رواية رحماء بينهم الفصل الخامس عشر 15 - بقلم علياء شعبان
(رُحماءٌ بينهم)
"كمثلِ الأُترُجَّةِ".
]]الفصل الخامس عشر]]
••••••••
وقف بالسيارة أمام العقار الأول الذي هو عبارة عن مبنى يتكون من طابقين وحوله حديقة صغيرة وسور منخفض حيث أنه يرتفع عن مستوى قامة الإنسان قليلًا أكثر ما جذب "شروق" للعقار من الوهلة الأولى التصميم الذي يتطابق تمامًا مع البيوت التركية الخلابة التي تتفاوت بين ألوان قوس قزح المبهجة، ترجلت "شروق" من السيارة بانجذاب كبير استطاعت "سكون" ملاحظته وأدركت أن هذا البيت صار رسميًا لشقيقتها التي لمعت عيناها فور رؤيته، كذلك ترجلت "سكون" ثم استدارت وراحت تقف بجوار شقيقتها وتقول بصوت هادئ مشغولًا بتدقيق النظر إلى وجهة البيت:
-عجبك مش كدا؟!
أومأت "شروق" تؤكد ظنونها وهي تقول بنبرة خفيضة ساقطة تحت تأثير الانجذاب والأُلفة للمكان:
-عجبني أوي، يا ترى من جوا حلو زيّ برا؟!
ابتسمت "سكون" بهدوءٍ قبل أن تضع راحتها على ظهر شقيقتها ثم تدفعها برفق وهي تقول بحسم وحماس منقطعي النظير:
-وليه نخمن لمَّا ممكن نكتشف دا بنفسنا!
سارتا نحو البوابة المطلية باللون البنفسجي الذي راق "شروق" كثيرًا، شرعت "سكون" تطرق على البوابة لتنبيه صاحب العقار حول وصولهما إلا أنها وجدت الباب ينفتح وحده من الطرقة الثانية، زوت ما بين عينيها وهي تدفع الباب بتوجسٍ وراحت تنظر يُمنة ويسرى في حذرٍ ولم تجد بُدًا من أن تنادي بصوت عالٍ:
-يا أهل البيت؟!! أستاذ وهيب؟!!
تنحنحت "شروق" قبل أن تقبض على ذراع شقيقتها ثم تقول بقلقٍ كبيرٍ:
-استني متدخليش إلا لما حد يرد علينا، أنا قلقانة.
باغتتها "سكون" بابتسامة عريضة ثم قالت باستنكار:
-قلقانة من أيه يا بنتي؟! أكيد أستاذ وهيب لسه موصلش وأصحاب البيت مش عندهم علم إننا جينا؟!
وقف بجوار السيارة يراقب الحركات التي تصدر منهما، تذكر التوصيات التي قيلت له فيما يخص هذه الفتاة المتمردة العنيدة من ضرورة حمايتها كوظيفة أساسية تلبس وشاحَ التخفي تحت لباس سائق الهانم!، ليس لديها علم بالوظيفة الحقيقية له عندها ولا هو يعلم السبب الذي يدفع والدها لحمايتها وممن يخشى عليها الأذى؟!.. عبس بملامح غامضة وهو يرى تراجع إحداهما عن التقدم داخل البيت مما دفعه على الانطلاق إليهما بخطوات ثابتة.
-قولت لك مش هندخل غير لمَّا ييجي، اتصلي بيه وشوفيه فين؟!.
-خير يا آنسات؟!!
قطع حديثهما الخافت نبرة صوته الغليظة وهي تستفسر بحزم، توقفتا عن شجارهما الخافت واستدارت "سكون" حتى واجهته وهي تقول بصوت حانقٍ وعلامات الاستنكار تغزو ملامح وجهها:
-إنتَ اللي خير يا أستاذ، سيبت عربيتك وجيت ليه؟!
كاسب بصوت بارد يكسوه الحزم:
-هدخل معاكم.
شروق تومىء بتأييد له:
-أه بليز، ادخل معانا.
زجرتها الأخيرة بنظرة حادة قبل أن تنظر إليه، رفعت "سكون" أحد حاجبيها ثم أضافت بغيظٍ:
-تدخل معانا بتاع أيه يعني؟! هل دا اختصاصك؟! اتفضل يا أستاذ استنانا جنب العربية!!!
رماها بنظرة قوية قبل أن يشمخ في وقفته أمامها ثم يتابع بصوت أجشٍ حادٍ:
-اتفضلي إنتِ قدامي وكفاية صياح.
اتسعت عيناها بصدمة وراحت تقول غير مصدقة للنبرة التي يتحدث فيها إليها:
-لا يمكن تكون شخص عاقل، إنتَ أكيد مش طبيعي!!!
كاسب بنبرة استفزتها وأشعلت نيران الغيظ داخلها:
-ودي مش إشارة لحاجة؟!
عقدت حاجبيها سوية ثم تابعت بانفعال مكبوتٍ:
-لأيه؟!
كاسب وهو يجابهها بصرامة:
-إنه يتخاف مني مثلًا!!
تخصرت أمامه وقد انبسطت عقدة حاجبيها ثم صاحت بانزعاج مُستنكر:
-ودا تهديد!!!
أجابها بغلظة:
-أه واتفضلي قدامي يا أدخل البيت معاكم يا إما نرجع.
كورت "سكون" قبضة يدها وراحت تضغطها بقوة وانفعال ضاريين مع ضغطة قوية على فكيها تعرب فيها عن دهشتها بجرأته المنحطة أثناء حديثه معها، قررت أن تتوقف عن مجادلته لحين العودة إلى القصر ثم تشتكيه إلى والدها وتطلب بتغييره في الحال، أعطته ظهرها ثم عبرت بوابة البيت وقبل أن تفعل شقيقتها، سمع الثلاثة طلقًا ناريًا يأتي من الداخل ويتجه صوبهم، تراجعت "شروق" وهي تصرخ بفزعٍ فيما اندفع "كاسب" نحو "سكون" التي تصلبت في مكانها وهي تقف في منتصف الحديقة، أسرع إليها ثم جذبها بقوة حتى التصقت بصدره وراح يضع راحته على رأسها وعينيها ثم يقبض على مسدسه ويبدأ في الالتفات حوله في محاولةً لرصد نقطة انطلاق الرصاص وفي هذه اللحظة وقعت عيناه على رجل يخرج من وراء أحد الأبواب فأسرع بتعمير سلاحه ثم صرخ بصوت جهوري:
-اقف مكانك؟!!
وجده عجوزًا يتسلح ببندقية ويقف أمام البوابة الداخلية كاشرًا عن أنيابه ويصرخ بحدة:
-إنتَ اللي تقف عندك يا حرامي منك ليها.
عقد "كاسب" ما بين عينيه ثم استنتج هوية العجوز بوضوح فور قوله لهذه العبارة، تنفس "كاسب" الهواء داخله ببطء ثم صاح مُرخيًا قبضته عن المسدس قليلًا:
-إحنا مش حرامية يا حاج، إحنا من طرف أستاذ وهيب وجايين نشتري البيت!
تفاجأ العجوز من حديثه وأسرع بإنزال البندقية قبل أن يتحرك نحوهما ويقول آسفًا عما بدر منه من تهور:
-آسف يا بني، أهلًا بيكم!.
كانت لا تزال مُتشبثةً بين أحضانه حتى أنصتت إلى حديث العجوز فابتعدت عنه فورًا، أسرع العجوز بمصافحة "كاسب" مُعربًا عن خزيه منهما، رأت "شروق" استقرار الأوضاع وتفهم العجوز لهم الذي أمر بدخولهم والقيام بجولة داخل البيت حتى يأتي الأستاذ وهيب الذي تأخر نتيجة الازدحام المروري، سار الثلاثة للداخل وبدأت الفتاتان يتفقدان كُل زاوية بالبيت الذي لم يقل جمالًا وبهاءً عن مظهره الخارجي وقد اكتشفا أثناء حديثهما مع صاحب العقار أنه من أصول تركية ويعيش في مصر منذ سنوات عديدة ولكنه مازال مُتأثرًا بالثقافة التركية في كافة أمور حياته حتى أنه قدم لهم اكوابًا من الشاي الوارد من تركيا واستخدم أواني تركية خالصة ورغبت "شروق" وقتها في تقديم عرضًا فكاهيًا له يفي بشراء البيت بكُل ما فيه من أثاث تركية وخاصة أدوات المطبخ ولكنه رفض إلا أنه منحها هدية بسيطة وهي عبارة عن برادين لعمل الشاي يعلو كُلًا منهما الآخر وصينية مزخرفة وملحقة بستة أكواب لتقديم الشاي.
جاء "وهيب" في النهاية وتمت البيعة وتراضى كُل الأطراف حتى أن "شروق" أسرعت بالاتصال بزوجها الذي جاء في الحال لمشاركتها هذه اللحظة السعيدة.
•••••••••
-أتمنى تلبسي حاجة مُحتشمة يا آنسة وَميض!
أوقف سيارته أمام بوابة بيتها ثم تكلم بصوت هادئ دون أن يلتفت إليها حيث لاحظت هي غموضه وصمته منذ أن كانا بالشركة وقرر اصطحابها إلى بيتها للتجهز من أجل الذهاب معه إلى بيت "حمدي زهران"، رفعت "وَميض" أحد حاجبيها ثم ردت باستنكارٍ:
-تقصد إني بلبس عريان!!
تليد ببروده المعتاد يجيبها موجزًا:
-زيّ ما وصلتك أفهميها.
اِفتر ثغرها عن اِبتسامة حانقة ثم تابعت بنبرة حادة:
-على فكرة أنا لسه موافقتش على طلبك!
رد بلهجة حازمة ومازال ينظر أمامه متحكمًا في انفعالاته:
-تمام، اعتبريني معرضتش عليكِ الموضوع من الأساس، اتفضلي انزلي!
رفعت أحد حاجبيها تستهجن ثلجية تصرفاته الغليظة معها حتى أنه لم يطلب الأمر منها بنبرة ليّنة وكأنه فرضًا عليها ووجب فعله، تنحنحت بغيظٍ مكتومٍ بعد أن تذكرت كلمات صديقتها بالمكتب حول الفتاة المرشحة للزواج به تلك الفتاة آيلين؛ لذا خمنت سبب إلحاح هذه السيدة عليه أن يأتي زائرًا في بيتها وذلك من أجل رؤية الفتاة وإقناعه بها، استدارت بعينيها إليه ثم ردت بسرعة:
-مش قصدي، أنا طبعًا هاجي معاك يا أستاذ تليد، دا أول طلب تطلبه مني يعني.
في تلك اللحظة، قام باستخراج ورقة من الخزنة الموجودة بالسيارة ثم أعطاها لها وهو يقول بصرامة:
-اقرأي دي!.
زوت ما بين عينيها وهي تلتقط الورقة منه ثم تشرع في قراءة سطورها، انفرجت شفتيها بشدوه وراح تقول مصدومةً:
-كل دي خصومات من مرتبي!!!
لم يجيبها قط؛ فتابعت وهي تقرأ بصدمة:
-كثرة استخدام الهاتف!!!.. كثرة الثرثرة مع الزملاء!!.
وأخيرًا استدار بجسده وعينيه نحوها ثم قال بصوت منفعل حازم:
-في بند تالت المفروض يتضاف للقايمة دي.
رمقتهُ بنظرات فضولية وقد عجزت عن التفوه بما يجول في رأسه إلا أنه أكمل بصرامة:
-التغنج مع الإخوة أثناء العمل والتقاعس عن أداء مهامك.
وَميض تضيف بدهشة:
-تغنج؟!!.. تغنج دي الكلمة المنمقة من كلمة مرقعة!!
تليد وهو يصر على أسنانه غيظًا ثم يضيف بصوت حادٍ:
-الله أعلى وأعلم، بس إحنا في شركة ناس مش مُنتدى أبو نواف للتعارف الجاد، ماشي؟!!
همَّت أن تصيح بملامح ساخطة إلا أنه هدر في وجهها بصوت أجش غليظ:
-بقول لك مااااااااشي!
تنحنحت بتوتر قبل أن تنكمش على نفسها ثم تضيف بصوت مُتحشرج:
-ماشي بس على فكرة أنا بنت ناس، عيب يعني الكلام دا!!
رماها بنظرة قوية قبل أن ينظر أمامه مرة أخرى ثم يقول بلهجة ثابتة:
-ساعتين وهعدي عليكِ تكوني جهزتي.
التوى شدقها بغيظٍ ولكنها ابتلعت بروده فضلًا عن مجادلته وإثارة حنقه، ترجلت من السيارة إلى بيتها وانتظر هو حتى تأكد من دخولها المبنى.
•••••••••
-صباح أحلى يوم في حياتي علشان جاتني أغلى هدية من ربنا.
أردفت "رابعة" بتلك الكلمات وهي تنحني نحو ابنتها النائمة في فراشها ثم تقبل جبينها، افتر ثغر "مُهرة" عن اِبتسامة عريضة وراحة تعتدل في نومتها جالسةً ثم قبلت راحة والدتها وهي تقول بمرحٍ:
-صباح الوغد يا ست الكل.
رابعة وهي تجلس على طرف الفراش أمامها ثم تقول بنبرة دافئة:
-كُل عام وإنتِ بألف خير، عيد ميلاد سعيد والسنة الجاية أشوفك في الفستان الأبيض ويا حبذا لو أكون شايلة عيالك.
تنحنحت "مُهرة" بخجل ثم قالت بهدوءٍ:
-من الواضح إنك زهقتي وعايزة تخلصي مني يا بيبو.
مطت "رابعة" شفتيها باستنكار ثم تابعت:
-أخلص منك بردو!.. هو أنا عندي في الدنيا غيرك!.. بس لو اتجوزتي أنا هرتاح.. محدش عارف الموت هيدق بابه إمتى؟!.. نفسي أشوفك مسنودة على راجل ابن حلال علشان يطمن قلبي عليكِ.
أسرعت "مُهرة" بالارتماء بين ذراعيها ثم تابعت بملامة:
-ألف بعد الشغ عليكِ.. أنا من غيغك أقع حتى لو مسنودة على مليون غاجل ابن حلال.. وهو مين بس اللي هيعوضك يا امي!
مسدت "رابعة" شعر ابنتها بحُب ثم تابعت بصوت مخنوقٍ يوشك أن تنطلق منه حشرجة البكاء:
-يعني مش ناوية تريحني وتفكري بالموضوع؟!!
ابتعدت "مُهرة" عنها قليلًا ثم أضافت بحسمٍ:
-إبغاهيم؟! لا يمكن.
رابعة بحُزن كبيرٍ:
-بلاش إبراهيم.. في مليون واحد متقدم لك وبترفضي تقعدي معاهم.. مش طالبة منك غير إنك تدي نفسك فرصة يا حبيبتي!!
أومأت "مُهرة" باستسلام ثم أضافت بصوت خافتٍ:
-ماشي يا أمي.
مسحت "رابعة" على غُرة رأسها بسعادة غامرة قبل أن تقف على الفور ثم تقول بحماس شديدٍ:
-يلا اغسلي وشك علشان نحتفل سوى!!
انفتح فم "مُهرة" على وسعه وراحت تقول بدهشة:
-عملتي لي التوغتة اللي بحبها؟!!!!
رابعة بثقة عالية:
-طبعًا، أنا أقدر أنسى بردو!!!
صفقت "مُهرة" بحماس قبل أن تتدلى عن فراشها ثم تتجه إلى الحمام بسرعة، قامت بغسل وجهها ثم عقدت شعرها بمشابك الشعر الصينية وكانت ترتدي منامة رقيقة رُسم عليها أحد شخصيات الكرتون الشهير وكذلك ارتدت خُفًا رُسم عليه معالم قطة مُبتسمة، توجهت إلى الصالة على الفور وما أن رأت الكعكة التي تصنعها لها أمها كل عام حتى صاحت بفرحة كبيرة، هرولت نحو الكعكة وراحت تتطلع إليها بشهية مفتوحة قبل أن تنادي على أمها بنفاد صبرٍ:
-يلا يا ماما علشان جعانة!!!
لم تفتأ تنهي كلامها حتى سمعت صوت طرقات على باب المنزل، نظرت حولها على الفور حتى وقعت عيناها على غطاء رأسها فأسرعت بالتقاطه ثم توجهت نحو الباب وتابعت متوجسةً من وراءه:
-مين؟!
انتظرت لثواني كي يصلها الرد إلا أنها لم تحظى سوى بالصمت، زمت شفتيها باستغراب ثم أعربت عن لا مبالاتها حول الطارق الذي لا يُجيب وظنت في النهاية أنها كانت تتخيل طرقًا على الباب، سارت خطوتين للأمام ثم عاد الطرق من جديد، ضغطت على أسنانها بغيظٍ قبل أن تقرر فتح الباب والاختباء وراءه وإظهار وجهها فقط، فتحت الباب تنظر من وراءه ثم صاحت بصوت حادٍ:
-مين؟!
نظرت أمامها ولكنها لم تجد أحدًا حتى سمعت صوت نباح جرو يقف أسفل قدميها وينظر إليها وكأنه شخصًا كبيرًا ينتظر أن تنتبه له وتعيره بعض الاهتمام، أبصرته مندهشةً من رقته ولونه المميز فقد كان لون فرائه رماديًا كثيفًا ويرتدي قلادة رقيقة من الورد حول عنقه ويقبض بشفتيه على مجموعة من الورود الحمراء، تهللت أسارير وجهها وراحت تجثو على ركبتيها أمامه حتى حملته بين ذراعيها وهي تداعب فرائه الناعم وتقول بصوت حائر فضولي:
-مين اللي جابك يا جميل إنتَ!!!
قامت بوضع كفها على الورود وما أن رأى ذلك حتى أرخى شفتيه عن الورود كي تتمكن من الحصول عليها، وجدت ظرفًا ملحقًا بالورد فقامت بفتحه وراحت تقرأ الرسالة القابعة بداخله:
-كُل سنة وإنتِ أشطغ دكتوغة وربنا يخليني في حياتك دايمًا وأتنمغ عليكِ، يا رب البابي يعجبك، اختاغي له اسم حلو بقى.
انشرح قلبها بسعادة غامرة وراحت ترقص في مكانها وتحتضن الجرو بمرح وسرور فأخذت تدور حول نفسها تتخيل نفسها تحلق بجناحين في السماء؛ فهكذا تشعر كلما أظهر ولو قليلًا من مشاعره الخفية لها إلا أنها تُدرك كُل نظرة أو ابتسامة منه وتفهمها جيدًا.
-أيه الانشكاح دا؟! والكلب دا جبتيه منين؟!
أسرعت "مُهرة" بدعس الورقة بين قبضتها التي وضعتها خلف ظهرها فور أن اصطدمت بأمها ولم تلحظ وجودها بالصالة، تنحنحت بتوترٍ ثم قالت:
-لقيته قدام باب البيت.
رفعت "رابعة" أحد حاجبيها ثم أضافت بهدوء:
-أه ومين اللي باعته؟! وما تحاوليش تكذبي عليا.
رأرأت بعينيها في توترٍ قبل أن تبتلع ريقها بصعوبة بالغة ثم تقول باستسلام ونبرة مُتحشرجة:
-نوح.
رابعة تضغط على كلمتها وتكررها مرة ثانية:
-نوح!
أومأت بحرج قبل أن تتجه إلى الكعكة وتقول شاعرةً بالجوع:
-مش هناكل بقى؟!!!!
قامت بالتقاط قطعة من الدجاج ثم راحت تلتهمها بتلذذ كبيرٍ، نعم قطعة من الدجاج؛ فمُهرة لا تدعم فكرة الكعكة التقليدية للاحتفال بل تفضل أن تكون كعكتها من النوع الخاص حيث تكون عبارة عن بيتزا مُغطاة بالكثير من البروتين ومُزينة بقطع الدجاج وتضع لها والدتها شمعة تحمل أرقام عمرها بالمنتصف وهكذا يكون الاحتفال من وجهة نظرها.
•••••••••
-مكانش له داعي اللي عملتيه دا يا سكون، قطعتي رزق الراجل من أول يوم شغل؟!!
أردفت "شروق" بصوت مُشفق على حال الرجل الذي انقطع عيشه وهو لم يبدأ بعد، عقدت "سكون" ذراعيها أمام صدرها وراحت تقول بنبرة حازمة:
-لازم يتحاسب على جرأته معايا ويفهم إن الرؤوس مش متساوية!
شروق وهي ترد باستنكارٍ:
-سكون إنتِ محتاجة تخرجي من أسر بابا وفكره لأن واحدة واحدة بتوهي عن شخصيتك الحقيقية، إنتِ بقيتي نُسخة من شخصية بابا!!!
سكون وهي تبتلع ريقها على مهل ثم تسأل بتوجس:
-وهي دي حاجة وِحشة؟!
شروق بإيجاز:
-أكيد.
(على الجانب الآخر)
-يا فندم، بنت حضرتك طايشة ومش قادرة تفهم أد أيه أنا حاسس بالمسؤولية ناحيتها وكان لازم التزم بتعليمات حضرتك حتى لو دا هيضايقك بس متأكد إنك هتشكرني في النهاية.
أردف "كاسب" بتلك الكلمات وهو يقف شامخًا أمام الأخير الذي زفر بضيقٍ ثم قال مُقتنعًا بكلمات الواقف أمامه:
-عندك حق، أنا بنتي متهورة فعلًا وسعيد جدًا إنك بتلتزم بتعليماتي وخايف على اللي ليا وفعلًا أنا بشكرك.
سكت لبُرهة ثم أكمل:
-ولكن سكون بنتي هي كل حاجة ليا وثروتي في الدنيا؛ فياريت تخلي بالك من تصرفاتك معاها على أد ما تقدر!.
كاسب يسأل بحنكة:
-حتى لو كانت مُصرة على حاجة هتضرها؟!
عثمان بابتسامة خفيفة:
-متصعبش الإجابات عليا.. أكيد لأ.
كاسب بثبات:
-تمام.
أومأ "عثمان" له بهدوءٍ ثم سمح له أن يخرج ففعل الأخير، خرج من الغرفة فوجدها تقف أمامه متخصرةً وترميه بنظرات شامتة وابتسامة مُتشفيةً تستقر على ثغرها، تحرك نحوها ثم تجاوزها ومر إلا أنها وضعت كفها على ذراعه تجبره على الوقوف ثم استدارت حتى وقفت قبالته مُباشرة وبنبرة ساخرة أضافت:
-مبسوط دلوقتي وإنتَ بتخسر وظيفتك علشان لسانك طويل!!
باغتها بابتسامة خفيفة قبل أن يلتقط علبة السجائر من جيبه ثم يخرج منها واحدة ويبدأ في إشعالها بثقته المعهودة، أخذ نفسًا من السيجارة ثم زفر دخانها في وجهها فراحت تسعل بقوة بعد أن عبق الدخان المحيط الذي يقفا به، وهنا تكلم بصوت ثابت ينم عن مدى تهكمه بها:
-لساني طويل؟! يبقى مجربتيش ايدي.
تحرك من أمامها خطوتين إلا أنه عاد بسرعة حتى تلاقى بعينيها ثم تابع بضحكة واسعة:
-نتقابل في معركة جديدة بكرا إن شاء الله.
انفرجت شفتيها بشدوه وصدمة بعد أن بلغها ببقائه في العمل وهذا ما لم تكن تتوقعه، ضغطت على فكيها بغيظ حقيقي قبل أن تهرول إلى غرفة والدها وتدخل عليه في الحال.
-بابا!.. إنتَ إزاي متطردش الكائن دا؟!!
شبك "عثمان" أصابعه سوية ثم أجاب بهدوء:
-لأنه معملش حاجة تستدعي دا!
سكون بانفعال مُفرط:
-لأ عمل.. حضني.. حضني بحجة إنه بيحميني.. يعني فوق ما هو لسانه طويل دا كمان مُتحرش!!!
انبسطت عقدة حاجبيه قبل أن يقول بثبات:
-دا كلام كبير يا سكون ومينفعش شخصية قوية ومُتماسكة زيك تقول أي كلام والسلام لمجرد أن الشخص دا مضايقها!!
أشاحت للجهة الأخرى وهي تدرك حجم خطأها فالجميع يعرف أن ما فعله بدافع حمايتها فقط، نظرت إليه بحزن قبل أن تخرج من الغرفة تحمل خيبة اصطفاف والدها في صالحه، كيف لهذا الغريب أن يحوز على دعم عثمان السروجي في يوم؟!! ولا نبالغ إن قلنا ثقته!!.. تشعر أنه ساحرًا أو ماكرًا عظيمًا.. كانت تشتعل غيظًا منه ولكنها فضلت أن تواري هزيمتها أمامه حتى لا يشتم أحد رائحة الخسارة التي كابدتها أمام مجرد سائق كما تنعته.
••••••••••
-صباح الخير يا خالة رابعة.
أردف "نوح" بتلك الكلمات وهو يتجه حيث يجلس الشيخ "سليمان" وتجاوره في المقعد "رابعة" التي ما أن رأته ينضم إليهما حتى نهضت كي تغادر المكان كما أنها لم ترد على سلامه الذي وجهه لها، عقد "نوح" ما بين عينيه قبل أن ينظر إلى الشيخ ويقول بمزاحه المعتاد:
-أنا شفاف يا عم الشيخ!!.. خالة رابعة مردتش عليا مش كدا؟!!
أومأ "سليمان" ثم رفع أحد حاجبيه وهو يقول بهدوء:
-ادنو مني يا ولد!
نوح وهو يشير بأصبعه إلى كلتا عينيه:
-عيني يا كَبير.
أنهى عبارته ثم جلس بجواره مُباشرة فيما باغته "سليمان" بحركة صدمته حيث تناول أذنه بين إصبعيه وراح يشدها بقوة ثم يقول بلهجة حازمة:
-كله إلا بنات الناس يا صايع، أنا ربيتك على كدا؟!
فتح "نوح" فمه على وِسعه ثم تساءل بذهول:
-وربنا ما أعرف بنات.
حدجه "سليمان" بنظرة من جانب عينيه ثم قال بصوت أجش:
-متعملش عبيط يا نوح وقول لي عاوز أيه من مُهرة!
تنحنح "نوح" بحرج قبل أن يبتلع ريقه على مهل ثم يقول مراوغًا:
-هي زعلت من الهدية اللي أنا جبتها لها؟!
سليمان بدهشة يصيح:
-وكمان بتجيبوا لبعض هدايا؟!!
-آه آه آه، ودني يا شيخ سليمان، ودني يا كبير، متغلاش عليك والله بس هعلق النضارة على أيه؟!
صاح "نوح" مُدعيًا الألم فيما قام "سليمان" بالطرق على جبهته وهو يقول بنبرة هادئة:
-دا على أساس إنك لابس نضارة؟! ومتوهش عن الكلام!!
همَّ أن يضرب جبينه مرة أخرى إلا أن "نوح" صاح مُستسلمًا وهو يقول بحسم:
-عاوز هدومنا تجمعهم غسالة واحدة!
سليمان بابتسامة خفيفة:
-اسمها عاوز أتزوجها على سنة الله ورسوله.
نوح وهو يتابع بلهجة مازحة:
-مليش أنا في اللغة العربية الفُصحى دي، اسمها عاوز أكلبشها.
سليمان بتهكم مازح:
-وأيه مانعك يا حظابط؟!!
نوح وهو يندمج في أحزانه بصورة مُضحكة:
-العين بصيرة والإيد قصيرة يا شيخ.
سليمان وهو يهدر فيه بغيظ:
-اتكلم جد يا ولد!
تنحنح "نوح" بخشونة قبل أن يعرب عما يحول دون تكليل حبه الشديد لها بحفل زفاف جميل وثوب أبيض يراها فيه كما يتخيلها كُل يومٍ:
-مستني يكون عند مكان مِلكي لأني مش عاوز أخد بنت الناس أبهدلها معايا وقريب أوي هطلبها منك بشكل رسمي لأني دفعت مقدم شقة مِلك ومستني أخلص فلوسها كاملةً ولا نتجوز وعلينا أقساط!!
سليمان بنبرة هادئة تتفهم هدفه:
-تمام عداك العيب ولحد الوقت دا بقى لسانك ميخاطبش لسانها.
عبس وجهه على الفور ثم تابع شاعرًا بالظلم:
-دي تكديرة دي ولا أيه؟! هو أنا بقول لها كلام يدوخ يبوي لا سمح الله، كلهم مواقف تنمغ بدون فيلينج!!
سليمان بحزم:
-تعمل اللي بقول لك عليه.
نوح يوافقه على مضض:
-هحاول.
في هذه اللحظة وجد "رابعة" تعود مرة أخرى وتحمل الجرو بين ذراعيها وما أن وصلت إليهما حتى تركت الجرو على الدِكة التي يجلس عليها الأخير ثم قالت بنبرة ثابتة:
-خد الكلب بتاعك دا كمان، مش وراه غير يدخل الحمام ويقعد ينبح.
نوح وهو يقول بصوت منشرح:
-أكيد عاوز يعمل حمام، أنا نسيت أقول لكم إنه ابن ناس ومش بيعمل حمام غير في البوتي!
رابعة ترد باستنكارٍ وعدم فهم:
-في الأيه؟!!
نوح بابتسامة واسعة:
-ولا حاجة يا خالة.. بس هي مُهرة اللي رجعته ولا مغصوب عليها!
سليمان بنبرة ذات مغزى يهتف باسمه:
-نووووووح!
نوح يتجنب غضبه فيقول وهو يلتقط الجرو ثم ينهض من مكانه:
-احم.. طيب.. فوتكم بعافية.
••••••••••
وقف بسيارته أمام البناية التي تقطن بها بعد أن أخبرها بوصوله عبر الهاتف ولم ينسَ أن يستأذن علام بشأن ذهابها معه والذي قبل فورًا ودون أدنى مواربة، انتظر عدة دقائق حتى أطلت عليه بأناقة وثقة، سارت نحو السيارة وما أن ركبتها حتى تابعت بابتسامة خفيفة:
-أيه رأيك في لبسي المُحتشم؟!
قدح الشرر من عينيه وراح يقول بلهجة حادة:
-أيه القرف دا؟!!
حدقت فيه مصدومة ثم ردت باستنكار:
-قرف!!!
أومأ إيجابًا ثم قال بغيظٍ:
-فين الحجاب؟!
أشارت بيدها نحو رأسها ثم قالت:
-أمال أيه اللي على راسي دا؟!!!
تليد متابعًا بسخرية:
-دي فوطة الحمام، شكلك نسيتيها على راسك!!
وَميض بدهشة تكرر:
-فوطة الحمام؟! دا تربون ولا إنت مبتفهمش في الموضة.
تليد وهو يهدر فيها بسخطٍ:
-أنا لا بفهم في الموضة ولا غيرها، جو تخرجي لي شوية شعر من طرحتك ولا تلبسي لي عِمة الصعايدة دا مش هينفع معايا خالص.. أنا عاوز حجاب صحيح.. مغطي رقبتك وشعرك وأكتافك وضهرك.. يعني من الآخر مشوفش مفاتن باينة منك.
التوى شدقها بغيظٍ ثم صاحت باستنكار:
-ناقص تقول لي إن خروجي من البيت عَورة!!
تليد بحدة يرميها بنظرة قوية:
-صوتك اللي بتعليه عليا دا اللي عورة؛ فياريت تاخدي بالك من نبرة صوتك وإنتِ بتكلميني ودا الإنذار الأخير ليكِ.
ابتلعت ريقها على مضض قبل أن تسأله بصوت حانقٍ:
-قول لي إنتَ عاوز تتجوزني ليه؟ لمَّا أنا مش عاجباك وكل حاجة فيا غلط ليه طلبت تتجوزني ما في مليون واحدة صح غيري!!
أحرجه سؤالها الذي توقع أن يُسأل عنه يومًا ما، أشاح بوجهه عنها على الفور قبل أن يقول بنبرة ثابتة:
-لو كان لينا سُلطة على قلوبنا مكنش حد فينا بقى له نُقطة ضعف.
تعجبت من إجابته التي بدت غامضة بالنسبة لها ولكنها شعرت بالحرج أن تستفسر عن مقصده، لحظات ووجدته يفتح الخزنة مرة أخرى ويلتقط غطاءً للرأس ثم يمده لها ويقول بصوت أجشٍ:
-البسي دا.
زوت ما بين عينيها دهشةً وهي تلتقط الحجاب منه، فيما تابع هو بثبات:
-توقعت إنك هتلبسي حاجة مفتوحة أو حجاب ميعجبنيش فقررت أجيب لك الطرحة دي، لونها أسود هيليق على كل الألوان لأني عارف إن التفاصيل التافهة دي تهمكم.
أخرجت "وَميض" زفيرًا مُشتعلًا بنيران الغيظ، قامت بالتقاط الحجاب ثم همَّت أن تنزع الطاقية التي ترتديها إلا أنه أوقفها يقول بلهجة صارمة:
-استني.
توقفت فجأة من شدة الخوف، فيما أسرع بغلق نافذة السيارة المجاورة لها والتي يصطبغ زجاجها باللون الأسود فيحجب رؤية الناس للأشخاص الموجودة بالداخل، أشار لها أن تتابع وراح يشيح للجهة الأخرى ناظرًا إلى الأسفل حتى أردفت بهدوء يغلفه السخط:
-خلصت.
استدار ينظر إليها وكأنما يرى تفتُح الشمس بعد أن كساها الغمام لأيام طويلة، كانت تبدو أكثر رقة وبراءة الأمر الذي جعله يتصلب في مكانه ولا يجرؤ عن إبعاد ناظريه عنها، شعرت بالخجل من تركيز بصره بها فيما تابع هو مُشيرًا إلى خصلة قد سقطت على عينيها، فهمت ما يشير إليه فأسرعت بدفن الخصلات أسفل الحجاب مما جعله رغمًا عنه يقول بثناء ومديح:
-بقيتي زيّ القمر.
للمرة الثانية التي ترصد نظرات مُختلفة داخل عينيه أثناء رؤيته لها، نظراتٌ لا تحمل سوى معنيين؛ شخصٌ يشتاق للناظر إليه ويرغب في إشباع لهفته منه أو شخصٌ يحمل رسالة خاصة ومُعبرة له، انجذبت لبريق عينيه الذي ضوى لحظة تأملها ليشعر وكأنه يسبح داخل أحد البحار حتى جاءه إعصار على حين غُرة فلم تسعفه مهاراته في السباحة وانجرف مع التيار ليقع صريعًا قد أخذه الموت بُغتة فغرق داخل بحور عينيها.
يتبع
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية