رواية رحماء بينهم الفصل الحادي عشر 11 - بقلم علياء شعبان
(رُحماءٌ بينهم)
]]الفصل الحادي عشر]]
“ كمثلِ الأُترُجَّةِ".
•••••••••
"مُصابة بالحيرة تتلوى داخل أروقة متاهتها، هل تُراها لعبة بين أيدي الجميع أما أن الضياع والحيرة هما طرفي النجاة!".
••••••••
زفرت باختناق وهي ترصد مرور السيارات بجوارها تتسابق معهم ويتسابقون معها في سباق لم يُرتب له في الأصل ولا يوجد له نهاية للفوز أو لجنة تحكيم مجرد أنها راحت تجري بين السيارات بجنون رهيبٍ فظن الناس بأنها تثير حنقهم لإظهار موهبتهم في القيادة بينما عقلها كان في منطقة بعيدة تستقر فيها شقيقتها الحبيبة والتي جاءها اتصالًا منها تُخبرها بخوفها المُريب من البقاء في ذلك المنزل وفي الحال أسرعت "سكون" لتخليص شقيقتها بصورة عاجلة وهي تنوي داخل نفسها أن تصب عليهم جميعًا جام غضبها قصاصًا لكُل عبرة انهمرت من جفون الأخيرة تشق الطريق إلى وِجنتيها، تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقٍ ثم تمتمت بحُرقة:
-فين البوابة بتاعة البلد الملعونة دي؟؟
راحت تدور بعينيها في المكان تبحث عن لوحة استرشادية تدلها على الطريق الصحيح للدخول عبر هذه البلدة، ضربت مقود السيارة بقبضتها وراحت تركن سيارتها على جنب قاصدة العزم على الترجل وسؤال الناس عمَّا تبحث، في غضون ذلك صدح هاتفها عاليًا واستبينت ماهية المتصل وكان والدتها:
-أيوة يا ماما!
أردفت "سكون" بصوت حانقٍ فيما سألتها "نبيلة" بلهفة قلقة:
-وصلتي ولا لسه؟!
سكون وهي تتفقد المكان من حولها بنظرات مدققة:
-تايهة تقريبًا مع إني مشيت على الـGPS ، بس مش فاهمة في أيه؟!
نبيلة وهي تجيبها بقلق بالغٍ:
-أنا قولت من الأول مكنش ينفع تروحي لوحدك.
ضغطت "سكون" أسنانها ثم باشرت حديثها الناقم:
-مين اللي كان هيروح معايا؟!.. بابا مثلًا! بابا اللي مش فارق معاه أي حاجة.. أنا مش هسيب أختي في محنة وأقف اتفرج علشان بابا أمر بدا.. سلام.
أغلقت على الفور دون أن تتلقى إجابة والدتها، تلفتت حولها قبل أن تركل إطار السيارة بيأس ثم تخرج زفيرًا حارًا يمتليء بكُل ما يستقر داخلها من طاقة سلبية مقيتة، قررت ألا تقف مكتوفة الأيدي وأن تسير بضع خطوات علها تجد دليلًا يعينها على الوصول في هذه الصحراء الشاغرة، بادرت بغلق السيارة جيدًا ثم سارت بشكل مُستقيمٍ مُحاذيةً للطريق وما هي إلا لحظات حتى وقعت عيناها على رجل يقف بجوار سيارة من الواضح أنها له وقد تعطلت منه في الطريقة، سارت إليه فورًا ربما يساعدها إن كان من المنطقة، وصلت إليه بينما هو مُنشغلًا بتصليح السيارة، تنحنحت "سكون" بصوت هاديء جعله يستدير نحوها رامقًا إياها بنظرات متسائلة؛ فتابعت ترد على إشارات عينيه المُستغربة لوقوفها أمامه:
-آسفة لو ضايقت حضرتك بس أنا مش من هنا وشكلي توهت.
انتصب واقفًا على الفور وراح ينفض الغبار عن ملابسه فاتضح لها في هذه الوهلة أنه ربما يكون المُصلح ويظهر ذلك بوضوح على ملابسه المُهترئة المليئة بالشحم، أومأ بثبات ثم قطع استنتاجاتها وقال بصوت أجشٍ:
-عايزة تروحي فين بالظبط!
ردت "سكون" بسرعة:
-قرية (......).
استقبل كلامها بإيماءة خفيفة وراح يرفع ذراعه مُشيرًا به إلى بركة مياه تفصل بين المنطقة التي يقفون بها وأخرى على الجانب المقابل وثمة مَركب صغيرة تتحرك لنقل الناس على الجانبين، زوت "سكون" ما بين عينيها ثم نطقت بتوجس:
-علشان أروح القرية لازم أعدي المركب دي؟!!
أجابها بإيجاز قبل أن ينزل على ركبتيه مرة أخرى ويواصل ما بدأ فيه من عمل:
-بالظبط.
رمقتهُ باستنكار وراحت تنظر إلى المركب تارة وأخرى إلى سيارتها التي تقف وحيدة دون رقيب وهي في حيرة شديدة من أمرها، تنحنحت بحرج قبل أن تسأله مرة ثانية:
-بعد إذن حضرتك، الناس اللي معاها عربية بيوصلوا للقرية دي إزاي!!
رد بثبات دون أن يلتفت لها:
-في مدخل للقرية ولكن إنتِ اللي مشيتي في اتجاه غلط.. وطبعًا لو بتفكري تسألي على المدخل تكوني بتضيعي وقت لأنها لفة طويلة أوي.
تنهدت "سكون" بيأس ثم سألته باهتمام:
-طيب حضرتك موجود هنا لوقت طويل تتكرم وتاخد بالك من عربيتي لحد ما أرجع؟ وهديك اللي إنتَ عايزه.
التفت إليها نصف التفاتة ثم قال بصوت جافٍ:
-سيبيها.
أومأت بهدوء ثم شكرته ببضع كلمات قبل أن تنزل إلى الضفة بتوجسٍ شديدٍ، وصلت بسرعة فوجدت المركب تستقر على الضفة ولكن لا يوجد مُصاحب لها، فظنته ربما يكون داخل هذه الخيمة المصنوعة من القش فتابعت وهي ترتفع بنبرتها قليلًا:
-هاي.. لو سمحت؟ يا صاحب المركب؟؟ في حد هنا يرد عليا؟؟؟
لم تجد إجابة على نداءاتها ولم تجد بُد من الاتصال بعِمران وسب بلدته وعائلته كذلك، كورت قبضة يدها بنفاد صبرٍ ولكنها تماسكت في اللحظة الأخيرة وقررت أن تعود إلى ذلك الشاب مرة أخرى وتطلب منه المساعدة كي تعبر للضفة المقابلة.
عادت بخيبة أمل، ضغطت أناملها سوية قبل أن تهتف بصوت مخنوقٍ:
-صاحب المركبة مش موجود!
سمعت تنهيدة حارة تخرج من بين شفتيه مُضيفًا معها بنفاد صبرٍ:
-يا فتاح يا عليم.
ارتبكت قليلًا حتى رأتهُ يستقيم واقفًا أمامها وبغموضه الغريب يقول حاسمًا لهذا الأمر:
-تعالي ورايا!.
أومأت تطيع تعليماته فتقدم هو وسارت خلفهُ إلى أن وصل إلى المركبة وصعد أعلاها، حدقت أسفلها وهي تجد مسافة مُريبة بين الضفة والبركة ولا يمكن تجاوزها إلى بالقفز فخشيت أن تسقط في الماء فتكلمت بصوت مبحوحٍ:
-حاول تقربها شوية يا كابتن؟
باغتها في هذه اللحظة بإمداد ذراعه لها دون أن ينبس ببنت شفةٍ فما كان منها إلا أن وضعت راحتها بين خاصته وراحت تتشبث بها في حرص وحذر فيما جذبها إليه بقوة جعلتها تصعد على متن المركبة بأمان.
تنفست "سكون" الصعداء وراحت تبتسم له بامتنان فيما بدأ في دفع الحبل إليه المرة تلو الأخرى حتى دفع المركب إلى الضفة الأخرى وما أن وصل حتى تابع بصوت رخيم:
-اتفضلي انزلي.
أسرعت بالنزول فورًا وقبل أن تنصرف من أمامه رددت بصوت هاديء:
-عربيتي أمانة عندك يا كابتن!
حرك رأسه في صمت ثم سحب الحبل عائدًا من حيث جاء.
••••••••••
-أنا هعتمد عليكم في المهمة دي باعتباركم شركة أمن موثوق منها يا عارف.
أردف "عثمان" بتلك الكلمات في ثبات؛ فأتاه صوت الأخير مُضيفًا بملامة:
-اعتبره حصل يا عثمان، إحنا اخوات ومستحيل أقصر في أي طلب تطلبه.
عثمان بصوت هادئ:
-دا العشم بردو، بس متنساش مش عايزه سواق وبس يا حبذا لو عنده خبرة في القتال والدفاع.
تنحنح عارف بتوجس قبل أن يسأل بفضول:
-تمام.. بس في مشكلة معاك؟
عثمان بإيجاز:
-لأ، مجرد إجراءات احترازية.
تبادلا سوية بعض الأحاديث البسيطة قبل أن يغلق "عثمان" المكالمة معه بعد أن دخلت "نبيلة" غرفة مكتبه، سارت نحوه فتابع بصوت رخيمٍ:
-في أخبار عن سكون؟!
خشيت غضبه فلم تخبره بالحديث الدائر مع ابنتها، أومأت سلبًا ثم تكلمت بصوت مخنوقٍ:
-آخر مرة كلمتها كانت لسه في الطريق.
أومأ في صمت، فيما تابعت "نبيلة" بحزن دفينٍ:
-عثمان، أنا مش قادرة أستحمل الوضع دا.
رفع بصره عن الأوراق الموضوعة أمامه ثم رمقها بنظرة جامدة وقال مُستنكرًا:
-أنهي وضع بالظبط؟!
نبيلة بصوت حانقٍ:
-خصامك مع شروق بنتنا، إنتَ أبوها يا عثمان والضنا مهما غلط بيفضل غالي، على الأقل احتويها مش تحرمها من بيتها وأخواتها؟ هو الوضع دا مش مضايقك؟!!!
عثمان هادرًا فيها بحدة:
-الوضع اللي إحنا فيه دا بسببها.
أغمضت "نبيلة" عينيها باختناقٍ قبل أن تردف بسخطٍ شديدٍ:
-البنت معملتش حاجة تستدعي كُل القسوة دي منك ولا راحت اتجوزت من وراك، إنتَ كنت وليها ورضيت بالجوازة وسلمتها له بإيديك.
عثمان بصوت أجشٍ:
-كل اللي قولتيه صح إلا إني كنت راضي عن الجوازة دي، بنتك كسرت ثقتي فيها لما اختارته وفضلته علينا.
نبيلة وهي تنفي بحُرقة:
-ليه متقولش إنك غلطت لمَّا خيرتها باستبداد بين عيلتها والشخص اللي بتحبه!!!
عثمان وهو يضرب بكفه على سطح المكتب ثم يهدر بصوت جهوريٍ:
-نبيلة!
في تلك اللحظة، استقامت واقفةً في مكانها ثم تكلمت بشجاعة لم تعهدها من قبل:
-زمان كُنت بتحبني وبتتمنى لي الرضا ولا نسيت عملت أيه علشاني!!، بس دلوقتي الفلوس غيرتك يا عثمان.. غيرتك لدرجة إنك بتقسى على عيالك وبتنام على فرشتك بضمير مستريح.
سكتت هنيهة قبل أن تهتف بحزم:
-أنا رايحة أشوف بنتي وهجيبها معايا القصر، ولا هتطردنا وقتها؟!!!
كور "عثمان" قبضة يده ثم زفر بقوة فوجدها تتجه نحو باب الغرفة وقبل أن تخرج منه أوقفها قائلًا بصوت حازم:
-مفيش داعي تروحي.. أنا هكلمك سكون تجيبها معاها.
استدارت "نبيلة" تقابله بوجهها مرة أخرى فوجدته يتحرك نحوها فأسرعت بالارتماء بين ذراعيه تبكي بصوت عالٍ.
•••••••••••
أنجزت إعداد الطعام بالقصر ثم استأذنت للذهاب باكرًا وكان زوجها بالخارج يقضي مهمة عاجلة طلبها منه "عثمان"، اتصلت "سهير" به كي يلحق بها إلى شقتهما بعد انتهائه، طرق الباب بصورة عاجلة وهو لا يستبشر خيرًا بعد اتصال سهير به، ابتلعت "سهير" ريقها بصعوبة بالغة قبل أن تتجه إلى الباب وتفتحه على مضض.
أسرع "علام" بالدخول وقبل أن تتكلم تابع هو بصوت قلق:
-خير يا سهير؟
تلاحقت أنفاسها المُضطربة قبل أن تتكلم بتلعثمٍ:
-بنتك سابت البيت ومشيت وقافلة تليفونها!.
قطب ما بين حاجبيه ثم هتف صدمةً:
-نعم؟! وليه؟! بسببي!!!
أومأت سلبًا قبل أن تضيف بتوترٍ:
-بنتك اتخانقت مع عثمان بيه وضربها بالقلم وخيرتني بين أني أمشي معاها أو أفضل في القصر!.
قدح الشرر من عينيه قبل أن يقبض على ذراعه ثم يصيح بصوت حادٍ:
-ضربها!! وإنتِ وقفتي تتفرجي عليه وهو بيضربها!!.
سهير وهي تقول بوجلٍ:
-بنتك شتمته يا علام.. وَميض اتجننت خلاص.
تركها على مضض ثم تابع مُستنكرًا:
-شتمته!!.. وَميض متعملش كدا أبدًا.
سهير باختناقٍ:
-عملت يا علام.
علام وهو يرميها بنظرة حادة:
-يبقى عندها أسبابها القوية، الحوار مش قلم، عثمان عمل لبنتي أيه تاني يا سهير؟؟.
أوجدت صعوبة في الكلام وهي تبتلع ريقها بالكاد خاصةً بعد أن التقط ذراعها وراح يضغطه بقوة شديدة، أردفت بخوف:
-بعد ما ضربها حبسها في القصر ورفض إنها تخرج.
علام يستفسر بغضب عظيمٍ:
-وخرجت إزاي؟!.
سهير وهي تتابع بنبرة مُمتعضة:
-اللي ما يتسمى، ابن الشيخ سليمان ساعدها تخرج ومش عارفة عنها حاجة لحد دلوقتي، أنا قلقانة عليها يا علام!.
أزاحها "علام" بقوة من أمامه قبل أن يقول بصوت أجش صارمٍ:
-إنتِ بتضحكِ عليا ولا على نفسك؟! البطن اللي مشالتش لا بتخاف ولا بتقلق يا سهير.
تطاير الشرر من عينيه ثم لفظ آخر كلمات حديثه المُتأجج مقررًا الذهاب حقنًا للدماء:
-ابن الشيخ سليمان دا كان ومازال بيحميها من نفسه حتى، ولو جه في يوم وقال لي عايز أمانتي هديها له من غير تفكير وهكون متطمن عليها معاه أكتر من وجودها معاكِ.
انهى حديثه ثم غادر الشقة وصفق الباب خلفه بقوة وسخطٍ.
••••••••
حل الليلُ وجلب معه كُل اللحظات العصيبة من شوق لغائب وحنين لفان وآهات ومأسي، تلحفت "وَميض" مِعطفًا شتويًا ثقيلًا أهداها إياه الشيخ "سليمان" ثم جلست بجوار الموقد الذي صنعه الشيخ "سليمان" من الحجارة وكذلك جلست "مُهرة" بجوارها بينما يجلس "سليمان" أمام الموقد مُباشرة ويبدأ في إعداد اكواب الشاي الساخن، تنهدت "وَميض" تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تتكلم بصوت هادئ:
-بس أنا اتفاجئت بيك مرتين يا حاج سليمان!، مرة لما كنت مع شروق والمرة دي.
نحا ببصره إليها ثم ابتسم ببشاشة فتابعت:
-إزاي حد بالبشاشة والسماحة دي كلها ويطلع أخو عثمان السروجي! وكمان إنك أبو أستاذ تليد!.
قهقه "سليمان" ثم قال بصوت عذب:
-ماله تليد بس!
وَميض باستنكار:
-عصبي وخُلقه يادوبك.
قهقه عاليًا اعترافًا منه بخفة ظلها وصراحتها الممزوجة بتلقائيتها، تكلمت "مُهرة" مُعبرة عن رأيها بمرح:
-بالعكس، أستاذ تليد عنده سعة صبغ فظيعة وبشوش زيّ الشيخ بالظبط.
مطت "وَميض" شفتيها ثم تابعت باستسلام لكونهما أكثر درايةً منها بخصاله:
-ممكن.
التقط "سليمان" البراد ثم صب الشاي داخل الأكواب وما أن فرغ حتى قدم لها الكوب قائلًا بصوت دافئ:
-مش ناوية تكلمي أهلك يا بنتي وتطمنيهم عليكِ!!
تغيرت ملامحها المنشرحة إلى أخرى عابسة، التقطت كوب الشاي ثم قبضت عليه بكلا ذراعيها تستمد منه بعض الدفء وراحت تقول بصوت مخنوقٍ:
-مش قادرين يفهموني يا شيخ سليمان، وصل بيهم الحال إنهم يسمعوا الإهانة ويبلعوها علشان لُقمة العيش!!
سكتت لبرهة ثم سألته باهتمام ممزوج بالحيرة والكسرة:
-لُقمة العيش للدرجة دي بتذل يا شيخ سليمان، إحنا بنتعامل على إننا عبيد وبيتقال لنا كدا بالحرف.
ابتسم "سليمان" ثم أضاف متهكمًا على حال شقيقه:
-زمن الرِق والعبودية انتهى من زمان يا بنتي، الاسلام خلانا جميعًا سواسية.
تكلمت "وَميض" تقول بامتعاض:
-بس الطبقية حاليًا بتساوي العبودية زمان، لمَّا صاحب قصر يعتبر مُدبر بيته عَبد وخادم له يبقى اختلفنا أيه عن الجاهلية!!
رفع "سليمان" الكوب إلى فمه يرتشف القليل منه ثم أنزله بهدوءٍ قبل أن يصرح بسلاسة وحنكة:
-الرغبة في الحرية أيام الجاهلية كانت أقوى من السيف المسلول يا بنتي.. العَبد زمان مكانش بالضعف اللي الناس متخيلاه، في عَبد الاسلام قوى نفسه الضعيفة وعَبد عافر علشان يكسب حريته حتى لو هيهد كُل حاجة بتحول دون الحصول على الحرية دي.
وَميض تزوي ما بين عينيها ثم تسأل بحُب استطلاع:
-تقصد إن لونهم أكسبهم صفة الضعف حتى لو مكانوش كدا؟!
أومأ مُجيبًا بصوت هادئ:
-بالظبط وطبعًا كان العَبد بيتكيف على الصفة دي وبيوهم نفسه بيها لحد ما بتتمكن منه لحد ما بيعاصر يقظة بتفوقه.
تنهد بروية قبل أن يتابع:
-تعرفي سيدنا بلال بن رباح؟!!
وَميض بتأكيد:
-مؤذن الرسول طبعًا.
تابع باستطراد:
-كان عَبد لسيد من أسياد قريش وهو أُمية بن خلف، لمَّا عرف عن إسلام بلال فضل يعذب فيه قدام جموع من الناس ظنًا منه إن بلال هيخضع له ويرجع عن اعتناقه الإسلام خاصةً إن معروف عن بلال الضعف وقلة الحيلة ولكن أُمية بن خلف تفاجأ من قوة تحمله لدرجة إنه كان بيتوسل إليه في الخفاء إنه ينصفه قدام جموع الناس علشان مكانة أُمية قدامهم كسيد متتزعزعش.
ابتسم "سليمان" باشتياق لهذه النفحات التي تبعث من ذلك الزمان ثم تابع بهدوء:
-وقتها دار حوار عظيم بين العبد وسيده لمَّا دخل عليه أُمية بعد ما فقد الأمل ويأس إن بلال يسب الرسول فقال له:
-"تقول كلمة لا تخرج عن دينك ولا تبعد بها عن ديني يرضى بها هؤلاء ويرضى بها أولئك، قد مشيت إليكَ باعًا يا بلال فامشي نحوي مثله حتى نكون في الوسط".
رد عليه بلال بمنتهى الصدق والمثابرة وقوة التحمل:
-"ليس بين الحق والباطل إلا الباطل، ولا ينزل الحق قدر إصبعٍ إلا خرج من صفته".
ابتسم "سليمان" بحنين ممزوج باللهفة والغبطة في معايشة هذه اللحظات متمنيًا لو كان يعذب فيصبر نُصرةً للإسلام:
-رفض بلال بن رباح لحد ما انتصر بقوة العزيمة والإصرار على سيده واشتراه أبو بكر وعتقه وزيّ ما تحمل نُصرةً للإسلام فالإسلام كمان نصره ورفع من قدره لدرجة إنه نال حريته وبقى مؤذن للرسول وخاض غزوات في صفوف المسلمين ومش بس كدا وقتل "أُمية بن خلف" في غزوة بدر.
حدقت "وَميض" فيه بشرود وإعجاب كبير؛ فأنهى "سليمان" حديثه مُبتسمًا في بضع كلمات:
-اللي عايزك تفهميه إن العبودية وَهم وطول ما معاكِ الحق متتنازليش بقدر عُقلة إصبع حتى.
مُهرة بانسجام واستمتاع:
-كلامك حلو أوي يا شيخ.
سليمان مبتسمًا بصفاء:
-ربنا يعزك يا بنتي.
تنحنحت "وَميض" قبل أن تقول بتمني:
-لو كُان في منك في حياتي معتقدش إني كنت هحس بالضياع أبدًا، يا بخت كُل أهلك وحبايبك بيك.
باغتها "سليمان" بابتسامة خفيفة قبل أن يطرق برأسه قليلًا ويعيد عبارتها بكثرة على مسامعه ولوهلة شعر بتأنيب الضمير عندما وضعها أمانة في أيدي أناس جعلوها تُعاني مرارة اليُتم ولو لم تفقه هذه الحقيقة، لام نفسه على التفريط بها، فكيف أنها تتمنى مجاورته بشغف كبير ولا تعلم أن هذه الفرصة جاءتها من قبل ولكنها لم تكن تُدرك عن الدنيا شيئًا.
تنهد "سليمان" طويلًا قبل أن يقرر النهوض وهو يقول بصوت هادئ:
-يلا يا عرايس على النوم.
تكلمت "مُهرة" في الحال:
-تصبح على خيغ إنتَ يا شيخ وأنا هتطمن على المزغعة وهمشي أنا ووَميض.
أومأ "سليمان" مُتفهمًا ثم قال بهدوءٍ:
-خلي بالك منها.
مُهرة بابتسامة هادئة:
-في عيني.
نهض "سليمان" وغادر المزرعة إلى بيته المجاور لها، كذلك نهضت كُلًا من الفتاتين وقررت "مُهرة" أن تطمئن على الأوضاع داخل المزرعة وكذلك الماشية قبل أن تذهب إلى بيتها بصحبة وَميض، دخلت "مُهرة" إلى الحظيرة بينما بقيت الأخيرة بالخارج وقررت أن تجوب المزرعة قليلًا إلى أن تنتهي صديقتها التي استأنست بمعرفتها مؤخرًا.
طافت أرجاء المزرعة تنظر إلى حقول الفواكه والخضروات والحظائر التي تملأ المكان، شعرت لوهلة بالسكينة بين أسوار المزرعة وكأنما عاشت هذه المشاعر من قبل، تابعت سيرها دون وجهة مُحددة حتى وقعت عيناها على أرجوحة مصنوعة الأحبال المتينة، تهللت أسارير وجهها سعادةً ودون تفكير هرولت تجلس على متنها وصوت قهقهتها يرتفع رويدًا وهي تجاهد كي تعلو بالأرجوحة عاليًا حتى استوعبت دفعة قوية جعلت الأرجوحة تطير للأعلى ثم صوته يقول بهدوءٍ:
-وكمان قاعدة على المرجيحة بتاعتي من غير ما تستأذنيني!!!
هدأت أنفاسها قليلًا ما أن سمعت صوته، لم تكن تقوى على الاستدارة له فتقدم هو حتى وقف قبالتها مباشرة بمسافة كافية لا تعوق الأرجوحة عن الانطلاق، ابتسمت بإحراج ثم قالت بخفوت:
-أصل أنا بحبهم أوي بس المسؤوليات والشغل بعدوني عن إشباع الجزء دا من شخصيتي.
ابتسم بهدوءٍ ثم أضاف بمزاح:
-خلاص يا ستي كُل ما تحني لطفولتك تعالي اتمرجحي شوية ودا تصريح مني.
تنهدت باسترخاء ثم سكن جسدها على الأرجوحة حتى تباطأت حركتها إلى أن وقفت، ظلت جالسةً عليها ولكنها قالت تستشيره بتوترٍ:
-تفتكر أنا غلطت في حق عمك لمَّا بجحت فيه!!
انطلقت ضحكة عالية من بين شفتيه ثم قال بسخرية:
-اطمني محدش يجرؤ على حق من حقوق عمي، هو بس اللي يقدر يعمل دا.
ابتسمت "وَميض" ثم قالت بنبرة هادئة:
-سبحان الله، البطن قلابة فعلًا، إزاي أبوك يكون أخو عثمان!.. دا مفيش منطق يقبل بالكلام دا أبدًا ولا عقل بشري يصدقه!!
ظهرت ابتسامة ساخرة على جانب شفتيه ثم قال ببرود:
-صدق أو لا تصدق، عثمان أخو سليمان.
نهضت عن الأرجوحة بسرعة ثم اقتربت نحوه وراحت تقف بمحاذاته ثم قالت باستنكار:
-بس دا عينيه كلها شرر وقت ما بيتكلم معاك وكأنه بيتمنى في اللحظة دي يخلص منك.. واضح أوي إنه بيكرهك.
أومأ "تليد" إيماءة خفيفة قبل أن يتابع بحسم:
-الأهم إنه مش بيحاول يأذيني أما أمانيه فتخصه لوحده، فلو أطلع الناس على أماني الناس لما تصافحوا إلا بالسيوف.
أطرقت برأسها لثوانٍ قبل أن ترفع نظراتها مرة أخرى ثم تستدير كي تواجه عينيه وبنبرة هادئة تقول:
-تليد!!
دق قلبه بطرب وصخب، فوقع حروف اسمه على لسانها بمثابة معزوفة عتيقة الطراز، نظرت داخل عينيه بقوة ففعل للحظات قبل أن يشيح بعيدًا وهو يجيبها بعد الاستفاقة:
-خير!
تنهدت "وَميض" تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تتابع بيأس:
-أنا اتعرضت لحادثة غرق وشوفتك تحت المية وقتها.
تنحنحت بإحراج عندما بدأ صوتها يتهدج بوهن ثم تابعت في محاولة منها كي تصمد:
-أنا حاسة إني أعرفك من زمان، مش مستغرباك ومش مستغربة نظراتك ليا!!
تنحنح "تليد" بخشونة قبل أن يستفسر بتوترٍ خفي:
-مش فاهم، مالها نظراتي ليكِ!
ابتلعت "وَميض" ريقها ببطء ثم تابعت بتوجسٍ:
-كأنك بتملي عينك مني! أو عاوز توصل لي رسالة أنا مش قادرة أفسرها!
حاول أن يتدبر ابتسامة مصطنعة وراح يقول بصوت مازح بينما يُخفي اشتياقًا مُميتًا في جوفه:
-عادي، كُل الناس بتقول لي كدا، دا قبول ربنا بيكرم بيه شخص بيحبه علشان كل الناس تحبه.
وَميض تسأله بحيرة وقلة أمل:
-تقصد إني موهومة.
تليد بثبات:
-بالظبط.
ضغطت "وَميض" على أسنانها في تلك اللحظة ثم هتفت باحتجاج ووعيد:
-أنا عمري ما سلمت دماغي للوهم وقريب هوصل للحقيقة بس وقتها هتكون إنتَ الخسران.
تليد بثقة كبيرة:
-أنا خايفة عليكِ إنتِ صدقيني، أصل أنا قريب لربنا أوي واللي بييجي عليا ربنا مش بيكرمه.
وَميض وهي ترفع أحد حاجبيها ثم تضيف باستخفاف:
-ليه؟ مبروك؟؟؟
تليد بابتسامة هادئة:
-أه؟!!
ضغطت على قبضتها ثم هتفت بسخط:
-لا والله؟ طالما إنتَ بقى مبروك ومكشوف عنك الحجاب، ما تقول لي كدا أي حاجة عني محدش يعرفها غير اسمي بالكامل والكلام الأهبل دا.
صمت لبرهة فقهقهت هي بسخرية ظنًا منها أنه قد عجز أمام التحدي المقرر عليه، رفع "تليد" بصره نحوها ثم قال بثبات:
-ولو قولت لك حاجة محدش يعرفها عنك، هتحلي عني؟!!!
وَميض تصدق على حديثه بتحدٍ:
-هحل.
حدق فيها لفترة طويلة قبل أن ينسى الأسباب التي لا حصر لها كي تباعد المسافة بينهما وفي لحظة اشتياق لها صرح بصوت أجشٍ يتلهف لمناداتها بتلك الحروف الغالية على قلبه:
-أُترُج.. اسمك أُترُج مش وَميض!!!!!!!!!
يتبع
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية