رواية رحماء بينهم الفصل الرابع عشر 14 - بقلم علياء شعبان
(رُحماءٌ بينهم)
“ كمثلِ الأُترُجَّةِ".
الفصل الرابع عشر
••••••••
كان لقائه مع شقيقته لقاءً حارًا حيث افتقد للارتماء بين ذراعيه في منتصف أزماته؛ فعانقته باشتياق كبيرٍ فقد كانا ومازالا الأقرب إلى قلوب بعضيهما والأكثر صداقة على الإطلاق ويرجع ذلك إلى فارق السن الضئيل بينهما حيث تشاركا كُل لحظات الطفولة السعيدة والمؤلمة معًا؛ يكبرها عُمر بعامين فيشعر بالمسؤولية دائمًا نحوها وتشعر هي بالأمومة لاحتواء قواه الخائرة مؤخرًا. جلس يتحدث معها لوقت طويلٍ وقد تبادلا أطراف الحديث المتنوع وأخبرها عن حبيبته المفارقة وبدورها نصحته أن يعبر من هذه الأزمة بسلام ولم تنسَ أن تحترم الضمير في طبعها وواجهته بأنه البادئ في الخطأ حتى دخل الليل في أخره فقررت شروق أن تنضم إلى شقيقتها ووالدتها في سهرة نسائية سرية فيما تجمع الثلاثة شباب لتجديد عهد الماضي قبل أن يُلقب صديقهما بالمتزوج!
-بودي أقول لك إنك ارتكبت جريمة في حق نفسك لمَّا قررت تتجوز وتسيب العزوبية وحلاوتها بس خلاص بقى!
أردف "غسان" بتلك الكلمات وهو يبتسم ابتسامة ماكرة جعلت "عُمر" يرميه بنظرة جامدة ثم يقول بغيظٍ:
-اختي اللي يتجوزها ميندمش لحظة إنه اتخلى عن الدنيا كلها علشانها.
انطلقت قهقهات "غسان" وكذلك "عِمران" الذي انتظر رؤية غضب الأخير حينما يعبث "غسان" معه، وهنا تكلم يقول بلهجة واثقة:
-الجواز بالنسبة لي أحلى من مليون عزوبية يا صايع.
ضحك "عُمر" ملء شدقيه ثم أضاف بانتصار وحسم:
-بأيدك يا عِمران وقريب هحصلك ونسيب الصايع دا لوحده يرمرم.
رفع "غسان" أحد حاجبيه ثم سأله بترقب:
-ومين سعيدة الحظ إن شاء الله؟! يا بني إنتَ طفشتهم الواحدة ورى التانية بلسانك اللي بينزل بكابورت دا!
عُمر وهو يرد باعتراض:
-أصل بصراحة مليش في المياعة، أنا عاوز واحدة دُغري ولا بئس ببعض الدلع بس جوا بيتها.
انطلقت ضحكة ذات صخب عالٍ من فم "غسان" وهو يستدير بعينيه إلى صديقه الآخر ثم يتحدث إلى عمر:
-قول له يا عُمر عن البنت اللي كانت عايزة تخلف بس متتخنش!
عِمران يقول متعجبًا:
-مين دي اللي عايزة معجزة إلهية!!
عُمر ينفجر فمه عن ضحكة ساخرة ثم يرد:
-يا عم دي كائن أهبل، قال أيه؟ عايزانا لما نتجوز نأجر رحم يخلف لها علشان متفشولش الست موناليزا من هرمونات الحمل.
عِمران يقهقه بدهشة ويسأل بفضول:
-وعملت أيه معاها دي؟!.
عُمر بسخرية:
-سفرتها المريخ هي وواحدة تانية قادرة على التحدي وعلى المواجهة.
انطلقت ضحكاتهم في كافة أرجاء القصر أثناء جلوسهم داخل غرفة المعيشة، التفت "عُمر" إلى غسان ثم قال بملل:
-ما تعمل لنا فنجانين قهوة كدا علشان نفوق والسهرة تطول!!
غسان بانصياع وحماس:
-أنا بقول كدا بردو.
نهض "غسان" على الفور ثم توجه خارج الغرفة إلى المطبخ لصُنع فناجين القهوة بنفسه بعد أن ذهب جميع العاملين بالقصر إلى بيوتهم لتأخر الوقت، تنحنح "عِمران" بهدوءٍ قبل أن يباغت الأخير بسؤال مهتم:
-عُمر!!
انتبه له وظل صامتًا فتابع الأخير:
-إنتَ مُقتنع إنك غلطت في حق رويدا؟!
تنهد عُمر تنهيدة طويلة قبل أن يتابع بصوت فاترٍ:
-وهي مغلطتش؟!.
افتر ثغر "عِمران" عن ابتسامة خفيفة ثم قال بلهجة حازمة:
-سؤالي واضح!
عُمر يجيبه باستسلام:
-أه غلطت بس أنا كان ليا أسبابي يا عِمران!
عقد ما بين حاجبيه وقال بثبات:
-وأيه هي أسبابك؟!.
عُمر مُضيفًا بلهجة ثابتة يقدم مبررات واهية لإقناع الأخير:
-أنا مبقيتش عمر بتاع زمان، كنت خايف إنها لو عرفت بعجزي متحبنيش وتكمل علشان فلوسي!!.. وكُنت صح لأنها عرفت بعجزي في النهاية ومفكرتش ترجع أو تطلب مني نكمل، خافت من المسؤولية اللي هتتحط فيها لما تتجوز عاجز.
سكت لبُرهة قبل أن يتابع بصوت مُتهدج:
-وبصراحة عندها حق، أي بنت في الدنيا عايزة سند وحماية ليها، مش واحد هي اللي تسنده!!
تجهم وجه "عِمران" مُستنكرًا ما يصدقه في نفسه من أفكار سلبية قادرة على إماتة سُبل الأمل داخله، فتابع بصوت ثابت يغلفه غضب وعتاب:
-يا بني إنتَ لا عاجز ولا معيوب، إنتَ في امتحان ربنا بيختبر فيه صبرك، حاول تتقبل الابتلاء باعتبار إنك قوي مش ضحية مغلوبة على أمرها!
