رواية دموع مؤجلة واحتضان أخير الفصل العاشر 10 - بقلم شمس حسين
بين الحياة والموت
بعد الإصابة في الموقع، الكل كان واقف حواليا ومنتظر الإسعاف، وقتها أنا كنت سامعة أصوات كتير، بس كانت حاجات متداخلة زي صريخ حد خايف، وأصوات تانية بتحاول تهدي، بس أنا كنت حاسة إني مش موجودة معاهم، كان في حاجة غلط، حاجة تخوف، الجو كان حواليا بارد، وبعد وقت بسيط سمعت صوت صفارة الإسعاف، مكنتش قادرة أفتح عيني، ولا حتى أقول اي كلمة، لحد أما وصلت المستشفى، و الدكتور قال:”لازم ندخلها العمليات حالًا، الوقت مش في صالحنا!”، وطبعا دخلوني العمليات وبعدها حسيت إن الدنيا كلها توقفت، وغبت عن الوعي، وأنا فاقدة الوعي شوفت نفسي في مكان كله نور أبيض قوي، والناس حواليا بتتحرك بسرعة، بس أنا كنت بعيدة، كأن جسمي في غرفة العمليات وأنا في حتة تانية خالص، كنت لابسة روب العمليات، وملامحي مشوشة في المرايات اللي كانت موجودة حواليا، بصيت قدامي علطول لقيت بنوته صغيرة عاملة شعرها ضفيرة طولية و ماسكة عروسة pink في ايدها، ملامحها كانت بريئة أوي، بعد شوية لقيت البنت ماسكة في إيدين واحدة ست وراجل… قعدت أدقق في ملامحهم، لحظة… دي أنا؟! دي ملامحي وأنا صغيرة… والست دي ماما، والراجل ده… بابا! المشهد كان غريب أوي، بابا ماسك إيدي وأنا صغيرة، ابتسمت وانا واقفة بتفرج عليهم وببكي، كان مشهد عمري ما شفته قبل كده، حاجة عمري ما عشتها، كنت بحاول أصدق اللي قدامي، بس فجأة المنظر كله اتغير، الراجل والست اللي قدامي سابو ايد البنت، وهي فضلت واقفة لوحدها وكانت بتبكي بحرقة، ومامتها وباباها كل واحد ماشي في اتجاه مختلف، سايبينها في نص المكان لوحدها، حاولت أقرب منها، أقولها متعيطيش، بس رجلي مكانتش بتتحرك، وأنا واقفة، الصوت حواليا بدأ يعلى، وحد قال: “النبض بقى ضعيف جدًا!، جهزوا جهاز الصدمات!”، الصوت ده كان بيرجعني للواقع، حسيت بحاجة باردة بتلمس جلدي، بعدها فجأة في ألم شديد كأن حد ضربني بقوة، صوت الجهاز بيعمل “بيب” عالي، حد قال: “مرة كمان!”، رجع الحلم تاني، البنت الصغيرة كانت لسه بتعيط، وأنا عاجزة أعمل لها أي حاجة، مشهدها وهي بتبكي خلاني أحس إن قلبي بيتقطع، في اللحظة دي حسيت بضربة قوية تانية، كل حاجة حواليا اتبدلت، النور اللي كنت شايفاه انطفى، وبقت الدنيا كلها ضلمة، واخر حاجة سمعتها صوت حد بيقول: “دخلت في غيبوبة…”.
خرج الدكتور من غرفة العمليات، و الكل كان واقف قلقان، و ماما كانت مرعوبة و صحابي كانوا بيحاولو يهدوها، الدكتور وهو بيتكلم معاهم كان واضح من ملامحه إن في حاجة، كل واحد كان واقف في مكانه، عيونه منتظرة منه أمل، كلهم كانوا منتظرين كلمة تطمنهم، الدكتور قال بصوت منخفض:” هي دخلت في غيبوبة إحنا عملنا كل اللي علينا.. بس اللي حصل ده مش طبيعي، ده مش مجرد حالة طبية عادية، ياريت تدعو لها”، الكلمات نزلت عليهم كالصاعقة، الكل بدأ يتهز من الصدمة، نور قالت للدكتور ببكاء :”يعني اي يا دكتور، يعني شمس مش هتفوق”، رد الدكتور عليها وقال:” الحالة كانت مستقرة أثناء العملية، بعدها حدث شيء كان في غاية الصعوبة، كان في تراجع كبير في النبض فجأة، واعتقد أن السبب ده نفسي، هي ممكن تكون مش متمسكة بالحياة علشان كدا استسلمت، مفيش في أيدينا حاجة نعملها غير الانتظار واحنا هنراقب حالتها بانتظام”.
صحابي من الشركة كانوا متجمعين على جنب، وملامحهم كلها خليط بين صدمة وذنب، أسماء، واحدة من المقربين ليا في الشركة كانت مسنودة على الحيطة، عينيها حمراء من كتر البكا، لكن صوتها كان متقطع وهي بتقول:”اول ما اكتشفت الخطأ، كانت خايفة علي كل الموجودين، جريت بسرعة علشان تنقذ العمال، بس نسيت تنقذ نفسها، ليه بس حصل لها كده؟!”، ماما مكانتش قادرة تصدق اللي بيحصل، قعدت على أقرب كرسي، دموعها بدأت تنزل بهدوء في الأول، لكن بعدين اتحولت لنوبة بكاء، كانت حاسة بالعجز، وده أكتر إحساس ممكن يكسر أم، وقالت:”بنتي مينفعش تسيبني… هي الوحيدة اللي باقيالي!”، الجملة دي فجرت حالة من البكا الجماعي، الكل بدأوا يواسوا بعض، لكن مفيش حاجة كانت قادرة تخفف الألم اللي مالي المكان الوقت وقف، وكأن العالم كله بيتنفس بصعوبة، الكل مستني أي معجزة، أي أمل، لكن الحقيقة كانت تقيلة أوي، أكبر من إن حد من الموجود يقدر يتحملها.
فجأة صوت خطوات سريعة لفتت انتباه الكل، كان بابا… داخل المستشفى بسرعة وعصبية، وعينيه مليانة غضب أكتر من القلق، وبمجرد ما قرب، صوته ارتفع وقال:” هي فين سيادة البشمهندسة، رجليها اتكسرت ولا جري لها اي، أدي آخرة الشغل والتعليم، مكانش هيحصل كل ده لو سمعت الكلام وقعدت في البيت، وادي النهاية، بنجري وراها في المستشفيات”، الكلمات نزلت زي السيف على الجو المليان حزن، ماما رفعت راسها فجأة، مسحت دموعها، ونظرة عنيها اتغيرت تمامًا، وقفت قدامه، وصوتها كان هادي لكنه مليان قوة :”بنتك دخلت في غيبوبة، الدكاترا بتقول مش متمسكة بالحياة”، بعدها ضحكت بسخرية وقالت:” هي دي النهاية فعلاً، بس النهاية اللي أنت بدأت تكتبها من زمان… شمس مكانتش محتاجة حد يحطمها، كانت محتاجة حد يوقف جنبها… أبوها! لكن انت؟ انت عمرك ما كنت ليها أب، أنا عايزة اعرف انت جاي ليه…. بتلومها؟!… انت كنت فين طول السنين دي؟ كنت فين لما كانت بتتعب لوحدها؟ كنت فين لما شالت اللي فوق طاقتها؟”، بابا سكت حاول يرد، لكنه مكانش لاقي إجابة ماما قربت خطوة منه، وعينيها كانت مليانة ملامة وقالت:”انت السبب الحقيقي في اللي هي فيه، انت اللي خليتها مضطرة تثبت نفسها عشان تعيش، انت اللي خلتها تحارب لوحدها عشان متحستش إنها أقل من حد”، ماما كملت، وصوتها بدأ يتهز من العياط:” شمس مكانتش محتاجة غير حضنك، غير دعمك، بس انت كنت بعيد وبدل ما توقف معاها، جاي دلوقتي تلومها؟!”،…. سكتت لحظة، بس كانت بتحاول تسيطر على صوتها اللي بدأ يتقطع وقالت: “انت علمتها تخاف من كل حاجة، خليتها تكره الرجالة والجواز، لأنك كنت النموذج اللي قدامها! انت اللي هزيت ثقتها بنفسها، كسرت كرامتها قدام نفسها، كل موقف كنت بتعمله معاها كان بيقتل جزء منها ،شمس دي ضحيتك!”.
بابا اتوتر، بص حواليه كأنه بيدور على حاجة يرد بيها، لكن مفيش حاجة طلعت منه، قعد على الكرسي جنبها، ومسح وشه بإيده، كان واضح إنه مكسور لكن مش قادر يعترف، المشهد كله كان تقيل، اخواتي كانوا واقفين، لكن محدش قادر يقول حاجة، بصوا لبعض بصمت، كل واحد منهم كان شايل في قلبه لحظة غلط فيها مع معايا، همس قربت من مرام وهمست بصوت متقطع: “فاكرة لما كنا بنضحك عليها؟ لما كنا بنقول إنها غريبة عننا ومش زي إخواتنا؟ مرام دموعها نزلت وهي بتفتكر كل مرة تجاهلتني فيها أو قللت مني، وقالت:” كانت بتحاول تلاقي مكان وسطنا… بس إحنا عمرنا ما ساعدناها”.
بعد وقت خرج الدكتور مصطفى المسؤول عن متابعة حالة شمس من العناية المركزة وكان ملامحه متعبة، لكنه حاول يفضل هادي قدام العيون المترقبة الكل اتجه نحوه بخطوات سريعة، أسئلة كتير خرجت في وقت واحد:
“هي عاملة إيه يا دكتور؟”، “في أي جديد؟”
رفع مصطفى إيده بإشارة هادية، وكأنها طلب للهدوء وقال:”أنا فاهم قلقكم، وده طبيعي، بس وجودكم بالشكل ده هنا مش هيساعد”، نور ردت عليه بصوت مكسور: “أنا مش ممكن امشي واسيب شمس أنا لازم اطمن عليها، شمس محتاجة حد جنبها!”، مصطفى بص لنور بنظرة هادية وقال: “شمس دلوقتي في حالة حرجة، أكتر حاجة محتاجاها إننا نديها فرصة تتعافى، والتجمعات الكتيرة مش في صالحها”، ماما بصت له بعينين مليانين دموع وقالت: “أنا مش هقدر أسيب بنتي، مستحيل”، قاطعها مصطفى بلطف:
“حضرتك مش هتسيبيها، وجودك أهم حاجة، لكن مش لازم يكون بالشكل ده، خدي استراحة، وكفاية حد واحد منكم يبقى موجود في كل وقت، إحنا هنا معاها وهنعمل كل حاجة علشان نطمنك”، ابتسامته كانت بسيطة لكنها مطمئنة، حاول يوازن بين صرامة موقفه وتعاطفه مع الحاضرين، لكنه في نفس الوقت كان بياخد لحظة قصيرة يلاحظ فيها تفاصيلهم، خاصة ماما اللي كان واضح إنها على وشك الانهيار بعد مواجهة بابا”.
الأيام كانت بتعدي ببطء كل يوم حد بيجي يطمن عليا، سواء من صحاب الجامعة، الشغل، أو العيلة، جو الغرفة اللي كنت فيها كان دايمًا مليان همسات وحكايات، صحاب الجامعة كانوا بيتلفوا حواليا في الاوضة، صحيح مكنتش واعية بس كنت حاسة بكل حاجة، نور كانت قاعدة وماسكة ايدي ودموعها بتنزل بصمت، لكنها فجأة اتكلمت: “شمس … فوقي بقي ، الحياة واقفة من غيرك، انتي كنتي علطول واقفة جنبنا كلنا… كنتي بتسمعينا ومش بتملي، كلنا كنا بنجري ونرمي همومنا عليك، ارجعي واحنا هنسمعك انتي، علشان خاطري ارجعي”، سارة، بصت لنور وقالت: “فاكرة لما كانت دايمًا بتقول إنها مش حابة تتكلم عن أهلها؟ كانت بتضحك، بس عينيها كانت بتحكي حاجات تانية… حاجات إحنا مفهمناهاش، بس دلوقتي احنا فهمنا كل حاجه”، سكتت وبعدين كملت بحزن :” ازاي كنتي شايلة كل ده في قلبك ومش مبينة، ازاي قدرتي تستحملي كل ده، كنتي علطول بتقولي انك ضعيفة، بس طلعتي اقوي واحدة فينا”، غادة شردت بنظراتها وقالت بصوت مليان ندم: “أكتر حد كان قوي قدامنا… وأكتر حد كان بيكسر من جواه”، كل واحد منهم كان بيتذكرني بطريقته.
مر 4 شهور وكنت لسه في غيبوبة، الدكتور مصطفى كان متابع الحالة عن قرب، مش مجرد طبيب بيعمل شغله وخلاص، لا… اهتمامه كان واضح وبيكبر مع الوقت، كأن حالتي بقت بالنسبة له تحدي شخصي، كان بيقول:” كل مرة كنت بدخل غرفة شمس، كنت باخد لحظة كدا اقعد أتابع ملامحها الهادية رغم أنها في غيبوبة لكن كانت زي مايكون بتحكي قصة طويلة كنت عايز أفهمها”، وفي يوم دخل مصطفى الغرفة ولقى ماما قاعدة جنب السرير، ماسكة إيدي بحنية، بص عليها بلحظة تعاطف قبل ما يقول بهدوء: “إحنا ملاحظين إن حالتها مستقرة نسبيًا، لكن مفيش أي تحسن لحد دلوقتي”، ماما رفعت عينيها ليه و ملامحها مرهقة جدًا وقالت:”يعني مش هتفوق؟”، مصطفى قعد على الكرسي المقابل ليها، وحاول يخفي تعاطفه اللي بقى أكتر من مجرد اهتمام طبي وقال: “مش بالسهولة دي …. شمس مشكلتها دلوقتي مش بس طبية… في حاجات جواها هي اللي مخلياها مش متمسكة بالحياة بالشكل الكافي”، ماما اتنهدت وقالت بصوت واطي: “كانت دايمًا بتقول لي إنها حاسة إنها لوحدها، حتى وإحنا حواليها”، مصطفى قاطعها بحذر وقال:”سمعت جزء من كلامك مع والدها لما جه هنا بدون قصد، وفهمت شوية عن اللي مرت بيه….الصراحة، لو كانت مكانها، مش عارف كنت هتحمل قد إيه”، الأم بصتله باستغراب وقالت:”إزاي يعني؟”، مصطفى بص ناحية السرير وقال بهدوء: “في ناس كتير بتفتكر إن الجروح اللي على الجسم هي أصعب حاجة، لكن الحقيقة… الجروح اللي بتكون جوا هي اللي بتفضل طول العمر، شمس واضح إنها اتألمت كتير، وعشان كده إحنا مش بنحارب الغيبوبة بس… إحنا بنحاول نرجع لها رغبتها إنها تعيش”.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية دموع مؤجلة واحتضان أخير) اسم الرواية