رواية عقاب ابن الباديه الفصل السادس و الثلاثون 36 - بقلم ريناد يوسف
وصل إلى مكتبه وجمع جميع أغراضه ورتبهم للرحيل، وما أن وصل عمه وياسين ومدحت حتى خرج على الجميع، وذلك بالتزامن مع وصول عمال من محل حلويات يحملون تورتة عملاقة جعلت الجميع يقف مشدوها يتسائلون عن صاحبها وعن المناسبة؟
وما أن قام العمال بوضعها على طاولة، وقام من معهم بوضع الأطباق البلاستيكية والشوك وزجاجات المشروبات الغازية والمياه وغادروا المكان، حتى تقدم آدم وهو ينظر مباشرة لعيني ياسين الذي خرج هو وأبيه من خلف مكاتبهم ذات الحوائط الزجاجية ليروا ماذا يحدث بالخارج، فصاح آدم في الجميع بنبرة فرحه:
- ياشباب، ياصبايا، ياموظفي الشركة المبجلين من عاملين النظافة وحتي المدراء، اليوم حبيت نحتفل معكم بنجاح اول صفقة لشركتي الجديدة.. شركة" العقاب لإستيراد وتصدير كافة المواد الغذائية المصنعة طبيعياً بطريقة صحية بدون اي كيماويات"
وأول صفقة للشركة وكانت شرارة البدء تمت مع شركة
" انتر ميديكال برو" اللبنانية للإستيراد والتصدير وحبيت تشاركوني فرحتي، وأحب اقول للجميع أن الشركة على إستعداد لإستقبال أي موظف من الشركه هيني حابب ينضم لشركة العقاب، مع مرتبات افضل ومعاملة تليق بذوي الخبرات منكم والتقدير والاحترام اللي تستحقونه، مافي رفع صوت على احد ولا توبيخ من أي نوع، راح نكون عيلة وحدة والتعامل بكل محبة..
واكيد معظمكم كان بشركة ابوي محمود ويعرف كيف كان يعاملكم، شركتكم الأم اللي ترحلتوا منها لهون وحان الوقت تعاودوا لقواعدكم الاصلية.
سمع ياسين كلامه للنهاية ولا يعلم كيف تحمل سماعه، وفي النهاية هجم عليه وامسكه من تلابيبه فقد وصل غضبه لذروته، فها هو يعرف من وراد كل مايحدث للشركة في الفترة الأخيرة، وأيضاً تعطيل مشروعة وإيقافه، وبعد كل هذا يقف يحتفل في مقر شركتهم بسرقته لهم وفوقها يريد سرقة الموظفين مثلما سرق منه حياة؟
تركه آدم لجزء من الثانية يعتقد انه المسيطر وسيد الموقف، وفي الجزء الآخر من الثانية قلب الأدوار بحركة سريعة منه جعلت من ياسين فريسة بعد أن كان أسد ضاري، واخذ يسدد له العديد من الضربات الموجعة، امام أبيه وأخيه وامام جميع موظفي الشركة، ومثل به تمثيلاً.
إستطاع يحيي اخيراً تخليص إبنه من يد آدم بمساعدة مدحت وبعض الموظفين، ووقف امام آدم ينتفض ويصيح به:
- طيب ياابن محمود اديك عملت اللي عايزه وحققت انتقامك وخسرت الشركة وسرقت مشروع ابن عمك اللي تعب عليه، يلا بقا اتفضل من الشركة من غير مطرود مستني ايه تاني، فتحتلك شركتي وأمنتك على مالي ومال اولادي وادي النتيجة، صحيح صدق اللي قال اتقي شر من احسنت إليه.
انهي كلماته الموجهة لآدم ونظر للموظفين وأردف لهم بغضب:
- ودلوقتي اللي عايز يروح يشتغل مع الخسيس دا يتفضل، وانا ميشرفنيش يفضل في شركتي لا هو ولا اللي حابب يكون معاه، يلا اللي هيفارق يفارق دلوقتي واللي هيستني يتفضل علي مكتبه، وأه التورته دي هناكلها، كلنا هناكل منها ونحتفل، بس هنحتفل بنجاح الخسة وإنتصار قلة الأصل.