سكت هنيهة قبل أن يضيف بثقة كبيرة:
-على فكرة توقع السوء بيسوء صاحبه وأفكارك السامة لو عششت في دماغك هتهد أعظم الفُرص اللي ربنا وهبها لك لأنك مش هتشوفها فرصة من كُتر التشاؤم، اتأكد تمامًا إن ربنا أكيد بيحبك ومش يمكن كانت (رويدا) عوضه ليك وإنتَ اللي رفضت!!
بدأ "عُمر" يشيح بوجهه للجهة الأخرى مُكابرًا في ضيق فقرر "عِمران" ألا يضغط عليه أكثر من ذلك وأن يمنحه فرصة مراجعة هذه النصائح بينه وبين نفسه، ساد الصمت بينهما لدقائق قبل أن يستدير "عُمر" مرة أخرى ثم يتنحنح بهدوء ويقول بفضول جامح:
-أنا بدأت أفتكر حاجات كتير من حياتي قبل الحادثة وافتكرت حاجات تانية مستغربها!
قطب "عِمران" ما بين حاجبيه قبل أن يتمتم بصوت هادئ:
-حاجات أيه؟!.
عُمر يتابع بحيرة:
-بفتكر مشاهد بيني وبين وَميض بنت عمي علام، هو كان في حاجة بينا؟!
ثبتت نظرات "عِمران" عليه وقد تسمر في صدمة ولُجم لسانه عن الكلام وفي هذه اللحظة تنحنح "غسان" وهو يندفع نحوهما ثم يضع الصينية على الطاولة وقد سمع سؤاله الأخير، تبادل مع "عِمران" نظرات مُرتبكة خفية، ضيق "عُمر" عينيه وراح يسأله بتوجسٍ:
-مردتش عليا؟!
تنحنح "عِمران" بتوترٍ ثم شرع يرد عليه بتوترٍ وهو يهز رأسه بنفي:
-لأ، كُنتوا صحاب بس مفيش بينك وبينها أي حاجة.
عُمر بشكٍ وتيه:
-خالص!!
عِمران يومىء برأسه مؤكدًا:
-خالص.
تدبر "غسان" ابتسامة فاترة يشوبها التوتر وهو يقول:
-الكلام على أيه يا رجالة؟!
عُمر باستسلام يرد:
-لا ولا حاجة، هات يا بني القهوة علشان بدأت أنعس.
قام "غسان" بالتقاط الصينية ثم مررها من أمامهما ليتناول كُل واحد منهما فنجانه، شرع "عُمر" يرتشف من فنجانه فيما طفق الآخران يتبادلان نظرات مُترقبة يشملها الارتباك فقد وصل "عُمر" بذاكرته إلى نُقطة محظورة لم يتوقع أحدٌ أن يرصدها عبر شرائط ذاكرته مرة ثانية فقد أصدر "عثمان" فرمانًا صارمًا عقب حادثة ابنه واكتشاف فقدانه لأجزاء وفترات من حياته ألا يُذكر أمام ابنه بأنه كان مُعجبًا بالفتاة ذات يومٍ حتى أنه قرر خطبتها والزواج منها وكانت هذه الطامة الكُبرى بالنسبة لعثمان السروجي الذي لا يقبل أن يتزوج ابنه من خادمة لا أصل ولا نسب لديها وقتها استغل تعرض ابنه لحادثة وقرر نفي "وَميض" عن القصر تمامًا حتى لا يتذكر "عُمر" مشاعره ناحيتها مُطلقًا بينما لم تَكِن هي لابنة أية مشاعر وكان مجرد صديقًا لها واليوم لا يجمعهما حديث نتيجة تهديد عثمان لها.
(على الجانب الآخر)
داخل غرفة "سكون" التي تقبع في نهاية غرف القصر فهي مُحبة للهدوء والابتعاد عن الأجواء المتوترة داخل القصر، نامت "نبيلة" على الفراش وفردت ذراعيها كي تتوسد كُلًا منهما واحد فتضمهما أسفل ذراعيها باشتياق في لقاء مُميز تمنته طويلًا لإشباع غريزة الأمومة التي تستعر بين ضلوعها لثلاثتهم، أطلقت "سكون" ضحكة صاخبة وهي تقول بتذمرٍ وحنين:
-فاكرة يا ماما لمَّا شروق كانت بتمشي وهي نايمة؟!!
ضحكت "نبيلة" بسعادة واشتياق وراحت تهز رأسه تؤكد عليها بأنها لا تنسى من أمرهما شيئًا فيما عبس وجه "شروق" التي تابعت بغيظٍ مُضحك:
-طب فاكرة يا ماما (الفيلة) اللي كانت بتشوف الأكل في رمضان وتضعف وتفطر قبل الأذان بدقايق!!!
انطلقت ضحكة طويلة من فم "نبيلة" ثم شرد الثلاثة في أحد المشاهد التي تخص "سكون" في يوم من أيام رمضان عندما كانت طفلة بالصف الأول الابتدائي وكانت ذات جسد ممتلئ ووجنتين منتفختين في توردٍ وذات قامة قصيرة نسبة إلى طولها، امتلكت وقتها روحًا خفيفًا تجعل كل من يقابلها يقع في هواها، تذكرن ذلك اليوم بالتحديد قبل موعد آذان المغرب بعشر دقائق!.
-يلا يا سهير، جهزي السُفرة فاضل عشر دقايق على المغرب!!
أردفت "نبيلة" بتلك الكلمات وهي تتحدث إلى الأخيرة أثناء توقفها على عتبة باب المطبخ، ألقت جملتها على عجلة من أمرها ثم قررت أن تتحرك نحو الغرف القابعة بالطابق الثاني لاستعجال الجميع وبعد أن خطت خطوتين صاحت متذكرةً:
-أه صحيح، أول حاجة تحطيها على السفرة العصير والتمر علشان يكسروا صيامهم.
تحركت صعودًا للطابق العلوي تستعجل الجميع، فيما كانت هناك عيون تترقب ذهابها وتنظر إلى المائدة بشراهة ولعاب يجري في لهفة، انتظرت حتى اختفت والدتها ثم سارت "سكون" على أطراف أصابعها حتى وصلت إلى الطاولة ولكنها عبست في خيبة أمل حينما لم تجد طعامًا عليها وفي هذه اللحظة سمعت صوت خطوات سهير تتحرك من المطبخ فأسرعت برفع غطاء الطاولة ثم اختبأت أسفلها فيما بدأت "سهير" ترص الصحون بنظام وكذلك وضعت العصير والتمر ثم توجهت إلى المطبخ لجلب باقي الصحون، تابعت "سكون" خطواتها التي توارت خلف الحائط الذي يفصل الردهة عن الممر المؤدي للمطبخ ثم أسرعت بالخروج مرة أخرى وهي تتفحص أطباق الطعام بفرحة عارمة وكالعادة لم تستطع التحكم في نفسها ما أن رأت الأطباق الشهية حتى لمعت عيناها وراحت تتناول من كل الأطباق الموجودة أمامها ثم تلتقط دورق العصير وتحاول رفعه إلى فمها والذي كان ثقيلًا عليها إلا أنها نجحت في رفعه إلى فمها في النهاية وراحت تتجرع الكثير منه حتى انسكب الكثير منه على ثيابها وقبل أن تنزل الدورق عن فمها سمعت صوت صراخ مصدوم يأتي من خلفها:
-سكووووووووون!!
في هذه اللحظة، سقط دورق العصير منها وتجمدت في مكانها حتى وجدت من يقبض على كلا ذراعيها ثم يديرها للجهة الأخرى عنوةً، رمقتها "نبيلة" بنظرات قوية وغاضبة فيما جاهدت هي أن تبتلع ريقها وراحت تقول ساخطة في حُزن:
-كُنت عشطانة يا ماما وجعانة.
نبيلة وهي تضغط على أسنانها بغيظٍ:
-تاني يا سكون.. تاني!!!
كانت شروق تقبض على ذراع وعمر يقبض على ذراعها الآخر فيما صرخت "نبيلة" فيهما تقول بغيظ:
-إنتِ ناوية تجننيني؟!
عمر بضحكة مكتومة:
-دي بتضعف قدام الأكل يا ماما، أنا شايف إننا نحبسها لحد الآذان علشان لا تشوف ولا تشم أكل!
شروق بضحكة خافتة:
-أنا مع الرأيّ دا.
وبالفعل نفذت "نبيلة" اقتراح ابنها فكانت تغلق عليها داخل الغرفة قبيل التجهيزات للفطور حتى لا تضعف نفسها وهي لا تمتلك قوة للمجاهدة كونها طفلة، وقد ظنوا أنهم تمكنوا من التحكم في غريزتها الجائعة طوال الوقت حتى اكتشفوا أنها تتسلل خفيةً إلى المطبخ وتتناول كل ما لذ وطاب من الثلاجة وتم كشف أمرها وأمرت "نبيلة" بغلق الثلاجة بقفل طوال هذا الشهر حتى لا تتمكن ابنتها من الحصول على الطعام؛ فيجب عليها أن تتعلم كيفية التحكم في غرائزها وألا تُشبعها على حسب ما تطلب الغريزة بل على حسب ما يناسبها هي!.
أطلقت "شروق" ضحكة طويلة وقد أدمعت عيناها كلما تذكرت شكل شقيقتها التي تلطخ فمها بالطعام في كل مرة يتم ضبطها مُتلبسةً، لم تستطع "سكون" كتم الضحكة أكثر من ذلك فتشاركن المرح معًا واللحظات الدافئة التي جمعتهن وهنا تحدثت "سكون" بابتسامة دافئة:
-كُنت طفلة مفجوعة.
شروق بضحكة خافتة:
-فيلة.
سكون وهي تتذكر الاتفاقات التي أجرتها قبل عدة ساعات:
-أه صحيح قبل ما أنسى، أنا كلمت اتنين سماسرة معرفة بابا وبكرا هنروح نتفرج على بيتين وإن شاء الله يعجبك واحد منهم.
شروق بامتنان:
-ربنا يخليكِ ليا يا سكون ونفضل ضهر وسند لبعض.
•••••••••
وقفت "وَميض" أمام منضدة الزينة القابعة بغرفتها، شرعت في إزالة مساحيق التجميل التي تضعها على وجهها كروتين يومي للعناية ببشرتها؛ فهي تفضل استخدام المناديل المبللة في إزالة المساحيق وترفض النوم بها حتى لا تضر ببشرتها، لم تكن في مزاج جيد يجعلها تهتم بروتينها اليومي؛ فأسرعت بمحو المساحيق دون اهتمام ثم أزالت عُقدة شعرها وتركته مفرودًا وراء ظهرها كي يتنفس الهواء بعد تغطيته بالحجاب يوم كاملٍ، نظرت إلى حالة وجهها الحزين في حسرة وقد تجمعت قطرات الدموع في عينيها، تنهدت بثقل قبل أن تتحرك نحو الفراش ثم تلقي بنفسها عليه في فتورٍ.
أطرقت برأسها في هم وغم مما يجري في حياتها بغير إرادة منها لتسقط دموعها وتتحرر من محجريهما وطفقت شهقاتها تعلو وترتفع رويدًا رويدًا في محاولة للتنفيس عن نفسها وإلا تعبت روحها وأهلكها الحُزن والكسرة، كانت حياتها بسيطة وجميلة حتى بدأت تعي كُل شيءٍ من حولها؛ فالنُضج لا يصطف دومًا في صالح الإنسان خاصةً إن كانت خيوط تحريكه بين أنامل من تُحب؛ بكت بحُرقة وهي تجد كُل السُبل قد سُدت أمامها ولا يمكنها أن تعرض عن رغبة والدها بعد هذا العُمر وهو الذي أحبها وشقى عليها عمره كُله ولم يخذلها يومًا بل صان كرامتها وكبريائها، كيف تخبره أنها لا تريد الزواج وهي من جعلته يتألم نتيجة تصرف أهوج منها!!
-يارب خليك جنبي، أنا تعبت وحياتي اتعقدت على الآخر.
تمتمت بنبرة وَهنة وهي تتذكر أنها وعائلتها الصغيرة لا يمتلكون من قوة تعينهم على الوقوف في وجه الطُغاة كأمثال عثمان ولا يجدون من يردهم حقوقهم المُهدرة في خدمة طاغية مثله، بكت بمرارة لأنها منذ أن وعت على هذه الدنيا وهي تكره تواجدها داخل ذلك القصر ولا تقبل جلوس والديها تحت قدميهم من أجل خدمة أفراد هذه العائلة؛ حاولت مرارًا أن تقنع والدها بالعمل في وظيفة خارج القصر وتعينه براتبها إلا أنه فضل العِشرة على الانسحاب.
انتقلت بأفكارها إليه، ذلك الشاب الذي أصبح شريك حياتها بين ليلة وضحاها بعد أن كانت أشد الناقمين عليه وجب عليها أن تتعامل معه بلطافة لأنه سيصبح زوجها في غضون أيام!!!.. استنكرت هذه الفكرة بوجه مكفهر وقلب تخفق نبضاته شعورًا بالهزيمة والظُلم، لا تُنكر أنها لا تحمل له أية ضغائن أو مشاعر عدوانية ولكنها لا تستوعب أيضًا قربه منها دون سابق إنذار حتى! وبالأمس كانت تذمه وتقول فيه الأقاويل!!
في هذه اللحظة، زوت "وَميض" ما بين عينيها وهي تتسمر في مكانها ثم تحدق في الفراغ وتقول بصوت متوجس:
-أكيد ساحر!.. أكيد سحر لبابا علشان يقبل بشروطه دي وبيعمل كل دا علشان ينتقم لنفسه مني!!
أجهشت بالبكاء مرة أخرى تتذكر المشهد والحوار الذي دار بينهم قبل ساعات.
-كتب كتاب أيه اللي عاوز تكتبه؟! هو أنا أعرفك يا جدع إنتَ!!
صرخت فيه بقوة وأنفاس مُلتهبة فيما مال عليها قليلًا ثم تكلم بالقرب من أذنها وقال بسخرية:
-أنا تليد!.. تليد الدجال يا زهرة الخشخاش قصدي اللافندر!!
توترت فورًا وراحت تشيح بوجهها عنه، فيما عاد يستقيم في كرسيه وتابع بصوت ثابت:
-أنا شقتي جاهزة ومش محتاج أي تجهيز منكم يا أستاذ علام.
اندهش "علام" وانبسطت عقدة حاجبيه قبل أن يقول بتوترٍ:
-إزاي يا بني الكلام دا بس؟!!
سليمان بابتسامة ودودة يرد:
-مفيش داعي للجهاز والتكاليف لأن تليد شقته مُجهزة من كل حاجة، يادوب عروستنا تجيب شنطة هدومها.
تليد متابعًا بلهجة حازمة:
-بس لو عايز تكتب قايمة مع المهر والصداق، نكتب طبعًا.
ابتسم "علام" بحرج فهو يعلم وجميعهم يعلمون أيضًا أن الفتاة هي حقهم وهو ليس بحاجة إلى تأمينها وهي وسط حاميها الذي أفنى طفولته وشبابه انتظارًا لها؛ فعلام يعرف جيدًا أن ابنته طفلة الأخير وحبيبة عمره فهل يُطلب من الإنسان أن يعتني بروحه؟!، أومأ "علام" سلبًا ثم قال:
-قايمة على أية؟! لما إحنا مش هنجيب حاجة؟! وبعدين أنا وإنتَ عارفين وَميض رايحة فين ولمين؟!!.
تنحنح "تليد" بخشونة قبل أن يلاحظ تحديقها في والدها تارة وفيه أخرى فخشى أن تكون قد أدركت شيئًا مما يحاول والدها التنبيه عليه، فتدخل بسرعة يقول بحسم قاطعٍ:
-تمام خلينا نتكلم في المهر والصداق.
سكت هنيهة ثم أضاف:
-المؤخر زيّ ما تطلبوا أما المهر فهيكون شقة باسم أُترُج وإنتَ والمدام هتقعدوا فيها.
تدخلت في الحديث فورًا وهي تقول بنبرة ساخطة:
-أُترُج دا إنتَ عرفته من بابا مش كدا؟!.
تليد يرد عليها بابتسامة باردة:
-تخمين جيد.
حاول مجاراتها فيما تستنتج من توقعات كيلا تهلك روحها في التفكير أكثر من ذلك، وهنا تابع "سليمان" باهتمام وعزم:
-تحبوا ميعاد كتب الكتاب يكون إمتى؟!
في هذه اللحظة، استقامت واقفةً في مكانها ثم أبدت اعتراضها بصوت مخنوقٍ:
-بس أنا مش جاهزة!!!
لم تفتأ تنهي كلامها حتى وجدت قبضة والدها تمسك بذراعها وتجلسها مرة أخرى عنوة ثم يقول بلهجة حازمة لا تقبل النقاش:
-أسبوعين مناسب.
تليد بثبات:
-تمام.
••••••••
(في صبيحة اليوم الموالي)
-إنتَ ناوي تشليني يا بني؟! أُترُج أيه اللي هتتجوزها؟! يعني إنتَ ناوي تقول لها على يوم الغرق؟!!
أردف "نوح" بتلك الكلمات في غيظ وانفعال طفيف أثناء تحدثه إلى "تليد" عبر الهاتف فيما أجابه الأخير بصوت هادئ مُسترخٍ:
-مش عارف ولسه مقررتش.
نوح وهو يضغط على أسنانه غيظًا:
-طيب وأنا؟! المفروض أفضل مستخبي علشان الهانم ماتشوفنيش؟!! وإلا السر هينكشف!
أجابه تليد بنبرة حاسمة:
-بص إنتَ تغير تسريحة شعرك، تعمل أي منظر يغير شكلك شوية وهي أكيد مش هتفتكرك يعني وحتى لو افتكرتك وسألت فإنتَ هتنكر لأنك ببساطة مش الشخص المقصود، تمام!!!
نوح بغضب متوارٍ يقول من بين أسنانه المُطبقة:
-تمام، لمَّا أشوف آخر الحوار دا أيه!
-الحق يا دكتور نوح.. الحق بسرعة!!
دخلت عليه الممرضة دون أن تطرق الباب حتى، انتفض في خضة ثم صاح محتدًا بالغيظ والغضب:
-إنتِ تاني!!!.. اقفل يا عم.. اقفل.
أسرع بإلقاء الهاتف على الطاولة ثم تابع بصوت عالٍ:
-خير ولو إني أشك!
الممرضة تكتم ضحكة متوارية ثم تقول بسرعة:
-في حالة ولادة طارئة والمصيبة إن الأم عندها 15 سنة!
حدق "نوح" فيها ثم صرخ مصدومًا:
-يا نهار أزرق!!.. الله يخرب بيت الجهل والجهلة!
هرولت الممرضة أمامه ثم تبعها فورًا إلى غرفة العمليات وهناك رأى فتاة ضئيلة الحجم تصرخ على الفراش بألم شديد وتقبض بقوة على الوسادة التي تنام عليها، هرول نحوها ثم سألها بدهشة:
-إنتِ حامل بجد!!
الفتاة تصرخ بحدة:
-أمال حاطة مخدة فيبر يا دكتوووووور!!
ابتلع ريقه بصعوبة بالغة قبل أن يستوعب سؤاله السخيف الذي نبع من صدمته في عمرها، أومأ متفهمًا ثم قال:
-تمام تمام.. هتكوني كويسة إن شاء الله.
الفتاة تصرخ بكُل ما أوتيت من قوة:
-بسرعة يا دكتور.. لأني شربت مية كتير أوي وممكن العيل يغرق.
نوح وهو يضيف بسخرية أثناء البدء في توليدها:
-قولنا السن دا ميتجوزش، أدي النتيجة، المقص يا بنتي قبل البوبو ما يغرق.
بدأ في توليدها حينما وجد رأس الطفل تطل أمامه وسط صراخها الهادر فيه وقد كانت أصعب الحالات التي مرت عليه فقد أجهدته تمامًا ولم يعطي لها أمرًا إلا وتعدل عنه ولكنه في النهاية تمكن من حمل الرضيع بين راحتيه مبتسمًا في سعادة حتى وجدها تقول بنبرة هادئة وهي تلتقط أنفاسها التي تهدأ ببطء:
-فيه غمازات يا دكتور!!!
التوى شدقه وراح يقول بسخرية:
-وأنا هعرف منين يا شاطرة!!
وجدها في هذه اللحظة تجهش باكيةً ثم تقول بصوت مُتهدجٍ:
-لو معندوش غمازات رجعه تاني علشان أبوه عنده غمازات وكدا هيشك فيا!!
بدأ "نوح" يغمض عينيه في محاولة منه للتحكم في انفعالاته، فتح عينيه بعد ثواني ثم قام بإعطاء الطفل للممرضة مقررًا مغادرة غرفة العمليات وإلا ارتكب جريمة لا تُغتفر، تحرك بسرعة إلى مكتبه كي يأخذ قسطًا من الراحة بعد ساعة مُجهدة كانت بمثابة يوم كاملٍ من الأعمال الشاقة، دخل المكتب ثم رمى بجسده على الكرسي وراح يستند على ظهره باسترخاء إلى أن قفزت صورتها أمام عينيه فقرر أن يُجري اتصالًا بها رغم أنه لا يعلم بماذا سيخبرها إن سألته عن سبب الاتصال!!
أحضر رقمها الخاص ثم أجرى الاتصال دون تفكير وما هي إلا لحظات حتى جاءه صوتها تقول بلدغتها المُحببة إلى أذنيه مرورًا إلى قلبه:
-إزيك يا دكتوغ نوح!!
ابتسم "نوح" باستمتاع قبل أن يرد بصوت هادئ:
-دكتوغ نوح بقى مستكنيص دلوقت.
خرج صوتها متوترًا فقالت:
-أبقى خلينا نشوفك، ها أيه مناسبة الاتصال السعيد دا؟!
نوح بضحكة ماكرة:
-وحشني التنمغ عليكِ يا دكتوغة البقغ.
همَّت أن ترد عليه إلا أن ثمة صوت قطع كلامهما، حينما فتحت الممرضة الباب مرة أخرى ثم صاحت بتوترٍ:
-الحق يا دكتور نوح!!
في هذه اللحظة، رمى "نوح" الهاتف على سطح الطاولة ثم صرخ بغيظ متأجج:
-ربنا ياخد دكتور نوح علشان تستريحي يا شيخة، برا، برا وإلا هولع فيكِ وفي نفسي.
أسرعت الممرضة بالخروج وغلق الباب فورًا فيما ضغط "نوح" قبضته وراح يقول بانفعال يهدأ تدريجيًا:
-دي دكتوغة البقغ مرتاحة عني على الأقل مش كل شوية بقغة تجري عليها وتقول لها الحقي يا مهغة في بقغة تانية بتولد!
••••••••••
-إنتِ موافقة على اللي بيعمله بابا؟! وإني أتجوز غصب عني؟!!
أردفت "وَميض" بتلك الكلمات في اختناقٍ أثناء سيرها مع والدتها داخل السوق بعد أن أمر "علام" بذهابهما للتسوق من أجل عقد القران فخضعا لأمره منصاعتين، تنهدت "سهير" ثم قالت بصوت هاديء:
-أبوكِ مصمم على اللي في دماغه، وأنا حاولت بس هو خلاص مقرر.
همَّت "وَميض" أن تتكلم إلا أنها وجدت والدتها تقاطعها وهي تقول بصوت خافت وتحاول الاختباء بجوار ابنتها:
-تعالي نمشي بعيد عن محل عمك صلاح.
زوت "وَميض" ما بين عينيها ثم تابعت متوجسةً:
-ماله عمي صلاح؟! مش بابا إداكِ فلوسه وقالك سديها له!!
سهير وهي تقول بحرج:
-ما الفلوس اتصرفت في البيت.
حدقت فيها مصدومة ثم تابعت:
-دا لو بابا عرف هيطين عيشتنا.
مجرد أن أنهت عبارتها وجدت والدتها تستدير إلى الجانب الآخر منها ثم تقول وهي مطرقة برأسها في الأرض:
-امشي بعيد عن المحل دا بسرعة.
وَميض تسأل بدهشة:
-ودا كمان له عندك فلوس؟!!
قامت "سهير" بوضع يدها على وجهها أثناء مرورها من أمام المحل ثم تابعت بخفوت:
-أيوة، اشتريت منه حافظة للسجادة ولسه مديتوش تمنها.
وميض بتوجس:
-تمنها اللي هو كام؟!
ابتلعت "سهير" ريقها بالكاد ثم تابعت بصوت مبحوح:
400 جنية.
حكت "وَميض" جبهتها ثم قالت بانفعال مكتومٍ:
-في حد تاني له عندك فلوس؟!
سهير بتلعثمٍ:
-أيوة، حسان بتاع اللحمة، له متين جنية.
أومأت برأسها في ثبات قبل أن تقول بنبرة هادئة تتحكم في غضبها الذي قد يستعر أمام الناس إن لم تسيطر عليه:
-ماشي يا ماما، سيبي الموضوع دا عليا، أنا هدفعهم من مرتبي آخر الشهر، يلا سلام بقى لأني متأخرة على الشغل!
