Ads by Google X

رواية رحماء بينهم الفصل الثامن عشر 18 - بقلم علياء شعبان

الصفحة الرئيسية

 رواية رحماء بينهم الفصل الثامن عشر 18 - بقلم علياء شعبان 

(رُحماءٌ بينهم)
                              "كمثلِ الأُترُجَّةِ".
]]الفصل الثامن عشر]]
•••••••••••
تملكه التردد وهو يحاصر هاتفه بين راحتيه المُرتجفتين، هل تُراه يتجه نحو القرار الصائب ويُقرر أن يبوح بها بما هو نادم عليه من خطأ ارتكبه يوم أخفى عليها هويته الحقيقية، هل تُراه يبدأ صفحة جديدة معها وتعود المياه بينهما إلى مجاريها فيتحادثان ثم يتعاتبان وتزول جبال الجليد التي وقفت سدًا منيعًا يعوق تكليل علاقتهما الدافئة من وجهة نظره، أخذ نفسًا عميقًا إلى صدره المُثقل بالهموم والكثير من كلمات العتاب مُقررًا ضغط زر الاتصال وإنهاء معركته مع نفسه واستسلامه لما يشعر من اشتياق حول سماع صوتها!
مرت ثانية تليها الأخرى حتى انتهت الرنة الأولى، ابتلع ريقه بخيبة أمل لم تدم سوى لحظات حينما عاود اتصاله بها مرة أخرى؛ ولكن هذه المرة قد تم قبول الاتصال ولكنه لم يسمع سوى تنهيدات خافتة مُعبأة بالانكسارات، ارتجف قلبه آنذاك وعندما علم بقرار صمتها بادر في الحال قائلًا بنبرة هادئة:
-رويدا!
انتظر علها ترد على ندائه وعندما وجد أن لا فائدة من الأمر قرر أن يتكلم إليها مُقدرًا أحزانها منه:
-عاملة أيه؟! بتمنى لك تكوني بخير في كل لحظة!
تنحنح بندم وتابع:
-وَحشتيني!!
أخيرًا قررت أن تتحرر من صمتها فتابعت بصوت جافٍ:
-الكلام دا مبقاش ينفع يا عُمر ولا كان من البداية ينفع.
رد فورًا بلهفة:
-هينفع يا رويدا، لأن أنا قررت نبدأ مع بعض صفحة جديدة ونتوج علاقتنا بطوق رسمي.
رويدا بصوت هزيلٍ:
-مش قولت لك مبقاش ينفع!!!
قطب "عُمر" ما بين عينيه بضيقٍ وتابع بشك:
-ليه يا رويدا؟! أنا بكلمك علشان نتصافى ونبدأ حياة مختلفة، فهميني أيه اللي بيحصل معاكِ!
ابتلعت غِصَّة مريرة في حلقها قبل أن تقول باختناق:
-أنا اتخطبت يا عُمر.. عرفت ليه مبقاش ينفع!
عُمر بلهجة حادة وحارة:
-يبقى تفركشي!
شعرت "رويدا" بخنقة قوية تداهم جهازها التنفسي وقتما صاح فيها بحدة وكأن من حقه وضع الخطوط التي تسير عليها في حياتها كما أن عليها قبول قراراته الغير مسؤولة، فإن شاء خروجها من حياته فعلت وإن شاء بقائها حاورته حتى يأمره مزاجه بقرار جديد، هل هي دُمية يحركها كما يشاء!!!
تنفست بقوة قبل أن تقول بلهجة أحد من خاصته:
-قربي.. ابعدي.. مش هنتقابل.. هنتقابل.. فركشي.. قربي!!!.. خير يا عُمر إنتَ ناسي إنك لسه مشترتنيش بفلوس باباك!!
عُمر وهو يُصرح بندمٍ:
-أنا أشتري الدنيا كلها علشانك يا رويدا وميكفيش مقامك عندي.
رويدا بضحكة مخنوقة تبث فيها بعض السخرية:
-مقامي!.. فين مقامي دا وإنتَ بتكذب عليا طول الوقت بدون مُبرر واضح!!.. إنتَ كُنت بتختبرني مثلًا!
سكتت هُنيهة ثم أكملت:
-أعتقد إني نجحت في الامتحان كويس أوي، إني أكون من طبقة متوسطة وأحب شاب من طبقة كادحة ميمتلكش أبسط أنواع الرفاهية ومش عنده غير تليفون بزراير حتى مش قادر يجهز شقته في بيتهم اللي عبارة عن بناية قديمة في حي شعبي دون المستوى، أكيد نجحت وكبرت في نظرك وأنا بحبك وبتعلق بيك عن اليوم اللي قبله ومش فارق معايا كُل الكلام دا ولا عندك رأيّ تاني؟!
 عُمر وهو يرد في مرارة:
-أنا مكُنتش بختبرك علشان أنا غني، أنا كُنت بدور فيكِ عن بنت الأصول اللي هتحب راجل عاجز وتستحمله، كُنت مستني تحبيني بعيبي حتى لو كان الفقر علشان لمَّا يقابلك عيب تاني فيا أكون مُتأكد إنك مش هتتخلي عني بسببه ولا لأي سبب تاني!!.
رويدا وهي تسأله باستنكار:
-إنتَ مُتخيل إن الفقر عيب؟! استخدمت معيار الفقر على إنه عيب فيك علشان تعرف هل هتغاضى عن العيب دا في سبيل الحب اللي بيجمعنا ولا لأ! وبناءً عليه تعرف أنا بنت أصول فعلًا ولا مش هستحمل قُربك بعد ما أعرف إنك قعيد!!!
صرخت باختناق تعيد بناء بعض المفاهيم الخاطئة برأسه:
-اسمها قعيد مش عاجز يا عُمر.. اسمه ابتلاء مش عيب يا عُمر.. وطول ما إنت شايف نفسك في عين نفسك عاجز.. محدش هيلمح القوة المدفونة جواك لأن جوهر الإنسان بيتشاف من لمعة عينه ولمعة العين أكبر قوة بيلمسها الشخص في نظرته ليك.

تحشرج صوتهُ بألم جارفٍ فقرر التحكم في انهياره الذي أوشك على الانطلاق وراح يقول بصوت متهدجٍ يتأرجح بين الثبات والرجاء:
-رويدا أنا بحبك، وحياة اللي ما بينا سامحيني!!!
أجهشت رويدا بالبكاء وهي تقول بلوعةً:
-كُنت صارحتني بالحقيقة يا عُمر واديتني حرية الاختيار وقتها، أحمد ربنا إن اللي اختبرتها دي رويدا بنت الأصول مش حد تاني وإلا كان الامتحان دا هيتقلب ضدك.
عُمر باختناق:
-أنا آسف، سامحيني!
تكلمت "رويدا" بصوت مبحوح موجز للحديث:
-سامحتك من زمان يا عُمر، ممكن بقى ننهي المكالمة والعلاقة دي دلوقتي بنهاية نفتكرها على خير!!.
عُمر وهو يهتف بانفعال خفيفٍ:
-انهي أيه؟! أنا مش هتخلى عن حب سنة كاملة حتى لو إنتِ عايزة دا!
رويدا باختناق وحُزن:
-بقول لك أنا اتخطبت يا عُمر، يعني بقيت لحد تاني!!
عُمر بإصرار وبهجة شديدة:
-مفيش لا حد ولا سبت، في عُمر في حياة رويدا وبس.
رويدا بضيقٍ:
-مش فاهمة، كلامك دا معناه أيه؟!!
عُمر بلهجة حاسمة:
-معناه إن صباعك مش هيزينه غير دبلتي، معناه إن عيالك مش هيكونوا غير على اسمي.. معناه إنك تعقلي وإلا أنا اللي هتجنن!!.
رويدا بتوترٍ رغم ما أصاب قلبها المُتعطش من قطرات مطر باردة:
-هتتجنن إزاي يعني؟! هتخطفني؟
عُمر ببرود يرد:
-لأ، مع السلامة يا رويدا واستني اتصال مني قريب!.

أسرع بغلق المُكالمة بينما زوت هي ما بين عينيها وبقيت في حيرة من أمرها، تحاول تخمين الرسالة التي يُلمح بها في كلماته وكيف يمكنه استردادها بعدما تمت خطبتها!!!
بقى عقلها مُشتتًا ولكنها في هذه اللحظة قررت أن تتغاضى عما قال واعتبرتها مجرد كلمات مُبعثرة خالية من المعنى.

على الجانب الآخر، أسرع بإجراء اتصال آخر وأثناء انتظار رد الأخير بدأ يضغط على أسنانه بانفعال وغيظٍ ويتوعد في نفسه باسترداد مِلكه المسلوب.
-أيوة يا غسان، عاوزك تيجي لي حالًا.
••••••••••
-تمام اتفضل واستنى الرد في خلال يومين، بالتوفيق ليك.
أردفت "سكون" بكلمات وجيزة وهي تودع أحد المتقدمين للوظائف داخل المصنع، فهي على هذا الحال منذ الصباح تستقبل المتقدمين لإجراء حوار سريع وموجز معهم واستخلاص عصارة خبراته في بضع دقائق فحسب، لقد كان مجهودًا جبارًا عليها ولكنها أبلت فيه بلاءً حسنًا، دخلت السكرتيرة فورًا فسألتها "سكون" بإرهاق:
-فاضل كتير!!
السكرتيرة تومىء سلبًا:
-لا يا فندم، اتنين بس.
سكون وهي تأخذ نفسًا طويلًا ثم تقرر الاسترخاء في هدوء:
-تمام.. دخلي اللي بعده.

أومأت السكرتيرة بانصياع ثم خرجت وما هي إلا ثوانٍ حتى دخل المتقدم الجديد، كانت تجلس في مقعدها شامخاً تتدبر ابتسامة ثابتة من أجل سير أمور العمل على أكمل وجه؛ ولكن سرعان ما غابت هذه البسمة وهي تجده يقف أمامها بثبات وثقة، حدقت فيه باستغراب ثم تكلمت بلهجة حادة:
-إنتَ بتعمل أيه هنا؟؟
أسرع "كاسب" بالجلوس على المقعد ثم تابع بهدوءٍ:
-بقدم على شغل، في مشكلة!!!
سكون بغيظٍ:
-ما إنتَ أصلًا بتشتغل!
كاسب بابتسامة عابثة:
-أيه دا هو أنا مترفدتش؟ 
سكون بانفعال:
-لأ.
كاسب بضحكة سمجة يُجيبها:
-خلاص يبقى زيادة الخير.. خيرين!.
سكون وهي تصرخ فيه بضيقٍ:
-إنتَ بتستعبط!!!
مال "كاسب" بجسده للأمام قليلًا ثم قال بابتسامة رسمية وصوت غاضب:
-وطي صوتك يا آنسة، عندنا في الصعيد صوت المرأة عورة، ومعندناش ستات تعلي صوتها على رجالة.
سكت هُنيهة يتابع نظراتها المنفعلة منه بينما تابع هو بفضول:
-إلا صحيح، أنا مترفدتش ليه؟!
سكون وهي تبتسم له ابتسامة حانقة:
-علشان كان ليك في رقبتي جميل وبسكوتي عن اللي إنتَ عملته أكون كدا دفعت لك الدين دا، وأي غلط هيحصل منك بعد كدا بحساب.
كاسب بصوت هادئ:
-تمام جدًا وعلشان كدا أنا جاي أقدم على وظيفة تانية احتكاكنا فيها ببعض يكون طفيف أو شبه مُنعدم.

تمكنت "سكون" من تقبل وجهة نظره حول سعيه إلى وظيفة لا تجمعهما إلا قليلًا تفاديًا للمشكلات التي تصدر بينهما خاصةً أنه شخصية صعبة جدًا لا يمكن أن تترأسه أو تفرض عليه مسؤولية بصورة إجبارية وأكثر ما يجعلها تتغاضى عما يفعل وقوفه بشهامة معها ذلك اليوم وكذلك أنها لمست فيه بعض خِصال شخصيتها المُتمردة.

أومأت باستسلام فأسرع بوضع ملفه أمامها، قامت بسحب الملف ثم بدأت تقلب صفحاته بين يديها وقد برزت مشاعر الدهشة على ملامحها ثم تابعت بهدوءٍ:
-إنتَ خريج كلية الحقوق ومعاك ماجستير في القانون الدولي!
هز رأسه هزة خفيفة ثم قطب ما بين عينيه يسألها:
-أيه، مش باين عليا!!
سكون وهي ترمقه بنظرات متوترة ثم تقول:
-بصراحة لأ.
عضت شفتها السفلى ثم قالت باعتذار واجب:
-آسفة، بس أنا خمنت دا من شغلك معايا!!!
كاسب وهو يبتسم باستخفاف:
-أنا متوظف لحراستك من شركة أمن معروفة موظفيها كلهم شهادات عالية، والدك كان موصي باختيار شخص عنده قدرات قتالية عظيمة وسواق مُحترف في نفس الوقت وبعد اختبارات طويلة لواحد وعشرين زميل وقع الاختيار عليا.

زوت "سكون" ما بين حاجبيها دهشةً قبل أن تقول بتشتت وحيرة:
-حراستي وقدرات قتالية؟!!.. إنتَ فاهم غلط.. بابي كان موصي على سواق مش أكتر!.
كاسب بابتسامة هادئة:
-لا يا آنسة سكون، دا مش حقيقي.

شردت قليلًا فيما قاله واستغربت طلب والدها الغريب والمتشدد حول اختيار سائق خاص لها!!، قطع تفكيرها صوته يقول بلهجة ثابتة:
-دلوقتي تقدري تسأليني بخصوص الشغل.
تنحنحت بهدوءٍ ثم قالت:
-أنا موافقة إنك تشتغل معانا في المصنع ولكن بشرط.
كاسب ببرود:
-قوليه!!
سكون بجدية كبيرة:
-هديك مُهلة شهر تعلمني فيه السواقة، عايزة اخرج بعد الشهر دا مُحترفة وأروح اختبار السواقة وأحد الرخصة وفوقيها بوسة كمان.
كاسب بسؤال مُراوغ:
-ودا مين اللي هيديكِ بوسة؟ إنتِ رايحة تمنحني ولا أيه بالظبط!!
لم تعي "سكون" ما فعلت إلا وهي تضحك بمرح كبير جراء خفة ظله وبساطته، هزت رأسها نافيةً ثم صححت له ما وصله من سوء فهم:
-أقصد، إني أخد الرُخصة وبجدارة.
أومأ موافقًا وهو يقول بحسم:
-اتفقنا، تحبي نبدأ من إمتى؟!!
سكون بابتسامة هادئة:
-هبلغك قريب.
••••••••••• 
-بتعصيني يا عِمران وعلشانها قررت تبعد عن أمك لمكان ملكش فيه أهل؟! الغربة معاها حلوة والونس جنب أمك مُر؟

أردفت "تماضر" بتلك الكلمات الغاضبة تبدي غضبها من تصرفه الغير رجولي من وجهة نظره، كيف يختار راحة زوجته على أهله؟!، تنهد "عِمران" تنهيدًا ممدودًا بعُمقٍ قبل أن يقول باختناق:
-المسألة مش مسألة صراع يا أمي، إحنا مش داخلين حرب، أنا عايز أعيش حياة هادية ومُستقرة.

تماضر باستنكار:
-ودا هتلاقيه في بُعد أمك؟!
عِمران وهو يتحرك نحوها ثم يتابع بنبرة لينة:
-لو هلاقيه في بُعدك مكنتش جيت لك وبقول لك تعالي معايا علشان تشوفي بيتي الجديد ونقضي كام يوم مع بعض، أنا عايز علاقتك بشروق تكون كويسة يا أمي، مش مرتاح وإنتِ كارهة إنسانة بحبها، من إمتى كُنت بتكرهي حاجة عِمران بيحبها؟!.

تماضر وهي تقول بغيظٍ:
-من اللحظة اللي قررت فيها تتنازل عن اختياري وتختارها هي.
عِمران مُحافظًا على ابتسامته:
-بس أنا عُمري ما كُنت بتساق يا أمي أو سايبك تختاري لي علشان تزعلي لمَّا اختار شريكة حياتي بنفسي، ما أنا طول عمري بختار قراراتي بنفسي وإنتِ بتتقبليها، أيه اللي جد؟
تماضر باستنكار وغضب خفيف:
-اللي جد بقى إني لو مشوفتش ليك عيل هيجرى لي حاجة.
أومأ "عِمران" بهدوءٍ قبل أن يدقق النظر في عيني والدته ثم يقول بثبات:
-أنا اللي عندي مشاكل في الخلفة يا أمي مش شروق.

حدقت "تماضر" فيه مصدومةً ثم صرخت بأعلى صوتها مُستنكرةً:
-إنتَ مفكش عيب، إنتَ راجل من ضهر راجل.
تنهد بضيق ثم قال:
-من جاب سيرة العيب يا أمي، هو كل من تأخر في الخلفة أو كان عندهم مشاكل معيوبين، أنا تابعت مع دكتور كبير في القاهرة وقال لي إن عندي شوية مشاكل تمنع الخلفة وإن المشاكل دي سهل علاجها ومع الوقت كل حاجة هتتحل.

اغرورقت عيناها بالدموع وراحت تنظر إليه بتشتت وتيه فيما تابع "عِمران" بهدوءٍ:
-عرفتي أنا ليه بحب شروق؟! علشان استحملت كلام كتير منك يا أمي وإنها معيوبة علشان بس بتحبني ومش عايزة أسرارنا تخرج برا أوضتنا.

أسرعت "تماضر" بالارتماء بين أحضانه دون سابقٍ إنذار وراحت تشهق وتنتحب بقوة وهي تقول من بين صوتها الذي تتقطع نبرته من فرط اللوعة:
-إنتَ أغلى الناس على قلبي يا عِمران، أنا حلم عُمري أحضن لك عيل يا ضنايا، أنا يمكن أكون شديدة لكن لين قلبي كله ليك وحدك.
قام بتقبيل جبينها ثم طبطب على ظهرها قائلًا بودٍ:
-هتحضني وتفرحي بإذن الله بس علشان خاطري لو بتحبيني يبقى لازم تحبي مراتي، أنا راحة بالي معاها هي.
أومأت وقد انهمرت دموع الألم على خديها فقام بمحوهم بسرعة وهو يسألها بفضول:
-هتيجي معايا تقضي كام يوم معانا أنا وشروق؟؟؟
أومأت إيجابًا وراحت تطبطب على خده الأيمن بلُطف أُمٍ تود راحة صغيرها الذي يشتكي همًا لم تكُن هي على علم به؛ لذا عليها الأخذ بيده وألا تزيد عليه.

)على الجانب الآخر)..

انشرح صدرها وتزين ثغرها بابتسامة عريضة وهي تُمسك بحمامة بيضاء بين راحتيها ثم تفتحهما على وسعهما فتحلق الحمامة بسرور وجناحين ينتفضان من الفرحة، مكوثها في بيتها الجديد كان بمثابة طاقة إيجابية كبيرة حولتها من فتاة تبكي طوال يومها إلى أُخرى تعشق المرح والانبساط وأكثر ما أثار بهجتها أن زوجها الحبيب قرر أن يجعلها تنشغل ببعض الهوايات كتربية الحمام فبادر بعمل برجًا كبيرًا فوق سطح البيت لتربية الحمام وقد لون البرج بألوان زاهية كي يتناسب مع ألوان المنزل التركي المُبهج؛ لم يكن هذا الأمر وحده ما يجعل السعادة تغمرها ولكن كلام الطبيب ليلة أمس جعل قلبها يسبق الحمام مُحلقًا إلى السماء، فقد أخبرهما أنهما لا يعانيان مشكلة تمنع استقبالهما طفلًا وأن الأمرَ ليس سوى مسألة وقت تحتاج إلى الكثير من السلام النفسي والاسترخاء وترك أقدار الله تسير وحدها حتى تطرق بابهما وهذا ما جعلها تشعر بالطمأنينة بعد أن قررت أن تطرد هذه اللحظات البائسة عن بيتها المُبهج وتترك أمرها بين يدي الله.

كانت نسائم الهواء العليلة تجعل خصلاتها ترفرف كحال أجنحة الحمام، فيما تبدأ هي بتحرير مجموعة من الحمام لاختباره فيما إذا كان سيعود موطنه مرة ثانية أو يغادر بلا عودة، كانت نظرات "وَميض" تتابعها بسرورٍ وأحمد الله أن صديقتها الوحيدة تمكنت من التغلب على أوجاعها واستبدالها بآمال ترسل بها مع الحمام في الأفق.
-شروق، النسكافيه!

استدارت "شروق" نحو صديقتها ثم تابعت بمرحٍ:
-أخيرًا هشرب كوباية نسكافيه من إيدك، النهاردة ليلة عيد علشان قررتي تقضي معايا اليوم كله.
وَميض بابتسامة عريضة:
-ما إنتِ عارفة إني في ظروف زيّ الزفت، وبعدين إنتِ ناسية إننا هنجيب الشبكة بالليل ولا أيه؟!
شروق بحماس:
-لا فاكرة كويس أوي، متعرفيش لمَّا قولتي لي الخبر دا أنا طيرت إزاي، أخيرًا هتبقي رسمي فرد أساسي من العيلة.
وَميض بنبرة مختنقة:
-دا من حظي الأسود.
رفعت "شروق" أحد حاجبيها ثم قالت بنبرة مُعاتبة:
-بكرا هتندمي على كُل لحظة مسبتيش قلبك فيها يفرح بشريك زيّ تليد.. الشيخ تليد السروجي يتقال له لأ.. في مرحلة الثانوية كان حديث البنات وكُل بنت كانت تعرف إنه ابن عمي تقولها لي صريحةً "ربنا يرزقني بيه".

سكتت لوهلة ثم أضافت:
-بس كل اللي إنتِ حكيتيه ليا دا بداية من المقابلة وإحساسك إنه هو اللي انقذك ولحد مشكلتك مع بابا دي أسباب كافية إنه يقرر يتجوزك؟! تليد عُمره ما كان تفكيره سطحي كدا خاصةً في البنت اللي هيتجوزها، أعتقد من شخصيته إنه ميتجوزش بسهولة إلا بعد تفكير طويل وتفصيص لشخصيتها حتة حتة.

تنهدت "وَميض" باستغراب ثم تابعت:
-دا غير إنه قالي إنه كان بيحب بنت من طفولته ولمَّا سألته هي فين دلوقتي وليه اتخلى عنها، رد وقال لي إن أهلها خدوها وسافروا وميعرفش طريقها.

زوت "شروق" ما بين عينيها باستعجاب قبل أن تقول بصوت خافتٍ:
-غريبة، أنا بصراحة معنديش علم بحوار البنت دا لأن بابا كان مانعنا من الاحتكاك بعمي سليمان وتليد نهائي.
سكتت هُنيهة ثم سألت بفضولٍ:
-وهو مدورش عليها!!
وَميض بهدوءٍ:
-دور ومعرفش يوصل لها بردو وبيقول إنه هيكون صريح معايا ويعترف لي إنه لسه بيحبها وواخدة حيز ضخم من عقله وآماله.
شروق وهي تومىء بتفهم:
-طبيعي يفتكرها علشان كانت جزء من ماضيه قبل كدا وبعدين دا حب طفولة بنفتكره ونضحك بس.
وَميض وهي تسرح بشرودها ثم تقول بحنقٍ:
-طيب لو قولت لك أنه صارحني وقال لي "نفسي ألاقيها في يوم من الأيام وأعبر لها عن الشروخ اللي شوهت قلبي وهي بعيد عنه".
حدقت "شروق" فيها مصدومةً ثم تابعت باستنكار:
-عايزة تفهميني إنه لسه بيحبها وعايش على ذكراها؟!!

ضحكت "وَميض" ضحكة غريبة ثم قالت بتعجب:
-الغريب إنه قال إنها كانت طفلة صغيرة يعني لو شافته دلوقتي لا هتعرفه ولا هتفتكره.
 
شروق بتأييد:
-طبيعي جدًا وأعتقد إن دا سبب كبير يخليكِ متقلقيش من كلامه، لأنها لو واقف قدامها مش هتعرفه يعني مش هتجري عليه تحضنه يعني!
وَميض بضحكة ساخرة:
-وهو مش هيعرفها؟! مش هيروح يقول لها!!

ضيقت "شروق" عينيها ثم تابعت بنبرة متشككة وهي تعمق النظر داخل عيني صديقتها:
-إنتِ غيرانة عليه من طفلة كانت موجودة في ماضيها!!!.. لو كان عايز يلاقيها أكيد كان دور عليها مش يقرر يتجوزك، يا عبيطة إنتِ خطفتي عقل راجل كان من الصعب إنه يتهز لواحدة ست، أنا والله العظيم مستغربة إزاي قرر يتجوزك؟؟ دا إنتِ حتى مش النوع اللي هو عايزه!
وَميض وهي تتنهد بحيرة:
-تفتكري يعني أنا مسألتش نفسي كُل الأسئلة دي، هتجنن وأعرف هو قرر يتجوزني بناءً على أيه؟!!!
شروق بمزاح وتنمر:
-يمكن علشان لبسك الفضفاض ولا حجابك الطويل اللي مش بيبان منه لا شعرك ولا قفاكِ ويمكن علشان لسانك اللي بينقط عسل ومش طويل خالص!!
أطلقت وَميض ضحكة عالية ونشب المرح بينهما ورغم بقاء إجابة هذا السؤال مجهولة بالنسبة لهما؛ إلا أن شروق سعيدة بدخول صديقتها إلى العائلة وأن الله من عليها بزوج صالحٍ كابن عمها.
•••••••••• 

انحنى بجذعه العلوي حتى لمست يديه زهور القطن، قام برفع تلابيب جلابيته أسفل ذراعه حتى لا تعيق حركته أثناء جمع ثمرات القطن من الأرض بصُحبة العمال، لم يكُن مجبرًا على أداء هذا التصرف لأن ثمة عمال يحصدون المحصول على قدم وساق ولكنه يحب التعاون معهم وشعوره بأنهم سواسية يُرضيه، تنهد الشيخ "سليمان" بإجهاد وهو يزيح العرق عن جبينه بطرق جلابيته فيما اقتربت "رابعة" منه ثم قالت بصوت هادئ:
-كفاية كدا يا شيخ سليمان، الشباب بيعملوا ربنا يديهم الصحة.

أمدت يدها له بمنشفة أثناء حديثها، استقام في وقفته ثم التقط المنشفة منها وقال بنبرة ودودة:
-أنا مش متعود يا بنتي على الراحة وبعدين أنا بكون مبسوط وأنا إيدي بإيديهم.
رابعة بتقدير كبيرٍ له:
-ربنا يديك الصحة وطول العمر يا شيخنا.
رفع "سليمان" ذراعه أمام عينيه يستبين الوقت من ساعته ثم قال باهتمام:
-فاضل نص ساعة على الغدا والشباب زمانهم واقعين من الجوع.
رابعة وهي تومىء بتفهم:
-متقلقش، مُهرة مكنش عندها شغل النهاردة وهي اللي اتطوعت تعمل أكل للعمال وزمانها خلصته.

رابعة بابتسامة هادئة تتابع:
-يا دوب حضرتك تستعد علشان مشوار الأستاذ تليد وأنا كويت لك اللبس وعلقته في أوضتك.. ربنا يتمم له على خير.
سليمان بتمني:
-اللهم أمين.. ربنا يقر عينه بيها ويتمم ما بينهما على خير ويرزقهم السكن الهادىء والذرية الصالحة.

-مساء الفل!
أردف "نوح" بابتسامة عريضة فيما تابع "سليمان" بودٍ:
-أخبارك أيه يا ولد يا شقي!!
نوح بضحكة صغيرة يرد:
-دا أنا راجل غلبان ومسكين وبعدين يرضيك كدا يا شيخنا، خالة رابعة تخاصمني من غير ما أزعلها وأنا اللي يعتبرها أمي وصاحبتي!!!
استدارت له رابعة برأسها ثم تابعت نافيةً:
-بس أنا مش زعلانة منك أبدًا بس بحب الراجل الواضح والدُغري.
غمز لها بعينيه قبل أن يقرب أصابعه من خصرها ثم يقول بمزاحه المعتاد:
-أنا طول عمري دُغري يا عسل إنتَ بس إنتَ اللي مش واخد بالك.
رابعة وهي تبتعد ثم تبتسم جراء خفة ظله رغمًا عنها:
-اختشي يا واد إنتَ وبعدين أنا واخدة بالي من كل حاجة كويس أوي.
نوح بابتسامة هادئة:
-بس فات عن بالك إني نوح اللي عاشرتيه سنين واتربى بينكم يعني أخلاقي نابعة من أخلاقكم يعني كان لازم تكوني واثقة أكتر من كدا إني ابن حلال مصفي ولمَّا بحب حاجة بكبر لها مش باخدها معايا وأنزل الأرض!

توترت "رابعة" تؤنب نفسها عن سوء ظنها به ولكنها تابعت بنبرة هادئة:
-ربنا يصلح حالك يا بني وينولك اللي في بالك.
نوح بصوت عالٍ حينما رآها تأتي إليهم من بعيدٍ:
-آمين، وهدومنا تجمعها غسالة واحدة.
ضحك الشيخ "سليمان" ضحكة واسعة قبل أن يضرب كفًا بالآخر وينصرف من أمامهم.
••••••••••

أشار للسائق أن يتوقف في هذا المكان الذي عبارة عن قطعة أرض كبيرة وواسعة المساحة تطل على البحر من جميع الجهات عدا الجهة الأمامية التي تطل على ملتقى المولات التجارية والمطاعم الفاخرة، ضغط أسنانه بقوة قبل أن يُبدي حسرته وانزعاجه من فقدانه قطعة ماسية كهذه الأرض وحتى الآن لا يفهم من وراء هذه الخطة العدوانية الموجهة لإسقاط نجاحاته، زمجر بصوت مخنوق خافت قبل أن ينظر نحو سائقه من مرآة السيارة الأمر الذي جعل السائق يهز رأسه بفهم ووعي فأسرع بالنزول من السيارة ثم وقف بجوار الباب وراح يُشير لأحد العمال الذين جاءوا بغرض تجهيز المكان بأساسيات البناء:
-إزيك يا معلم.
أومأ الرجل وقال بهدوء:
-بخير، اتفضل عايز مين؟؟؟
تنحنح السائق بتوتر جاهد في إخفائه قبل أن يقول بثبات:
-كُنت عايزة أعرف الأرض دي باسم مين وناويين يبنوا عليها أيه؟؟؟

رمقهُ الرجل شزرًا قبل أن يتابع برفض وبهجة شديدة:
-معرفش، واتفضل يا جدع من هنا!!

استدار السائق بعينيه إلى "عثمان" الذي أشار له برأسه أن يستخدم الخطة التالية، فأسرع السائق بإخراج ورقتين من فئة المئتين جنيه ثم قام بوضعهما في جيب الرجل ثم ابتسم بخبث وقال مرة أخرى:
-ها؟؟
رمقهُ الرجل برضا واضح قبل أن ينظر يُمنة ويسرى ثم يقول بخفوت:
-الأرض لمرات حمدي بيه زهران.
يتبع
علياء شعبان
التفااااااااااعل يا بنوتات😍😍😍😍

 •تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent