رواية آصرة العزايزه الجزء الثاني 2 الفصل الثاني 2 - بقلم نهال مصطفى
(2) "الحُب وحده لا يكفي 💥"
اتمنى ولو كان في الحُب بُوصلة تُدلني على شيء أعمق من روحي وأثمن من قلبـي لأهديته إليك ..
ولكن حظك التعيس أوقعك مع قلبٍ مشوش مثلي ..
قلب أحبـك
بنصف مُتعب
والنصف الآخر خائف !!
وروح تتفسح بموطنها الأصلي بيـن دروب الحزن والألم !!
نهال_مصطفى .
••••••••••••••
~العزايـزة .
انطلق العيار الناري الطائش من مسدس خليفة الذي طغت الصـدمة على جوارحـه لتشق قمصه وتُحدث خدشًا سطحيًا على ذراعه .. رمى الأب السلاح من يده نادمًا عما فعلـه بتهور :
-ليـه يا ولدي ليـه تطلعني عن عقلي!! ليـه تعمل في أبوك كِده يا هاشم !!
ركض هيثم نحو أخيه المُصاب وجثى هلال على ركبتيـه ليفـوق أمه الراقدة .. لم يهتم هاشم بجُرح ذراعه بقدر تركيزه بـ اهتمام وخوف "رغـد" عليـه .. كانت تهذي تحت سمائه كمن فقد عقلـه ، حقًا فنـحن لا نعـرف قَدر الحُب إلا على أعتاب الوداع .. تسلقت كفوفها لوجهه بحالة من الهلع وهي تترجاه أن يُطمئنها :
-هاشم .. أنت كويس !! فيـك حاجة !دراعك صح !! يالهوي في دم يا هاشم !! تعالى تعالى نروح مستشفى ..
فحص هيثـم جُرح أخيه الواقف ليقـول بارتياح وهو يطالع أمه التي تهذى تحت ستار الصدمة :
-جت سليمـة ..خدش خفيف ، نشان أبوك شكله خِرب .
ثم ربت على كتفـه :
-بس لازمًا تتلف .. متعملش فيها چامد على صحتك .
فجهر :
-قومي يا صفية ولدك مفيهوش حاجة ..
فنادى على "رقية" التي يعلم بتلقيها للكثيـر من الدورات الطبية وقال :
-هاه يا دكتورة هتعرفي تلـفي الجرح ولا هتكسفينا زي كُل مرة !!
أخذت الأذن بعينيها من هلال ثم أومأت وهي تحت سطو نظرات زوجها المحرقة لتقول بتردد :
-هااه ، حاضر يا هيثم .
شد هاشم ذراعه بملل :
-خلاص يا هيثم جت سليمة كبر مخك .
فاقترب هاشم من أمه المرمية بالأرض مبرقة العينين تهذى :
-خلاص ياما مفيش حاجة ، قومي وبطلي ندب .
فنظر لرغد بنظرته الآمرة :
-يلا يا رغد !!
ابتعدت عنه رافضة الذهـاب معه بصمت وهي تحرك رأسها يمينًا ويسارًا :
-لا يا هاشم ، باباك عنده حق .. أنا مش هروح في حتـة .. أنا مش عايزة أعيش معاك تاني في السر .. اللي رضيته على نفسي مش هقبله على ابني .
فتقدمت رقية بصوت خافت:
-جرحك لازم يتلف ، ماينفعش يتسـاب كِده !!
ربتت أحلام على كتف زوجها المهزوم من الحياة وذريته وقالت معاتبة :
-من ميتى سلاحك عيسـوقك يا حبيبي !! أهدى لتچرالك حاچة !! أحمد ربنا جت سليمة كانت ساعة شيطان وراحـت لحالها .
ما أطمئنّ قلبـه على ولده قال آمرًا :
-خدي البت أوضتك ومتخليهاش تمشي يا أحلام وهاشم ما يخُشش بيتي طول منا حيّ .. لغايـة ما نشوفوا حَل للورطة دي .
•••••••••••••
~مرسى علم .
في الثالثـة فجرًا ، فتح رؤوف باب شقتـه الواقعـة بالقُرب من مقـر عمله هو يحمـل " مازن " النائم على كتفـه .. فسبق الخُطى يشعل الأضواء متحدثًا بهمسٍ :
-هنومه في الأُوضة وأچيلك ..
طافت عينيها المذعورة بجميع الأرجاء وهي تخشى عاقبـة فعلها الجنوني ومصيرها المنتظر هي ووحيدها !! وما ستكون عاقبة قرارات القلـب يا ترى !! ظلّت مُسمرة الخُطى لا يتحرك بها خلجه واحدة بجسدها ، لحظات وعاد إليها رؤوف الذي انحنى ليمر من الباب لطوله المُشيد وتفاصيل جسده الرياضي المتكتلة تحت القميص ، تحمحم بحماس :
-لساتك واقفة عندك !! مالك ؟
لم تُخفى خوفها عنه :
-هكدب عليك لو قلت لك ماخيفاش ، بس أنا مرعوبة يا رؤوف !!
حك شاربه الكثيف بحيرة :
-أنتِ في حِمى راچل وعيب اللي عتقوله ديه يا نچاة .. أحنا عملنا الصُح .
-ناسي لو عرفوا هيقتلوني يا رؤوف ، عقلي كان فين بس وأنا عكلمـك !!
نال الذعر وجبته الكاملة من كيانها حتى باتت ترتجف من قسوته ، خرت منها دمعـه مُثقلة بالحُزن فتلقاها على راحته رافضًا نزولها :
-دموعك غالية عليّ يا نچاة ، اطمني رؤوف مش هيسيبـك ومش هيكرر غلطه مرة تانية .. الصُبح هاخدك ونكتبوا الكتـاب ، وساعتها مفيش دكر خلقه ربنا هيقدر يهوب منك أنتِ ومازن ، هاكله وكل ..
تطلعت إليه بعينيها المُحمرة بجمر الخوف وهي تحافظ على المسافـة الفاصلة بينهما :
-نكتبوا الكتاب !!
-أومال أنتِ فاكرة أيه جايبك اتفرچ عليكِ من بعيد !! زمن الفُرجة خُلص !! مع طلعة النهار ، هتكوني مرتي على قصاد ربنا .. أنا قضيت ٨ سنين بحلم باليوم ديه !! من ساعة ما قالولي نچاة اتچوزت ..
عاتبته برفق:
-مش أنتَ اللي اخترت شغلك وقلت أنك مش بتاع چواز وشوفي حال نصيبـك يا بت الحلال !
ابتسامة أسف على سذاجتـه ارتسمت فوق وجهه بندم يسكنه، فتأوه قائلًا :
-ااه لو تعرفي أنا دفعت تمنها قَد أيه ؟ وبعدين تعالى إهنه أنتِ ما صدقتي تمسكي في الكلمة وهوب تروحي توافقي على العريس!!
عادت نجاة لثوب الصعيدية المتمردة :
-أومال عاوزني أعمل ايه ! اقعد حاطة يدي على خدي مستنياك كـيف البيت الوقف !!
أيدها بنبرته الممازحة :
-دي الأصول ، تقعدي وتستنيني لغاية ما أعقل وارچع لك ، أفرضي عيل وغلط !! أيه نموتوه !!
انحسرت عبرات القهر بصدرها وهي تشكو له :
-اااه يا رؤوف ، أنا موتت نفسي وعشت أيام ربنا ما يكتبها على قلب بنات حواء ..
طبطب على كتفها بتردد وهو يقطع عهده على عينيها :
-بكرة هعيشك أيام تتدعي بيهـا لكُل بنات حوا ..
ثم رفع يده المترددة متحمحمًا :
-طب اسيبك عشان تاخدي راحتك في البيت ، وهتلاقيني قاعد في العربية تحت مستنى النهار يشُق ..
-أنا ممكن أقفل عليّ الأوضة جار مازن وأنت خليك في بيتك !!
رفض قطعًا :
-أنا راجل صعيدي وأفهم زين في الأصـول وشرع ربنا .. خدي راحتك ونامي زين ، والصُبح مش بعيد بس ربك يهون عليه ..
تساءلت بعفويـة :
-ديه ليه !!!
رد مندفعًا وهو يتأهب للذهاب ويضب حقائب صبره عنها حتى الصباح فقط :
-محوش لك كلام كتير في قلبي عاوز أقوله يا نوچا .. صدري ولع من دفنه سنين !!
أصابتها متلازمة الحُب التي جعلتها تُقبل إليه وهي تدفعه للخارج بتوتر يعُمه جنون العشق :
-رؤوف اطلع بره ، عاوزة أنام .. يلاه عقولك هقفل الباب .
•••••••••••
~بغرفـة هلال ..
تتقلب "رقية" في فراشها كالقُطة " السيامي " من كثرة ما تحمله برأسها من الهواجس حول قُربه وتجاوزه معها أساوره الذهبية التي تملأ يدها ، تفاصيل إعلانه صراحة برغبته فيها !! لا تنكـر مدى ارتياح قلبها بين يديه ولكن ما زالت أشباح الماضي تُلاحقهـا .. أشباح أعين الحاضرين هذه الليلة وهمساتهم ومجاورته لها طوال الوقت فلم يفارقها للحظة ، كيف نسى قسوتها وتلقاها بمنتهى اللين ؟! والأهم لِمَ تذكر كل هذا عند عودته لأعتاب الغرفة مرتديًا قناع الصمت !!
كانت كثيرة الحركة للحد الذي أزعجـه و طير دبابير النوم من عيني هلال الراقد على الأريكة بجوارها ..
آيضًا لم ينجٌ رأسها من التفكيـر حول أمر هاشم والمأزق الذي وضع نفسه به وما حله يا ترى !!
نزعت الغطاء من فوقها وهي تؤكد على عقـد لثام رأسها للوراء وتتقدم إليه بخُطى ثابتة لتجلس على طرف الطاولة الخشبية بقُربه و تفتح معـه حديثًا عشوائيًا:
-شيخ هلال!! أنت نمت ؟
حمل بقلبه هم رفضها وعدم تقبلها له كزوج برضاء شديدٍ ، وفتح جفونه المشتعلة بالحيرة وولى رأسـه إليها:
-لِمَ لم تنم لهذه الساعة ! تأخر الوقت .
ردت بعفويـة:
-ماهو أنت كمان منمتش ؟! عتفكر في هاشم أخوك مش كِده !
-يدبر الله الأمور من عنده يا رُقيـة ، ما باليـد حيلة !
فركت كفوفها ببعضهما :
-بس مكنش له حق عمي خليفـة يحلف عليه ما يخشش البيت .. ديه مهما كان ولده بردك!!زعلت عليه والله.
ثم بللت حلقها وأتبعت بعبث :
-ومرته كمان حامل ، دي قفلت من كله!! بس تفتكـر أيه في راس العُمدة !!
ثم قضمت على أظافرها متحيرة:
-وكمان الاستاذ هارون ملهوش أثر ؟! هو راح فين وسط القلبان ديه كُله !! محدش خبره ؟!
كان يطالعها بصمت شديد يُراقب فيه كيفية نطقها للكلمات ، فأكملت :
-بس مراة هاشم باين عليها بت ناس ، وغلبانة .. غير الحرباية اللي اسمها زينة .. شفت البجحـة عملت أيه في نغم بت خالها !! بچد ما شوفتش في بچاحتها .
اعتدل من نومته فجأة لتتراجع بظهرها للوراء كي لا تتعانق أنفاسهم المشحونة .. جلس أمامها وهو يسند مرفقه على ركبته ويحك ذقنه مردفًا بأسلوب راقٍ :
-ألا أخبرك من قبـل بأن النميمة حرام !! ونسيتي قول النبي أبلغه الله وملائكته مني الصلاة والسلام ؛ لا يدخل الچنـة نمام !!
تفوهت بعفوية :
-بس دي مش نميمة دي حقيقة !!
-رُقية لا تُجادلي في أمورٍ منتهية .. والأهم من ذلك أنها تأخذ من حسناتك وتعطيكِ من سيئاتها !
أحست بالندم قليلًا ، فاندفعت قائلة :
-خلاص ، متستهلش أديها حسنة مني حتى ، بس هي مستفزة بردك وتخرج الواحد عن عقله ..
-ادعِ لها بالهدايا .. ودعيها هي وشأنها ؛ فالنار عندما لا تجد ما تأكله ، تحرق نفسها ..
-عندك حق ، دي سماوية وحقودة وغلها هيحرقها !!
حدجها بعتبٍ :
-رُقيـة !!
تفهمت سريعًا :
-يلا بلاش نچيبو سيرة حد ، أهو أخوك هو كمان هچ منها وسابها ماهي من نيتها السودة !! أف خلاص والله قفلت خشمي متبصليش كِده ..
ساد الصمت لدقيقة بينهم وهي تعتصر رأسها باحثة عن مدخل جديد للحوار بينهما :
-ألا قـول لي ؛ هو أنتَ اضايقت مني عشان لفيـت جرح هاشم أخوك !! حسيتك مضايق وكمان لما رچعنا الأوضة متعود تقـول لي تصبحي على خيـر ما قولتش ..
بس أنا استأذنتك الأول ، يبقى ملكش حق تزعل .. وبعدين مش أنتَ لما راسك اتفتحت أنا قصرت معاك !!
دس غيرته الواضحة عندما اهتمت بأخيه وراء ابتسامة خفيفة وهو يقول بلطفٍ :
-ما بكِ هذه الليلة ، أأصابك داء الهاچر !! أم ترتفع حرارتك قليلًا !!
قالت وهي تتحسس جبهتها :
-يعني أيه لا حرارتي زينة !!! ااه تقصد أني رغايـة !! وانا كمان حاسة أني رغاية وكلت راسك !! بص أنا هقوم أنام وو
مسك كفها رافضًا قيامها لتتراجع على سؤاله مبرقة :
-رُقية ، أنتِ تعلمين جيدًا ما يُزعجني منك !!
شهقت بإنكار مزيف لتهرب من حول مأزق اليوم :
-أنا !! محصلش مش فاكرة أني قُلت حاجة تزعلك ، خالص.. بص شكلي صدعتك أنا هقوم أنام ..
ثم غيرت مجرى الحديث بتلقائية :
-هي مش الكنبـة دي صغيرة عليك !! مريحاك في النوم ؟
أومئ مؤيدًا ونظرات الدهاء تتلألأ من عينيـه :
-أمر مؤقت حتى ترضى عني زوجتي ..
ثم وثب عازمًا أمره وهو يسحبها من كفها المثلج خلفه ، ويُعيدها لمضجعها آمرًا :
-نامي يا رقية ، نامي .. وخفي قُعاد مع هاچر.
لبت طلبه على الفور وقفلت جفونها كي تتحاشى لمعان عينيه في الظلام ، ولكنه فاجئها بحركته التي اقتحمت حصون خصوصيتها وهو يرفع الغطاء من الطرف الآخر ويرقد بجوارها .. تحولت القطة السيامي لـ قطعة جبلية متصلبة بمكانها والقلق يحاصرها من كُل صوب وحدب ..
تحركت جفونها ببطء نحوه فقدرت المسافة الفاصلة بينهما بمقدار ذراع ومتبعًا سُنة نبينا للنوم على الجانب الأيمن ، فتحمحمت بذعر :
-شيخ هلال أنتَ هتنام هِنه ! چاري!
-أنتِ شايفة أيه !!مش لساتك قايلة الكنبة صغيرة !!
اختلج قلبهـا من مكانه وهي تتصرف بحركة طفولية وتهرب من البقعة التي تجمعهما معًا لتنام مكانه على الأريكة وهي تقول :
-كِده هرتاح أكتر ، بص دي حتى سايعة رچلي ، مش زيك رچليك طويلة وو تصبح على خير يا مولانا ..
-وأنتِ من أهل الخير يا رقيـة ..
فاستغفر ربه بسـره وهو يُناجيه :
-يالله ؛ يا ولي الصابـرين …..
••••••••••••••
~المشفـى .
في تمـام الساعة الخامسـة فجـرًا صف هارون سيارته تحت المشفى التي تقطن بأحد غُرفها ليلتـه .. دلف من سيارتـه ملهـوفًا بخُطى واسعة تتشاجر من الأرض من تحته وهو يطلع على رسالة " جوري " التي تصف بها الطابق والغُرفـة ، لحقت بهِ " هيام " :
-على مهلك يا خوي ..
بالطابق الرابع ؛ اقتربت " نادية " من العم "حسن " الجالس على أحد المقاعد يقرأ القُرآن بنيـة شفاء صغيرته الشقيـة بحزن ذاخر ، تثاوبت وهي تقول :
-روح أنتَ يا عم يا حسن ، وجودك مفيش منه داعي .. كده كده هاخدها ونرجع المستشفى بتاعتي فـ اسكندرية .
كيف ؛ كيف يتقهقر خطوة بعد ما سمعها ، بعد ما كشف سرهم وخبث نوايـاهم !! كيف يقدم لهم فتاة بنقاء زهرة الياسمين ككبش فداء .. هز رأسه رافضًا :
-رجلي على رجلها ، دي دي وصية سامح بيه مقدرش اسيبها ..
ثم قفل مُصحفه مستأذنًا :
-هروح أتوضى وأصلي فرض ربنا …
تمتمت نادية بضيق :
-طلعت لي منين أنتَ بس !!
تقدم العم بخطوات متمهلة وهو يفوض أمره لربه ويدعوه لحمايـة هذه الفتاة المنكسـرة ، وفي لحظة اختفاءه من الطابق ، ظهر الشبح الذي يُرعب نادية ، كان هارون يقبل صوبها بخطواته الثابتة ، سكن قلب جوري وهي تخفي ابتسامتها بمجيئه فأحست أنها قدمت هدية جميلة لتوعد صديقتها بأقرب وقت لصحتها .. ما رأته نادية تسابقت جيوش الرعب بوجهها وهي تحملق به موبخـة :
-وكمان ليـك عين تيجي لهنا !! ماشوفتش في بجاحتك !
من وراء فكيه المنطبقين تحدث باختناق:
-وأنا ماشوفتش فـ چبروتك ، لايمي دورك معاي عشان حسابك تِقل ..
فتدخلت جوري التي رحبت بهيام مجاملة بابتسامة خفيفة وقالت :
-طنت أحنا في مستشفى مش هينفع كده ، المهم نطمن على ليلة ..
تأففت كي تتجنت أي شجار يفتك بها أمامه ، فداعبت شعرها بضيق وهي تجلس على أقرب مقعد متوعدة :
-شكلك مش ناوي تجيبها معايا لبر بس أنا هعرفك أنا مين .. أوف !!
ثم قضمت على أظافر وساقها ترتجف :
-مكنش ينفع من الأول أسيبها تخرج من اسكندرية .. أنا السبب في المُصيبة دي ..
وقف من وراء الزُجاج يُراقب جسدها النائم يتساءل بأنين يُضنيـه "أتظنين أن كل تلك اللحظات التي عشنها معًا لم تترك بهذا القلب أثرًا ، أنا لم أعش الحب معك بل تجرعتـه كدواء مُر ولكنه شافي وكافي ليُطيب الداء الذي احتارت فيه الأطباء ؟! " ..
وضع كفه فوق اللوح الزجاجي الفاصل بينهما ويمنعه من أخذها بين ثنايـا أضلعـه ، يُراقبها كالقمـر بعيد جدًا ولكن تتسلل أضواءه للغُرفة فـي يتحقق قدسيتها على مفعول هذا القلب الذي استنشق رائحة قُربه وعودته !!
هذا اللوح الفاصل بينهما أقوى من ميثاق أعرافهم .. اعتصر جفونـه بعذاب الضمير الذي يجلده طالبًا عفوها :
-حقـك عليّ ، ورب القلب ديـه ما هسيبك تاني .. بس قومي متعمليش في قلبي كِده .
أيدي متشابكة وأعين متعانقة وقلوب مُتكاملة ومتكلمة ، نمشي معًا تحت سمـاء مضببة بالغيوم كالهموم التي تفصل بيننا في ليلة مُمطرة ، لنتأمل نجوم السماء ونجوم حضورك ، وأعلنها أمام عينيك ونجوم الليل شواهد والقمر بحُبي ناطق :
" لم تمنع حلول الظّلام لكنك أهديتني نجومًا"
هكذا هو حُبـك لا يمنع ثُقل أيام الدهر لكنه يجعلها أخف، أخف كثيرًا .. رفعت كفها الرقيق ليرسو فوق قلبه النابض بحُبها وقطرات عينيها ممزوجة مع قطرات حزن السماء فوقهمـا :
-أنتَ سبتني ليـه !! أنا ماصدقت لقيتك .
قبض بكفه الجاف من شقاء الأيام على مُعصمها وهو يدنوها منه معتذرًا :
-مش هسيبـك تاني ، أنا چيت لك أهو .. حقـكّ عليِّ.
-أنا وأنت مخترناش الحُب ده بس هو اللي اختارنا .. بس قول لي أيه ذنب قلبي يعيش متعذب طول كده عمره !!
-مفيش عذاب يا ليلة الـ أنتِ عايزاه علشانك هيكون !
تفوهت بنشيج الحُزن باستحالة كونهم معًا في يومٍ ما :
-تفتكر لو الليل بكى وخاف في يوم وطلب بس شعاع نور يونسه ؛ هيغير حاجة ؟! أهي هي دي بالظبط حياتنا مع بعض يا هارون بيه ..
أقسم لها بـرب هذا القلب وما يحويه :
-أنا قصادك أهو وعمري ما هسيب يدك تاني .. أنتِ مش مصدقاني ليه !!
هزت رأسها نافية والدموع تُغرق وجهها:
-بس ده حـلم مش حقيقة ، حلم عمره قصير أوي .. هفوق منه على وجع ملهوش آخر .
رعدت السماء فوقهمـا فألقى بها هول الصوت بين يديـه لتتحامى من قسوة الطبيعة في فسحة صدره الصلب اللين .. توارى الثنائي تحت ظل أحدى الأشجار وهو يلهث معترفًا :
-مش حلم يا ليلة .. ولا عمري هسيبك .. أنا أصلًا اللي ماصدقت لقيتـك .. قلبي عاش وحيد عمره كُله كأنه كان مستنيكي وحدك .. قلوبنا كانت متواعدة وخلاص اتلاقت .
أنكرت مُعترفة بالحقيقة التي تعلمها جيدًا وهي تسبح بفضاء حبـه :
-لا ده حلم يا هارون وأنت هتمشى ..
ثم تشبثت بملابسه بضعف :
-حلم وهينتهي ..
صرخ بها مُعلنًا :
-مش حلم بقول لك .. فوقي أنتِ بين يد هارون العزايزي !
صرخت بنبرة الزجاج المُهشم بروحها :
-حلم .. حلم وهينتهى ..أنتَ مش عايز تصدق ليـه !!
سـد فوهة صرختها بقُبلة مُباغـتة بسرعة عيار طلق ناري انطلق من قلبه واستقر بقلبها ، أطبق على شفتيها التي تُنكر حقيقة وجـوده ، زيف وعوده بقبلة قاسية كقسوة الحيـاة عليهما .. بات قلبه المُدجج يسقيها الحُب والوعود بإذعان لا يقبل إلا الرضوخ له ، ولأوامره ولأحكامه .. قبلة بمذاق المطر الذي يغسل الحزن عن أجسادهم .. وهبها قُبلة ساحرة دافئة وأدفأ ما امتلكت بحياتها .. خدش بكاره شفتيها بحبه لـ يثبت عدم رحيله عنها حتى ولو كان الثمن موته ، فالموت على ضفتها حيـاة .
تأجج قلبها الثائر ككرة مُلتهبـة تحت خلاياها النائمة والحالمـة بمشهى روحها ، ارتعشت الشفاه التي استمدت الحياة من قُبلة .. ضمت قبضة يدها المُعلقة بالمحاليل والتي تطبق على ذراعه بالحُلم وتترجاه ألا يُفارقها أبدًا .. تباطئت نبضات القلب وتعالت أصوات أنفاسها التي تتخذها بصعوبة بين الحُلم والواقع ، في الإثنين أنفاسها تُسلب منها .. رن جرس الجهاز المتصل بها ، فتراكض الجميـع واخترقت الممرضة الغُرفة لترى ما بها ..
دخلت نادية راكضة خلفها وهي تصرخ بها و تفحص الأجهزة وحالة ابنتها بنفسها :
-أنا قُلت لازم اخد بنتي من المستشفى دي !! فين الدكتور المختص دلوقتِ !!
الممرضة بخوف :
-يا دكتورة اهدي … هنشوف أهو ..هي كانت كويسة..
وقف هارون من وراء الزجاج يبرق بعجز ، وقلبه ينزف دمًا على حالتها وشعوره المُلح بالذنب وعذاب الضمير خاصة بعد إقرار الطبيب بالإفراط في تناول الأدوية العصبية الذي التقى بهِ أولًا ..سحب ذراعه من يد أخته التي تترجاه ألا يتدخل بالأمر ، اقتحم الغرفة خلف الطبيب المختص بحالتها .. متجاهلًا نداءات الاعتراض على دخوله .. شد نادية من مُعصمها صارخًا بها :
-عملتي فيها ايه !! انطقي ؟ والله لو حصلها حاچة ما هرحمك ..
عارضته باستنكار مزيف:
-أنتَ مجنون !! دي بنتي .. أنتَ أزاي ماسكني كده !! فين الأمن يرموا المجنون ده بره .
صرخ بهما الطبيب وهو يباشر فحصه لليلة النائمة وأشار للممرض الأخر :
-من فضلكم اخرجوا برة ، مش عايز أشوف حد هنا .. خرجهم بره ..
سحب "هارون" نادية خلفه دون الاكتراث لصرخاتها ، وصل بها للممر الخاص بالغُرف وهو يكرر سؤاله متهمًا :
-عملتي ايه فيها !! طبعًا استغليتي حالتها ورجعتي تسرسبي سمك لراسها ، ادعي بس ليلة تقوم منهـا بالسلامة عشان واللي خلق الخلق ما أدفنك غير حية فـ قلب الجبل ، وما هيكفيني موتك ..
دفعته بقوة والذعر يحوم حول ملامحها وهي تتلجلج بالكلام :
-أنتَ ازاي بتكلمني كده يا مجنون أنتَ !! ده بدل ما تعترف بالمصيبة اللي أنت عملتها وأنك السبب في رقدتها دي !! طالما أنتَ مش أد كلامك وهتسيبها علقت البنت بيك ليه !! أنتَ أصلًا جاي تعمل أيه هنا .. أبعد عننا ..
رفع سبابته بوجهها :
-اللي حايشني عنك رقدة الغلبانة دي چوة ، وشكلي فعلًا غلطان ومخونتش ، قولت هتخافي وعلى مستقبلك وهتكشي .. وو
قاطعته صارخة :
-أنتَ عايز أيه من بنتي !! خلاص سيبنا في حالنا بقا ، أطلع من حياتنا اللي هتخسرني بنتي بسببك ..
-ما بزياداكِ كدب !! أنتِ مِلتك أيه !!
طافت عينيه متوعدة بصوت يدفن بركانًا من الغضب ومن خلف فكيه المنطبقين دمدم وكاد أن يُخبرها بالحقيقة وأنه يعلم أنها لم تُنجب بحياتها ، فقطعته هيام برفقة العم حسن بعد ما أنهى صلاته :
-هارون الدكتور طلع وقال حالتها مستقرة دلوقت..
فتدخل العم حسن بين جسر الأعين التي تتبادل بالتهديد :
-تعالى يا ولدي عاوزك ، أمشي معاي ..
شده العم عنوة متجهًا فتدخلت هيام معتذرة من نادية بأسف :
-متزعليش روحك هو بس قلقان على ليلة وو
أخرستها نادية محذرة:
-اسمعي يا بنت أنتِ تاخدي أخوكي من هنا وتروحي في ستيـن داهية تاخدكوا ، أنا بنتي هعرف أخلى بالي منها كويس أوي ..
رمقتها هيام بضيق ثم ولت مغادرة لتجلس على أقرب مقعد وهي تلهو بهاتفـها لتتحاشي الحوار مع هذه السيدة الحمقاء .. وصل هارون برفقة العم إلى بوابـة المشفـى وبادر قائلًا :
-طول منا في السكة مع ليلة بتي مبطلتش كلام عنك وعن جدعنتك ، وكانت متفقة معاي أني لازم اتعرف عليك عشان أتاكد من كلامها ..
ثم ارتسمت الابتسامة البشوشة على وجهه وأكمل :
-مع أني كنت واثق قوي ،كانت بتتكلم بلسان قلبها وأن عمره القلب ما يكذب .. ولما قابلتك ما خيبتش ظني فيك ..
أخرج هارون سيجارة ليُشعلها كوسيلة لتنفيس الهم عنه ، فسأله هارون :
-أنتَ من زمان معاهم ؟!
-من وقت ما ليلة دي كانت حتة لحمة حمره ، رفعت بيه مكنش يفرق بيني وبين سامح ابنه ، منا أبويا كان شغال عنده بردو .
ثم رفع جفونه المنكمشة له وسأله مستحلفًا بالله :
-كلمة وعهد قصاد رب العالمين؛ حبيتها يا بني ؟!
تصلبت تعابير وجـه هارون لمواجهته بهذا السؤال الذي لم يجرؤ الجواب عليه ، قرأ العجوز لمعـة عيناه ووصل لمسامعه صوت ضربات قلبه ، فعلم أنه لم يجنٍ من صمت هارون الجواب ولكنه عثر عليه .. تنهد برتياح وهو يربت على كتفه :
-يبقى تتصرف وتاخدها من هنا وتمشي .. نادية ورشدي ناويين للبت على نية سودة..
ثم تلألأت العبرات بعيني العجوز بشفقة معترفًا بالحقيقة :
-نادية مش أمها ورُشدي سماوي وبخ سمه في راس بت عمه ، وناويين يجننوا البت .. يمكن أنت اللي تلحقها أنا عملت اللي عليّ قدام ربنا .. أنا راجل في حالي وعاوز اربي عيالي.
بدأ هارون أن يثق بالعـم حسن وهو يلقى سيجارته ويهدسها بمشط قدمه :
-أنتَ عارف ؟!!
هز رأسه معترفًا بحزنٍ :
-رفعت بيه كان شغال في الصعيد وحد اداله البت دي أمانة بس مات بعدها واللواء رفعت قرر أنه هيربي هو البت ويكتبها باسم ولده ، ومرتي وقتها كانت والدة جديد فهي اللي رضعتها لانها مكنتش قابلة أي لبن صناعي وحلفت له أن السر ديه مش هيطلع حتى لليلة..
شعر بتميل بجسده إثر شفقته عليها:
-متعرفش مين الجدع اللي عطاله البت في الصعيد !! رفعت الچوهري كان شغال في قِنـا عندينا ..
ثم توسل له :
-عم حسن افتكر !! مين يضحى في بته ويديها لراچل غريب وليه يعمـل إكده !!
طأطأ رأسه بخزي :
-مش هقدر أفيدك يا ولدي ، بس اللي فهمته من رفعت بيه أن البنت لو رجعت لناسها هيقتلوها زي ما قتلوا أهلها ..
-يعني أيه !! وليه الألغاز دي !! اللي هموت وافهمه ليه نادية عاوزة تعمل فيها كِده وتموتها !! ليــــه !!
دفن هارون وجهه بداخل كفه بملامح مُحمرة من كثرة الحزن والعجز ، ربت العم حسن على كتفه وأكمل :
-من عشرين سنة كان في أرض كبيرة في العلمين لما كانت صحرا ، ملك لـ صفوت أبو العلا أبو رشدي ، الراجل ده كان خمورجي ونسوانجي وضيع كل فلوسه على الستات زي ولده ، في يوم اتعذر في فلوس واضطر يبيع الارض دي ، ووقتها خدني "رفعت بيه" وقال لي ياد " حسن" تعالى نشوف الارض دي لو عجبتنا نشتريها ، وسافرنا والأرض عجبته واشتراها بسعر قليل وكتبها باسم ولده سامح بيه ووصاه الأرض تروح لليلة وعيالها من بعده .. آخر كام سنة سعر الأرض دي وصل السحاب وبقيت مطلوبة بأي تمن من الشركات اللي حوليها ، ومن ساعتها ورشيدي هيتجنن على الأرض دي .. الـ "ليلة" رافضة تفرط فـ شبر منها .
جاءت هيام راكضة لعند أخيها لتُخبره :
-هارون الدكتور طمنا و قال حالتها مستقرة ومفيش داعي للقلق .
اعتصر قلبـه حُزنًا وهو يأمر العم حسن :
-عم حسن ، تركب للي اسمها نادية دي تقولها إني دفعت حساب المستشفى ومشيت .. وحاول على قَد ما تقـدر تمشيها من عندك ..ولما تمشي رن علىّ .
تحرك العم منفذًا طلبه فأوقفه :
-هتعبك تشوفلنـا شقـة مفروشة بأي تمن ..
هز رأسه متفهمًا :
-سهلة دي ! شَقة ولدي مسافر برة البلد وقافلها ، هاخدكم على هناك ..
ثم دار لأخته آمرًا بعجل :
-كلمي لي عمار !!
رفعت حاجبها محرجة :
-دِلوق يا هارون !! نزعجوه ليه !
انفجر بوجهها غاضبًا وهو يشد الهاتف من يدها ويضع بدلًا منه مفتاح سيارته :
-روحي استنيني چوة العربيـة يا هيـام …
••••••••••••••
~العـزايزة .
كانت " زينة " ترتدي قميصًا طويلًا خاصًا بالنوم يليـق بمناسبتها كعروسة متنقلة على مراجل من نار بكل أرجاء الغرفة ، بين الساعة المعلقة والنافذة تترقب عودته .. شت طائر العقل من رأسها وهي تكرر الاتصال "بهيثم" النائم بالأرض بالقرب من هاشم أخيـه والاثنان بغرفة هارون الخاصـة بناءً عن حكم العمدة "خليفـة العزايزي" ورأيه مدعومًا بالقسم بأن أقدام ابنه لا تطأ منزله ..
رمت " زينة " الهاتف من يدها وهي تتساءل:
-طب راح فين!! استرها يا رب …وهات العواقب سليمة .
ثم انحنت مرة آخرى وفتحت هاتفها وهي تُفتش بأخد المواقع فتوقفت عند البث المسجل لليلة التي تعترف أمام العالم كله بحبها .. مرت لحظات التسجيل المتقطعة كجمر متقد يتساقط على قلبهـا حتى انتهى ، فواصلت حملة البحث والتفتيش عن بقية التسجيلات وهي تسبها علنًا:
-الفاچرة ، طالع تحكي خيبتها قصاد الكل!! وربنا كنت حاسة أن عينها من هارون!!
ثم ضربت على فكها بحسرة:
-ليكون هارون هملني وراح لهـا !!! لا ميعملهاش!! ولا يعملها !! أومال هيكون راح فين!!!
رمت غطاء رأسها بعشوائية وفتحت باب الغُرفة وظلت تصيـح بأعلى صوتها لتوقظ جماد البيت قبل سُكانه :
-تعالوا الحقوني وشوفوا قِلة الحيا .. هو فيه فُجر للدرجة دي !!!!!!!الحقيني ياعمة !! تعالي شوفي الخيبة التقيلة اللي أنا فيها !!! يالهووووي ….يا بختك المنيل يا زينة !
•••••••••••••••
~القاهرة .. مسـاءً.
"مهما تخيلت فـ لن تصدق كم مرة وأنا أهرب من شعوري تجاهك لكن الدائرة مغلقة ومُعقدة للغاية ، مهما فررت منكِ عودت اليكِ من جديد .. "
منذ أن قام باختطافها من المشفى بمساعدة الممرض المرتشي والعم "حسن" ، وتواصل مع طبيبها الخاص الذي جاء لعندها بعد محاولات مكثفة من هارون ومبالغته في أجره ..
فحصها بعناية وأكد أنها لست بحاجة للمشفى .. من الساعة التي غادر فيها الطبيب ورافقه هارون ليُحضر أدويتها ويسترد رقم شريحة هاتفـه ويبتاع العديد من الطلبـات التي تلزم أخته للطهي ..
قضى قَرابة -الست ساعات- مُرافقًا لها ، لم يترك يدها النائمـة أبدًا ، كان مقعده ملاصقًا بالسرير الذي ترقد عليه "ليلة " المتغيبة عن وعيها ولا تعي الحياة حولها ؛ ولكنها تتنفس بارتياح لأن صدرها استنشق رائحة قُربه فاطمئن .. يتابعها بأعين تُكذب حقيقة كونهما اثنين .. مفترقين ، فقلبه بداخله يُعانقها كثيـرًا ..
لم يتحمل رؤيتها بهذه الصورة فاختلس قُبلة حنونة بداخل كفها المسجون بين راحتي يده وصدره يتنهد حرارة غياب صوتها عنه:
-قومي عاد ، قلبي أتربى وبزيادة.. متبقيش جاحدة.
ثم ألقى نظرة على هاتفه المُضيء الذي لم يتوقف عن الرنين بدون صوت ، وثب لينحني بالقرب من وجهها النائم ويُزيح بعض الخصلات عن وجهها ويتأملها بحُرية ..
ملامحها التي تشُع نورًا من سطع بياضها كقطعة من الثلج ..دومًا ما تغلب الحنية كل شيء يسكننا .. كان ابهابه يُغازل جبهتها فأحس بظُمئ جوفه للنيل منها طمعًا .. طبع قبلـة اعتذار طويلة فوق جبهتها بشفتيه المُزرقة من قسوة بُعدها عنه !! فمن أين جئتي بكُل هذا الحب يا فتاة .. ؟!
قطعت خلوته مع روحها النائمة صوت أخته التي تتهامس معاتبة :
-هارون يا أخوي .. متنساش روحك ، دي مش حلالك ، چرالك أيه هو أنا اللي هقول لك !!
لم يعارض أخته فيما قالته ، اكتفى بهز رأسه متفهمًا أنها لم تحل له ولكنها حلّت قلبه بحُبها !! ربتت على كتف أخيها :
-"تانيـك قاعد جمبها من الصُبح ، روح أفرد ضهرك يا حبيبي .."
أخذ هاتفه من فوق الكومود وسحبها على مهل لخارج الغُرفة بصمت تام وهي تحمل فنجان قهوته :
-صفية مش مبطلة رن يا هارون وأنا قفلت محمولي من مكالماتها يكش ترتاح ..
ثم قدمت "هيـام" القهوة لأخيها الذي أنهى مكالمة للتو وهو ينفث أبخرة غضبـه :
-روق يا خـوي ، چرى أيه لديه كُله !! يا ريتك ما چبت محمول أديك رچعت لوچع الرأس من تاني .
مد يده ليأخذ منها فنجان القهـوة وهو يجلس على الأريكة :
-محدش هامه حد ، أقولهم عيانة ومش دريانة بالدِنيـا يقولولي ترندات وفلوس وحديت فارغ !!
شاركت الجلوس مع أخيها على نفس الأريكة وهي تربت على رُكبته :
-هدى روحك ياحبيـبي ، المهم أنا بردو معرفتش أنتَ ناوي على أيه !! هارون أنتَ واحد متچوز دِلوق !! أيه اللي في ضميرك يا أخوي! مينفعش اللي في راسك ..
زفر بامتعاض وهو يشكو همه الفائض من صدره :
-وكملت كمان بأمها اللي نزلت عملت محضر في القِسم إني خاطف بتهـا ؟! هي الولية دي مِلة أبوها أيه !!
-يا مُري يا هارون !! دي فيها سين وچيم !! حقا مالكش حق وو
قطع جملتها الآخيرة أنين صوت "ليلة" التي تقف على أعتاب باب الغُرفة وهي تستند على الجدار متشبثة برأسها بهزل وتفرك جفونها :
-هي مامي فين !! أنا ميـن جابني هنـا ؟
انخلع قلـب العاشق من مكانه وهو يفزع من مجلسه خائفًا عليها وذائبًا في تيه ملامحها المُرهقـة :
-ليلة أنتِ زينة !! في حاجة وجعاكي قوليلي أجيب لك داكتور؟
فسبقت "هيام" الخُطى إليها لتُساعدها في السير ممسكة بـمرفقها :
-حمدلله على سلامتـك عاد!! كِده تخلعي قلوبنا عليكِ .. حملي عليّ وعلى مهلك .
رمقتها بنظـرات مندهشة ثم تطلعت نحو هارون الذي يرمقها بقلب مهشم من وجعه عليهـا ، حانت منها نظرة غاضبـة :
أصدرت نشيجًا مكتومًا :
-مامي فين وأنا أيه جابني هنا !! و أنتَ أيـه جابك هنا أصلًا !! هيام أنا مش عايـزة أشوفه بليز قوليلو يمشي .
تدخلت هيام معاتبة :
-حقا ما ليكِ حق يا ليلة ! ديه هارون همل الدِنيا كُلها وفرحه وچالك مخصوص تقوليله كِده !
سحبت ذراعها من يد هيام وهي تُرمقـه بخسةِ :
-والله كتر خيره !! أنا ما كنتش عايزة أشوفه أصلاً .. ولو سمحت رجعني بيتي أنتَ خاطفني ولا أيه !! وأيه الشقة دي !! أحنا فين ؟
أشار نحو أخته بهدوء متجاهلًا ثرثرتها العبثيـة :
-هيام روحي أعملي لها كوباية لمون تروق دمها بيها ..
تمسكت بها كأنها أملها الوحيد للنجاة:
-لا بليز يا هيام خليكي معايا .
عقد حاجبه متعجبًا:
-خايفة مني إياك؟!
صاحت بوجهه متمردة ، بل على الأصح متوترة يسكنها الخجل من التطلع إليه بعد ما تعرت أمامه من جملة مشاعرها المشحونة بحُبه ، دنت منه خطوة وهي تتجاهل صداع رأسها الخفيف مستردة كبريائها :
-أنتَ أيه جابك لعندي !! هااه ؟! مش مشتني وقالت لي ارجعي يا ليلة !! رجعت تاني ليه !! أنا أساسًا كنت ناوية مش هعرفك تاني من اليوم اللي رفضت فيه حُبي يا هارون بيه !! فاكر!!
أحست هيام بأن الحديث اتخذ مسار الخصوصية فانسحبت بهدوء لترفع عن أخيها ستار الخجل محتجة بصنع العصير .. تراجعت ليلة خطوة للوراء لتفسح لها الطريق وهي تمسح دموعها ثم أتبعت ساخرة ودمع القهرة يتقطر من عينيها :
-أنتَ فاكر أنها سهلة على أي بنت تيجي تعترف بمشاعرها لرجل وبعدين تترفض !! دي مش بتوجع بس ، دي بتقتل القلب ألف مرة في اليوم يا عمدة !! أنت عارف …أنت عارف مامي حذرتني منك كام مرة ؟
أحس باهتزازها وعدم اتزانها فتقدم عارضًا المساعدة عليهـا بلغة الإشارة فأبت بإصرار وهي تستنـد على ظهر أحد المقاعد وترتجف مكملة :
-أنا عمري ما فكرت اني هعمل كده في يوم !! بس الحب والحيرة كانوا أقوى مني ، عارف يعني أيه نفسك توصل للبر ومش قادر !! حلمت حلم جميل ونفسك أنه يكمل !!أنا ما كنتش عايزة منك حاجة على فكرة غير على الأقل …
ارتجفت شفتيها بحزن عميق وأكملت جولة عتابه :
-لو جواك مشاعر ليا توعدني أنك هتحاول .. أو كنت طلعت صريح يا أخي وقولي أحنا صحاب بس وأنا اللي فهمت غلط !! لكن انتَ خلتني أمشي من عندك وانا شايلة في قلبي ألف ليه !!جيت لك محتارة مشيت من عندك مجنونة !!
خرج عن صمته قائلًا وهو يحاول أن يمسح على شعرها كي تهدأ :
-وأديني چيت لك زعلانة ليـه !! ليلة أهدى ونتكلمو بالعقل .. بلاش عصبية غلط على صحتك.
أردتك وليفًا لا يستطيع أن يهزمه الزمن ، فهزمتنى !! انفجرت صارخة بوجعٍ وهي ترتعش كقطعة قماش في مهب الريح :
-جيت متأخر ..
جيت بعد ما خذلتني فيك ..
جيت بعد ما بقيت مش عايزاك ..
ثم أعلنتها صراحة بقلب بريئ مما تقوله وهي تخفي عينيها عنه :
-بقيت بكرهك وبكره كُل حاجة جمعتني بيك بجد .. مش عايزة أشوفك قُدامي.. قلبي بيوجعني أوي .
تقهقهرها للوراء حصرها في زواية صغيرة بين الحائط وسور بنبته التي يحاصرها ، مسح على كتفها :
-ممكن تنسي اللي فات وتهدي وكله هيتصلح ، مش حابب أشوفك في الحالة دي .
تنتفض وتنتحب أمامه وهي تتحاشى النظر إليه لتقول بحُرقة :
-أنا بكرهك .
اعترافها بكُرهها إليه لم يحرك إلا قوانين امتلاكها بداخله مهما كان المُقابل الذي سيدفعه .. مسك مرفقها وجذبها إليه لتتطلع بوجههِ جبرًا:
-اللي بيكره حد عـ يقولها في وشه .. وبعدين ميتى كرهتيني !! أيه نمتي صحيتي لقيتي نفسك كرهاني !!
تذكرت تفاصل أن حتى النوم لم يخلٌ طيفه منه تفاصل قبلته بالحلم و التي تؤلم شفتها لهذه اللحظة ، بل كان ملازمًا لقلبها وعقلها في اليقظة والمنام ؛ توترت من داخلها ، فظهر على ملامحها ببراءة طفلة :
-تقصد كلامي على الهوا صح !! كلامي اللي لو استنيت دقيقة بس قبل ما يغمى عليا كنت هعترف قُدام العالم كُله أني بكرهك وبكره الحب وأنه أسوأ شعور ممكن يلمس قلب الواحدة مننا .. كنت هرجع أؤيد كلامك فاكره !! فاكر لما قولتلى ديه حديث فارغ !
ثم رمقته بدناءة :
-هو فعلًا حديت فارغ لمـا يكـون مع الناس الغلط ، ناس اتخدعنا فيهم .. للأسف أنتَ اخترت الطريق السهل واخترت واحدة مش بتحبها ..
قاطعها بحدة :
-اسمعي ..
-اسمع أيه !! هاه !! أنا أصلاً ولا عايزة أسمعك ولا أشوفك ولا أعرفك تاني ..
ثم رفعت سبابته بوجهه :
-أنتَ مهما عملت ومهما اعتذرت أنا عمري ما هسامحك يا هارون بيه .. أنتَ نزلت من نظري أوي .
ثم دارت أمامه كالطفلة لتفر من سطو أنظاره المُحرقة :
-أرجع لبلدكم ولأعرافكم اللي هتعيش ميت جواها .. وأنا ليا ربنا .. كالعادة لازم ادفع نتيجة سوء اختياراتي، مامي كان عندها حق في كُل كلمة.
حتى الأمل الذي ركضت خلفه كالمجنونة ما زال يتلاعب بي ، تارةً يُحيِّيني، وطورًا ما يقتلني.. فـ هبت بـرأسها فكرة نسيانها الأبدية فدارت إليـه وهي تضرب بقبضة يدها على صدره بقهرة :
-أنتَ تنسى أنك قابلتني ، بقول لك أيه أنتَ تـ ..
باغتهـا بضمـة مفاجأة وهو يسلسل معصيها بكفيه ويسحبها لعالمه جاهرًا بصوته المُرعد القاطع لكل العوائق التي تبعدها عنه وعن أحقية امتلاكها :
-بقول لك أيه أنتِ ..
صرخت بوجه وكأن أصابها داء جبروته من قُربه :
-ما أنتَ قولت كل حاجة ، هتقول أيـه تاني !!
فك أسر معصمها لينتقل لأسر خصرها النحيل وضربات قلبه تصدح وتدوّي بصدرها ، لقد فاض من عينها حزن شفيف وهي توجه العتب لعينيه الذي أغرمت بهما بدمدمة خافتة :
-أنتَ عايز مني أيه ؟! سيبني.
صدحت عينيه بكلمات درويش ؛ إني أُحبك رغم أنف قبيلتي ومدينتي وسلاسل العادات؛ فـ جلى حلقـه عاقدًا نيته على اقتران قلوبهما لآخر العُمر متمردًا على الزمان ، فمال حد مسامعها هامسًا بمهـلٍ ، بهدوء ، ببطء شديد وبحرارة :
-تتچوزيني ………..!
"تستحقين أن تقام لأجلك حروبًا ليحظى قلبي بحبك ."
يحكي جنُدي الحُب المسئول عن قصتهم ، غرباء ثم لقاء عبثي ثم تشابكت الكلمات ثم الأيادي فانبهرت الأعين وشهقت الأنفاس وتناغمت الخطوات والضحكات وتعانقت الأرواح المغلفة بحكاية حُب مجهولة المصير !!
•تابع الفصل التالي "رواية آصرة العزايزه الجزء الثاني 2" اضغط على اسم الرواية