ضحك آدم كثيراً وهو ينظر لعمه الذي يحاول قلب الادوار بتمثيل متقن لا يصدقه إلا حديث عهد به،ولكن بما ان المعظم يعرف ماحدث تماماً فآدم متيقن أن محاولات عمه بائت بالفشل قبل أن تبدأ، فتقدم آدم نحوا التورتة وهو مستمر بالضحك واخذ منها قطعة وقام بأكلها أمام الجميع، ثم توجه إلي مكتبه وأخذ جميع متعلقاته وترك الشركة وغادر، تركها لعمه وإبنه يظنان بأنها لازالت كما هي، ولا يعلمون إن آدم خبأ لهم العديد من المفاجآت ستظهر لهم مع الأيام، والتي ستنتهي بخسارتهم لكل شيئ. وسيجدون شركتهم خاوية علي حوائطها، تماماً كما عاد هو وأبيه ووجدوا شركتهم على هذا الحال.
وأول المفاجآت كانت إتصال هاتفي بيحيي عقب مغادرة آدم للشركة يخبره بأن جميع آلات المصنع تعطلت في آن واحد، تعطلت الأعطال التي لم يستطع المهندس إكتشاف سببها، بل صنفها بأنها دمار شامل بفعل فاعل.. فأنهى يحيي المكالمة وإرتمي على الكرسي يحاول فك ربطة عنقه ليستطيع التنفس جيداً، فقد شعر بأن الهواء يختفي وأنه قريباً سيموت بالإختناق إثر مايحدث.
توجه آدم إلي شركته الجديدة فوجد أبيه ينتظره هناك، قص عليه ماحدث وظن بهذا أنه يزف إليه بشرى سترفعه فوق السحاب، ولكن ماحدث أوه رأي القلق والخوف قد نالا من ابيه دفعة واحدة وهو يرمقه بنظرات تخبره بأن ما حدث هو الجزء السهل والأصعب قادم، فالآتي رد فعل، وردود الفعل دوماً تكون اقوي من الأفعال.
حاول آدم طمأنته ولكن قلقه كان اكبر من أي كلام، فغير مجري الحديث ورأي أنه وقت مناسب ليحاول إقناع أبيه بالمهمة الأصعب، الا وهي مسألة زواجه من حياة وجعل امه تتقبل الفكرة، وايضاً طمأنتهم بخصوص هذا الأمر، وأن حياة مختلفة كلياً عن الجميع.
فاستمع له ابيه جيداً إلي أن إنتهي مما يريد قوله، وفور إنتهائه إعتدل محمود في جلسته وتطلع لآدم ورد عليه بكل هدوء:
- بص ياآدم يابني، أنا وأمك مطلعناش من الدنيا دي غير بيك، وقسماً بالله كل الفلوس والحاجات اللي اخدها عمك مني ماكانت تعنيني ولا تهز شعرة مني وكنت اقول كله فدا آدم.. وانا لما بعدت واتحملنا أنا وأمك بعادك عننا كان بغرض إنك ترجع كبير وقوي وتقدر تدافع عن حياتك وتكون بخير، تتجوز ونفرح بيك ونشوف أولادك وتعوضنا عن موت مروان اخوك.. بعدناك عشان ترجع تعيش وتفرحنا مش عشان ترجع ترجع الفلوس،
يعني ياآدم سلامتك عندنا في المقام الأول.. وبعد دا كله رايح تحب بنت فاطمه وعايز تتجوزها، فاطمه اللي بأديها عملت السم اللي موت اخوك، فاطمه اللي عادي عندها القتل واسهل من شربة الميه، عايز تتجوز من اللي ميعرفوش الحرام ولا بيخافوا ربنا؟
- حياة مو زيهم، ماتشبههم ولا تمتلهم بصلة، حياة غير ياابوي غير، والله شايله بقلبها طيبه ومحبه ماوردت علي، والله حياة وسط اهلها تشبه زهرة من زهور الجنة نبتت بالغلط وسط الجحيم.. هي مالها ذنب باي مكان إنحطت وبأي بيئة انولدت، بس هي مختلفة، مختلفة ومن حقها تلاقي اللي يقدر إختلافها ويقلعها من جذورها من هاد المستنقع ويبعدها عنه.
- مش هتقدر تبعدها ولا تقدر تقطع صلتها باهلها، وأولادك تلتينهم هيطلعوا على خوالهم وأهل أمهم، يعني هيطلعوا خاينين بالفطرة، هياكلوا فبعض، هتكون الفلوس عندهم اهم من اخوتهم.. فايبني هتتحمل تشوف اولادك وهما بيسموا بعض ويموتوا بعض عشان الفلوس؟
هتتحمل تشوف حته منك بتحارب في حته منك ومش قادر توقف الحرب ولا عارف تعمل ايه عشان تنهيها؟
"تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" مجاتش من فراغ يابني، الرسول قال تخير لنطفك مقالش تخير لقلبك، الكلام واضح والعاقل اللي يفهم. ودلوقتي انا قولتلك اللي عندي وإنت حر ياآدم يابني.. وصدقني لو صممت تاخد القرار الغلط محدش هيندم على المدى البعيد غيرك.
انهى كلماته وترك المكتب والشركة وعاد إلى القصر، عاد إلي زوجته التي لا يأمن وجودها في القصر بمفردها معهم، فكيف لآدم أن يجلب لها من تخالط انفاسها وتقترب منها القرب الذي يلغى المسافات ويعطيها الكثير من الحقوق والحرية الكاملة معها؟!
وصل إلي القصر وقص لعايدة مافعله آدم وما تحدث هو معه فيه، وتأكدت عايدة بأن إبنها لن يثنيه عن قرار إرتباطه بحياة كل جنود الأرض وإن اجتمعوا، فهو إبنها وتعلم إلى أي مدى يصل عنده وعناده، فقررت ان تطرق الباب الاخير الذي ربما يكون خلفه الحل لهذة المعضلة.
فنهضت علي الفور وتوجهت لغرفة حياة، وهناك فعلت ماتفعله كل ام في مثل موقفها.
جلست معها وتحدثت بروية وناشدتها أن تبتعد عن آدم إن كانت تحبه ولا تريد له الأذي.. لعبت على وتر الحب الذي لا يفشل من يلعب عليه، وكم شعرت بالإنتصار وهي ترى دموع حياة وضعفها،
كم فرحت وهي تسمع منها أنها ستبتعد عن آدم ولن توافق على الإرتباط به، ولكنها طلبت منها أن تعطيها بعض الوقت لتتمكن من فعل ذلك، فقرار مثل هذا الآن لن يوافق به آدم ولن تنطلي عليه كل خدع الأرض وحججه إن فعلتها، وأن الفراق سيحدث لا محالة مادامت وعدتها بذلك،
ولكن لكل شيئ وقته المناسب وخطواته المدروسة.
غادرت عايده غرفة حياة وهي مطمئنة نسبياً وترجوا أن تكون حياة بالفعل مختلفة عنهم، فهذا مالمسته فيها بعد حديثها معها، ولكن حتى وإن كانت كذلك فهي لا تصلح لآدم نهائياً.
جالس في مكتبه يباشر عمله الجديد بتركيز وأهتمام وإذ بهاتفه يعلن عن إتصال من حبيبه الغائب الحاضر، شيخه ومعلمه وقدوته ومثله الأعلى.. اجابه بتنهيدة خرجت من قلبه وإستقرت في روح الشيخ منصور:
- والله اجيت بوقتك ياشيخي. فسأله منصور بقلق:
- وليدي ويش فيك، ليش التناهيد تسابق حروفك ومقترنه بانفاسك؟
- متعوووب ياشيخي وداقت بيا الحلول واتصكرت الدنيا بوجهي، عشقاااان ومالاقي لعشقي سبيل والكل معارضني وكل ما أكسر حاجز يبنولي ألف بداله.
- اوعك تكون عشقان بت عمك ياعقاب، اوعك تكون غرزت مخالبك بجيفه وبدك تاكل منها، وأنت اللي معروف بانك ماتحط إلا عالطيب.
- لا مو بنت عمي ياشيخي.. لكن بنت خالتها، حياة بنت الدكتوره فاطمه.
- نفس الجيافه، كلهن طعام خبيث المفروض تحرمه على روحك حرمة الميتة والدم على المؤمن، مو لأن الله حرمه بس لأنه مايجوز يختلط الخبيث بالطيب، وهادول الخبث يجري بعروقهم وأنت أصلك طيب ومايصير الإختلاط، واذا محمود وعايده معارضين قيراط انا معارضك وسع صحاري العالم وبعدد حبات رمالها.
- ياشيخي إسمعني أمنتك بالله..
- صكر فمك ياعقاب وماتمشي ورا قلبك هاد مو علامي فيك ولا علام قصير ولا من صفات الرجال اللي تعلمتها على أدينا.. ارمي هاد اللي تسميه عشق لبنت عدوينك وطهر قلبك منه كما يتطهر الثوب الأبيض من الدنس.
- حتى انت ياشيخي؟!
- حكيتلك اني انا اكثر منهم رفض ومعارضه ياعقاب.. تحرر من هي اللعنه اللي صابت سالم قبلك وشوف لوين وصلته وماتخليها تصيبك وتضعفك وتخلي العقاب يصير دجاجه ماتبارح عشتها،والحين انا بعرف إنك مشغول لفوق راسك وما ناقصني، بس ودي منك شي ماحدا يعرف يسويه غيرك.. عندي انا عمارتين ملك مكانهم يعرفا قصير زين، بتروح عالقبيلة وتاخد اوراقهن من عمتك عوالي، قياتي راح يرسلك توكيل ممضي مني وجاهز على أمضتك،
تبيع العمارتين وترسلي حقهن على حساب قياتي اللي راح يرسلهولك مع التوكيل، وبدي هالشي يتم باسرع وقت ممكن ياعقاب لان مافي وقت ياوليدي، خوك قياتي داخل بمشروع ضخم ووده سيوله.
- حاضر ياشيخي اعتبره تم، بس بعد إذنك العمارتين راح اعرضهم علي عمي قصير بلأول بعد ماأفصلهم، وإذا ماأشتراهم راح اشتريهم أنا، لأنك علمتني أن العقار والأرض ماينباعون إلا للشدايد، وإن اللي تصحله فرصه شرا ومايشتري بيكون غالط من ساسه لراسه.
- اي اي ياوليدي هاد كلامي واللي راح تعملا عين العقل،، ولهيك انا وكلتك انت بالذات لأنك راح تتصرف كما لو كنت انا،، بيع ياآدم وارسل القروش، ومع القروش ارسلي تطمني إنك رجعت عن دروب الضياع اللي ودك تمشي فيها.
أنهي منصور مكالمته مع آدم وإذ بهاتفه يضيئ بإسم سالم، فرد عليه وأغمض عينيه وهو يسمع ذات التنهيدة تخرج من جوف سالم فزمجر منصور بغضب:
- ويش فيكم يارجالي ورجال قبيلتي، ويش فيكم ياحزام الضهر ياللي كنت مفكر إني مربي وحوش تنشد بيهم السواعد، هيك العشق يبهدل الرجال ويسكن التناهيد صدورهم؟
شو حكيتلك انا ياسالم قبل لا اغادر، بعدك متذكر كلامي ولا ما متذكر؟
- متذكر ياعمي متذكر بس...
- لا بس ولا شي، ماتستاهلك مادام قلبها رف لغيرك، والرجال الحر مايسكن قلب فيه حدا سكنه قبله ولا حدا مشاركه فيه، لقلوب متل البيوت ماتنسكن إلا إذا كانت خالصه مخلصه ومملوكه من بابها ياسويلم.
- من وين دريت ياعمي بإن صارلي شريك ببيتي؟
- ادري من قبل لا اروح، وادري مين الشريك بعد، وأنصحك ياسالم اتركها وطالعها من قلبك، حكيتلك قبل سابق اقلعها من جذورها بس انت مارديت علي، ولا عملت لكلامي حساب، والحين ياسالم انت وآدم ودي ماأسمع تنهيده تخرج من جوف واحد منكم.
روح ياسالم وتخلص من هم قلبك وريحه وريح بالك، روح لعمتك عوالي تخطبلك زينة بنات القبيلة ووري رجوه الفانص ان سالم بنيات القبيلة وصبايا كل القبايل يتمنونه وينتظرون بس إشاره منه،
عرفها مين هو سالم ويش ضيعت من يدها.. إثأر لقلبك إللي غدرته بت مكاسب وخدت خيره وقطفت محبته وبعدها ولت تدور علي قلب جديد.
اغلق منصور هاتفه بعد أن أنهي حديثه مع سالم وتحدث بعدها مع عوالي وأوصاها على آدم وسالم وولاها مهمة تخليصهم مما يعانون، فهو يعلم جيداً أنها أهل لهذه المهمة، وهي فقط من ستنهيها بالشكل اللائق.
وفي اليوم الثاني كان آدم على مشارف البادية بسيارته وسالم ورابح في إنتظاره، وما أن ترجل من سيارته ورأته رجوه من بعيد حتى هرولت إليه يحملها شوقها له على جناح الريح، وسبقت اقدامها خطوات سالم ورابح إليه، وما ان وقفت أمامه حتى همست له بصوت متعب:
- اشتقتلك وااجد ياعقاب ليش طولت هالغيبه، ماتعرف إني انتظرك وإني اتعذب ببعادك يانبض قلبي؟
انهت كلماتها وكادت ان تتحدث اكثر، ولكن ضربة قوية من آدم بكفه هوي بها على وجهها اخرستها وجعلتها طاحت وكادت تسقط على الأرض لولا يدي سالم حالت دون سقوطها، فازاحها خلفه ونظر لآدم بغضب وزمجر له كأسد غاضب:
- ويش سويت انت ويش سويت، وكيف يدك تنمد علي رجوه، ولك رجوه هي رجوه ياآدم وماتنهان طول ماسالم راسه يشم الهوا.
يتتتبع.
عقاب ابن الباديه الفصل السادس والثلاثون
نظر آدم لسالم بنظرة غاضبة ممزوجه بالسخط والشفقة معاً، فسخطه على رأفة قلبه بها حتي بعد أن القته للتوا من اعلى سفاح الجبال دون رحمة!
والشفقة لأجل قلبه الذي لا يقوى على كرهها او النفور منها وإقتلاعها من داخله، حتى بعد كل هذا الكم الهائل من الجروح الذي تسببت له بها ومازالت.
فهِم سالم نظرته وأبعد يده عن ذراع رجوه، ونظر إليه ثم إليها يحثه على الاعتذار منها وتطييب خاطرها،ولكن آدم أبى ذلك، وابتعد بخطوات تضرب الارض نفوراً من رجوة ومخالطتها وقربها، وحتى عيناه سبقت خطواته هرباً؛ حتى لا تنظران لمن تسببت لرفيقه في كل هذه المعاناة وهذا الكم من الأذى.
وصل آدم إلى خيمة عوالي، فنادى عليها بصوته الرخيم، وماإن سمعت عوالي صوته حتى خرجت مهللة ومرحبة، فإستقبلته داخل خيمتها، وهناك اخذ منها الاوراق وباح لها بكل مايؤرق قلبه؛ فلطالما كانت الشيخة عوالي ملاذ قلبه التائه وطمأنينته، وها هي تنصحه هذه المرة بما لم يتوقع منها، وأتت نصيحتها مطابقة لرأي الجميع،
فقرر آدم ان يُعيد النظر في الامر، وأن يراجع قلبه في محبته لحياة، وأن يجرب الابتعاد عنها قليلاً لعله يستطيع، ربدأ عقله يدرك أن ماإجتمع الكل على رفضه لن يأتي من ورائه سوى المزيد من التعب.
قضى بقية اليوم مع رابح وباقي شباب القبيلة بعد أن اخبر عمه قصير بما يريده الشيخ منصور، وقرر قصير شراء إحدى المبنيين، والاخر تركه لآدم ليشتريه هو.
أما سالم فقد توارى عن انظار الجميع وجلس بمفرده فوق الربوة يتدبر أمره، فمن كان مجيئه للبادية بمثابة عيده، أصبح مجيئه بمثابة خنجر مسموم يندس في قلبه في كل مرة فيضعفه، فلا هو السم المميت، ولا عاد يقوى سالم على تحمل ألمه، فقرر هو الآخر الاستماع لنصيحة الشيخ منصور والبحث عن اخرى علها تستطيع ان تنتشله من عالم الضياع الذي هو فيه الآن،
ولعله صدقاً لا يفل الحبيب إلا الحبيب، وأن دخول شخص جديد في حياته يأخذ حيزاً ولو صغيراً في قلبه، ويكبر مع الوقت حتى يطرد سكانه القدامى، ويستوطنه هو.. أمنية بعيدة المنال وسالم يعلم ذلك جيداً، ولكنه يجب أن يحاول.
فذهب إلى عمته عوالي وإستأذن بالدخول، جلس بجانبها صامتاً لبرهة من الوقت وهي تراقب سكوته ثم اردف بشرود:
-عمتي اريدك تختاريلي عروس على ذوقك ونقاوة عينك، واعرف الشيخه عوالي ايش تختار.
عوالي بفرحة:
- هااا نويت تترك الدروب اللي ماعادت تليقلك ياسويلم؟
والله انك فرحت قلبي وبردت نارا عليك، تم ياوليدي ومايصير خاطرك الا طيب، وراح تشوف شلون عمتك راح تجيبلك اللي مو بس تنسيك رجوه، لا اللي تنسيك امك وابوك والقبيلة كلها واسمك بعد.. روح ياوليدي وبقي الامر بيني وبينك واتركني اختارلك وافاضل بين بنيات القبيلة بنيه بنيه لحين اجد اللي تلوقلك.
- معك كل الوقت اللي تحتاجينه ياعمتي، بس بالله عليكي ماتجيبيلي اللي تزيد اوجاعي وتزود وجيج الراس، انا ودي ارتاح ياعمتي ارتاااااح.
- راحتك عندي ياسويلم، قوم امشي لرفاقك وتسامر معهم وجالس حبيبك اللي مايهون عليه زعلك وضرب الفانص لاجلك وهو يده ماتنمد على حرمه ولا بنيه، بس لاجلك هانت مبادئ العقاب وخان عهد الرجال.
أومأ لها برأسه ونهض مغادراً، ومسح المكان بعينيه باحثاً عن عقابه، ولكنه لم يجده، فتتبع صوت الهرج والمرج واقترب من الشباب فوجده جالس معهم، يشاركهم الحديث ولكن عقله شارد وعيناه زائغة،
فإقترب منه سالم وجلس بجواره واخذ من يده العصا وبدأ هو بالرسم على الرمال بدلا عنه، فتبسم آدم وهو ينظر لما يفعله وهمس له:
-من يومك تكملني وتكمل حتى خطوط يدي، بس شايفك قفلت كل الدواير وماخليتهن يتداخلون!
- من الحين كل الدواير بدها تنقفل ومافي دواير تتداخل، خلص ياخوي مابقى فيه مجال نلف بالدواير لنبحث عن المخرج، خلي نعرف ان مافي مخارج ونبقى داخل الدايره وهي مغلقه.
- حكيك يحمل معاني كثيره ياخوي،وياهل ترى حددت مين اللي راح تبقيه جوات دايرتك ولا طلعت الكل وقفلت على حالك وبس هيك؟
- لا.. طلعت ناس وبقيت ناس،لان البعض ماينفع يغادر والبعض ماينفع يضل.
نظر إليه آدم وتلألأ السؤال في عينيه ورفت شفتاه تريد أن تسأل ولكن خوفه من الجواب منعه، فأجابه سالم دون أن يسأل:
-انت بقلب الدايره وبقلب صاحب الدايره ياعقاب، انت مااذنبت ولا سويت شي، ومو سالم اللي يشيل ذنب حدا لحدا تاني، انت الك مكانه مايأثر عليها غياب حدا او حظوره، بعده أو قربه.
تبسم آدم وزفر بإرتياح، فما قاله سالم للتو هو مبلغ همه وشغل عقله الشاغل،
أما الآن فلا خوف ولا خجل من ذنب لم يقترفه والتصق به بفضل تلك المجنونه.
انتهت السهرة وعاد الجميع إلى الخيام، أما آدم فقرر اليوم أن ينام في غرفته، مع ذكرياته واشيائه التي تذكره بعشر سنوات من عمره قضاهم هنا واكتسب فيهم كل شيئ، وليس لديه استعداد ان يخسر مما اكتسبه اي شي، لا محبة ولا صداقة ولا أخوة.
وفي سكتة الليل والوقت الذي يسبق اذان الفجر، لم يستطع آدم النوم وهو يفكر في كل مايحدث معه، فأمسك بهاتفه وهاتف من ستشاركه قلقه وحيرته، ومن أول مرة اتاه صوتها مجيب وكأنه الغيث لقلبه الظمآن،
فقاوم حنينه وكتم تنهيدة وجع لا تخرج من جوفه إلا على اثر صوتها الحنون، وتحدث معها بجدية على غير عادته، فأخبرها بما يجول في في خلده...
- حياة.. ياحياة، أنا قررت قرار وابغيكي تدعميني فيه، بعرف عقلك كبير وقلبك أكبر وووو.
- أنا معاك ياآدم.. وموافقه وبأيد قرارك كمان، فعلاً علاقتنا مستحيله وكل الظروف معانداها، إحنا لازم نبعد حتى عشان خاطر الناس المتعلقه فرقابنا دي ومينفعش نخذلها.
كانت الكلمات تخرج من جوفها هادئة ولكنها مغلفة بنيران يكاد يشعر بحرارتها في كامل بدنه، وصوتها المهزوز ونبرتها المهزومة شرحت ماتشعر به في هذه اللحظة، فرد عليها هامساً:
-حقك علي ياحياة الروح والله مو بيدي، بس وعد مني إذا الأمور تحسنت وإذا صار مجال وزواجنا أصبح شي عادي ماراح اتردد لحظة بإني اخطفك من براثن الدنيا واخبئك بروحي وادير بالي عليكي لآخر العمر.
- وأنا ياآدم مش هوعد ومش هقولك اني هستناك لآخر العمر عشان أخاف أوعد وماأوفيش، كل اللي هقولهولك إني هفضل أحبك لآخر العمر، وغلاوتك في قلبي هتزيد مع الأيام متقلش، جايز هبقى على إسم واحد غيرك، وجايز ولادي متكونش إنت أبوهم ولا حياتي هتكون زي ماخططتلها معاك، بس الأكيد إن قلبي هيفضل ملكك بلا منازع.
- لا تراهني عالقلوب ياحياة فسبحانه يقلبها كما يشاء، واللي اليوم غالي بالغد وارد كتير تتغير مكانته.
- مش هراهن على حاجه ياآدم.. اعتبرهم كلمتين فارغين اتقالوا فلحظة وداع واللحظات دي المشاعر هي اللي بتتكلم ومشاعرنا ملهاش عقل تفكر بيه.
بعد دقائق من الصمت نطق الإثنان في آن واحد:
-ودلوقتي هنعمل ايه؟
-والحين ويش راح نسوي؟
ضحك الإثنان معاً واختلطت دموع حياة بضحكتها وأردفت بحزن بالغ:
-وجودك كان مكملني ومش عارفه من بعد ماحسيت اني لقيت نصي التاني هعيش ازاي من غيره، صعبه لما ترجع لنقطة الوحده من بعد مالقيت رفيق وخليل وحبيب وصاحب يحلي أيامك.
- بترجاكي ياحياة لاتزيدي اوجاعي بهالحكي، والله اذا تفتحين قلبي هالحين راح تشوفي محرقة وبيها روحي عم تحترق، سلام يامنية الروح وديري بالك على حالك وماتنسين إن عقاب راح يضل يحوم بسماكي وحولك وإذا فكر حدا مجرد تفكير أنو يأذيكي ماراح تشوفي منه غير بقايا.. كوني هانيه أنا دوووم بجوارك.
- ربنا مايحرمني من وجودك جنبي ولا حواليا.. طيب نقول باي ونتمنى لبعض حياة سعيدة.
- ليش ليش، وين بدك تروحي.. يعني أذا مو أحباب مايصير نضل أصحاب، مايصير نحكى لبعضنا ايش متعبنا ونرمي حمولنا ع بعض، عندك العلاقات كلها مرتبطه مايصير نلغي علاقة وتستمر الآخرى؟
-هكدب عليك لو قولتلك ينفع.. لا يا آدم مينفعش، مينفعش اكون مجرد صديقة بعد ماكنت حبيبه، مينفعش تفضل تحكيلي مشاكلك وهمومك وأنا أحلهالك واشاركك فيها لحد مايجي اليوم اللي الاقيك فيه جاي تكلمني عن وحده تانيه دخلت حياتك، مينفعش ياآدم صدقني.. وسامحني.
-مس
مااظن الدنيا راخ تهاديني بغيرك وحده تسكن روحي وتفهمني وتستولي على عباراتي وتكون محور احاديثي، اللي حدث معك ياحياة الروح متل الموت والولادة مايجرا مرتين، حبى إلك ماراح يتكرر ولو أتي بعده الف حب ماراح يكون متله. إنت تباشير هالروووح وأول حصاد القلب يادقة القلب.
تنهدت حياة بعد أن إبتلعت خصة كادت تختنق بها، فمن بعده سيسمعها هذا الكلام، ومع من سوف تشعر بهذا الشعور اللذيذ، وكم تمنت في هذه اللحظه أن يكون حلماً وتفيق منه، حلم جميل ليس إلا وتستيقظ لتجد كل شيئ كما كان وقلبها على سيرته الأولى، خالي ولم يسكنه أحد، أقسمت وقتها أن تأخذه وتفر هاربة من خوف أن تعيش هذا الألم مجدداً.
- ويش فيك ياحياة ليش هاد الصمت؟
-اقول ايه ياآدم، لحظات الوداع مبيتقالش فيها كلام كتير.
- كافي لا تذكرين كلمة الوداع مره ثانيه بالله عليكِ، هي الكلمه بتسَكن روحي الوجاع.
- سلامة روحك من الاوجاع.. طيب ياآدم انا هقفل معلش عشان مش قادره اتحمل اكتر من كده.
- ابقي معي شوي بالله عليك.
- لا معلش صدقني مش قادره.
- انا معاود بعد يومين او ثلاثه عالاكثر.. رتح تكوني بإنتظاري واشوف اللهفه بعيونك متل ماتعودت ولا خلاص من الحين راح تروح اللهفة والشوق؟
-تعالا بالسلامة ولكل مقام شعور وإحساس متسبقش الاحداث.
- إي والله معك حق.. لكل مقام شعور.
اغلقت المكالمة والقت الهاتف من يدها لتستسلم لموجة عاتية من البكاد والنحيب، نحيب اتت على إثره أمها مهرولة تتسائل عما حدث، ولكنها لم تجد من إبنتها الجواب الشافي، فعادت كما أتت، ولكنها علي يقين بأنه حتماً آدم من تسبب لإبنتها في هذا كله، ولكن ماذا حدث بينهم ياترى؟
أما في غرفة ياسين..
-يبني إهدا واقعد وفكر إنت وقاعد زاولتني والروح والجي في الأوضه مش هيخليك تفكر أحسن.
- افكر ايه هو انا عاد فيا مخ افكر بيه؟ أفكر فأيه ولا إيه وإبن اخوك خربها من كل حته، عامل زي الطوفان جه وأخد كل حاجه فوشه وبلع كل اللي بقالي سنين بتعب عشان احققه.. الحيوان الهمجي تربية المعيز والجمال ده.
لترد عليه أمه فريال:
- لا وإنت الصادق دا تربية دماغ سم، تربية منصور الكلب اللي سقاه من حوضه وخلاه غول زيه محدش يعرف ولا يقدر يواجهه.. لعبها صح عمك وغلبنا.. بس علي مين الفرصه لسه موجوده.
- فرصة إيه وهو أخد كل حاجه وعمال يبرطع وكان الدنيا كلها بتاعته ومحدش عايش فيها غيره.
- وانا بقول لسه الفرصه قاعده واللي اخده كله نقدر نرجعه
الفصل الثاني والثلاثون مرحبا بك مليون سنه في البيت
-
في صباح اليوم التالي في مقر شركة يحيى..
دلف ياسين لمكتب ابيه كالأعصار وهو يمسك في يده بعض الأوراق وقام برميهم على المكتب أمام إبيه بغضب وقال له وهو يزمجر:
-اتفضل شوف لما بتتطربق بتتطربق من جميع النواحي ازاي.. الصفقة اللي مصدرينها وقابضين نص تمنها والنص بعد الإستلام هتقعد اسبوع في عرض البحر بسبب عطل مفاجئ في السفينه، والصفقة المستوردينها الشركه المصدره رجعت في اتفاقها ورفضت تبعتها بحجة ان معندهاش اللي يغطي الطلبيه وهتدفع الشرط الجزائي، يعني بكده اتخرب بيتنا رسمي وانضربنا في السوق وخلاص كل الاوتيلات والمستشفيات الخاصة والمنتجعات اللي بنتعامل معاها هتشوف بديل وهتلغي التعامل معانا.
أمسك يحيي الأوراق وكانت عبارة عن فاكسات وتأكد من كلام إبنه، ثم القاهم من يده بعيداً وهو يقول:
- دي لو مترتبه من شياطين الارض متجيش كده ابداً، يعني ايه لا وارد ولا صادر؟
- ومين قالك انها مش مترتبه من شياطين، او خلينا نقول شيطان متبعدش عليه حاجه، بيعرف كل حاجه وبيتكلم كل اللغات وعنده السلطة اللي تخليه يعرف يعمل كده.
- تفتكر يكون هو؟
-مش افتكر دا انا متأكد.
- إذاً عليك بيه ياياسين، إعمل اللي كنت مانعك منه، بس متبقاش غشيم وتحط نفسك في موضع شك، خليك بعيد وخد حذرك.
- متقلقش انا عامل حسابي ومخطط لليوم دا من مده ومستني إشارة التنفيذ بفارغ الصبر.
•تابع الفصل التالي "رواية عقاب ابن الباديه" اضغط على اسم الرواية