رواية رحماء بينهم الفصل السادس عشر 16 - بقلم علياء شعبان
(رُحماءٌ بينهم)
"كمثلِ الأُترُجَّةِ".
]]الفصل السادس عشر]]
••••••••
جُهزت مائدة الطعام منذ وقت طويلٍ فيما بقى الجميع متفرقين داخل ردهة القصر يتعجبون من غضبه المفاجيء حتى توترت الأوضاع تمامًا إذ أن "عثمان" راح يصول ويجول في كل زاوية بالبيت وقد تغير لون وجهه وكساه حُمرة الغضب، بدأ الجميع يتساءل حول ما يمر به من مشكلة؟!! ولكنه كان كتومًا عن الأمر، انتظر الجميع أن يهدأ ويأتي لتناول الطعام إلا أنه امتنع تمامًا عن مشاركتهم وعن البوح بما يتعرض له من أزمة، لحظاتٌ وارتفع صوت عال يشي عن تحطيم بعض الأشياء بالطابق العلوي الذي تقبع فيه غرفة مكتبه، تبادل الجميع نظرات تساؤلية مندهشة فيما تابعت "سكون" بوجلٍ:
-بابا!!!
نهضت عن الأريكة ودون تفكير هرولت تصعد الدرج حتى وصلت إلى عتبة باب المكتب وبدأت ترى شظايا زجاج مُهمش ومتطاير في كل مكان حتى طال المساحة الموجودة أمام الباب، حدقت في توجسٍ ثم أسرعت تطرق على الباب وهي تقول بصوت مُرتجفٍ:
-بابا.. إنتَ كويس؟!!
لم يجيبها فازداد خوفها عليه وهي تقول بحسم وأنفاس مُضطربة:
-بابا.. أنا هدخل!
حسمت أمرها وأسرعت بفتح الباب ثم دخلت على الفور، وقفت متسمرة في مكانها آنذاك وهي تجد والدها يجلس على كرسيه ويضع رأسه بين راحتيه منكسًا رأسه للأسفل في غضب محبوس بين أوداجه وأنفاسه الساخنة، سارت نحوه متوجسةً ثم طفقت تسأله بهدوءٍ واهتمامٍ:
-بابا، ممكن تفهمني في أيه؟! اتكلم علشان خاطري؟! وإن شاء الله كُل مشكلة وليها حل!
مسح "عثمان" غُرة رأسه بعصبية قبل أن يصيح بلهجة منفعلة:
-في لعب بيحصل في المصنع من ورا ضهري يا سكون وأمور مُستجدة ما واجهناش زيها قبل كدا، حاسس إن في كارثة بتقرب مننا وحد قاصد يطعني في ضهري.
زوت ما بين عينيها دهشةً وراحت تسحب أحد الكراسي القابعة أمام المكتب ثم تستقر به بجوار والدها، تنحنحت بتوجسٍ قبل أن تسأل بفرط من الفضول والتيه الذي أنتج عنهما اشتباك الأمور عليها.
-حد!!.. حد زيّ مين؟! وهو أيه أصلًا اللي بيحصل في المصنع ومعنديش علم بيه!!
عثمان وهو يهز رأسه يُمنة ويسرى بشيء من الحيرة والعجز:
-معندكيش علم لأن الكوارث دي كلها حصلت في اليومين اللي كُنتِ مع أختك فيهم، عمال المصنع عاملين اعتصام من يومين وموفقين الشغل وعايزين زيادة 40٪ على مرتبهم وفي منهم كتير بيقدم استقالته بطريقة مُثيرة الشكوك واللي خلاني أتأكد لمَّا روحت علشان أمضي عقد الأرض اللي هنبني عليها فرعنا الجديد ولقيتها متباعة رغم إني كنت متفق مع صاحب الأرض على كل حاجة واديته مبلغ أكتر من اللي طلبه.
سكون وهي تبسط ما بين حاجبيها ثم تعلق بدهشة ممزوجة بالذهول:
-متباعة!!!.. دي كانت واقفة على التوقيعات بس؟! إزاي تتباع؟! وصاحب الأرض، كلمته؟
عثمان وهو يزفر بحنق واختناق:
-اختفى تمامًا مش لاقي له أثر، حاولت أعرف اتباعت لمين ولكن معرفتش أخرج بأي معلومات كأنه سر.
تفاجأت "سكون" بحديث والدها الذي أربك التفكير لديها كُليًا، فعمال المصنع يتحصلون على رواتب مُجزية منذ أن بدأت العمل بالمصنع وطلبت من والدها زيادة أجورهم لضمان ولائهم للمكان، كانت ترى في أعينهم الرضا وأكثر ما كان يشغل بالها هو الاهتمام بالقوى العاملة داخل المصنع؛ فكانت تهتم بفترات الاستراحة وتحرص على ألا يعملون لساعات طويلة فيتأففون ويكلون العمل وتقل جودة البضائع بين أيديهم. شعرت بالغضب يدق أبواب قلبها وهي لا تفهم سر احتجاجهم وهي التي حاربت بعض اللوائح بالمصنع ووقفت في وجه قوانين والدها الصارمة كي تخلق لهم بعض الطمأنينة والرفاهية.
ابتلعت غِصَّة مريرة في حلقها ثم بدأت تربت على ظهره برفق ثم تقول:
-لو على العمال فبإذن الله أنا هحل الموضوع أما الأرض فهنلاقي أحسن منها بكتير، أنا عارفة إن موقعها الاستراتيجي كان نقلة مهمة جدًا بالنسبة لاسم شركتنا ولكن دا ميمنعش أننا هندور على أفضل منها.. بس علشان خاطري لازم تهدا وتفكر بالهداوة!!
أنهت حديثها ثم نهضت على الفور، انحنت عليه ثم طبعت قبلة بسيطة على جبينه قبل أن تقول بحسمٍ:
-أنا هسبقك على الشركة وإنتَ حاول تهدى وتعالى ورايا.
خرجت من الغرفة على الفور مُقررة أن تذهب إلى المصنع لمُباشرة المشكلة بنفسها والاطلاع على أسبابها التي نهضت من أسفل التراب دون سابق إنذار أو ما يدعو لصحوتها، نزلت للطابق الأرضي حيث الردهة وبدأ الجميع يسألها عمَّا يغضبه فأخبرتهم بموجز الأمور من تظاهر العمال لرفع الأجور ونيتها في الذهاب والحديث معهم، التقطت حقيبتها ثم ترجلت خارج القصر.
أسرعت نحو السيارة بوجه مُتجهمٍ وخطوات سريعة، كان "كاسب" يقف بجوار السيارة يراقب قدومها من بعيدٍ وما أن وصلت إليه حتى قامت بفتح باب السيارة بنفسها ثم أردفت بلهجة حازمة وهي تركب:
-خدني على المصنع.
أغلقت باب السيارة فور انتهاء كلامها ويبدو أن لا طاقة لها على جداله وقد استسلمت للأمر الواقع وبدأت تفتح باب السيارة وتُغلقه بنفسها، ابتسم "كاسب" بانتصار هاديء بعد أن نجح في إبعاد فكرة الهانم وسائقها من حيز تفكيرها، صعد إلى السيارة وشرع باقتيادها وتعجب من صمتها طوال الطريق وهي لا تكف عن العجرفة وإسداء العديد من الأوامر والتعليمات له؛ فبدأ يراقب معالم وجهها عبر المرآة بين الفينة والأُخرى فيجدها لا تزال عابسة وشاردة تمامًا ويحتل الضيق أدق تفاصيل وجهها.
-آنسة سكون؟!
انتبهت له فاستدارت تنظر إليه عبر المرآة دون أن تتكلم فيما أراد أن يستفز الذات الشقية داخلها وراح يتابع بلهجة ثابتة:
-إنتِ تعبانة النهاردة؟!
زوت ما بين عينيها ثم سألته بجدية:
-مش فهماك!!!
كاسب بابتسامة ماكرة:
-مش بتخانقي دبان وشك كالعادة ودي حاجة مُثيرة للقلق طبعًا.
أخذت نفسًا عميقًا إلى صدرها ثم أخرجته زفيرًا طويلًا وهي تقول بتأفف:
-اطلع من دماغي يا كاسب فضلًا!
كاسب بهدوء:
-تمام.
••••••••
نزل من السيارة بخطوات ثابتة، مشى حتى وصل إلى الباب التي تجلس خلفه فأسرع بفتحه بطريقة مُتحضرة ومُهندمة، كانت تظنه سيمد راحته لها وينتظر أن تتشبث بها ولكن لم يفعل وهذا ما توقعته تمامًا، اِبتسم لها ابتسامة رصينة ثم أشار لها بذراعه أن تنزل ففعلت بابتسامة مثيلة، كانت ترتدي ثوبًا بلون الكرز قاتم الحُمرة يستفيض على جسدها ذي أكمام منفوخة ومُحكمة بأساور في النهاية وترتدي الحجاب الأسود الذي أهداه لها فبدت جذابةً أطاحت بقلبه بقوة حتى أحدثت صدعًا به لينقسم إلى شطرين وكلاهما قد نسى آلامه وذاب ثم سعى كليهما إلى طلب الاستزادة.
ظنته سوف يطلب منها أن تتأبط ذراعه ولكنه اكتفى بالسير بجوارها إلى أن وصلا حيث البوابة الداخلية للقصر وهناك كانت تنتظر "نجلا" الزوجة المفضلة للفقيد والتي تعتني بالعائلة بعد مماته وتهتم بجريان الأمور على أكمل وجه كما لو كان على قيد الحياة، يبدو أنها كانت الأكثر دعمًا له والأجدر بثقته فكان لا يخطو قيد أنملة إلا واستشار عقلها الفذ، تبدو ذا ملامح قاسية رغم رقتها وجمالها الفائق.
وقفت "نجلا" أمام البوابة ثم أومأت برأسها في تحية وأبقت ذراعيها بجوارها وهي تتنقل ببصرها بينهما ثم تقول بترحاب وحفاوة شديدة:
-نورتنا يا أستاذ تليد وأستاذة.....!
باغتتها بابتسامة بسيطة ثم أجابت:
-وَميض.
أومأت لها في رصانة ثم تنحت جانبًا كي تُفسح الطريق لهما وقالت بلهجة ثابتة:
-اتفضلوا.
طلب "تليد" من "وَميض" أن تتقدم ثم دخل بعدها وانتظرا في الردهة حتى قادتهما "نجلا" إلى غرفة الضيافة والتي كانت ذات طابع مُميز وقديم حيث توجد مدفأة من الحطب وبعض قطع الآثار الرقيقة والمميزة فيبدو لك أنك تزور أحد المتاحف العريقة مثلًا!
لحظات وبدأ أفراد العائلة يتوالون تباعًا فبدأت "نجلا" في تقديم كل فردٍ منهم على حدا، دخلت "مريان" أولًا وهي الزوجة الأولى لحمدي زهران ووالدة بناته فهو لم يكن يُنجب ذكورًا مما جعله مطمع لجميع أفراد عائلته من الذكور الذين يرون أنهم الأجدر ببناته للحفاظ على ثرواتهن.
-أهلًا بيكم في القصر.
تكلمت "مريان" بصوت هادئ وابتسامة بسيطة وراحت تجلس على الكنبة المقابلة لهما ثم دخلت بعدها "أيلين" الابنة الكبرى للفقيد والتي تكن للأخير بعض المشاعر من الوقت الذي طلب منها والدها أن تذهب مع "نجلا" إلى الشركة وتباشر تعليمها بنفسها بالممارسة كي تسنده وتستمر في ذكر اسمه حتى بعد وفاته إلا أنها كانت فتاة مُحبة للمرح وتكره الرسميات والقيود فلم تهتم بالذهاب إلى الشركة إلا قليلًا وتركت لزوجة أبيها زمام كل الأمور.
-نورتنا يا أستاذ تليد.. نورتي!
قالت عباراتها وهي تتنقل ببصرها بينهما وعلامات الضيق بادية على وجهها خاصةً عندما أخبرتهم "نجلا" بقدومه مع خطيبته وهذا ما أثار حنق الأخيرة التي توقعت أن يرأف بحالها وينظر إلى مشاعرها التي تجمدت بردًا من كثرة الانتظار؛ فهي لا تُدرك أنها تغرس بذرة قلبها الوله في أرضٍ لا تزرع مثل هذا النوع من البذور بل ينغرس داخل أرضه عشقًا سرمديًا برزت رؤوسه توًا وقريبًا تينع وتزدهر.
ابتسمت لها "وَميض" بهدوء ولكن لم يُخفي عليها رؤية الحنق على صفحة وجهها خاصةً أنها تعرف الحكاية وما فيها، تنهدت بأريحية شاعرةً بالانتصار لأول مرة فقد اختارها هي رغم غياب ما يجمعهما من حب وحتى الآن لا تفهم سر تمسكه الشديد بها إلا أنها شعرت بالتميز في هذه اللحظة ولا تعلم أن تمييزه لها بدأ منذ سنوات عديدة!
قامت "نجلا" بالجلوس على مقعد مُستقل ورغم أنها لا ترتاح في جلوسها إلا إذا وضعت قدمًا فوق الأخرى ولكنها لم تفعل احترامًا له؛ فهي تحترم شخصه لدرجة كبيرة، تنحنحت "نجلا" برقة قبل أن تقول بهدوءٍ ورقة:
-محامي العيلة في الطريق وكمان اخوات حمدي وأولاده ولأنه كان بيثق فيك فلجأنا لك علشان تكون معانا في أزمة زيّ دي لأننا مش ضامنين تصرفاتهم معانا.
تليد وهو يومىء برأسه في تفهم:
-وأنا موجود في أي وقت تحتاجوني فيه.
أيلين تبتسم ببرود ثم تقول:
-معرفتناش بالأستاذة؟!
توجه ببصره إليها ثم أبعده وهو يقول بثبات، فلم يكُن يغفل على شخص بفطنته ما يجول في خاطرها ويستقر بين أضلعها نحوه ولكن ما باليد حيلة حينما يأمر القلب:
-آنسة وَميض، خطيبتي وقريبًا عقد القران وأكيد إنتوا أول ضيوفي إن شاء الله.
وَميض وهي تضيف بابتسامة ماكرة:
-وشغالة حديثًا في الشركة عندكم.
نجلا ترد بدهشة:
-أه، عرفتك، إنتِ اللي كُنتِ شغالة سابقًا في شركة عثمان السروجي؟! ووالدك شغال عنده في القصر!!
تغيرت ملامح وجهها إلى ضيق متوارٍ وراحت تقول بنبرة متهكمة وثابتة:
-وشغل والدي كان في السي ڤي بردو؟!!
نجلا وهي تومىء سلبًا وتضيف ببرود:
-تؤ، دي معلومة وصلتني من برا.
أيلين وهي تتفحص أصابع كفها ثم تضيف بتعجب:
-بس أنا ليه مش شايفة دبلة في إيدك؟!!
صمتت "وَميض" فور تلقي سؤالها الذي لم يكن له إجابة عندها، فيما تناول هو منها طرف الحديث ثم قال بهدوءٍ:
-الدبلة في عاداتنا بتتلبس مع عقد القران.
أومأت "أيلين" ببرود وبقيت تنظر إليه في عتاب بينما يتجنب النظر إليها وقد خطر على باله اللحظة التي جاءت إليه فيها وصرحت عن مشاعرها التي تكنها لها ورأيه في أن تغالي في قيمة نفسها وألا تسعى بحثًا عن قدرها بل تترك لله حسن التدبير ولم تستطع لفت انتباهه بمثقال ذرة حتى فكانت تلعن جديته وصرامة تصرفاته الجامدة والخالية من كل شيءٍ قد يحركه نحوها.
في تلك اللحظة أتت مُدبرة المنزل وقالت بهدوء:
-madam, I have finished setting the table.
أومأت "نجلا" ثم التفتت نحو الجميع وتابعت بهدوءٍ:
-تمام، ممكن يا جماعة نأجل التعارف المميز دا لبعد العشا!!
ابتسمت لها "وَميض" نصف ابتسامة فيما أكملت "نجلا" تطلب منهما اتباعها حتى المائدة:
-اتفضلوا.
توجه الجميع إلى مائدة الطعام فعلًا والتي تحتوي على كل ما لذ وطاب من الطعام المُقدم بطرق متطورة ومميزة كتفرد كل شيءٍ بالقصر، بدأ الكل في تناول طعامهم وكانوا يتبادلون طرف الحديث بطبيعة الحال، حتى سألت "نجلا" بابتسامة عريضة:
-يا ترى بقى عرفت آنسة وَميض منين؟! اوعى تقول من الشركة؟! احكوا لنا قصة حبكم لو مش فضول مننا يعني!!!
تنحنحت "وَميض" بتوترٍ من سؤالها الذي خافت منه منذ قدومها والآن تتواجه معه دون إجابة تُقال!!.. استدارت تنظر نحوه فابتسم لها بعذوبة وثبات جعلها تستغرب ثباته الانفعالي حتى في الأوقات العصيبة؛ ولكن المُفاجأة الكُبرى بالنسبة لها حينما بدأ يسرد لها حكاية من وحي خياله ويصيغها بتفاصيل دقيقة وكأنها حدثت بالفعل وهي لا تعلم أن حكايته تلك واقعية لا يشوبها مثقال ذرة من خيال، تنشق "تليد" الهواء بعُمقٍ ثم تابع بثبات غريب:
-كنت بحبها من طفولتي ولحد الآن واخدة حيز كبير أوي من تفكيري ويومي.
ابتسمت "نجلا" ثم سألته بانسجام:
-اوه! ريلي! بس واضح إنك أكبر منها؟!!
نظر "تليد" إلى طبقه وبدأ يقطع شطيرة اللحم الموجودة أمامه بسكينه الخاص مُتابعًا دون أن يرفع عينيه نحوها:
-أكبر منها بعشر سنين، أنا اللي مربيها، كُنت زيّ طفل متعلق بلعبته المُفضلة على قلبه.
زوت "وَميض" ما بين عينيها دهشةً وهي تجده يجيد الكذب دون أن يرف له جفن أو ترتفع حرارته حتى، أسرعت بالنظر إلى صحنها هربًا من نظراتهم المندهشة عليها من قصته الأسطورية التي مازال يختلق أحداثها التي تنبع من وحي خياله، في هذه اللحظة تكلمت "أيلين" ببرود:
-إزاي مربيها وفين أهلها في الوقت دا؟! إنتوا تقربوا لبعض؟!!
تليد وهو يتناول الطعام ثم يتابع دون تفكير:
-جيران، كنت طفل صغير متعلق ببنت الجيران اللي لسه بتتعلم المشي، كنت بساعدها تمشي وبخاف عليها تقع، بأكلها بنفسي وكنت بحب أسرح لها شعرها جدًا.
أيلين وهي تضيف بسخرية:
-ناقص تقول إنك كُنت بتغير لها سوري البامبرز!!
تليد وهو يفتر ثغره عن ابتسامة عريضة ثم يقول:
-فعلًا.. أنا كُنت بعمل كدا فعلًا.. أنا حافظت عليها بمشاعر طفل.. تفتكروا هعمل أيه بمشاعر راجل ناضج!!!
برقت "وَميض" وهي تنظر بحرج إلى الطعام ودون أن تشعر بدأت تلتهم الطبق أمامها من فرط التوتر، بينما كان الأعين تنظر لهما ما بين مُعجب ومُتأثر وناقم!!.. بدأت "وَميض" تبتلع ريقها بصعوبة بالغة بينما بقيت كلماته تجول في خلدها ولوهلة تمنت لو كانت هذه القصة حقيقية ووعت من صِغرها على حب حقيقي يسترد حقوقها ويدفع عنها الأذى، تشدد به أزرها وتُشركه في أمورها وتبثه شكواها مما تجابه من بشاعة قلوب تحيط بها.
تكلمت "نجلا" بتأثر واضحٍ:
-ربنا يبارك لكم في بعض، رغم إني بسمع دايمًا إن حُب الطفولة بيختفي مع النُضج بس أول مرة أشوف حب النُضج بيقويه!!
تليد مُضيفًا بابتسامة هادئة:
-في قلوب زيّ علاقة الزيت والمية مهما تخلطهم ببعض مش بيندمجوا وكل مكون فيهم بينفصل بشكل واضح عن التاني وفي قلوب تانية مش بتنسى أول شعور اجتاحها أو سيطر عليها والشعور دا بيفضل سلطان على قلوبهم لحد ما يأذن له ربنا يا بالتعزيز أو صرفه عننا.
أنهى حديثه ثم استدار إليها بنظراته ليجدها تنظر إليه باختلاس وحرج كأنما ترجوه أن يتوقف عن قول الكذب الذي يوترها حتى وإن لم تكن هي الناطقة به، في تلك اللحظة أخرج تليد منديلًا ورقيًا من جيب بنطاله ثم مد ذراعه نحوها فبدت هي متوجسةً مما يفعل حتى تفاجأت به يمسح جانب فمها وما أن انتهى حتى وضع المنديل على الطاولة ثم همس بجانب أذنها قائلًا:
-مالك يا حب طفولتي؟!!
أهلكها التوتر فراحت تبتعد برأسها مسافة عنه وهي تبتسم بالكاد حتى لا يلاحظ الجميع نكرانها لكُل كلمة تفوه بها، تنحنحت بتوترٍ ثم تابعت وهي تقف في مكانها:
-ممكن أعرف مكان التويلت؟!
نجلا تومىء إيجابًا:
-أكيد.. liza!
لحظات وجاءت "ليزا" فطلبت منها "نجلا" أن تصطحب الأخيرة إلى الحمام فكان هذا الحل الأمثل بالنسبة لها حتى تستعيد ثباتها الذي قضى عليه تمامًا بحدوته المجنونة فيقول أنه رباها وكبرت على يده حتى أنه غير لها حفاضها؟!! إنها مهزلة أن يسرح بخياله لهذه القصة، فكان عليه أن يخبرهم بأخرى أكثر عقلانيةً كرؤيته لها في مكان ما والوقوع في حبها فضلًا عن الوقوع في حب طريقتها وهي تحبو أمام عينيه، كانت تشعر بالقنوط والحنق منه وأنه وضعها في صورة مُخجلة لها.
كان الوقت لا يمر وتشوبه رتابة وملل حقيقي حتى جاء المحامي لفتح الوصية وامتلأ القصر بأفراد عائلة "حمدي" زهران بأشقائه وأبنائهم ومن هنا انقلبت موازين الأجواء الهادئة إلى أخرى مشحونة بالانفعالات والعداوات.
جلس المحامي على الأريكة الموجودة بردهة البيت وطفق في فتح الوصية أمام الجميع وما أن بدأ يقرأ جزءًا من فحواها حتى ارتفعت الهمهمات والكلمات المُحتجة في صرامة حيث كتب في أوراقه أنه لا يملك سوى قصرين وسيارة فحسب، مما أثار جنون الجميع فقال أحد أشقائه بحدة:
-يعني أيه مش عنده غير القصر دا وقصر المعادي؟! أمال المصنعين والشركة دول أيه؟!.
المحامي وهو يضيف بثبات:
-حمدي بيه الله يرحمه قايل في الوصية إنه باعهم.
الشقيق الآخر:
-باعهم؟! إزاي ولمين؟! لمَّا الشركة لسه باسمه؟!!
أومأ المحامي بتفهم ثم أشارت له "نجلا" التي جلست بجواره في شموخٍ وثبات فتابع الأخير يقرأ إجابة السائل من خلال الوصية:
-تم بيع المصنعين والشركة لزوجتي نجلا حسن مخلوف ولم تعد هذه الممتلكات تحت حريتي فقد اشترتهم بمالها الخاص وهم لها ولا أملك سوى قصرين وسيارة مقسمة على زوجاتي وبناتي ومن يرثني عصبًا.
أحد أبناء شقيقه:
-دا حوار عاملينه سوى علشان منعرفش ناخد حاجة منه.
في تلك اللحظة، هبت "نجلا" واقفةً في مكانها ثم صاحت بلهجة حازمة لا تتخبط فيها أنفاسها أو ترتبك وتيرتها حتى:
-الزم حدودك يا بتاع إنتَ، أيه أصلًا البجاحة اللي فيكم دي؟! لأ كنتوا بتسأله عنه ولا تعرفوه وهو عايش وجايين عايزن تورثوا من تعبه وشقاه وبدل ما تحمدوا ربنا على كرم أخلاقه معاكم بتبجحوا وكأنكم اللي تعبتوا وشقيتوا على المال دا؟!!
تحركت خطوتين للأمام ثم صاحت بأعلى صوت لها:
-اسمع يا جدع إنتَ وهو، المصانع والشركة دول حقي على الورق وقانوني وشرياهم من حمدي ومعايا ما يثبت دا زائد إن دي أملاكه يتحكم فيها زي ما هو عاوز، اوعوا تكونوا فاكرين إنه وِرث أبوكم وجايين تتقاسموه؟!! وأي حد هيغلط في جوزي هرميه برا.
كانت "مريان" تجلس على جنب وهي تحتضن بناتها وتتابع ما يجري بتوجسٍ وخوف، في هذه اللحظة بدأ أحد الشباب يقترب نحوها في محاولة منه للاعتداء عليها ولكنه وجد رجلًا يقف في المنتصف بينهما فجأة ويحول دون الانقضاض عليها ويقبض على ذراعه، تكلم الشاب يقول بلهجة حادة:
-إنتَ مين إنتَ كمان؟!
تليد وهو يشد من ضغطته على ذراعه:
-مينفعش تمد إيدك على ست، الحاج معلمكش الكلام دا؟!!
وهنا تابع أحد أشقاء حمدي يقول بصرامة:
-ودا يطلع مين بقى؟! ناوي يورث معانا ولا حمدي باع له أملاكه بردو!!!
تكلمت "نجلا" بصوت صارمٍ:
-حمدي مباعلوش حاجة، حمدي أمنه علينا، أستاذ تليد يبقى خطيب أيلين يعني واحد مننا ومن حقه يحضر في أي وقت.
استدار "تليد" نحوها ينظر إليها بعتاب إلا أنها لم تجد مخرجًا سوى بهذه الكذبة، برقت "وَميض" لها بعينين مُتسعتين من شدة الغيظ ثم تحولت بنظراتها إلى "تليد" الذي استغرب رؤية الغيرة تنبعث بوهج مُلتهب من عينيها، تكلم في هذه اللحظة أحد الأشقاء فقال باستنكار:
-وإحنا معندناش علم بالخطوبة ليه؟!!
أطلقت "نجلا" ضحكة مُتهكمة جريئة ثم تشدقت:
-أنا مُتأكدة إن الحاجة الوحيدة اللي اهتميتوا تسمعوها عنه هي خبر وفاته علشان تورثوه طبعًا.
تحركت خطوتين للأمام ثم بدأت تصرخ بتهديد:
-اطلعوا براااااا.. يلا حالًا أخرجوا وإلا قسمًا بالله أطلب لكم البوليس بتهمة التعدي على سيدات عُزل واتهمكم بسرقة القصر كمان.. براااااا.
كان صوتها يرعد ويبرق بشدة حتى خشى الجميع تهورها وقد عُرفت بينهم بجرأتها وتيقنوا من أن "حمدي" لم يمت بصورة كاملة بل خلف ورائه نُسخة نسائية منه ولا يمكنهم أن يمروا عبرها أو يهدموا جبروتها الشامخ إلا إذا أصابتها المنية كما أنهم متأكدين من أن بيع ممتلكاته لها كانت خطة مُدبرة بينهما؛ ولكنها خطة تم حبكها بذكاء عظيم.
بدأ القصر يُفرغ من ذلك الازدحام ثم تنفست "نجلا" الصعداء وكانت لا تزال تشعر بالنقم عليهم، نعم ما تم بينها وبين زوجها كانت خطة مُدبرة للمحافظة على ممتلكاته التي حصل عليها بعد تعب وشقاء، تحركت "مريان" نحوها ثم سألتها بتوجسٍ:
-نجلا، إنتِ تمام؟!!
أومأت "نجلا" بتأكيد تطمئنها، ثم استدارت نحو "تليد" وقالت بامتنان:
-شكرًا على وقفتك جنبي.. أنا حقيقي استمديت قوتي من وجودك.
تليد بتواضع:
-أنا معملتش حاجة أتشكر عليها لأنك بالفعل قوية، بس لازم تلاقي حل تضمني بيه سلامتك وسلامة أسرتك.
وَميض وهي ترمقها بحدة ثم تقول:
-غير طبعًا إنه خطيب أيلين، لأنها خطة مش هتنفع خالص خصوصًا بعد كتب كتابنا!
نجلا باعتذار:
-أنا حقيقي آسفة إني قولت كدا ولكن كان لازم أحسسهم إننا مسنودين براجل مش ستات بطولها.
استأذن "تليد" للذهاب إلى الحمام، فيما التفتت "نجلا" إلى "وَميض" وتابعت:
-ممكن نتكلم بعيد شوية على انفراد!!!
زوت "وَميض" ما بين عينيها قبل أن تنهض "نجلا" التي لم تترك لها مجالًا للتفكير وسارت بعيدًا حتى وقفت أمام حجرة مكتبها فقررت "وَميض" أن تتبعها إلى أن دخلتا المكتب وهنا تكلمت "نجلا" بشكل صريحٍ:
-عايزة أعمل معاكِ صفقة وأوعدك هتكسبي من وراها الشهد.
زمت "وَميض" شفتيها ثم تابعت بدهشة:
-صفقة؟!! صفقة أيه دي؟!!
نجلا بلهجة عدوانية وانتقامية:
-عثمان السروجي!!!
وَميض ترد عليها بذهول:
-ماله؟!!
نجلا تتابع بنبرة متوعدة وساخنة:
-عايزة أنتقم منه لجوزي.. عايزة أصفيه وبما إنك تعرفي عنه حاجات كتير فمتأكدة إنك هتفيديني في طلباتي!!!!!!!
يتبع
التفااااااااااعل🔥🔥🔥🔥🔥🔥♥️
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية