رواية الحصان و البيدق الفصل الثامن 8 - بقلم ناهد خالد
انتبهت لحالتها فأغمضت عيناها بقوة لتستفيق منها، وبالفعل ما إن فتحتها مرة أخرى وجدت سارة قد اختفت، ووعت لحالتها بين ذراعي" مراد" وهو كاد أن يبتلعها داخل احضانه او يكسر عظام قفصها الصدري من شدة ضغطه عليها، وبالطبع لم يكن هذا سوى محاولة منه لتقليل فرط حركتها والتي كادت تؤذي بها نفسها، همست تنبهه:
_ انا كويسه، ابعد شوية عضمي وجعني.
انتبه لعودتها لرشدها، فابتعد عنها فورًا وهو يردد بملامح وجهه الشاحبة:
_ أنتِ كويسة؟
اومأت دون حديث، وهي تتهرب من النظر له، ليهتف مرة أخرى:
- انا آسف لو ضغط عليكِ ووجعتك، انا بس كنت بحاول اوقف حركتك عشان متأذيش نفسك.
حركت رأسها مرة أخرى متفهمة قبل أن تقول:
_ محصلش حاجة.
جمدت ملامحه وهو يقول:
_ بس انا عاوز افهم اللي حصل ده.
رفرفت باهدابها بتوتر وهي تسأله:
_ تقصد ايه؟
_ اقصد انهيارك ده سببه ايه؟
حركت رأسها للجهة الاخرى وهي تقول بتوتر:
_ عادي.. هتلاقي بس اعصابي تعبانة شوية.
ضيق عيناه بشك يسألها:
_ وايه علاقة تعب اعصابك بأنك تشوفي سارة، وتشاوريلي عليها!؟
ابتلعت ريقها بتوتر واجابته بتلجلج:
_ لا.. انا مشاورتش على حد.. ساره مين الي شوفتها؟
ابتسم ابتسامة صغيرة ساخرة يقول:
_ يعني على الأقل قوليلي كدبه تانية، لكن تنكري انك شاورتي عليها اصلاً!
حاولت الهرب من الموضوع بحيلة ما فاصطنعت الملل من حديثه وقالت بضيق:
_ ما خلاص بقى هو تحقيق؟
كان جالسًا الآن أمامها والبُعد بينهما عدة سنتيمترات، مستندًا بكوعه على فخذته وأحد ارجله مرفوعه فوق الفراش والأخرى مُثبته فوق الأرضية، فاقترب اكثر بجسده وخاصًا رأسه مما جعلها ترتد للوراء بتوتر، وهو يقول بابتسامة مُهلكة رغم نبرته الساخرة:
_ بلاش مبدأ قلب الطربيذة معايا عشان مبيجبش سِكة، ورُدي على سؤالي عِدل عشان كده كده هاخد الإجابة اللي ترضيني.
ارتفع تنفسها قليلاً وهي تسأله بغضب ظهر بوادره على وجهها:
_ أنتَ بتهددني!؟
رفع كفه يلمس وجنتها برفق وهو يخبرها بنظرة عاشقة:
_ ماعاش ولا كان الي يهددك وانا عايش، حتى لو كان انا.. بس انا عاوز اطمن عليكِ.
لن تنكر ان حديثه أثر بها، لكنها لم تجد الجرأة لتخبره بهلاوسها ومرضها النفسي الذي تعاني منه لسنوات، فلجأت للفرار من اجابة السؤال للمرة الثانية وهي تقول:
_ انا جعانة اوي، مش قولت طالب اكل؟
_ اممم، طالب.. زمانه على وصول.
نهضت عن الفراش وهي تقول:
_ هغسل وشي واحصلك.
نهض هو الآخر وقد ادرك طردها له بالأدب، فقال بتروي اربكها:
_ تمام... هنزل انا اسبقك.. ولينا كلام تاني..
اتجه للباب ليقف عنده والتف لها يقول:
_ وجهزي نفسك بعد الاكل هننزل نشتري شوية حاجات.
اومأت دون حديث، ليغلق الباب خلفه، فتهاوت فوق الفراش لا تصدق ما وضعت نفسها بهِ، هل كُشف سرها الذي حرصت على اخفاءه طوال الفترة السابقة؟ طوال فترة معرفته بها وخطبتهما، الآن كُشف امامه، فمراد ليس باحمق ليصدق اي كذبه قد تخلقها، وحتمًا سيكتشف الحقيقة لا محال.
مسحت وجهها بكفها بضيق، وتأفأفت عدة مرات بنزق، قبل أن تنهض دالفة للحمام لتغسل وجهها..
لتفيق قليلاً....
_______________
كانا يجلسان حول طاولة الطعام والوضع مُضحك! لكنه مُحزن لقلب البعض!
فالطاولة الكبيره والتي تحوي اكثر من خمسة عشر فرداً، يجلس اثنان فقط حولها، وبينهما ما يقرب من خمسة كراسي فارغين.. وهذا ما جعله يرفع صوته وهو يقول:
_ مش ناوية تتنازلي عن الهبل اللي بتعمليه ده.
فالأمر المضحك والمُحزن في الوقت ذاته، ان كلاً منهما يأكل من طعام مختلف، هي أمامها طبق من الارز وطبق اخر به بعض الخضروات المطبوخه، وقطعة دجاج متوسطة الحجم، وكأس عصير فريش.. أما هو فأمامه قطعة لحم كبيرة الحجم مشوية، وطبق بهِ بعض المعكرونه بالصوص الابيض الذي يفضله، وطبق سلطة فواكة لطالما فضل تناولها بعد الوجبة مباشرةً.. واستبدل كأس المشروب المعتاد له، بعصير برتقال بدون سكر.. فإن لمحت كأس المشروب لربما ستقلب مائدة الطعام فوق رأسه.. لذا اختار الحل الامثل.
_ هبل! ماشي اعتبره هبل، بس الهبل ده الي مقعدني هنا لحد دلوقتِ.
_ هو اكلي في سُم يعني!
نظرت له وبدون تردد قالت:
_ من فلوس حرام.. يعني لو فيه سُم كان هيبقى اهون.
رفع جانب فمه العلوي يردد بسخرية:
_ فقررتِ تجيبي اكلك وشربك ولبسك من فلوسك، مبتفكريش تدفعي أجرة سكنك بالمرة؟
رفعت حاجبها المنمق له وقالت بينما تمسك بالملعقة بقوة:
- لو قاعدة بمزاجي كنت عملتها، لكن انا قاعده بالاجبار.
اخبرها بنبرة ذات مغزى:
_ افتكري طيب ان مهلتك قربت تخلص، بكره بليل هستنى ردك.
كادت ان تقول شيئًا مُعلقة ليقاطعها وهو يسألها:
_ نويتِ تنزلي الاتيليه امتى؟ انا مأجل الافتتاح لحد ما تكوني موجوده بنفسك.
اشاحت بنظرها عنه ناظرة للامام، تفكر في الأمر مرة اخيرة قبل ان تقول قرارها.. هي بالفعل حددته من كثرة تفكيرها بالأمر من وقت ان اخبرها، فكرت بهِ من كافة النواحي، هي ترفض أي انفاق مالي يأتي من جهته، وهي تعلم حقيقة امواله الفاسدة، لكن تحتاج للخروج من عرينه حتى ولو لبعض الوقت يوميًا تستعيد فيه طاقتها، ولربما يتيتح لها فرص لن تأتيها وهي تجلس بين قضبان منزله الكئيب، وهذا ما جعلها تحدد موقفها بوضوح... اغمضت عيناها تضغط عليهما بتردد قبل أن تقول اخيرًا وعيناها تتجنب النظر له:
_ هنزل من بكره، هروح من المغرب للساعه ١١ كده.
ضيق عيناه يسألها رغم معرفته للاجابة التي لن تبوح بها:
_ وليه الوقت ده بالذات؟
اجابته متسائله بتوتر:
_ وليه مش الوقت ده؟ انا بس حسيته مناسب.
ابتسم ساخرًا من جانب فمه وهو يقول:
_ يمكن عشان الوقت ده هو الي بكون موجود فيه في البيت.. انتِ عارفة اني برجع الساعه ٥ من الشركة، بتغدى وبخلص شوية شغل، وبرتاح شوية وعلى الساعة ١٢ بخرج تاني.. انتِ بقى قررتِ تهربي من وجودي مش كده؟
كادت تجيبه نافية ليقاطعها بحديثه:
_ مفيش داعي تجاوبي، عمومًا.. انا مش موافق على المواعيد دي، وانا الي هحطلك مواعيدك الي تروحي وترجعي فيها.
وهنا تخلت عن تجنب النظر اليه، ونظرت له غاضبة مستنكرة، تقول:
_ نعم؟ هي فيها تحكمات من اولها ولا ايه؟ حتى مواعيدي عاوز تحددهالي؟
رد ببرود:
_ بالضبط كده، عشان ببساطة مش هسيبك تفضلي في الاتيليه لحد ١١ بليل دي.
رفعت جانب شفتيها باستنكار:
_ ليه محسسني اني بقولك هرجع واحده! ١١ دي بدري جدًا انتَ عارف الناس هنا بيفضلوا سهرانين لبعد الفجر.
_ فايه؟ ترجعي الفجر عادي يعني! احنا مالنا مايسهروا ان شاء الله للصبح، اولاً مش هسمحلك تهربي مني بالطريقة دي، ثانيًا وجودك بره البيت بليل انسيه تمامًا..
صمت لثانية قبل أن يكمل:
_ هتروحي في مواعيد الشغل الطبيعية، مش هقولك الصبح لان ده اتيليه يعني هيبدأوا يفتحوا بعد الضهر، فانتِ هتروحي ٢ وترجعي ٦.. معاكِ ٤ ساعات تتابعي فيهم شغلك وتتابعي الناس الي شغالين هناك كمان، مش هتحتاجي تبذلي مجهود الstaff "طاقم العمل" كله جاهز ومستني الافتتاح عشان يبدأوا يشتغلوا.
سألته ساخره:
_ ومادام كده انا لزمتي ايه؟ ماتخلي ال staff بتاعك ده يفتح الاتيليه ويشغله.
_ هم كده كده هيفتحوا، ويشغلوه كمان.. أنتِ عمرك شوفتي صاحب اتيليه كبير زي الي هتشوفيه لما تروحي بيروح هو يفتح الاتيليه ويبيع للزباين! ده كده ناقص يرش ماية قدامه.
_ أنتَ بتتريق؟
تفوهت بها غاضبة ليخبرها بهدوء:
_ ابدًا، بس طبيعي اي صاحب شغل كبير، بيروح يقعد في مكتبه، يتابع شغل العمال من الكاميرات، يخلص ورق، يعمل طلبيات، يحل مشكلة زبون، ينظم المكان لو فيه حاجه مكانها مش عاجبه ينقلها لمكان تاني، في ناس ممكن ييجوا يطلبوا تصميمات خاصة وقتها لازم يقابلوكِ انتِ عشان تفهمي طلبهم بالظبط، وهكذا.. لاحقي انتِ بس على الشغل وبعدين ابقي شوفي ليكِ لازمة ولا لا.
اشاحت بنظرها عنه والتزمت الصمت، لتسمعه يقول بنبرة ظهر بها المكر جليًا:
_ لكن اعتقد اني عرفت قرارك التاني.
ضيقت مابين حاجبيها تسأله بعدم فهم بعدما نظرت له ورأت لمعت عيناه الماكرة كالذئب:
_ قرار ايه؟
وبابتسامة ملتوية اخبرها:
_ لو كنتِ قررتِ متكمليش معانا، مكنتيش قررتِ تنزلي الاتيلية.
"معانا" وال" نا" عائدة عليهِ هو وولده، وكأنه يلفت نظرها للمرة الأخيرة أن الصبي معه في نفس الاختيار، إما كلاهما إما لا أحد.. تجمدت ملامحها ذهولاً فلم يخطر ببالها تلك الحسبة التي قام بها للتو، فرددت بجدية:
_ ملهاش علاقة، عادي مانا ممكن انزل الاتيليه يوم واجي اقولك مش هكمل معاك ومنزلوش تاني.. هو عقد احتكار!
وحديثها لم يكن مقنع بالمرة، فابتسم بلؤم وهو يعقب:
_ يمكن..عمومًا إن غدًا لناظره لقريب.
_ مامي.
اتاهما صوت الصغير الذي وقف على باب حجرة الطعام، يفرك عينه بقبضة يده الصغيرة فلقد استقيظ منه نومه للتو..
_ حبيبي تعالى.
اتجه لها لتلتقطه بين ذراعيها تقبل رأسه بحنان، واشارت للطعام وهي تسأله برفق:
_ حبيبي تاكل معايا؟
وعينا الصغير فورًا ركضت تُجري مقارنة بين نوعي الطعام المتواجدان فوق السفرة.. طعام والدته، وطعام والده.. وقد لاحظا حيرته، لتنظر له منتظرة قراره بتوتر جلي، ربما الامر في ظاهره سخيفًا ولا يحتاج للمبالغة بالشعور.. لكن في باطنه يكمن الكثير.
_______________
جلست بالاسفل بتوتر، تنتظر والدته التي ستحضر في اي وقت، فقد مرَّ عليها واخبرها ان تنزل لتناول الطعام الذي بالمناسبة تفوح رائحته الآن بشدة لتعم الارجاء، وهذا ما جعل "مصطفى" يهتف وعيناه لا تفارق علبة ال "بيتزا" خاصته:
_ هو احنا هنستنى كتير؟ انا عصافير بطني ماتت..
عقب "مراد" بمرح:
_ بجد؟ وعلبة النوتيلا الي كنت رايح جاي بيها من شوية، وسندوتشات الجبنة الرومي الي قبلها، كل ده راح فين؟
نظر له بضيق مصطنع:
_ ايه ده انتَ بتحسبلي الاكل؟ مكانش العشم يا ابيه!
خرجت "خديجة" عن صمتها تقول بحدة:
_ ايه يا مصطفى أنتَ عمرك ما شوفت اكل في حياتك؟
وقبل أن يجيب "مصطفى" الذي توتر قليلاً من طريقة شقيقته في الحديث واستشعر ضيقها منه، كان يقول "مراد":
_ في ايه يا خديجة، سبيه براحته، انا بهزر معاه.
_ مش بتكلم عشانك، بس طريقته مستفزة مش كده يعني.
نهض "مصطفى" عن الطاولة وهو يقول بضيق حقيقي:
_ انا كنت بهزر، انا شبعان اصلاً، عن اذنكوا.
وقبل أن يتحرك اوقفه "مراد" يقول بحدة:
_اقعد يا مصطفى، ايه لعب العيال الي بتعملوه ده! واحده قلبت الموضوع دراما، والتاني اتحمق اوي واتقمص.. الموضوع مش مستاهل كل ده.. بعدين هو في بيته يعمل الي يعمله، بلاش حزازية زيادة يا خديجة.
شعرت بمبالغتها فقالت بحرج:
_ خلاص يا مصطفى متزعلش، مكانش قصدي..
جلس مرة أخرى وهو يقول بنبرة عادية:
_ حصل خير مزعلتش .
نظر لها "مراد" بعتاب، لتشيح بنظرها عنه، وعاد توترها ما إن رأت السيدة "ليلى" قد وصلت امام الطاولة، فنهض "مراد" فورًا يقترب منها ليوجهها لمكانها على رأس الطاولة بعد أن أزال الكرسي الموجود هناك ليحل كرسيها المتحرك محله، وقفت "خديجة" بتوتر، تنظر للسيدة بأعين دامعة.. ذكرتها بطفولتها، بتلك الفترة التي قضتها في ذلك المنزل الذي كانت سيدته، شعرت ان ذكريات الماضي تُعاد بقوة ما إن وقع بصرها عليها، مازالت بنفس الهيئة حتى وإن ترك الزمن بصماته على ملامحها.. مازالت تشعر بالراحة ايضًا في ملامحها الحنونة، لكن التوتر يغلب على اي شعور آخر الآن.
التف لها "مراد" يفتح كفه ويمد لها ذراعه لتقبل عليهِ، ففعلت رغم خطواتها المترددة.. مدت كفها له، ليمسكه بحنان وهو يجذبها لتقف جواره تمامًا، ويشير لوالدته يقول:
_ دي بقى لولا، والدتي.. اكيد فكراها.
اومأت برأسها ايجابًا، وقالت بتوتر ظهر واضحًا:
_ اه.. ازي حضرتك؟
مدت" ليلى" كفها لها، لتقترب، ففعلت بعد أن تركه "مراد"، لتلتقطه والدته وهي تقول بابتسامة:
_ حضرتي كويسة.. مالك متوترة ليه؟ قالك ايه الواد ده عني وترك كده؟
اردف "مراد" بمرح:
_ ولا قولت حاجة، هي متوترة لوحدها.
_ ليه يا حبيبتي هو انا بُعض؟
ابتسمت "خديجة" بتوتر طفيف وهي تقول:
_ لا ابدًا، انا كويسة.
مسدت على كفها وهي تقول:
_ عمومًا لسه هنقعد مع بعض وناخد على بعض اكتر، وأن شاء الله يعني تحبيني وتعرفي ان مفيش داعي تقلقي مني.
هزت رأسها بابتسامة، لتقول "ليلى" ثانيًة:
_ ايه مش هتسلمي عليَّ بقى؟
اقتربت منها تحتضنها بهدوء، لتمسد على ظهرها بكفها تعطيها القليل من الحنان لكسر الحاجز بينهما، وما إن ابتعدت حتى قالت "ليلى" :
_ يلا بقى ناكل.
اتجه كلاً منهما الى مقعده، ف "مراد" يترأس الطاولة مقابلاً لوالدته، وعلى يمينه تقبع "خديجة" ومقابلها شقيقها..
انتهوا من الطعام في هدوء، وقد حرص "مراد" على الاهتمام بطعام "خديجة" فكان من وقت لآخر يطعمها بيده بعد ان تتوقف عن الطعام متعللة بالشبع، فظل يطعمها باصرار، وتحت اصراره ترضخ هي رغمًا عنها... وبالمرة الأخيرة ردت يده بخجل واضح من افعاله معها تحت نظرات شقيقها ووالدة زوجها، وهي تقول:
_ عشان خاطري كفاية.. مبقتش قادرة.
اعاد قطعة ال"بيتزا" من يده وهو يخبرها بنزق:
_ بس انتِ كده مكالتيش حاجة!
رفعت حاجبيها مندهشة تقول:
_ ماكلتش! ده مبقاش غير قطعتين في البيتزا بتاعتي.
نفى برأسه قائلاً:
_ لا الاكل المِرع ده مينفعش معايا، بس هسيبك المرة دي عشان لسه متعودتيش على نظام اكلك الصح، فمش هضغط عليكِ.
_ على فكرة خديجة اكلتها ضعيفة اوي، يعني ده انجاز انها كلت كل ده.
اردف بها "مصطفى" بعد ان انتهى من تناول طعامه والتهم قالب البيتزا خاصته باكمله، ليعقب "مراد" :
_ مهو واضخ مش محتاج تقول.. دي لو حد نفخها هتطير.
قالت بتزمر وهي ترفض ان تصبح هي موضوع حديثهم:
_ على فكرة انا مش رفيعة، انا ٦٠ كيلو.. يعني وزني كويس.
_ وطولك كام؟
تسائلت بها "ليلى" التي قررت التدخل في الحديث، لتجيبها:
_ طولي ١٦٤.
_ المفروض وزنك المثالي يكون ٦٤..بس مادام ٦٠ فهو still "مازال" perfect.
عقبت بها "ليلى" لتبتسم لها "خديجة" برضا، لم يدم سريعًا حين سمعت تعقيب "مراد" :
_ مش بالوزن المثالي يا لولا، المهم الشكل، يعني المفروض الست تكون... تكون كرڤي شوية.
_ بطاية يعني!
قالها "مصطفى" بتلقائية، لتتسع اعين "خديحة" حرجًا من جملته، في حين انطلقت ضحكات "ليلى" المرحة، واكتفى "مراد " بالابتسام على جملته وهو يشيد بها:
_ بالضبط.. بطاية، يعني اعتقد محتاجة تكوني اكتر من ٦٥ كيلو يا خديجة عشان تكوني كرڤ.. اقصد بطاية.
تذمرت وهي تقول:
_ بس انا بقى عاجبني وزني كده.
نظر لها بأعين مُحبة، ونظرة راضية على أي حال وقال مبتسمًا بصدق:
_ وانتِ عجباني على أي حال.
تلونت وجنتيها بحمرة الخجل، والتزمت الصمت بعدما احرجها رده المفاجئ، ليعقب "مصطفى" مازحًا:
_ معلش يا ابيه مراد تخف شوية من الرومانسيات دي لاحسن بيجيلي حموضة، وانا استحملتكوا فترة الخطوبة بالعافية.
_ بس يالا.
زجره بجانب عيناه، ليرفع كفه على فمه مشيرًا له انه التزم الصمت.. بينما قال "مراد" بجدية وهي يتطرق للحديث في موضوع أهم اراد ان يخبرهم بهِ:
_ قوليلي يا خديجة، تحبي تعملي فرحك فين.
نظرت له بصدمة وهي تسأله بحاجبين معقودين:
_ فرحي!
اومأ بجدية:
_ اه فرحك.. احنا معملناش الفرح لسه، ولا فكرتي عشان ما جيتي بيتك يبقى ما فيش فرح!
هزت رأسها نافية تقول بتردد:
_ مش فكرة كده.. بس انا مش فارق معايا كتير موضوع الفرح، يعني عادي مدام الظروف جت كده مش شايفه انه ضروري يتعمل، وخصوصا إن ما ليش صحاب ولا حتى اهل فهعمل فرح لمين!
مد كفه يمسك كفها الذي تفركه مع الآخر من اسفل الطاولة، وضمه بقوة وهو يخبرها:
_ مين قال ان احنا بنعمل الفرح للاهل والصحاب! الفرح احنا بنعمله عشان العريس والعروسه هم اللي يفرحوا ببعض، وبتبقى ذكرى حلوه ما بينهم بيفتكروها طول العمر... وعلى فكره بقى الفرح اللي بيبقى في دوشه كتير ما بيبقاش حلو اصلاً.. يعني انتِ تجيبي الاثنين اللي من طرفك، وانا اجيب لولا ونعمل احسن فرح.
ترددت في الموافقة فقالت:
_ بجد شايفة ان مفيش داعي.. ممكن نتغاضى عنه عادي، يعني الجواز إشهار.. واهلي واهلك عارفين يبقى خلاص.
خرجت "ليلى" عن صمتها تقول بعدم رضا:
_ هو ايه اللي خلاص! انا نفسي اشوف ابني عريس.. ده انا طول عمري مستنيه اليوم اللي اشوفه فيه ببدلة فرحه.. وبعدين يا حبيبتي اي واحده بتحلم تلبس فستان فرحها، في حد يرفض انه يتعمل له فرح؟ على فكره لو ما عملتيش فرح دلوقتي صدقيني هترجعي بعدين تندمي انك ضيعت يوم زي ده من ايدك.
نظرت ل "مراد" واكملت:
_ وليه يا حبيبي تعمل فرح تعزم في اربعه ولا خمسه! ما تعمل فرح زي ما كل الناس بتعمل، ويليق بمقامك.. انت لازم فرحك يحضره كل الناس كل رجال الاعمال وصفوة المجتمع من اصغر واحد لاكبر واحد، ولا انتَ عاوز الصحافة بعد كده تنزل خبر جوازك وانك عملت فرح على الضيق ويبدأوا بقى يخترعوا اسباب انك معزمتش حد في فرحك، وأنتَ عارفهم مبيتوصوش.. وتجيب لنفسك القيل والقال.
اجابها بعدم اهتمام:
_ أنتِ عارفة ان مبيفرقش معايا كلام صحافة ولا غيره، فدي اخر حاجه ممكن اشغل بالي بيها، اهم حاجة ان الي هيتعمل هو الي يريح خديجة.
ابتسمت له "ليلى" ابتسامة صغيرة قبل أن تسألها:
_ قولتي ايه يا خديجة؟ يارب تكوني اقتنعتِ بكلامي.
اجابتها بتردد بالغ فهي لم تحسم قرارها بعد:
_ والله يا...
صمتت لبرهة تحتار فيما تناديها، لتقول اخيرًا:
_ والله ياماما انا كنت بقول..
_ طنط.
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم تسألها:
_ نعم؟
ابتسمت "ليلى" ببساطة تعيد كلمتها موضحة:
_ طنط، قوليلي طنط احسن او لولا حتى.. بلاش ماما.
بُهتت ملامحها وهي تسمع حديثها، وشعرت بالخطر يدق باب قلبها تجاه هذه السيدة، التي اقلقتها للتو..
__________
_بس انا عاوز اكل من هناك.
حسم الصغير قراره وهو يشير لطعام والده، لتحاول هي إثناءه عن رأيه وهي تحببه في طعامها:
_ حبيبي الفراخ هنا اهي، مش انتَ بتحبها؟
اومأ برأسه مؤكدًا بينما قال بطفولة:
_ ايوه، بس انا مبحبش ده "قالها مشيرًا على طبق الخضروات واكمل:
_بحب المكرونة واللحمة.
_ تعالى يا حبيبي كُل معايا.
اردف بها" دياب" بعدما ترك لها الفرصة ليعلن عن انتصاره، تحرك الصغير فورًا تاركًا والدته واتجه لوالده الذي استقبله بكل سعة، واجلسه فوق فخذه يقبل وجنته بحب.
_ ميادة.
نادى بصوته على مُحضرة طاولة الطعام، والتي اتت مهرولة فهي تقف بالقرب من باب حجرة الطعام استعدادًا لأي طلب منه.
_ امرك ياباشا.
_ هاتي لعُمر اكله وهاتيله كوباية لبن.
_ حاضر يافندم.
قالتها وانسحبت من امامه تنفذ طلبه على الفور.
نظر ناحيتها ليجد ملامحها تكسوها الحزن، وقد توقفت عن تناول طعامها، يعلم جيدًا فيما تفكر، لذا اردف بصوتٍ عالٍ يصلها:
_ كملي اكل ومتفكريش في حاجات مش منطقية..
نظرت له رافعة حاجبها الايسر بتحدي:
_ وايه الحاجات الي مش منطقية دي؟
نظر لها يجيبها:
_ مش عشان اختار ياكل معايا، يبقى انضم لصفي، متخليش الموضوع ياخد اكبر من حجمه عشان متتعبيش، ومتنسيش ان عُمر ابني.. ومسيره في يوم هيكون في صفي بجد وبوعي منه، فياريت تعيدي حساباتك قبل اليوم ده.
نهضت عن الطاولة مُلقية المحرمة القماش فوقها بضيق:
_ مش انا الي محتاجة اعيد حساباتي يا دياب باشا..
انهت حديثها وتحركت للخروج من الغرفة، ليتنهد بسأم.. يبدو ان الطريق معها لا ينتهي، وصبره قد بدأ ينفذ بحق، ويخشى عليها من وجه "دياب" الآخر.. والذي لن تتحمله..
_ متنسيش اني لسه محاسبتكيش على هروبك بابني، لو كنتِ تعرفي انا كنت بفكر اعمل فيكِ ايه لما الاقيكِ، كنتِ دعيتي ربك ليل نهار اني ملاقيكش.. كان عندي شوية افكار كفيلة تكرهك في حياتك وتخليكِ تلعني اليوم الي فكرتِ تهربي فيه.. لكن للأسف لما لاقيتك، معملتش اي حاجه من الي كانت في دماغي وشيطاني كان بيوزني ليها...وأنتِ عارفه السبب، لكن انا ليا طاقة يا رنا..لو خلصت هتلاقيني بحاسبك على القديم قبل الجديد.
التفت له واقتربت بخطواتها حتى اصبح الفاصل بينهما كرسي واحد فقط، وقالت بأعين دامعة ونبرة راجية:
_ ابعد عن شغلك الشمال، وانا اكونلك الزوجة الي تتمناها.. هرجع رنا الي اتجوزتها قبل ما تعرف حقيقتك، هرجع حبيبتك وصاحبتك وامك الي كانت بتخاف عليك من الهوا، في ايدك ترجع كل ده ونعيش مرتاحين وفي سلام، بس أنتَ توافق.
ابتلع غصة في حلقه وهو يتذكر تلك الأيام التي قضوها سويًا قبل ان تكتشف حقيقة عمله صدفة، كان أقل من عام بايام قليله.. ما بين خمسة أشهر خطبة، وستة اشهر ونصف بعدهم زواج.. كانوا النعيم الحقيقي حينها، نعيم انقلب لجحيم بين ليلة وضحاها بعدما أدركت حقيقته.. كانت حينها تغدقه بحنانها وحبها واحتوائها.. كانت حياتهما أكثر من رائعة، وليتها تعود..
تنتظر تعقيبه على أحر من الجمر، وقطع خلوتهما دلوف الخادمة بالطعام وكوب الحليب كما أمر سيدها، وضعتهم بعجالة بعدما شعرت بتوتر الأجواء وانسحبت على الفور ، ليقول هو بعدها:
_ ماشي يا رنا ، هعمل ده، لو كان هيريحك.
نظرت له بشك تسأله:
_ وايه هيثبتلي انك عملته!
سألها ساخرًا:
_ تحبي اجبلك تسجيل صوتي من زعيم المافيا وهو بيعلن اعتزالي!
نفت برأسها وهي تقول:
_ لا في حل اسهل.
كان قد تناول الشوكة والسكين ليقطع قطعة اللحم الخاصة بطفله، والتقط قطعة صغيره يدسها في فمه وهو يقول:
_ابهريني.
_تبيع كل املاكك.. الفيلل والعربيات والشركات.. حتى الفلوس الي في البنك.
دس قطعة صغيرة أخرى في فم الصغير وهو يدرك أن القادم لن يروقه وقال:
_ اممم، وبعدين، هودي الفلوس دي كلها فين؟
استجمعت شجاعتها وهي تجيبه بجدية:
_ تتبرع بيها للجمعيات الخيرية.. ونجيب شقة صغيرة نسكن فيها، وتدور على شغل مناسب وان شاء الله ربنا هيكرمنا.. ونبدأ من جديد وعلى نضافة.
نظر لها رافعًا حاجبه باستنكار واردف ساخرًا:
_ يعني عوزاني اتبرع باكتر من ٢٠ مليار جنية تمن ثروتي ده غير فلوسي المتجمدة في حسابات بره، واروح اشتري شقة صغيرة واشتغل وابدأ من جديد.. وياترى هشتغل في بنزينة ولا جرسون في مطعم!
تنهدت وهي تهز رأسها بسأم وقالت:
_ مفيش فايدة..
انهت جملتها وتركت الغرفة بأكملها، ليلتقط شوكة بها بعض المعكرونة يدسها في فم الصغير وهو يردد:
_ امك شكلها لسعت يا عُمر.. معرفش التخلف الي ظهر عليها فجأة ده كان موجود من الأول ولا مكتسباه جديد!
____________
_ متفهمنيش غلط يا خديجة، انا بس اتعودت ان محدش بيقولي ماما غير مراد، عشان كده مش حابه حد غيره يقولهالي.. انا مراد ابني الوحيد واكتر حد بحبه في الدنيا، ففي شوية حاجات كده محبش حد لا يقولها ولا يعملها غيره.
ابتلعت ريقها الجاف وهي تقول:
_ ااه.. لا ولا يهمك، انا اصلاً كنت مترددة، مش عارفة المفروض انادي حضرتك ازاي، خوفت اقولك طنط تفكري اني بعمل حاجز بينا.
نفت برأسها مبتسمة بوداعة:
_ لا ابدًا، انا مبدققش في المسميات، المهم قوليلي قررتِ ايه في الفرح؟
قالتها وهي تنظر ل "مراد" لترى في عينيهِ انه لن يمرر فعلتها، ادركت انه سيفتح معها الحديث في الأمر لاحقًا، فيبدو انه لم يحبذ ما قالته ابدًا.
_ مش عارفه، الي تشوفوه.
عقب بنزق:
_ خديجة، قولت إنك أنتِ الي تهميني في الموضوع، مفيش حاجة اسمها الي نشوفه.. أنتِ مرتاحة لايه؟
_ محتاجة وقت افكر.
هز رأسه يخبرها :
_ خدي وقتك.
علىَ رنين هاتفه ليلتقطه فرأى رقم "طارق" يزين شاشته، فنهض مستأذنًا منهم:
_ هرد على الموبايل وارجع، خديجة ياريت تطلعي تجهزي عشان نتحرك.
_ رايحين فين؟
تساءلت بها "ليلى" مبتسمة بفضول، ليجيبها "مراد" بعجاله:
_ هنشتري شوية حاجات يالولا، مش هنتأخر.
تحرك للحديقة عبر الباب المؤدي لها من داخل الفيلا، وصعدت "خديجة" الدرج سريعًا لتجنب أي حديث آخر مع والدة زوجها قد يزيد من قلقها تجاهها.
_ ايوه.
_ مراد باشا، كنت عاوز اشوف سعادتك.
_خير يا طارق؟
_ موضوع مهم يا باشا... مسألة حياة او موت.
قطب ما بين حاجبيهِ متسائلاً بتعجب:
_ بخصوص؟
اجابه "طارق" بكثير من التردد والتوتر:
_ يخصني انا....
وهل رأى "طارق" أن "مراد" محل ثقة لهذه الدرجة! ليضع حياته وحياة زوجته بين كفيهِ!
- تابع الفصل التالي "رواية بك احيا" اضغط على اسم الرواية