهر” في غرفته الخاصة وامامه جلست “جاسمين” بابتسامة واسعة وهي تضع القطن المغموس في المحلول المطهر على جروحه المتفرقة في وجهه، اغتاظ من ابتسامتها ليهتف بضيق ضاربًا بشرتها بانفاسه الحارة:
_ بتضحكِ على ايه مش فاهم؟ أنتِ مبسوطة فيَّ؟
نفت برأسها بأعين لامعة:
_ لا، مبسوطة ليَّ، متتخيلش يا باهر مبسوطة ازاي..
وضعت القطن جانبًا وهي تتنهد براحة جمة:
_ انا انقذت حياة انسان، أنتَ متخيل، انا فرحانة اوي اوي، الحمد لله.
ابتسم هو أيضًا وهو يردف مرحًا:
_ هو اه انا اتعملي خريطة في وشي، بس معاكِ حق، احساس حلو اوي.
ضحكت بخفة وهي تضع اصابعها على أحد جروح وجهه وأردفت:
_ دي علامة شهامتك في انقاذ الموقف، يعني المفروض تشكرني، ده أنا حتى خليت رجالة الداخلية يقفوا يشكروك.
تاه في لمستها، وفي نظرات عينيها القريبة منها، قربها بهذا الشكل يشكل خطر على قلبه الذي ينبض بسرعة غير مسبوقة، فوجد لسانه يهمس:
_ جاسي..
توقفت عن الضحك وهي تشعر بنظرة مختلفة من عيناه، وتوترت لمناداته لها بتلك النبرة، شعرت أن القادم سيوترها أكثر ولا تعلم لِمَ، لكنها وجدت ذاتها تجيبه بنبرة خافتة وقد دق قلبها بقوة. وتاهت هي الأخرى في نظراته:
_ نعم؟
استفاق من سِحر اللحظة وشعر بتهوره إن كشف عن مشاعره الآن، لابد أن يتأكد أولاً، فابتسم بعبث وهو يخبرها:
_ امسحي رقمي من عندك، انا مش عاوز خرايط تانية في وشي يا حبيبتي، انا الحمد لله ربنا راحمني ومبحلمش بحد ولا بنقذ حد.
فاتسعت عيناها لجملته، توقعت أن يكن الأمر عاطفيًا أكثر، فالتقطت زجاجة المطهر تقذفه بها بغيظ، و التقطها هو بسهولة ضاحكًا، فاردفت وهي تنهض واقفة:
_ خسارة فيك إني عالجتك، وهتصل بيك غصب عن عينك، وهتساعدني يا باهر وابقى قول لأ، يا اسمراني أنتَ.
انهت حديثها تاركة اياه وذهبت، ليشخص ببصره وهو يردد لذاته بتعجب:
_ اسمراني! هي دي مدح ولا ذم؟؟!
_____________
في عصر اليوم التالي….
انتبه “باهر” لرنين هاتفه، فالتقطه وقد توقف عن عمله خارجًا من غرفة المريض الذي يتابعه بعد ان استفاق من أحد العمليات، كان رقمًا غير مسجل ففتح الخط مجيبًا:
_ السلام عليكم.
_انا زين، اعتقد فاكرني.
كان رده البارد الذي فاجئ “باهر” فهتف:
_ ما ترد السلام يا عم الأول.
_ اعتبرني رديته، ها ايه الرد؟
زفر “باهر” بغيظ وهو يجيبه:
_ للأسف خديجة موافقة، رغم إني شخصيًا مش موافق، لكن هي قالت نديك فرصة تيجي تتقدم، وأن شاء الله مش هتوافق بعد كده.
اتاه رده المستفز وهو يخبره:
_ مسألتكش أنتَ موافق ولا لأ، ميهمنيش رأيك، المهم هاجي اتقدم امتى؟
_ أنتَ انسان مستفز وبارد، أنتَ جبت رقمي منين اصلاً؟
وبنفس البرود اجابه:
_ مش مهم، المهم اجي امتى؟
_استغفر الله العظيم.
رددها “باهر” يحاول تهدئة نفسه بصعوبة، واردف من بين اسنانه:
_ اخر الأسبوع.
_ نعم! هو أنا قولتلك ترد عليَّ النهاردة عشان اجي آخر الأسبوع؟ بقولك ايه يا دكتور، انا هاجي بليل..
صاح “باهر” معترضًا:
_ بليل ايه يا جدع أنتَ هو سلق بيض! لا طبعًا.
_الساعة ٩ كويس؟
_ياعم انتَ مجنون؟
اردف بها “باهر” وقد علىَ صوته حتى التف المارة على صوته، فحاول التحكم في ذاته مراعيًا وقوفه في طرقة المستشفى، ولكن طار تحكمه وهو يستمع للآخر يقول:
_ يبقى كويس.. سلام.
نظر “باهر” للهاتف بفاه فاغر، حقًا! ياله من بارد، مستفز، سِمج، أحمق.. والكثير من تلك الصفات، هز رأسه بعدم استيعاب للموقف، وطلب “خديجة” وفور أن أجابت اخبرها بهياج عصبي:
_ ابن المجنونة الي وافقتِ عليه خد ميعاد من نفسه النهارده الساعة ٩!!
_________
وعلى صعيد آخر، ابتسم “مراد” براحة ما إن اغلق المكالمة، حتى أتى بعقله أحد الجمل التي قيلت اثناء المحادثة وهمس لذاته بسخرية:
_ قال رد السلام قال، عالم متخلفه.
انهى حديثه، متجهًا لكأس المشروب الخاص بهِ، ورفعه شاربًا اياه على دفعة واحدة، وما إن انتهى حتى طلب رقم “طارق” وفور أن اتاه الرد هتف:
_ طارق، الراجل الي طلبته منك يكون جاهز النهاردة الساعة ٩،وزي ما قولتلك لو غلط في حرف هطير رقبة امه.
اتاه رد “طارق” المتوتر:
_ ما تقلقش يا باشا انا فهمته هيقول ايه وهيتصرف ازاي، وحفظ دوره كويس!
•تابع الفصل التالي "رواية بك احيا" اضغط على اسم الرواية