رواية لِبچَشان الفصل الرابع عشر 14 - بقلم عفاف العريشي
(النهاية)
خلال رحلة صديق لباقر قرر الذهاب خلسة إلى منجم ثروان لكي يتمكن من الولوج إلى القصر بواسطة الكهنة هناك ولا سبيل لديه سوى ذلك.
بعدما اتفق مع أحد قادة الجيش المخلصين للسيد وليد وأخبره عما في جعبته وعده بالمساعدة ولكن بشرط الحصول على مكانتهم مجدداً، وافق صديق وشق طريقه إلى منجم ثروان ليجده مكان أشبه بالجنة على الأرض، بوابة زرقاء ضخمة والأشجار الشاهقة الارتفاع المحيطة به، ولج بعد القائد وأخبره أنه سيصنع له ورقة تساعده على الولوج وقتما يشاء.
خلال رحلتهما القصيرة تأمل صديق ما يقابله من الكهنة والمساعدين وكذلك الأطباء إلى أن توقف واخبر القائد أنه سيلتقي به بعدما يفرغ من التقصي.
ذهب القائد وأكمل هو المسير إلى مكان محظور لم يتمكن بالبداية من قراءة تلك اليافطة المكتوب عليها عدم الدخول، ولج وهو بحالة من الاندهاش والرهبة خطى بتوجس إلى الأمام وهو يرى سيدة من عامة الشعب، ذلك الكاهن يجبر الطفل على شرب ذلك الشراب الأزرق الغريب حالما غادرت السيدة التفت إلى مساعده وقال:
_ الطفل مريض بشدة وان استمرت والدته بالمجيء إلى هنا امنعوها، وعلى أية حال سيموت الطفل خلال أيام.
صمت وأكمل حديثه بعد صمت دام لبرهة من الوقت قائلاً بتهكم:
_ هذا الشعب في سبيل السلطة يضحون بأرواحهم، الطفل مريض للغاية وإن أكمل حياته سيصاب بمرض بالعظام ولن يقوى على الحركة وإن أتت والدته وظهرت عليه أياً من الأعراض ستأخذه عنوة، وأشار إلى غرفة خلفه مكملا حديثه:
_ بجانب أقرانه.
غادر الكاهن ومساعده وبقى صديق يحدق بالباب الموصد قرر الولوج، نظر بتوجس إلى المكان لا يوجد أحد إلى أن فتح الباب وهنا كانت صدمته شاهد الكثير من الأطفال بغرفة واسعة، المئات من الأطفال الذي لم يتعدى عمرهم الثلاث سنوات كلا منهم بأنبوب يحوي مادة شفافة سائلة والأطفال بلا حراك ساكنين، من مختلف الطبقات يتوسط الغرفة أنبوب ضخم كالبقية بداخله فتاة ناصعة البياض مغمضة العينين وشعرها الأبيض الطويل متناثر حول وجهها وكتفيها ترتدي فستان أبيض طويل، ترتدي قلادة لطائر البوتو العظيم ،
خرج مسرعاً بعدما سمع صوت ذلك الكاهن المقيت عائداً، لكن قبل أن يخرج تمكن من قراءة الاسم الصغير المدون على الأنبوب ( بدر ابنه زاهر) هرول إلى الخارج وجد القائد بانتظاره وعادوا أدراجهما ومنه إلى الصحراء حيث يونس بعدما أرسل له موفق يخبره بما حدث.
*
بعدما انتهى صديق من سرد قصته هب يونس واقفاً،
قال بحماس:
_ إنها أمي، ثم وجه حديثه لموفق :
_ كم عدد الجنود رفقتك؟
أجابه باسماً:
_ عشرون ألف مقاتل.
وسأل بوفارديا:
_ وانتِ يا أميرة بوفارديا؟
أجابته بحماسها المعتاد:
_ ثلاثون ألفاً.
قال وقد اشتعلت عيناه بنار الانتقام:
_ لا حاجة للمماطلة إذن، سنذهب أولاً إلى ثروان، أنا وصديق وآيلا وعدد من المقاتلين، وأنتِ وموفق إلى لازورد وسنلتقي أمام القصر الملكي قبل بزوغ شمس الغد.
انتهى يونس من استعداده سريعاً، وصلوا إلى وجهتهم سريعا قبل غروب الشمس، يونس بالمقدمة يمتطى صهوة جواده يليه صديق وآيلا كلاً على جانبيه يسارعون الوقت وخلفهم الجنود، مروا كل واحد منهم بالبطاقة الخاصة بصديق على الرغم من ضيق الحارس وحنقه من اختلاف العملات، قادهم صديق إلى تلك الغرفة خلسة ولج ثلاثتهم بعدما قفزوا برشاقة من فوق السور، لم يروا شيئاً بالغرفة خاوية تماماً،
قال صديق بتوجس وصاح:
_ علينا الخروج من هنا الآن
خرج الجميع بسلامة والغريب أنه لم يتم كشف أمرهم مما أثار توجس وحيطة يونس.
قالت آيلا بضيق:
_ أظن أنه كان فخاً.
قال يونس وهو يحث جواده على الإسراع:
_ علينا الوصول إلى لازورد سريعاً.
قاطعهما صديق:
_ الأميرة بوفارديا بانتظارنا.
قال يونس:
_ لن نغير شيء سنلتقي بها كما اتفقنا أمام لازورد.
ثم أكمل حديثه بابتسامة خبيثة:
_ فقط سنغير الطريق.
*
هبط يونس والبقية بحذر شديد من فوق الأحصنة يمسك كلا منهم بسيفه وخلفهم الجنود، هبطوا بخندق مظلم خانق للأنفاس برائحته العطنة والماء الراكد والذي يحوي الكثير من الحشرات التي تقفز على أرجلهم، يونس يمسك بشعلة زيتية بالمقدمة وبالنهاية شعلة أخرى يمسك بها جندي من أصل خمسة رفقة ثلاثتهم.
وصل أخيراً إلى مراده سلم حجري يهبط أكثر للأسفل هبط بعدما أشار للبقية بان يتبعوه، ممر طويل وضخم أسفل الأرض تقطر المياه من حوائطه من كل صوب والأعشاب نامية بأركان الحوائط وقف الجميع بحيرة بآخر الممر وهم يرون خمس تشعبات مختلفة ومظلمة، رفع سبابته وابتسم بعدما ضغط على الخاتم الخاص بوالده، خرج منه ضوء أزرق وهاج أنطلق إلى أحد الممرات الخمس أمامهم وكان الثالث، نظر للخلف بابتسامه ليبادله الجميع ويكملوا طريقهم،
قال يونس بابتسامة تشفي:
_ فخ أحمق.
كانت الساعة تقترب من الثانية صباحاً حينما وصلوا إلى المكان المتفق عليه قبل حدود لازورد، كانت بوفارديا تتحدث مع موفق بحنق كالعادة، سمع الجميع صراخها وهى تقول:
_ يا أحمق يا عديم الفائدة هذه الطريقة خاطئة.
موفق بتهكم:
_ تتحدثين كالسيدة ونحن العبيد .
_ أجل أنا سيدة نبيلة.
_ انتِ بوفارديا ولست نبيلة، وحتى أنني لا أرى سيدات هنا.
كادت تصرخ موبخه إياه مجدداً، قاطعهما يونس قائلاً بهدوئه المكتسب بالأونة الأخيرة:
_ لا أسياد هنا، نحن أصدقاء نتكاتف جنباً إلى جنب.
تبادل كلا من موفق وبوفارديا نظرات السخط والتوعد للآخر.
قال يونس:
_ استعدوا سندخل الآن.
بوفارديا:
_ هل سنشن حربنا الآن؟
أجاب :
_ لا.
سألته بوفارديا:
_ إذن ؟
قال يونس وهو ينظر لأصدقائه :
_ سندخل خلسة أنا وموفق وصديق وآيلا.
ثم أشار إلى قبة القصر الشاهقة وأكمل مخرجاً الريشة الزرقاء من جيبه،
_ ستنتظرين إشارة زرقاء يا سمو الأميرة.
فهمت مقصده وأكمل هو وجهته رفقة أصدقائه، بقت الأميرة والقادة بانتظار إشارة البدء تحرك ثلاثتهم خلسة إلى البوابة الرئيسية للقصر، عدد الحراس لا بأس به نظر يونس بجانبه ورأى مراده، سيقفزون من فوق السور الشاهق بعدما يصعدون واحداً تلو الآخر الشجرة الضخمة بجانبه وسيساعدهم بذلك الضوء الخافت الصادر من الشعلات الزيتية.
تسلق يونس أولاً بخفة ونظر خلف السور وتأكد من خلوه من الخطر ثم أشار لكلاً من موفق وصديق وآيلا الذين لم يختلفوا عنه كثيراً وأشار يونس لكلا منهم بالذهاب إلى وجهة مختلفة، قبل الفراق عانقهم يونس ليلف الجميع أيديهم حول بعضهم بحلقة متعطشة للانتقام، قال يونس بخفوت:
_ لا مجال للخوف فالرب معنا دائماً.
رآهم أحد الحراس ورفع سيفه بالهواء لكي يهوي على موفق ولكن آيلا كانت الأسرع حيث أخرجت خنجرها وصوبته بمنتصف صدره قائلاً بابتسامة:
_ ضربة موفقة.
أومأ البقية ونظروا إلى جميع الاتجاهات والطرقات المنارة بالضوء الخافت المعتاد لينطلقوا بخفة على العشب، ذهب يونس إلى الساحة أولاً والتي بها بعض الأدوات التي ستساعده وهو سائل أتي به قبلاً في أثناء رحلاته بلازورد، قبل ذهابه ألقى نظرة على الدرج المؤدي للسجن الذي احتجزت به لونار، لم يكن يريد ذلك ولكن دقات قلبه العنيفة أجبرته على النزول بتوجس وفتح الباب شهق بصدمة مما رآه.
ذلك الأنبوب الذي تحدث عنه صديق أمامه يتوهج بزرقة بداخلة تلك السيدة الفاتنة مغمضة العينين وشعرها الأبيض المتناثر حولها يخفي جزءاً من ملامح موجهها،
ظل ينظر إليها وإلى الاسم المدون بخط منمق (بدر ابنه زاهر) اقترب يتحسس الزجاج بالكاد يصل لنصف قامتها إثر الأنبوب المرتفع بشكل ملحوظ، باتت عينين ممتلئة بالعبرات وهو يشاهدها أمامه لم يرها مسبقاً سوى بالصور على الهاتف المحمول الخاص به وألبوم العائلة، إنها والدته لا محالة فدقات قلبه كافية لإثبات ذلك، نظر حوله بخوف وتوجس وتلك الفكرة تجول بخاطره أيعقل أن التي أمامه جثمانها فقط، حاول لمس يديها من خلف الزجاج ولكن بلا فائدة، حاول مراراً كسر الأنبوب وكل محاولاته ذهب سدى، حاول فتحها بقفلها الفضي المستدير بلا فائدة اقترب بيديه من ذلك القفل الذي حالما اقترب منه أخرج شعاعاً أزرق دقيق ليصل لخاتم ريديس ويجذب يده بقوة يكاد يجزم أنه سمع صوت عظامه تتحطم، بعد ألم وصراخ مكتوم فتح الأنبوب بخط طولي من المنتصف ليغرقه ذلك السائل وهو يرى والدته تكاد تسقط، أمسك بها لا نبض ولا صوت لأنفاسها،
لا بالطبع لا يصدق أن التي بين يديه هى جثتها حاول عمل الإسعافات الأولية مراراً وهو يبكي كالطفل التائه ويفحص نبضها للمرة التي لا يعلم عددها، حتى أنه لم يشعر بضغطه على الخاتم الخاص باستدعاء رفاقه ولا لوجودهم جميعاً حوله أفاق على صراخ صديق:
_ عد لرشدك يا يونس إنها جثة.
صرخ وهو يبكي بعنف:
_ لا أمي على قيد الحياة أنا أعلم ذلك.
أبعدته آيلا قليلا وضغطت على موضع قلبها بلا فائدة وموفق صامت لا ينبث ببنت شفة، يونس كما هو لا يتحرك جميعهم يناظرونه بأسى لم يفق سوى موفق الذي أخرج الريشة الزرقاء من جوال يونس وركض خارجاً بأقصى سرعته لم يرى ذلك السهم الموجه إليه.
بالداخل تقبل يونس أن والدته لن تعود وحاول الوقوف إلى أن شعر بيد تمسك يده ظن أنها آيلا أو صديق نظر إليهما ورآهما ينظران أمامهما بدهشة لينظر هو الآخر إلى اليد الواهنة والعينين الزرقاء الوهاجة أمامه، والدته التي تصغره بأعوام تبكي أمامه لم يتمالك ذاته وركض جاثياً على ركبتيه يعانقها ببكاء وهى كذلك ظلا يبكيان سوياً إلى أن ابتعدت عنه وقالت وهى تتأمل ملامحه:
_ كبرت كثيراً يا صغيري.
لم يرد ولكنه بكى كالطفل وهو يعانقها ويقول بضحكة خافتة:
_ وأنتِ ما زلت شابة يا أمي.
ضحكت معه بوهن وابتعدت عنه ونظرت لكلا من صديق وآيلا بابتسامة هادئة وقالت بصوتها الرخيم بعدما استندت على يونس ووقفت:
_ هيا بنا يا صغيري لا وقت لدينا فوالدك بانتظارنا.
توقف يونس وهو يناظرها بدهشة قائلاً:
_ أمي أبي...أبي، صمت لا يعلم بماذا يخبرها.
سألته :
_ أين أباك يا يونس؟
أجاب:
_ أبي، وقص عليها ما حدث.
لم تبكِ ولم تنهار كما توقع بل إنها وقفت ونظرت أمامها، مدت يدها إلى يونس قائلة:
_ أعطني خاتم ريديس.
امتثل لأوامرها وأخرج الخاتم لها، وهى بدورها أخذته وأخرجت القلادة التي ترتديها الخاصة بالعملة قالت بضعة كلمات بلغة غريبة ليتحد كلاً من العملة والخاتم مكونان قلادة زرقاء متوهجة لطائر البوتو.
استدارت إليهم بعد ازدياد توهج عيناها وقالت:
_ سأعود ولكن قبلاً على كلا منكم الإنصات إليّ جيداً.
أتصتوا جميعاً إليها ليقف يونس أمامها معانقاً إياها وقال:
_ سأنتظرك يا أمي.
لم تجب عليه ولكنها اكتفت بالابتسامة خاصتها الهادئة، وابتعدت لمنتصف الغرفة لتعاود الحديث بتلك اللغة الغريبة، ارتفعت قليلاً بالهواء وازداد توهج عينيها وفي أقل من الثانية اختفت.
*
نظر يونس إلى صديق وآيلا وهنا أدرك غياب موفق قال بقلق:
_ موفق، موفق أين هو؟
قالت آيلا:
_ لقد كان هنا يا يونس، صمتت وهى تتذكر ما فعل وقالت بعدما صمتت هنيهة:
_ لقد أخذ الريشة وركض خارجاً.
كاد يجيبها ولكن صوت تحطم البوابة الرئيسية الضخمة وصهيل الأحصنة وصراخ الجنود كان الرد.
قال وهو يركض خارجاً:
_ لا حاجة للمعرفة آيلا، وصاح بحماس رافعا سيفه.
خرج راكضاً رأى بوفارديا وخلفها ثلاثة أحصنة، الخاصة بثلاثتهم ليمتطي كلا منهم صهوة جواده بخفة ويتسابقون إلى الساحة الشاسعة.
رأى يونس حارساً ملثما بالقرب منهم ملقى على الأرض وحوله الكثير من السهام ونحره المشقوق، ابتسم لعلمه من الفاعل.
موفق بالمنتصف يقاتل ببسالة رأى صديق جندي يحاول طعنه من الخلف هرول إليه وقتله، ليصيح موفق بابتسامة:
_ دائما تأتي بالوقت المناسب يا رجل.
قال صديق بمرح يناقض الموقف وهو يقف على صدر جندي ويطعنه بسيفه:
_ هكذا أنا يا رفيق، ولا تقلق حيال ذلك سنتحدث بعد أن نفرغ من هؤلاء الأوغاد.
ابتسم يونس عليهم وهو يناظر كلاً من آيلا وبوفارديا المتكاتفتين تقاتلان بقوة لا تليق إلا بهما، ركض إلى المنصة حيث مراده ذلك البغيض المدعو يعقوب، يقتل من يقف بطريقه بلا رحمة حتى أنه أصيب بجروح بمفترق أنحاء جسده ولكن كان الانتقام هو محركه وهو يراه أمامه، ينظران لبعضهما بوعيد لا يسمعان صوت الصراخ والسيوف حولهما فالمعركة محسومة بالنهاية لصالح يونس،
قال هادي :
_ أرى أنك لا تتعلم من المرة الماضية يا صغير.
لم يعطه اهتماما وصاح وهو يهاجمه بسيفه، يعقوب يتفادى ضرباته ويهاجمه هو الآخر جرحه يونس بصدره ولم يتأثر، لا يباليان بالجنود أسفل أقدامهما يتقاتلان بمنتصف الساحة فوق أرضية المنصة الملكية سقط سيف يونس ليبتسم غريمه بتشفي وخبث يهاجمه بقوة وجرحه جرح بالغ سقط يونس على المنصة أمامه، ابتسم يعقوب وهو يرى نظرات اليأس بعيني يونس وهو يرى جنوده يُقتلون بواسطة الكثير من الجنود الذين يظهرون بلا توقف وأصدقاؤه يقاتلون ويحمي كلا منهم الآخر نظر إلى السماء بعيداً عن وجه ذلك البغيض أغمض عينيه باستسلام تام، رفع الآخر سيفه وهوى على جسده.
لم يشعر بأي ألم وفتح جفنيه بعد شعوره بقطرات الدماء الدافئة على وجهه تقف أمامه بردائها الأبيض المتطاير الذي بات ملطخا بالدماء ويخرج من منتصف ظهرها نصل السيف الحاد، لم تسقط ولم تتحدث، رفعت وجهها بقوة وهى تحدق بعيني ذلك الخبيث وهو يقهقه عليهما ظل يقهقه لدقائق وقال وهو يلهث:
_ أعتذر يا عزيزتي بدر، عليكِ مكافأتي لأنني سأرسلك لوليد حبيبك.
لم تشح بنظرها عنه وهى تراه يبتسم، أمسكت بسيفه المغروس بمعدتها وأخرجته بنفس القوة والتئم جرحها لم ترى ذلك الواقف خلفها وهو يرى دمائها تختفي أصبح ردائها أبيض ونقي تماماً، ابتسمت وهى تلقي سيفه بعيداً وتدور حوله قائلة:
_ لم تكتفي بخيانة صديقك، بل قتلت العائلة الحاكمة وظلمت الشعب، وقتلت النساء والأطفال بلا رحمة، وأنت كذلك ستقتل بلا رحمة.
قالت آخر كلماتها وهى تخرج سيف أزرق وهاج، مثل عينيها، وقفت أمامه بقوة وسحبت تلك القلادة المحيطة بعنقه التي تحوي دماء وليد، لتستأنف حديثها:
_ قتلت أهم شخصين بحياتي، رفعت سيفها وبترت ذراعه تزامنا مع اختفاء جنوده وتوجه أنظار جنود يونس وأصدقاؤه للمنصة.
تابعت:
_ وليد الذي وثق بك زوجي وكل ما أملك.
صرخ متألماً وهى لم تتأثر وكأن قلبها خلى من الرحمة، رفعت السيف مجدداً وبترت ذراعه الأخرى وهى تقول:
_ أبي وأمي الذي تسببت بموتهما.
سقط أمامها رفعت السيف مجدداً وهى تصرخ بعدما تلطخ زيها الأبيض بدمائه السوداء:
_ لونار وجواد وعائلته.
هوت بالسيف على قدمه ليصرخ متألماً مجدداً ولم يتحرك أحد الجميع يشاهد العدالة وهى تتحقق أمامهما عودة الحق وردع الظلم الذي أودى بحياتهم وحياة أطفالهم.
صرخت قائلة:
_ الأطفال الذين توفوا جراء شرابكم اللعين.
صعد كلاً من موفق وصديق وآيلا وبوفارديا بجانب يونس، أصبح يعقوب قطعة سوداء أمامهم،
رفعت السيف بضربة قاضية حاسمة ليهوى بمنتصف قلبه، رفعت عينيها ومدت يديها ليونس الذي لبي النداء وأمسكها ليصرخ الجميع بحماس فرحين بانتصارهم،
قالت بدر بهدوء وهى تعانقه:
_ احبس أنفاسك.
لم يفهم مقصدها ببادئ الأمر، شعر بالأرض تتحول لهلام أسفله فتح عينيه وهو يشعر بالماء يغمره، إنهم ببحيرة الموتى دفعته بدر جانباً وانطلقت بمهارة إلى يعقوب أخذته إلى القاع لحق بها يونس بخفة يحاول جاهداً رؤية ما يحدث حاول الاقتراب وهو يرى والدته تقف باتزان غريب فوق القاع الطيني وأمامهما يعقوب مثبت بأصفاد على الأرض الطينية، أخرجت السيف الوهاج مجدداً وذرعته بمنتصف القاع بقوة والقلادة تنير المكان بقوة رأى يعقوب وهو يتقيد بمنتصف تابوت أزرق خرج بعد أن شُقت الأرض بفعل للسيف، اهتزت المياه حوله والضوء الصادر من القلادة يزداد توهجاً نظرت إليه بدر بابتسامة رفعت قبضة يدها إليه علامة على التشجيع والصمود، أغلق جفنيه حينما ازداد التوهج الذي تستحال معه الرؤية، وعندئذ لم يشعر بجفنيه ولا جسده.
*
صدح صوت بوفارديا وهي تزعق بوجه موفق قائلة:
_ يا غبي ارفعها جيداً، أنت فاشل هكذا بكل شيء.
لم يجيب كعادته ولكنه اكتفى بنظرة تهكمية.
ابتسم يونس وهو يشاهد ما يحدث بحديقة القصر من تزيين وترتيب لليوم.
سار باتجاه خزانته وأخرج جواله بما فيه من كتاب لبجشان وعلبة الخاتم الفضية وتلك القلادة الممتلئة بالطمي ابتسم وهو يقلبها بين يديه وقال بخفوت والعبرات تزين جفنيه:
_ أوحشتني كثيراً يا لونار، حقاً اشتقت لكي.
صمت وهو يتذكرها وتابع حديثه قائلاً:
_ سأنتظرك دائماً، ستظلين حية بقلبي دائماً.
ارتداها سريعاً وهو يستمع إلى صوت الخادمة تقول:
_ مولاي، حان الوقت.
*
صعد المنصة وهو يرتدي ذلك التاج الذهبي الذي رآه أول مرة أتي بها إلى لبجشان أنحنى الجميع أمامه،
رفع يده وقال بصوت جهوري:
_ اليوم ترفع رأيه مملكة جديدة بلبچشان، لا إمارات متفرقة بعد الآن.
رفع الجميع أيديهم والتي لأول مرة خالية من الوسوم وأعناقهم نقية من دنس العنصرية يصرخون فرحين بما حدث،
ابتسم يونس وهو ينظر لأصدقائه الداعمين له دائماً، صديق أول صديق له بلبچشان، موفق أخاه الرائع الشجاع آيلا صديقته الشجاعة وكذلك بوفارديا الأميرة القوية.
*
يلهو هنا وهناك يقترب من الشاطئ تارة ومن الأشجار تارة أخرى يدحرج الكرة الخاصة به وهو يضحك بسعادة، الرياح تعبث بملابسه البيضاء وعينيه الزرقاء البريئة، يركض خلف الكرة الطائرة بفعل الرياح لم يأخذ حذره وهو يقترب من الشاطئ الأزرق المتلاطمة أمواجه أمامه محاولاً جذب كرته الطافية أمامه فوق المياه، نظر خلفه لعله يجد أحداً يساعده ولكن دون جدوى، التفت أمامه مجدداً ضرب بأوامر وتحذيرات والده بعدم نزول المياه عرض الحائط، أمسك بها حاول العودة ليجد نفسه بمنتصف البحيرة دون تفسير لما يحدث، شعر بشيء يجذب قدمه بقوة لم يستطع الصراخ نتيجة لحبس أنفاسه القصيرة حاول المقاومة ولكن ذلك الشيء المجهول يجذبه وهو لايزال مطبقاً على ساقه، فتح عينيه بعدما شعر برمال أسفله فهو بقاع بحيرة الموتى، صندوق كبير يهتز بعنف أسفل المياه، صرخ أسفل المياه ليبتلع الكثير منها وأخيرا رأى أباه يجذبه لحضنه عائداً به إلى الشاطئ، جلس الطفل بجانب والده وهو يسعل بقوة.
على حين غرة انطلق ضوء أزرق وهاج قوي من منتصف البحيرة إلى السماء يباشره طائر أزرق ضخم يرفرف بجناحيه العريضة القوية منطلقاً كصاروخ لا يتوقف، فتح الأب عينيه على آخرهما من هول ما يرى قائلا بخفوت:
_ طائر البوتو العظيم!
-تمت-
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية لِبچَشان) اسم الرواية