رواية دموع مؤجلة واحتضان أخير الفصل التاسع عشر 19 - بقلم شمس حسين
بداية أمل من حيث لا أحتسب
عدى أسبوع بعد أول جلسة ليا مع دكتور أشرف، أنا تقريباً متكلمتش عن كل حاجة فيها، بصراحة مكنتش عارفة أبدأ منين، ماشاء الله حياتي كلها عبارة عن لخبطة، لما قعدت قدامه، حسيت كأن لساني مربوط وقلتله: “بصراحة، مش عارفة أقولك إيه، ولا أبدأ منين”، رد بهدوء: “خدي وقتك، إحنا مش في سباق، اللي تقدري عليه دلوقتي قوليه، والباقي هيجي في وقته”، بدأت أتكلم، شوية كلام ملخبط، مفيهوش أي ترتيب، كنت بقول جزء وأسيبه، وأهرب لجملة تانية، وأغير الموضوع فجأة، بس اللي خلاني أكمل إنه كان فاهمني رغم كل التخبيط ده، كان كل شوية يعيد كلامي بطريقة منظمة كأنه بيجمع الحاجات اللي وقعت مني، حكيتله حاجات بسيطة… تقدر تقول نبذة مختصرة عن حياتي، وبعض التفاصيل اللي وجعاني، كنت بحكي وأنا شايفة ذكريات في دماغي بس مش قادرة أوصفها، يمكن علشان كنت خايفة، بعد ما خلصنا الجلسة، سألته: “هو حضرتك هتكتبلي دوا ولا حاجة؟”، اتسعت ابتسامته وهو يقول:
“لا، يا شمس، مش محتاجة دواء، حالتك بسيطة جدًا، كل اللي محتاجاه إنك تواجهي الصدمات اللي مريتي بيها، وتصدقي إنها حصلت فعلًا، الموضوع محتاج بس شوية وقت”، وطول الأسبوع، كنت بفكر في كل كلمة قالهالي، مكنتش عارفة أفسر إحساسي… هل أنا فعلا بدأت أرتاح؟ ولا ده مجرد وهم علشان أقنع نفسي إني ماشية في الطريق الصح؟، من اول جلسة خلاني أفكر في حاجات كتير، حاجات كنت بدفنها جوايا على أمل إنها تختفي لوحدها، لكن الحقيقة أنه مفيش حاجة بتختفي، كل حاجة بتفضل جواك لحد ما تجبر نفسك تخرجها، الجميل كمان إنه مكنش مستعجل، قال لي إن الجلسة اللي جاية بعد شهر، وده كان مطمني إن مفيش ضغط ولا استعجال، وكل حاجة هتاخد وقتها، وأنا دلوقتي حاسة إن عندي أمل صغير، بس مهم… أمل إني أقدر أتصالح مع نفسي وأتخلص من اللي ربطني السنين دي كلها.
وقبل ما يخلص الشهر، كان جيه اليوم اللي كلنا في الشركة مستنينه من شهور، انهاردة اليوم اللي بشمهندس ممدوح هيروح فيه الفرع الرئيسي للشركة علشان يعرض المشروع اللي اشتغلنا عليه طول الفترة اللي فاتت، اليوم ده وصلت الشركة بدري تقريبا قبل ميعاد الكل، ودخلت مكتبي وبدأت أجهز كل حاجة، الملفات، التصاميم، والداتا كل شيء كان مترتب بعناية علشان أسلمه للمهندس ممدوح أول ما يوصل، كنت عارفة إن اليوم ده مصيري لكل الفريق، وبعد وقت بسيط زمايلي بدأوا يوصلوا واحد ورا التاني، وكلهم كانوا بيجوا علي مكتبي يطمنوا أن كل شيء سليم، ومش بس كدا كان جواهم فضول كبير تجاه المشروع وكانوا حابين يعرفوا الفكرة، ومع كل سؤال منهم كنت بلتزم الابتسامة و الصمت لان دي كانت تعليمات المشرف أن كل شيئ يكون سري لحد ما يتم تقديم المشروع.
كان لسه في وقت علي ميعاد وصول بشمهندس ممدوح، وانا كنت قاعدة في مكتبي بحاول اشتغل علي تصاميم جديدة، وبعد وقت دخل كريم عندي المكتب وعلامات القلق واضحة على وشه، وقف قدامي وقال بصوت مضطرب: “شمس، في مصيبة!”، رفعت عيني من التصميم وسألته بجدية:”إيه اللي حصل؟”، قال وهو بياخد نفس عميق: “مهندس ممدوح لسه مجاش، والاجتماع فاضل عليه تقريباً 3 ساعات، و بنحاول نتواصل بيه لكن كل أرقامه مقفوله، ولو أستاذ أمير عرف هتبقي مشكلة كبيرة علينا كلنا، بعد ما سمعته حاولت احافظ علي هدوئي، و خرجت معاه علشان اهدي باقي الفريق و نحاول نوصل لحل، بس الأجواء كانت مشحونة، وشعور التوتر كان مسيطر على الشركة كلها، بس انا فضلت محتفظة بهدوئي، لأني من بداية المشروع كان عندي أمل أنه تعبي مش هيضيع وكل حاجة هتتحل، بس كان الوقت بيعدي والمفروض المهندس ممدوح يوصل علشان ياخد الملفات ويروح الفرع الرئيسي، بس للاسف مفيش اي اثر ليه.
عدي نص الوقت تقريباً ومفضلش غير ساعة و نص يعني يادوب تكفي الطريق للفرع الرئيسي، و كل علامات الإحباط خلاص بقت علي وجوه الكل، الكل فقد الامل، وحاسين أن تعبنا كله راح علي الأرض، كنت بحاول اهديهم و اخليهم ميفقدوش الامل وأن اكيد فيه حل، بس ردت سمر عليا وقالت :” منفقدش الامل اي بس يا شمس، خلاص الوقت بيضيع مننا و ممدوح ده كمان مجاش، ضيعنا كلنا، وضيع فرصتنا أننا نظهر، وهيخلي شكلنا وحش قدام الباقي”، رد كريم عليها وقال بحماس وكأن ظهرتله فكرة:” تعبنا مش هيضيع و شكلنا مش هيبقي وحش”، ردت عليه سمر بحزن:” تقدر تقولي ازاي يا ناصح وهو اللي المرفوض يروح يقدم المشروع مش عارفين نوصله، و هو الوحيد اللي عارف الفكرة أساساً”، قالت جملتها الأخيرة و بعدين سكتت و فتحت عينيها جامد و شاورت عليا و بعدين بصت لكريم، ابتسم لها كريم و هز دماغه، وانا ببصلهم ومش فاهمه حالتهم، بعدها ضحكوا هماا الاتنين بصوت عالي و بقوا يصقفوا مع بعض، و كلنا حواليهم مكناش فاهمين حاجة، بعدها كريم قال:” انتي يا شمس الحل، انتي اللي هتروحي الإجتماع في الفرع الرئيسي، وانتي اللي هتقدمي المشروع، محدش غيرك عارفة الفكرة و كمان كل تصميمات المشروع بتاعتك انتي، يعني انتي اكتر واحدة تعرف تعرض الفكرة، ويمكن اكتر من ممدوح ده كمان”، بعد ما خلص كلام سمر قالت:” ايوا يا شمس أنتي الوحيدة اللي عارفة الفكرة، أنتي الوحيدة اللي في ايدك تنقذينا كلنا”، حاولت اهديهم من حماسهم و قلت:” تمام ماشي أنا معاكم، بس مش هينفع، انتو عارفين أن المدير التنفيذي للفرع هو اللي مسؤل عن عرض المشروع، يعني مش هينفع لو روحت هيمشوني أساسا، ومحدش هيسمعني”، رد كريم بسرعة وقال :” محدش هيمشكي ولا حاجة، ده ظرف و حصلنا، هنعمل اي يعني، نفضل قاعدين و حاطين أدينا علي خدنا، و نندب حظنا، و احنا معانا الحل، اسمعي أنا هروح دلوقتي لاستاذ امير و هشرح له الوضع و هاخد منه الموافقة، وانتي جهزي نفسك علشان تروحي مفيش وقت غير ساعة واحدة”، استسلمت للأمر الواقع و وافقت علي كلامه و بعد ما اخد موافقة مدير الفرع” الأستاذ أمير”، خرجنا أنا و كريم بنجري علشان نلحق الإجتماع.
مكانش فيه وقت، كريم كان بيسوق بأقصى سرعة عنده علشان نلحق، و انا كنت بصوت جنبه، وقلت:” كريم احنا كدا هنموت، مش هنوصل الإجتماع، ارجوك هدي السرعة شوية، انا لسه عايزة اعيش”، شكلنا من كتر التوتر و السرعة اللي احنا فيها كان مضحك جداً، و بعد ساعة بالظبط وصلنا عند باب الشركة، و طلعنا لحد اوضة الاجتماعات، بس كان ميعادنا فات من دقايق، علشان كدا دخل مدير فرع تاني، واحنا قعدنا استنينا، عدي وقت كتير و كل الفروع دخلت واحنا قاعدين، و بعد آخر عرض وصلت عندنا السكرتيرة و قالت بمنتهى الرسمية:
“للأسف، فرصتكوا للدخول انتهت لأنكم محترمتوش الميعاد المخصص ليكم، و القرار هيبقى عند مدير الفرع، بعد اذنكم”، في اللحظة دي، أنا وكريم كنا واقفين زي التماثيل، التوتر كان مخلينا مش عارفين نقول اي حاجه، وقبل ما نقول اي حاجة، فجأة، ظهر شخص تاني وكلم السكرتيرة بهدوء، بعدها هي التفتت لنا وقالت بإبتسامة صغيرة: “تمام، تفضلوا، البشمهندس أيمن سمح ليكم بالدخول”، بعد ما سمعنا اللي قالته، أخدنا نفس عميق لأول مرة من بداية اليوم، ومكناش مصدقين اللي حصل، بعدها السكرتيرة وجهت كلامها ليا وقالت:
“اللي هيقوم بالعرض فيكم يتفضل معايا علشان يجهز الداتا لحد ما الرؤساء ياخدوا بريك”، كريم بصلي و قالي بهدوء:” انتي قدها… يلا go” ومشيت مع السكرتيرة وبدأت أستعد للعرض، وأنا عارفة إن اللحظة دي هتحدد كتير من اللي جاي.
بعد الإستراحة، دخلت القاعة بكل هدوء، لما فتحت باب القاعة، حسيت كأن كل العيون اللي جوه اتوجهت ناحيتي في نفس اللحظة، كانت قاعة اجتماعات كبيرة جدًا، طويلة ومليانة ناس على مستوى عالي جدًا، رؤساء الشركة اللي هما اصلا معظمهم كبار المهندسين وفي نفس الوقت دكاترة بتدرس داخل جامعات كبيرة وكمان ناس ليها أسهم في الشركة، كلهم كانوا قاعدين حوالين ترابيزة طويلة جدًا، وفي النص شاشة العرض اللي كنت مجهزة عليها كل حاجة، أول ما شافوني، لاحظت أن الوشوش اتغيرت، وهمس بدأ يدور بينهم، النظرات كان واضح معناها جدا: (إيه اللي جاب العيلة الصغيرة دي هنا؟)، (هي دي اللي جاية تقدم المشروع؟)، كنت داخلة و عارفه انهم كانوا متوقعين يشوفوا بشمهندس ممدوح، المدير التنفيذي للفرع، بشخصيته الكبيرة وخبرته الطويلة، مش أنا، كنت شايفة في عيونهم استغراب واستهجان، بس معاهم حق، شكلي صغير ومش يدي صورة إني حد في منصب كبير، انا نفسي كنت حاسة إن الموقف أكبر مني، بس مينفعش أبين كده، وقبل ما أقول اي كلمة، وابل من الأسئلة بدأ ينزل عليا:
“فين ممدوح؟ ليه محضرش هو؟” “ليه في تقصير من عندكم و ملتزمتوش بالوقت المحدد؟”، “وإنتي أصلاً إيه منصبك في الفرع؟ وليه تحديداً انتي اللي هتقدمي العرض بدل المدير التنفيذي؟”، كل سؤال كان بيتقال بصوت أقوى من اللي قبله، ولهجة كانت واضحة إنها هجومية أكتر من إنها استفسارية، كانوا مستائين جدًا، والغضب كان باين في نبرة كلامهم، في لحظة زي دي المفروض أكون من جوايا مرعوبة كالعادة بس انا كان عندي حاجة غريبة… كنت هادية، لأول مرة في حياتي أحس بثبات وأنا قدام ضغط زي ده، يمكن عشان أنا كنت مؤمنة بالمشروع ده، ومؤمنة إن كل المجهود اللي عملناه مش هيضيع، أو يمكن علشان اتغيرت حقيقي….. المهم إني في اللحظة دي رفعت راسي، ونبرة صوتي كانت هادية وثابتة وقلت:
“أنا عارفة إن التأخير موقف غير مقبول، بس الظروف اللي حصلت كانت خارجة عن إرادتي، بشمهندس ممدوح، المدير التنفيذي، كلنا اتفاجئنا بعدم وجوده، و كنا بنحاول نتواصل معاه لآخر لحظة علشان كدا الوقت ضاع مننا و اتأخرنا دقايق بسيطة عن الميعاد المحدد للعرض، ومكانش ينفع أضيع تعب فريقي بالشهور اللي فاتت دي، لان فعلا احنا كفريق في الفرع الخاص بينا، كلنا اشتغلنا و الكل بذل جهد كبير جدًا، علشان كدا تم تشريحي من قبل الفريق اني اجي واقدم أنا المشروع، عارفة إني في مكان دلوقتي اكبر من منصبي، بس المشروع ده كان لازم إنه يتعرض”، ردودي كانت واضحة ومباشرة، ومن غير لف ودوران، بس يمكن مش كلهم كانوا مقتنعين، لكن على الأقل كنت شايفة إنهم بدأوا يهدوا شوية، بعدها أشاروا لي إني أبدأ العرض.
قبل ما ابدا، لمحت حركة على باب القاعة، حد دخل وقعد على الكرسي اللي في آخر الترابيزة، مكانه كان تقريبًا قدامي بالضبط، رفعت عيني ناحية الشخص ده، وحسيت بحاجة غريبة جدًا، ملامحه مش غريبة عليا، وكأنه حد أعرفه، أو شبه حد شفته قبل كده، عينيا ضاقت وأنا بحاول أستوعب، بس قلت لنفسي: (مش وقته، ركزي في اللي إنتي فيه)، وبدأت العرض،
بدأت بكل كلمة كنت محضراها، وكل تفصيلة في المشروع كنت واثقة منها، التصميمات، الإحصائيات، التحليلات، كل حاجة كانت مدروسة بعناية، كنت مركزة جدًا على إن كلامي يكون مهني، واضح، وبسيط، بعد اول 10 دقائق من بدايتي الأسئلة ما بطلتش، كانوا بيرموا عليا استفسارات وتفاصيل عايزين يعرفوها، أو تقريباً كانوا بيختبروني فيها، بس أنا كنت برد بثقة وهدوء، وردود أفعالهم علي إجاباتي كنت كلها انبهار و إعجاب، وخلصت العرض، وخدت خطوة لورا وأنا واقفة مستنية رد فعلهم النهائي، كان في لحظة سكون في القاعة، كأنهم بيفكروا في كل كلمة قلتها، وثواني معدودة عدت كأنها زمن كامل، وبعدين… فجأة، صوت التصفيق بدأ يعلي،
مكانش أي تصفيق كان تصفيق حقيقي، مليان إعجاب واحترام، وتقريباً دي كانت أول مرة حد في الاجتماع ده يتصقف له من بداية اليوم، في اللحظة دي، حسيت إن كل تعبي مراحش على الفاضي، مش بس عشان التصفيق، لكن عشان نظراتهم اتغيرت، بقت فيها تقدير، تقدير للمشروع، وللفريق اللي وراه، وللشخص اللي واقف قدامهم، كنت واقفة في مكاني، وبالرغم من إني كنت مرهقة جدًا، بس كنت مبتسمة، اللحظة دي بالنسبة لي كانت أكبر نجاح ممكن أحققه، مش بس في شغلي، لكن في حياتي كلها، وأنا واقفة مكاني بعد التصفيق، عيني رجعت تروح للشخص اللي قاعد في آخر الترابيزة، نظرتي اتعلقت بيه تاني، ودماغي بدأت تلف:”هو مين ده؟ شفته فين قبل كده؟”،و كأن ملامحه بتحاول تحكيلي حاجة، بس التفاصيل لسه مكانتش واضحة.
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية دموع مؤجلة واحتضان أخير) اسم الرواية