•••••••••
تجمع كُل من بالقصر على مائدة الفطور في سعادة ونشاط قبل أن يتفرق كُلًا منهم إلى عمله، تناول "عثمان" القليل من الطعام ثم نهض باستقامة وراح يقول في حسم:
-صحة وهنا.. استمتعي بعربيتك النهاردة.
تكلم بإيجاز قبل أن يتحرك نحو ابنته "سكون" ثم يطبع قبلة بسيطة على رأسها وينطلق، مرَّت الدقائق واللحظات والفتيات في انتظار السائق الجديد للبدء في مهمتهما لهذا اليوم لرؤية بيت مناسب لشروق كي تبدأ فيه حياة جديدة، بدأت "سكون" تتأفف من عدم انضباطه بالمواعيد من اليوم الأول؛ ولكنها أُجبرت على انتظاره لعدم كفاءتها على السواقة.
-لا مش معقول يكون في برود واستهتار بالشكل دا!!.
تكلمت "سكون" بلهجة مُنفعلة وهي تنهض من مكانها، افتر ثغر "شروق" عن اِبتسامة هادئة ثم قالت:
-معلش، تلاقيه تاه عن القصر ولا حاجة، اصبري شوية زمانه جاي.
أومأت برأسها سلبًا وراحت تقول بإصرار وصوت يغلب عليه السخط:
-قولت مش هنستناه ولو جه ماما تمشيه.
تنهدت "شروق" باستسلام وما أن نهضت تطيعها على رأيها الصلب حتى وجدت حارس القصر يهرع إليها ثم يقول بصوت هادئ:
-في واحد برا القصر بيسأل عليكِ يا هانم وبيقول إنه السواق الجديد بتاع حضرتك.
أومأت بتفهم ثم تابعت بحزم:
-تمام، روح إنتَ.
قامت بالتقاط حقيبتها بحركة ثائرة وراحت تتمتم بكل كلمات الوعيد التي تستقر داخل قاموسها، تحركت نحو باب القصر وتبعتها "شروق" التي حاولت أن تسيطر على نار انفعالها المستعرة فقالت وهي تهرول خلفها كي تلحق بها:
-سكون، علشان خاطري حاولي تهدي وبلاش مشاكل للراجل من أول يوم.
أسرعت باللحاق بها ثم قبضت على ذراعها تجبرها على التوقف ففعلت، استدارت "شروق" على الفور حتى وقفت أمامها مُباشرة ثم تابعت بهدوء:
-بصي، إنتِ نبهيه إنك بتضايقي من عدم الالتزام بالمواعيد وإنه يخلي باله من الوقت بعد كدا، بأسلوب هادي وبسيط جدًا.
تنفست "سكون" الهواء داخلها ثم أخرجت زفيرًا يمتليء بالسخط وقالت بلهجة حادة:
-تمام يا شروق، هحاول.
بادلتها "شروق" ابتسامة فاترة يشوبها الشك من اقتناع شقيقتها بكل تلك السهولة ودون جدال، استأنفت "سكون" سيرها حتى البوابة الخارجية وكانت "شروق" لها بالمرصاد كي تلحق الكوارث التي توشك الأخيرة على إضمارها، وقعت عيناها على السائق وهو يتحدث إلى الهاتف ويعطيها ظهره، صرت على أسنانها بانفعال حادٍ بعد أن حاولت أن تهدأ في عقابها له إلا أنها وجدته يتحدث في الهاتف في حالة من اللا مبالاة علاوة على تأخيره في الوصول رغم تأكيد مواعيد حضوره إلى القصر من قبل والدها الذي تحدث إليه عبر الهاتف بالأمس.
اندفعت نحوه بخطوات ثائرة مستفزة ثم طرقت على ظهره بأناملها إلا أنه أشار براحته أن تنتظر دون أن يرى الواقف خلفه، عادت تطرق على ظهره من جديد ففعل ما قام به المرة الأولى ثم تكلم بصوت ثابت:
-تمام، مفيش مشاكل، مع السلامة.
في هذه اللحظة، استدار بهدوء حتى أضحى وجهه مقابل وجهها تمامًا ليجدها تتخصر أمامه بوجه مُكفهر وملامح متكتمة بالانفعالات المتأججة من فرط الغيظ، وضع كفيه على بعضهما وهو يقف شامخًا أمامها فيما تحول الانفعال إلى دهشة وراحت تحدق فيه بشك وحيرة جعلتها ترخي ذراعها عن خصرها ثم تقول بلهجة مندهشة:
-أنا شوفتك في مكان قبل كدا؟!
كانت "شروق" تقف على جنب تنتظر انفجار قنبلة الغضب الذي تمتليء به شقيقتها إلا أنها تفاجأت بهدوء الأمور، زم شفتيه ثم قال بلا مبالاة:
-مش فاكر الحقيقة.
زوت "سكون" ما بين عينيها في حيرة إلا أنها عادت إلى أرض الواقع فأردفت بلهجة حادة وغضب دفين:
-ممكن أعرف سبب تأخيرك؟! مش عثمان بيه بلغك بالميعاد اللي تكون فيه في القصر؟!
رد بإيجاز:
-زحمة.
سكون كاظمة غيظها:
-خُد طريق تاني!!!
أجابها بصوت ثابت:
-مفيش.
اندهشت من ردوده فراحت تقول بسخطٍ واستخفاف:
-إنتَ بتتكلم زيّ الروبوت كدا ليه؟!
اِفتر ثغره عن ابتسامة ساخرة ظهرت على جانب شفتيه قبل أن يقول بنبرة مُتهكمة:
-طبعًا مستنية مني أقول لك إني فعلًا روبوت وإني يوسف الشريف وكدا؟!
انفتح فمها سنتيمترين وراحت ترمقهُ بنظرات مصدومة جعلتها تبتسم في استغراب ثم ترد باستنكار وامتعاض:
-لحظة!!.. إنتَ إزاي بتكلمني كدا؟!!
أجابها بثبات وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله:
-دي الطريقة اللي فرضتيها عليا ولازم أعاملك بيها، بيقولوا المعاملة بالمثل، مش كدا يا آنسة؟!!
سكون تضيف بشدوه وتعجب من جرأته وتبجحه فيها بكلمات صلبة:
-آنسة؟!
مط شفتيه بلا مُبالاة ثم تساءل:
-سوري يا مدام!!!
سكون مازالت تلبس وشاح الصدمة فتكرر في شدوه:
-مدام!!!
تأفف السائق بامتعاض قبل أن يضرب كفًا بالآخر ثم يقول بلهجة قانطة:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني لا آنسة ولا مدام؟!!.. أمال أقول لك أيه؟!
ضغطت بقوة على أسنانها ثم صاحت فيه بلهجة حازمة:
-تقول يا هانم، فهمت ولا أعيد تاني؟!!
خرجت ضحكة سمجة من بين شفتيه حتى أنه تجاهل ما قالت ثم أسرع بفتح باب السيارة المجاور لمقعد القيادة وهم أن يركب ولكنها أوقفته وهي تصيح بغيظٍ متأجج:
-إنتَ رايح فين؟!
استدار بعينيه إليها ثم رفع أحد حاجبيه وهو يضيف ببرود:
-بركب العربية، أصل أنا السوق!!.. عارفة ولا معندكيش خلفية؟!
أخرجت زفيرًا مُشتعلًا بنيران الغيظ وراحت تمسح وجهها بنفاد صبرٍ قبل أن تنظر إلى باب السيارة الخلفي ثم تقول بلهجة آمرة:
-ولمَّا إنتَ هتركب مين هيفتح لنا باب العربية!!!
رماها بنظرة جامدة قبل أن يتنقل بعينيه بين ذراعيها ثم يقول بسماجة وبرود:
-إيدك.
في تلك اللحظة، انفجر الفتيل في الأرجاء فراحت تصرخ فيه بحدة وصوت عالٍ:
-إنتَ إتجننت!!.. إزاي تتجرأ تكلمني بالشكل السوقي دا.. إنتَ ناسي إني مديرتك وأكل عيشك كله بين إيدي؟!
أومأ بنفي قبل أن يتحرك واقفًا أمامها مرة أخرى ثم يقول بثبات:
-رزقي بين إيد ربنا أما إنتِ فوسيلة علشان أوصل بيها للرزق دا وعلى العموم أنا مش هفتح باب العربية لحد إلا في حالة واحدة بس.
زوت ما بين عينيها تستفهم ما يحاول الإشارة إليه؛ فتابع بصوت أجشٍ حانقٍ:
-لمَّا الشخص اللي هفتح له الباب تكون إيديه مقطوعة.
جحظت عيناها في صدمة كبيرة؛ همَّت أن ترد عليه بقسوة إلا أنه قاطعها يقول بلهجة حازمة:
-تمام ولا أتوكل على الله أنا؟!
غلفتها الدهشة وعدم التصرف فاستدارت تتبادل مع شقيقتها نظرات مصدومة من جرأته في ردوده عليها وشجاعته التي تصطف في صالحه فلم يسبق لها أن يقف شخص يعمل تحت إمرتها ويتحدث إليها ندًا بندٍ إذ أنها تفرض شخصيتها وقوتها على الجميع فعلا يجرؤ شخص على النظر إليها أثناء الحديث بينهما إلا هو؛ يتبجح ويمارس حذقته عليها ولا يخشى أن ينقطع عيشه قبل أن يبدأ؟! كيف يكون جريئًا بهذه الطريقة الشجاعة؟!!
ظلت تحدق فيه دون أن تجيبه عمَّا وضع من شرط، وأثناء التحديق به تذكرت بوضوح من أين تعرفت عليه قبل هذه المرة؟!، انفتح فمها على وسعه وهي تقول بنبرة شاردة:
-لحظة لحظة، افتكرت أنا شوفتك فين؟!.
لم ينبس ببنت شفة وانتظر أن تتابع بتأكيد:
-أنا قابلتك إمبارح في محافظة أسيوط؟! لمَّا طلبت منك تاخد بالك من عربيتي؟!.
تمكن من تذكر ذلك المشهد ولكنه تظاهر بالنسيان وبدا ذلك على وجهه فتابعت تعينه على التذكر:
-لمَّا كنت عايزة أعدي الجنب التاني من البلد وإنتَ ساعدتني في شد العبارة!!!
انبسطت عقدة حاجبيه وهو يقول بنبرة متفاجئة:
-أه، افتكرت.
ضيقت "سكون" عينيها قبل أن تتساءل بحيرة:
-بس إنتَ أيه اللي جابك القاهرة؟! وجيت هنا إزاي!!
أجابها بثبات:
-أنا من القاهرة أصلًا وشغال في الشركة اللي بعتتني هنا، ولما اتقابلنا كنت في مشوار شغل.
اومأت برأسها مُتفهمةً قبل أن تقول بابتسامة متوترة وهي تتذكر الجَميل الذي أسداه لها ثم تقول بتنحنح:
-بشكرك على موقف الجدعنة اللي عملته معايا إمبارح يا ...!!!
قالت كلمتها بنبرة مُتساءلة جعلته يدلي عن اسمه فيقول بثبات:
-كاسب.
افتر ثغرها عن اِبتسامة ماكرة ثم تابعت بنبرة ساخرة غلفتها ببسمة هادئة:
-وكسبت أيه بقى؟!
كاسب بابتسامة سمجة يقول:
-كسبت صلاة النبي.
خرجت من فم "شروق" صوت غمغمة ضاحكة حاولت أن تكتمها فيما تغير وجه "سكون" إلى العبوس وراحت تتحرك إلى باب السيارة ثم تفتحه بغيظٍ وهي تشاهد استسلامها للمرة الأولى وهي العنيدة التي لا تتنازل بمقدار أُنملة وتسعى دومًا أن يسير العالم من حولها على خطى هواها.
ركبت السيارة وجاورتها شقيقتها ثم انطلقت السيارة على الفور وبدأت سهام نظراتها القاتلة تصيب عينيه التي تراقب اشتعالها من خلال المرآة.
•••••••••
تجمع مسؤولي الأقسام داخل الشركة حول طاولة الاجتماعات حيث أمرت صاحبة الشركة بعقد اجتماع عاجل وهام وأمرت بحضور الجميع من المسؤولين وحتى أصحاب الأسهم البسيطة داخل الشركة وكان من بينهم "تليد" الذي تلقى اتصالًا منها شخصيًا تدعوه فيه إلى ضرورة الحضور كونه شريكًا بالشركة حتى إن كانت نسبته قليلة، جلس "تليد" على كرسيه في انتظار قدوم المسؤولة الجديدة عن الشركة بعد موت زوجها، فلم يتقابل معها من قبل ومنذ أن صار شريكًا مع زوجها لم تأتِ هي إلى الشركة لأن الأمور لم تكن تستدعي ذلك ولكنها سمعت عنه بكل خير من خلال زوجها وعلمت بقدومه إلى العزاء وترأسه حتى النهاية ومساندة أفراد عائلتها بكُل إنسانية ورجولة، في هذه اللحظة انفتح باب الغرفة ودخلت هي بخطوات ثابتة متزنة، سيدة تبلغ من العمر سِنًا لا يتضح تسير مرتدية ملابس رسمية وأنيقة وينسدل شعرها باسترسال وانتظام، التفت الجميع نحوها ما أن بدأ كعب جزمتها يصطدم بالأرض فرؤيتها تبعث على نفس الناظر إليها بعض القوة والشموخ.
تحركت إلى كرسيها ثم وقفت أمامه وراحت تقول بنبرة صلبة وابتسامة وقورة تزين ثغرها:
-منورين كلكم الاجتماع وشكرًا إنكم لبيتوا طلبي السريع والعاجل.
أومأ برأسه في هدوءٍ مُقررًا أن يتابع ما تقول بأذنيه وأن تبقى نظراته بعيداً عن تبرجها الصاخب في ملابسها ومساحيق تجميلها، بدت له مُحبة للأضواء والزينة وكذلك مُحبة للوقار والحدود وهذين نقيضين لا يتقاطعان في العادة، بدأت تملي على مسامعهم خطة السير داخل الشركة بعد أن أصبحت بشكل رسمي المسؤولة عنها حتى مرَّت الدقائق بسرعة وانتهي الاجتماع وشكرت الجميع بامتنان ثم بدأوا في الخروج.
توجه "تليد" نحو الباب إلا أنها أوقفته تقول بنبرة هادئة:
-أستاذ تليد؟!!!!
توقف في الحال متعجبًا من مناداتها له، استدار ليجدها واقفة أمامه بقامة شامخة وابتسامة بسيطة، أدركت أيضًا أنها تقف أمام قامة دينية لا يُستهان بها فلم تمد يدها له بالمُصافحة وهي تعلم تجنبه للأمر فكانت بالذكاء الكافي الذي يجعلها تقرأ الشخص الواقف أمامها وتفهم ولو القليل عنه، اكتفت بابتسامة خفيفة ثم قالت:
-بشكرك جدًا على وقفتك معانا، فعلًا كلام حمدي عنك كان في محله.
أومأ "تليد" بهدوء ثم تدبر ابتسامة هادئة ورد:
-دا واجبي، ربنا يرحمه ويتجاوز عن سيئاته.
تنحنحت "نجلا" بثبات قبل أن تبدأ في رمي عرضها عليه:
-الحقيقة إني بعد ما عرفت اللي عملته علشان حمدي في العزا، قررت أعزمك عندنا في القصر لأننا هنفتح الوصية النهاردة وزيّ ما إنتَ عارف مفيش حد معانا.
سكتت هنيهة ثم أكملت:
-غير ربنا طبعًا.
شعرت بالاستنكار البادي على صفحة وجهه فأضافت بصوت هادئ:
-قبل ما تعترض، دا كان طلب حمدي، إننا لمَّا نحتاج لحاجة في غيابه نلجأ ليك وطبعًا ثقته فيك تخليني أعرض عليك إنك تكون موجود معانا كسيدات في ظل وجود المحامي وبعض شباب العيلة وطبعًا إنتَ عارف المشاكل اللي بين حمدي وعيلته أد أيه وما هيصدقوا يلاقونا واقفين لوحدنا ومن غير حماية!!!
كانت صادقة في كل كلمة تفوهت بها لأن حمدي تكلم معه هو ووالده حول هذه الأمور وطمع أفراد العائلة في ماله وبناته، حاول أن يتفهم موقفها ولا يسد أبوابه في وجهها؛ فتكلمت بصوت هادئ:
-واعتبرها دعوة عشا في بيت حمدي تكريمًا على وقفتك جنبه في حياته ومماته!!
تنهد "تليد" تنهيدًا ممدودًا بعُمقٍ قبل أن يقول باستسلام:
-تمام، هكون موجود إن شاء الله ومعايا خطيبتي.
أراد أن ينهي النقاش مشيرًا إلى قبول دعوتها والحضور برفقة خطيبته كي لا يذهب إلى هناك بمفرده، فقد وضعته في مأزق وأحرجت أخلاقه التي لم تتعود على غلق أبوابها في وجه أحد.
انصرف من أمامها في الحال مقررًا زيارة "وَميض" داخل مكتبها كي يخبرها برغبته في القدوم معه إلى القصر وفكره مُنشغلًا في موقفها نحو هذا الطلب وهل ستوافق بعد أن فرض زواجه عليها أو ترفض وهذا المتوقع على كل حال!
-يا بني قولت لك أنا حقيقي مش في المواد زائد إن النُكت بتاعتك دي مش مُضحكة خالص.
أردفت "وَميض" بتلك الكلمات وهي تجلس إلى مكتبها بوجه عابس يغلفه الحزن حتى أنها لم تندمج بالحديث معهم كالعادة ولم تحشر أنفها بالقصص التي تأتي بها صديقة مكتبها عن كل فرد بالشركة، لاحظ "ثامر" ما يغلب عليها من حزن واكتئاب فحاول أن يضفي جوًا من المرح على الأجواء وأن يجعلها تبتسم وتعود إلى حالتها المزاجية بطريقته.
ابتسم "ثامر" بحرج ثم قال بغيظٍ:
-ما إنتِ من كام يوم كُنت بتضحكِ عليهم عادي؟!
وَميض بابتسامة خفيفة:
-كان ليڤيل التفاهة عندي مسيطر.
ثامر بإصرار وضحكة ماكرة:
-طب قولي كدا (ملبن ملبن) عشر مرات ورا بعض؟!!
زوت "وَميض" ما بين عينيها في استنكار ولكنها استسلمت لمزاحه وبدأت تقول ما طلب حتى وجدت نفسها تُخطيء ويثقل لسانها وهي تكرر الكلمة فانطلقت ضحكة طويلة من فمها وسط سعادته بالتغلب على حزنها، وفي هذه اللحظة انطلق صوت جهوري حانقٍ يرن في أرجاء الغرفة باسمها:
-آنسة وَميض!!!!!!!!
يتبع
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية