رواية آصرة العزايزه الجزء الثاني 2 الفصل الثالث 3 - بقلم نهال مصطفى
(3) : "لا يُبتلى القلب إلا فيمـا أحب"💥
أما بعد :
لا قيمة لتلبية رغبةٍ
دهسها الوقت
ولا قيمة لأحد يصل متأخرًا
بعد نهاية كل شيء
أهم ما في كل شيء هو توقيته
التوقيت الذي يضفي
القيمة على الأشياء أو ينزعها….
•••••••••••
-تتچوزيني ………..!
كان وقع الكلمة على جسدها المرهق بمثابـة ماس كهربي ضُرب برأسها وجرى صداه بكاحلها .. أحس بانتفاضة قلبـها الذي وقع براحة كفه الذي يحوي ظهرها من الخلف وهي تقول بنبرتها المهزوزة :
-أيــه .. !!
كرر عرضـه مرة ثانيـة ، بنبرة صوت مسموعة عن تلك المتهامسة التي أحدثت بجسدها زلزالًا .. تطلع بعينيها قائلًا :
-تتچوزيني …. !!
ثم جلى حلقه الجاف من وهج مشاعره :
-مالك ؟! عاوزك تبقي مرتي وحلالي قِدام ربنـا !!
صوت الكاسات المهشمة التي ارتطمت بالأرض لا تختلف كثيرًا عن صوت ضربات قلبها التي ارتطمت بسور الكلمـة التي قالهـا ، صرخت "هيام" من الخلف معترضة :
-أنتَ عتقـول أيه يا أخوي !!
فرت العصفورة من عِشها وهي تتدفعه بكُل ما أوتيت من نار ورماد متكدس بصدرها ، ولت وجهها عنه وهي تستند على ظهر المقعد بكفوفها المرتعشة ، فتولت هيام خلق الأسئلة التي تُعيد له وعيـه :
-هارون أنتَ واعٍ لـ حديتك !! أخوي ما ينفعش هو أنا اللي هقـولك !! أنتَ .
صاح بوجـه أختـه :
-أنا عارف عقول أيـه وهعمل أيه .
-طب والعزايـزة يا أخوي ؟!
دوّى صوته الأجـش :
-تولع العزايزة بمجالسها بأعرافها ، أنا مش هسيـب ليلة يا هيـام .
رجت الكلمة كيان " ليلة" فشدت بُساط الحوار من تحت قدمي "هيام" لتنهي الحديث متمردة على الشعور الذي ملأ صدرها فجأة :
-من أمتى الكلام ده !! ومين قال لك أني موافقة .. أنا مستحيـل هوافق اتجوزك حتى ولو كنت آخر رجل في الدنيا دي .
ثم دنت منه خطوة بغرور العشق وتمرده :
-هي فرصة واحدة ، وأنتَ كان لازم تحترمها يا هارون بيه .. أنا مش لعبة في ايدك ، خلاص مبقتش عايزاك .
رفع حاجبه ببرود :
-خلصتـي !!
هزت رأسها بالإيجاب :
-اه خلصت ، وقراري أظن واضح .. وهو لا .. طلبك مرفوض .
ارتاح قلب هيـام للحظات عند رفضها لطلب أخيها الذي يحمل الموت بنهايته ؛ تنهد بارتياح وهو يتحرك ليجلس على المقعد المبطن واضعًا ساق فوق الأخرى بغرور:
-جبت لك شنطتك من الأستديو هتلاقيها چوة في الأوضـة خشي أجهزي عشان المأذون مسافة السـكة ويچي !!
برقت عينيها بذهول يكاد أن يجن عقلها :
-مأذون أيــه !! شكلك مسمعتش أنا قلت أيه !! أنا قولت لا يا هارون بيه ولو كنت آخر راجل في الدنيا دي كلها مش هتجوزك ..
فأتبعت هيام مقترحة :
-هارون يا أخوي ممكن تروق دمك وتفكر بعقل ، مفيش مشكلة ملهـاش حل وو
قاطعها بحـدة :
-هيـام !! سمعتي قلت أيه !! أنا مش هاخد أذن حد ، ومش عاوز حد يچادلني..
تعكزت ليلة على أحد المقاعد لتجلس على الأريكة المجاورة لمقعده والعِبرات تتلألأ من عينيها :
-أنا عايزة أرجع بيتي ، ومش عايزة اشوفك تاني ..ممكن ؟
-مش بكيفك ..
صرخت بوجهه ففجرت برِكة الدموع من عينيها:
-ولا بكيفك ، أنا مش تحت أمرك ، تقول لي ارجعي يا ليلة ، نتجوز يا ليلة !! أنتَ أيه ؟! بتعمل فيا كده ليه !! حرام عليك !! مصمم تعذبني !! مش كفاية الوجع اللي أنا فيه بتزوده له !!
نحن نقع في الحب كي تُضمد جروحنا لا لفتح جروح جديدة غيـرها ؛ نقع بالحب لتُقرأ أعيننا بمـا نحويه بدون ما نضطر لشرح كل ما يؤلمنا ، الحُب أيضـًا علاج لكنه يحتاج لطبيب ماهـر يصفـه .
تُشعل النيران بعود كبريت ، وتلتهب نيران قلب الرجل بدمعة إمرأة من عيني امرأة أحبها ؛ قفل جفونـه متخذًا نفسًا طويلًا ثم أتبع :
-ومتزوديش النار في قلبي وبزياداكي قول وعيد ممنهوش فايـدة !!
كفكفت دموعها بكفوفها المرتعشة :
-طيب ازاي ، يعني لنفترض أنا وافقت على الجنان ده!! أنتوا مش عندكم أعراف بتمنع الجواز ده !! أيه عايز تتجوزني من ورا أهلك زي ما أخوك اتجوز وفي الآخر ساب البنت المسكينة وابنها !! أنا مش هكون رغد رقم اتنين يا هارون !!
انصب دلو مثلج فوق كل من هارون وأخته التي أتبعت مندهشة :
-چبتي الحديت ديه منين يا ليـلة !ألحق يا هارون ؟! هاشم !!!!
أيدتها ليلة بحزن وخيم :
-هي دي الحقيقة ، أخوك متجوز واحدة في مرسى علم اسمها رغد ، والبنت بتتواصـل معايـا ، وكانت النتيجة أيه أخوك سابها وراح يتجوز نغم !!! لكن أنا عمري ما هقبل أكون مكان رغد ، أنا شوفت حزن في حياتي يهد جبال لكن المرة دي مش هتوجع تاني يا هارون..
تشبثت هيام بكف أخيها الذي احتقن وجهه بدماء الغضب :
-هارون أنتَ مصدق الحديت ديه!! هاشم أخونا ميعملهاش .. يا وقعة لو كان اللي عتقوله ليلة ديه صُح.
طوى صفحة أخيه برأسه فكيف يلومه على تصرفٍ يكوى بقلبه بقلب حارس هذه الأعراف نفسـه ، تعكز على فعل هاشم الذي كسر عُرفهم وأتبع خُطى أخيه قائلًا بصرامة :
-وأنا مش هاشم يا ليلة .. وسواء برضاكي أو غصب عنـك مش هيطلع عليكِ نهار چديد غير وأنتِ مرتي .. خلص الكلام .
صاحت جيوش اعتراضها التي تخُر دمًا ولست دمعًا :
-أنتَ مش طبيعي !! فجأة خدت القرار ، ولا كأن ليا وجود ، طيب تمام اتفضل هات المأذون وأنا هقف قدامه وأقوله أنك خاطفني ومتجوزني غصب عني ، ووريني هتعمل ايه !! وبعدين أيه السبب هاه بص لي !! مش كنت هتتجوز زينة ، حصل ايه غير رأيك سبتها وچيت لي ليه ، صعبت عليك ؟! قولت يا حرام أما اتجوزها واكسب فيها ثواب .. أنا مش هتجوز واحد عشان صعبت عليه ؛ ومش هتجوز واحد مش بيحبني لمجرد أنه عايز يريح ضميره اللي علقني بيـه وهو رافضني من جواه .. أنا مستحيل هوافق.
اعتصرت اتهاماتها القاسيـة قلبـه وهو يطوي بُساط الحب المفروش لها بقلبه ليقول بهدوء منكرًا الاعتراف برغبته الكاملة فيها :
-ليـلة ، أمـ.ك ، قصدي نادية أبو العلا مقدمة بلاغ فيّ إني خاطفك ، والبوليس قالب الدِنيا علينـا ، الحل الوحيد عشان نخلصـوا من الورطة دي اكتب عليكِ ، عشان في القانون مفيش حد هيخطُف مرته !
اغرورقت العبرات بعينيـها بحزن ، فهي كانت منتظرة اعترافه بحبها ، اعترافه بأنه أحبها مثلما أحبته ، على الأقل يبتر جدور اتهاماتها من رأسهـا ، رمقته بخيبة أملٍ :
-والله !! يعني عايز تتجوزني عشان تحمي نفسك من الحبس !!وبس ؟!
خيم كذب أقواله على معالمه :
-أصلو مفيش حل تاني !! لو يرضيكي أني اتحبس ارفضي ..مستقبلي في يدك وبكلمة منك .
تمردت على حزنها بجزل طفولي وهي ترمقه بخذلان :
-ااه يرضيني ، وأيه رأيك أنا كمان هنزل اشهد أنك خاطفني وبتهددني ، أنت أصلًا ، أصلًا حلال فيك الحبس عشان تخطف بنات الناس تاني !!
فتدخلت هيام التي تحصد خيبات أخواتها أمام عينيـها :
-يعني أيه يا هارون مفيش حل تاني عشان تطلع من الورطة دي غير بجوازكم !! طب والبلد وناسنا وو
أشاح بنظرة خبيثة مواصلًا لعبة استعطافها حتى يصطاد قُطته الشرسـة :
-هي ورقة هتتكتب يا هيام عشان نخلصوا من حوار أمها ، وبعدين هنقطعوها وأرمي عليها اليمين .. وكل واحد هيروح لحاله .. كتب كتاب وبس ..
صرخت عليه بتجُبر :
-انا مش رخيصة كده عشان ألعب معاك اللعبة دي ، وكفاية بقا عشان أنت نزلت من نظري أوي .. يا ريتني ما عرفتك بجد .. وأقول لك حاجة كمان ، أنت تستاهل الحبس عشان تتعلم الأدب هناك وتعرف يعني أيه مش كل حاجة لازم تمشي بمزاجك وبس ..يعني أيه بنات الناس مش لعبـة .
ثم نهضت حاسمة أمرها بثرثرة وذعر ينهش بدنها :
-أنا هروح أغير لبسي وهرجع بيتي .. ومش عايزة أعرفك تاني ..محاولش توصلي تاني وإلا المرة الجاية أنا هنزل أبلغ عنك بنفسـي .
في تلك اللحظة دق جرس الباب بسُرعة رهيبة قذفت الرعب بقلبها وهي تنظر له مضطربة :
-أحيه ده البوليس صح جاي ياخدك !!!
نهض من مرقده متأففًا متأهبًا لفتح الباب :
-هريحك مني أهـو ..
ارتمت في حضن هيام وهي تعض على أناملها خوفًا أن تتحقق عاقبة أقواله وهي ترتعش:
-هيام ، أنا خايفة ..
-ربنا يجيب العواقب سليمـة يارب..
ما فتح هارون الباب فتنفست ليلة الصعداء وهي تتمتم لهيام بفرحة :
-ده عمو حسن مش البوليس .. الحمدلله .
ما رأته فارقت حضن هيام على الفور وهرولت مرتميه بين يده لتشكو له أوجاعها :
-عمو حسن ، أنتَ هنا ، تعالى ألحقني …
قفل هارون الباب بضيقٍ لرؤيتها بحضنٍ رجل غريب ولكن هدأت دواخله على الفور عندما تذكر أنه شرعًا بمكانة أبيها لأن زوجته مرضعتها السـرية .. ألتفت لشكواها وهي تُلقيها على مسامع العم :
-شوفت اللي بيحـصل فيا يا عمو ؟ شفت .. أنا تعبت أوي ، من فضلك خدني من هنا أنا عايزة ارجع لمامي .. مش عايزة أقعد هنا تاني .. ده عايز يتجوزني بالعافية يا عمو بلطجة .. بيبلطج عليـا فاكر الدُنيا هتمشي على مزاجه وبس ، لو سمحت ارفض وقوله لا عرفه أن ليـا حد في الدُنيا دي ، مشيني من هنا … أنا عايزة أزور قبـر بابي ، محتاجاله أوي بجد .. خدني على هناك.
خيم الأسف على وجه العم حسن وهو يربت عليـها بشفقة ويطالع هارون الواقف جنبًا وكل جوارحه تتطوق لسجنها بين ذراعيـه ليقول بحزنٍ:
-لازم تفتحوا التلفزيون حالًا ، دكتورة نادية طالعة على القناة اللي اتذاع عليها برنامج ليـلة ، كانوا مشغلين البرنامج في القهـوة و
-مامي !! ليه ؟! افتحي بسرعة يا هيام .
فتحت هيام التلفاز بناءً على إشارة واحدة من أخيها ومنحته الريموت ، بحث سريعًا عن القناة فما فتحت الشاشـة على صورة نادية التي تصيح على الهواء مباشرة :
-يا استاذ بـدر ، أنا بنتي طالعة من مصحة نفسـية ليها ٤ سنين بتتعاطى جرعات مكثفة من الأدوية عشان تقدر تقف على رجليها وتتعامل مع البشر ، غير مؤهلة لأي تصرف أو قرار ، الجدع ده استغل حالتها وضحك عليها وكلنا شوفنا انهيارها على الهوا ، فين حق بنتي !! انا هوصل صوتي لأعلى مسئول في الدولة ، هارون ده مجرم لازم يتعاقب .. أنا من بكرة هقدم الوصاية على بنتي ، بنتي بتضيع مني يا بـدر ، أنا أم قلبها محروق لازم حقي وخق بنتي المسكينة يرجع ….
ضربت نادية بالكل في عرض الحائط بناء على تفكير وتخطيط رشدي الذي بذل أقصى جهوده لتوفير فقرة لها بأحد البرامج التلفزيونية ، كي يتخلص من هارون وليلة بضربة واحدة ..
من المنطق ألا تضع حدودًا للصدمات ، ألا تقول اكتفيت هذا أبلغ شيء قابلته بحياتي ، لا تصف حدثًا بأنه الناهيـة ، الحيـاة ثرية بالمواقف التي تجعلُك تصل إلى قناعةٍ تامة بأن كل الاشياء ممكنة ومُتوقعة .. وقاتلـة .
أطلق هارون سبـات علنيـة رجت عظام صدره قبل جدران الشقة ، ثم التفت لليـلة التي أوشكت أن تنهار من صدمتهـا الشديدة بأمها وهي تهذي كالمجنونة :
-هي ازاي مامي تقول عليا كده وتدمـر مستقبلي !! ازاي تفضحني قُدام الناس كلها وتقول أني مريضـة !! لا لا لا آكيد في حاجة غلط ، أنا لازم اكلمها ؛ عمو حسن اديني موبايلك أقولها توقف الجنان ده!! مستقبلي ضاع .
خيمت علامات العجز على وجه العجوز وهو يراقب هارون متحيرًا حاول ضم الفتاة ليُطيب جرحها وهو يقول :
-استهـدي بالله يا بنتي .. متعمليش في نفسـك كده ..
صرخت بحرقة وسيلان عينيها وأنفها يتدفقان في آنٍ واحد .. تبادلت أنظار الأخوة فبنظرة واحدة أخرس هارون أخته وهو يقف أمام "ليـلة " ويمرر طرف كُمه على ملامحها المبللة بالآهات ويزيح من عنها ماء خذلها في أمها المُزيفة ثم تفوه قائلًا :
-طول منا چمبك مش عاوزك تخافي من حاچة واصل ، الدنيا دي أطربقها فوق راس اللي يزعلك حتى ولو كان مين ..
رفعت جفونها المبللة إليه وهي تشكوه :
-أنتَ أكتر واحد زعلتنـي .. كلكم بتزعلوني كأن مفيش غير ليـلة تقسوا عليها ، أنتـوا بتعملوا فيا كده ليـه !
مسح على شعرها المُرهق مثلها وقال :
-كله هيتحـل ومحدش هيقدر يزعلك طول منا نفسي في الدِنيا ، حتى ولو كُنت أنا .. ليلة مفيش وقت للمقاوحـة أوثقي فيّ المرة دي وبـس .
تدخل العم حسن والحزن يقرض قلبه وهو يربت على ظهرها :
-وافقي يا بنتي عشان قلبي يطمن عليكِ وافقي لحد بس الفترة دي تعدي وبعدين لو عايزة تطلقي أنا بنفسي اللي هقف معاكي .. حرام هارون بيه يروح في داهيـة وأنتِ في أيدك الحل ..
ما زالت تحت تأثير صدمتها ترتجف وتبرر تصرف أمها :
-بس مامي مستحيل تقول كده !! هي آكيد في حاجة خلتها تقول كده وانا لازم أعرفها .. صح !! هي بتقول كده من خوفها عليا!
كيف يخبرها بأن هذه الأفعى ليست أمها !! قفل مخزن أسرارها بقلبه كي يواجهانها معًا ، أراد أن يملكها أولًا ، تمسك بمرفقيها كي تهدأ ، كي يُعجل بتمهيد الطريق إليها ، أن يحلل ضمة يده التي ترفع عنها حِمـل جبال من الهم عنها :
-ليلة ، بصي لي ، كل الكلام ده مش وقته .. مفيش قدامنا وقت ..
حركت رأسها يمين ويسارًا والخزى يحيط بملامحها ، فأتبع متوسلًا :
-ليلة ؛ باللي عملته نادية قلبت الدنيا علينـا ، أنا مش خايف من حبس ولا نيلـة ، أنا مش عايز أسيبك لوحدك ، نادية لو رفعت قضية هتكسبها ، أنا فاهم بقولك أيه وساعتها مش هقدر أساعدك ماليش حق ؛ لازم نكونوا سابقين بخطوة .
أخذ يتأملها متمليًا في تفاصيلها التي آسرته منتظرًا موافقتها ، فرفعت جفونها إليه بعجز :
-يعني مفيـش حل تاني غير .. غيـر الحل ده !
بدّ الارتياح على ملامحه التي استشعرت موافقتهـا و رغم الحلول المتعددة التـي تتسابق في عقله نفى تمامًا وجود أي حل غير أنها تُكتب باسمه :
-مفيش يا ليـلة .. لو في كُنت هقوله مش هستنى سؤالك ..
فتدخل العم حسن متوسلًا :
-هاه يا بتي ، قـولتي أيه !! نتوكل على الله وانزل أجيب المأذون !!
حانت منها نظرة خاطفة لهارون ثم خيم الارتباك والحزن على ملامحها وهي تُخبر العم قائلة بيأس متأهبة للاختباء بالغُرفة منفردة بهمومهـا :
-أي حاجـة ، أعمـلو اللي عايـزينـه مبقتش فارقـة .
ولكنها تراجعت لتقف أمامه عاقدة شرطها :
-بس ليا شرط واحد ..
تلهف لسماعها:
-هاه !!
-الجوازة دي تفضـل في السـر محـدش يعرفها غير هيام وعمو حسن .. لأنها مش هتطول ، زي ما قال هارون بيه ورقة وهنقطعها .
••••••••••••••
~العـزايـزة 💥
-بس الحال ديه ما يرضيش حـد يا عُمدة ، ولدك غايب له يوم بليلة ومحدش عارف له طريق !! لو بت من بناتك يرضيك يحُصل فيها إكده !!
صدحت أصوات العتـاب والشكوى من صدر زينـة التي نفذ صبرها ، رمقها خليفـة بجفاء:
-أنتِ اللي اخترتي قضاكِ يبقى تشربي !!
-يعني أيـه يا حچ !!
ضرب عكازه بالأرض :
-يعني الدِنيا مش هتمشي على كيفـك ، ولما تاخدي حاچة مش حقك استحملي عقابها ..
تدخلت صفيـة التي لم تتوقف عن الصياح والندب:
-من نقـرة لدُحديرة ويا قلبي لا تحزن !! واحد هچ ماعارفوش طريق ، والتـاني حالته تحزن اللي ما يحزنش!!
نظرت زينة لعمتها تشكوها:
-ما تخفي ندب وتقولي حاچة ياعمة !! وبعدين هي مين البت الخوچاية اللي قعدت لنا في الدار دي !! أحنا خُلصنا من المذيعة لما تچيبولنا المشغلعـة دي!! هو فيه أيه يا حچ !!
صاح خليفة بوجهها:
-فيه أنك بت قليلة الرباية أبوها معلمهاش يعني أيه البيوت ليها كبير يحكم فيهـا ، فيه أنك حاشرة روحك فـ اللي مالكيش فيـه !! فيه أنك عقاب ولدي في الدنيـا وأنا اللي هريحه منك ومن خوتتك !! اسمعي يا بت ، الكلمة هنه كلمتي ومفيش مخلوق له الحق يقول مين يقعد ومين لا غيري!! يعني تكتمي وتحطي جزمة في خشمك ، ومش عاوز أشوف وشـك لغاية چوزك ما يرجع!
عارضته ببجاحة :
-چوزي!! چوزي اللي هملني وراح ورا واحدة لا هي من دمه ولا تحل له ، بدل ما تشوفي أراضي ولدك فين چاي تبكتني وتغلطني ..
فزعت صفيـة لتقف أمام ابنة أخيها التي كانت ستنالها لطمة العجوز متوسلة :
-خلاص يا حچ دي عيلة عبيطة وأنا هفهمها غلطها .. متعكرش دمـك .
ثم نظرت لزينة وجهرت:
-اركبي على أوضتك مش عاوزة أشوف وشـك لغاية چوزك ما يعاود .. يلا يا بت وبطلي قِلة عقل..
جرت زينة ذيول قهرتها وغادرت ، دارت صفية لزوجها متحدثه بخوف :
-ما عنديها حق يا حچ ، البت محتارة مش عارفة تروح لمين وبعد المفضوحة اللي طلعت على التليفزيون وحكت اللي حكته ليها حق تتچنن !!
رفع سبابته محذرًا :
-فكرك نسيتلها اللي عملته ! البت دي هيتعاد ربايتها من أول وچديـد يا صفية ؟! شكل أخوكي مرباش ..
عاتبته بحسرة :
-ماهي أحلام ربت يا حچ ، كانت النتيجة أيه !! ولدك الكبير محدش عارف له طريق وواحد أخته معاه !! والتاني طلع متچوز في السر ومرته هتفتح علينـا أبواب نار ، والتالت چايبلي واحدة بفضيحة ، والرابع صايع ومحدش موقفه !! قول لي ألاقيها منين ولا منيـن !!
هز رأسه مدركًا الحقيقة:
-واضح أن مش بت أخوكي بس اللي ناقصة ربايـة يا صفية !! لايمي دورك معاي .. وإلا متلوميش غير روحك.
-طب سيبك من البت دي ،وسيبك من هارون ولدي عاقل وعارف حدوده زين وأكيد راح يوقف البت المذيعـة دي عند حِدها ، نيچوا للبت الخوچاية اللي چايبها ولدك !! دي لو حد شم خبـرها هيتاويهـا هي وولدي ، أحب على يدك يا حچ خليه يطلقها ويا دار ما دخلك شر ، محدش سمعنا .
حدجها باعتراض:
-وحفيدك يا صفية ، أيه عاوزاه يتربى من غير ناسه ولا أبوه!!
-ديه وِلد حرام مش عاوزينه !! الچوازة اللي تخالف قوانيننا حرام ، مصير ماهر ومرته كان ايه ، اتقتلـوا، وأنا مش هسكت لغاية ما يقتـلوا ولدي يا حچ !!
-طب اكتمي ووطي حِسك وأوعاكِ تچيبي سيـرة قِدام بنت أخوكي ، فاهمـة يا صفيـة.. والعيل ديه غصبًا عنك وعن العزايزة ولدنا ومش هنرموه في الشـارع ..
~بغُرفـة أحلام .
-ياحبيبـتي كُلي لُقمة هتفضلي مسرِتـه ورايحـة في ملكوت تاني لغايـة ميتى !!
أردفت أحلام جُملتـها بتوسل على مسامع رغد المُقيمـة بغُرفتها منذ الأمس .. وهي تضُم ساقيها إلى صدرها:
-بفكر يا طنت !! أنا بين نارين ، بين أني مش عايزة ابني يعيش نفس حياتي ويتربى بعيـد عن أهله ، وبين أن قوانين أهله ترفض وجوده !! أعمل أيه ؟! قوليلي ..
تمسكت أحلام بقلبـها إثر نغزة الحزن التي انتابتها :
-العمل عمل ربنا يا حبيبتي ، ربك هو اللي في يده الحـل ؛ كُلي واهتمي بصحة ولدك وبعدين نشوفوا رأي الحچ خليفة ..
مدت يدها للطاولة لتقطم قطعة من الخُبز وتضعها بفاهها ثم ولت متسائلة :
-كلمت هارون كتير على موبايلـه قبل ما أچي هنـا ، رقمه مجمعش خالص، هو راح لعند ليلة ؟!
تعجبت أحلام :
-وأنتِ كمان عتعرفي ليـلة ؟!
لكت اللقمة بفمها بمرارة :
-ااه ماهي اللي ادتني العنوان ومنها عرفت بخبر فرح هاشم وو ، طنت أنا مش غلط !! واللي بعمله هو الصح !!
ردت أحلام متحيرة :
-والله منـا عارفـة يا بتي .. هارون وهاشم شِيلتهـم تقضم الضهر هما الاتنـين ..
تنهدت بحزنٍ وهي تُخبرها :
-ليله بتحب هارون .. كان باين أوي من قبل حتى ما تعترف بده…
تنهدت أحلام بحُرقـة :
-وهو كمانه عيحبها وغرقان فيها لشوشتـه .. الحُب ديه غريب قوي ، مايچمعش غير اللي بينهم مسافة سما وأرض ..
قطع حديثهم صوت دق الباب الذي نادت أحلام بصوتها لتمسح للطارق بالدخـول ، فإذًا بهيثم الذي يخفض وجهه بالأرض قائلًا :
-ياساتر!!
نظرت له رغد نظرة مبهمـة فترجمها معتذرًا :
-والله أنا وشي منك في الأرض وچاي اعتذرلك بنفسي!!
تدخلت أحلام مستفسرة :
-عملت معاها أيه أنت كمان !
تبسمت رغد بهدوء وهي تشكو منه لأحلام :
-يرضيكـي يا طنت يعاكس مراة أخوه ..
شـد ياقة جلبابه متحمحمـًا وهو يلقي اللوم عليها :
-طب زمري اطلقي عيارين في الهوا ولا في نفوخي عشان أعرف أنك تبع الزعامة ..
تدخلت أحلام معاتبـة :
-أنتَ هتعقل ميتى يا واد أنتَ !
-لما اتچوز اللي فـ بالي يا أحلام ، هي اللي هتعقلني .. ادعي لي هبابة كيف ما بتدعي لهارون وهاشـم .
أحلام بسُخريـة :
-بحالك ديه مش هتعمر في چواز يا وِلد صفيــة ..
-ما بلاش تبوظي سُمعتنا البايظة دي أكتر من كِده قصاد الأچانب يا أحلام ..
ثم نظر لرغد الجالسة بينهما وذهنها مُشتت هنا وهناك :
-أنا في عرضك اللي حصل يبقى سـر بيناتنا هاشم ما يشمش خبر ، أنا شاب مخشتش دِنيا وهموت وأخشها .. وديه الهزار معاه تذكرة سفر للأخرة .
~بالخارج .
-يلا يا هاشم ، حِب على راس أبوك وراضيه .. وأنا هروح أخلي صفية تعملنا شـاي ..
استسلـم هاشـم لطلب أخيه وأنحنـى ليُقبـل رأس أبيه قائلًا :
-حقـك عليّ يا أبـوي ، أيوة أنا غلطت مش هنكـر .. وأنتَ ليك حق تموتني بس أعمـل أيه حبيتها يا أبوي وقلبي ساقني !!
حدجـه بعنفـوان وهو يوبخـه :
-وسبتهـا ليـه !! مطلعتش راچل للآخر ليه طالما أنتَ فاقـد ومش هامك حد ، ولا خلاص اتعودت تاخد كُل حاجة وتسيبهـا لما تزهـق منها !!
-يا أبوي أكيد مكنتش هعمـل إكده ، سيبك من اللي فات ، وخلينا نكلمو في اللي چاي ، قوللي أنتَ ناوي على أيه !! أنا عاوز أكلمها سيبني سيبني أحلها مع مرتي وبلاش تدخل وو
قطع جابو حوارهم راكضًا :
-ألحق يابا الحچ ، صديق قالب البلد على نچاة وعيقول أنها هربت مع الظابط رؤوف وِلد غالب ، والدِنيـا مقلـوبة قَلب ..
فرغ خليفة من مجلسه لما سمعه وهو يطلب من هاشم قائلًا :
-أخوك مش قاعد ، قوم تعالى معاي دِلوق !! هات العواقب سليمـة يا رب …..
~بالمطبـخ .
-من فضـلك كوباية شاي يا أم هارون ، نفوخي هيتفجر .
أردف هلال جملته بعد ما فارق أبيه الجالس على مراجل من نار بسبب المشاكل المتكدسة فوق رؤوسهم ، جلس على طرف المقعد الخشبي ونهضت أمه لتعد له كأسًا من الشاي بلهفة :
-چرالكـم أيه بس يا ولاد بطني ، محسب عليكم !! دي عيـن ، ورب العزة عين وأنت لازمًا ترقي البيت كُله يا هلال !!
ثم عادت إليـه متهامسه :
-بيني وبينك ، أنا بشوف كوابيس عِفشة وعيون عيون كِده مرقعـة الحيطان ومهمًا ما أبخر ولا حاچة محوقـة !!
هز رأسه ببشاشة :
-استهدي بالله يا أم هارون ، جميعها ابتلاءات واختبارات من عند المولى عز وچل ..
هنا اقتحمت زينـة المكان وهي تتمايل يمينًا ويسارًا والحقد يعقد خيمتـه فوق رأسهـا :
-خير يا عمتي، رغم انه باينلو مش خير واصل باللي عنسمعوه ، شوفتي نچاة واللي عملته !!
ثم شدت المقعد لتستريح على طرفـه :
-يامـا تحت السواهي دواهي بحق !! يرضيك اللي حُصل ديه يا شيخنا !! دي هربت مع عشيقـها والفضايح بقت قايدة واللي ماسمعش شايف دُخانها !
كور قبضة يده مغلولًا وهو يتحاشى التحاور معها هاتفًا بضيق:
-يامـا ، أسرعي الله يجازيكـي خير الواحد رأسه هتنفجر مش ناقص قـول وعيد !!
وضعت الشـاي بالكأس وهي تقول :
-أومال چرالك أيه أنتَ ومرتك العدمانة اللي مش نازلالي من زور دي ، من صُبحيـة ربنا رايحة چاية على الحمام تتقيا .. تكونش حِبلي يا ولدي!! يا وقعة !!
لم تمهله تلقي الصدمة فاقتحمت زينـة الحوار بسُمها وهي تلوى شفتيها أقصى اليمين وأتبعـت :
-ويـا عالـم حِبلى من چوزها ولا من اللي منـه ، يووه مش قصدي يا وِلد عمتى بس أنتَ قابلتها كام مرة عشان تِلحق تِحبل !!
طاحت يدي هلال ابريق الماء الزجاجي ليرتطم بالأرض وينتشر فتاته في كل الأرجاء وهو يقف كالسد المنيع بوجه زينـة التي يعاني في كظم غضبه عنها ولكن عينيه لم تفشل في ترهيبها حد تراجعها خطوة للوراء رافعًا كفه المتحمل بالجمر بوجهها الذي أطبق أصابعه بقسوة إهانتها في حق زوجته ، فانفجـر بوجهها قائلًا :
-لسانك لما يچيب سيرة مراة هلال العزايـزي يعرف حدوده زيـن ، ولو متعدلش أنا هعدله .. رقيـة ست البيت ديه واللي مش هيحترمها ويشيلها فوق رأسه هيلاقينـي في وشه ويا ويله !! فاهمة !!
تدخلت صفية لتربت على صدره بفـزع :
-هدي يا حبيبي دي عبيطة ومتقصُدش ، صل على النبي كِده ..
تجاهل حديث أمه الذي لـم يتغلغل لمسامعه فحرقته ثورة غضبه وهو يدنو خطوة منها مُكملًا :
-تعرفي حدودك زين ، مرتي مفيش عليها ذرة غبارة واحدة ، هي مش زيك الدور والباقي على اللي غارق في الوحـل ومش عارف يطلع منه ، هارون لما يرچع ليّ حديت تاني معـاه ..
ثم ركـل المقعد بقـدمه بعد ما أنصب الرعب بأوصالها وهي ترتجف قائلة بكهن والدموع الكاذبة تتراقص على مصل أهدابها :
-وأنا كُنت قُلت أيه يا عمتي!! لا ناقص يسفخني قلمين !! حقه منا ماليش راچل يقف في وش اللي يزعلنـي ، الحق على چوزي اللي مهمـلني ومعارفلهوش طريق !
-تقدري تقول لي يا عمـة أنا قولت أيـه غلط عشان ولدك يتحمق إكده !
-ماقولتيش ، وأصلا دي عدمانة وميتانة ، دي ولا حِمل حبل ولا نيلة دي ناصبة عودها بالمـرار !!
ثم استيقظ ضمير الأفعى بداخلها وهي تضرب على سطح الطاولة :
-بت سُهنة ونابها أزرق ، وديني وما أعبد منـا ساكتة ولا هعديهـا !!! وهتشوفي زينة بت صالح الطحاوي هتعمـل أيه عشان ولادك زودوها !!
دبت صفية على صدرها هاتفهـا على مسامع الحية المغادرة :
-يشندلك ! خُدي يـا حزينـة .. يخـربيت أمك !
أكل " هلال " خطاوي الأرض وهو يتسابق مع الأفكار التي تُلاحقه ، ففتح الباب بدون إذن مسبق كعادته مناديًا :
-رُقيـة !!
كانت ترقد بجسدها النحيـل ملتفـة باللحاف على الأريكـة خاصته وهي تعدل مُجيبة بتعـب :
-خير يا شيخ هلال !!
رفع اللحاف من فوقها وتغلغل ذراعه تحت رُكبتيها والأخر وراء ظهرها وحملها عنوة وخوفـه يُقاسـم معالـم وجـهه :
-قومي معاي !!
حملها على قلـبـه وهو بفتح باب المرحاض فوقع غطاء رأسها من عشوائية حركته :
-فيـه أيه فهمني طاب !!
أنزلها برفق وهو يفتح الصنبـور بالماء الفاتر ويغسل وجهها براحـة يده قائلًا :
-صفية قالت لي إنك عيانـة، هوديكِ لداكتور يلا البسي ..
رسى كفها الصغير فوق يده بهدوء وهي تبتلع بمرارة وجع عذرها الشهري المؤلم :
-مفيش داعي أنا زينـة والله ، شكلي خدت شوية برد من نومة الكنبـة !!
أغمض جفـونـه للحظة ليزيح عن رأسه فتيل النار الذي أشعلته زينة :
-رقية ، قولت هاخدك للداكتـور يلا ومش عاوز مناهدة!!
-مش مستاهله عقولك ، على بكرة هبقى كويسـة أنا عارفة روحي ..
ثم تحررت من سطو أنظاره وهي تتمسك بشرط الحبوب المُسكنة :
-شوف هاخد بِرشامة كمان وهبقى زي القِردة !! متكبرش الموضوع .
خطف الشريط من يدها واطلع على اسمـه متسائلًا :
-ديـه بتاع برد ومغصن ..
ثم شدت الشريط من يده بعد ما صوره على هاتفه و بهرولة لتقول مشتتة ذهنه لتقول بمزاح :
-ما أنت ليك كاتير عتنام عالكنبة !! اشمعنا أنا أول ما نمت عيت !! يلا عمومًا هي صحة ولا أنتَ مكنتش مسامح !
تمتم بسره وراء جفونه المقفولة :
-لا حول ولا قوة إلا بالله ..
توارت راكضة من أمامه لتحتمي بلحافها :
-رقيـة ، يلا هنروحوا للداكتور واسمعي الحديت !! أنتِ عتحكي كتير ليه !!
خشيت أن ينكشف سرها أمامه فرفضت قطعًا :
-مش رايحة حِتة .. هاخد البرشامة وهبقى زينة قلت لكَ .
أخرج هاتفه باحثًا عن اسم الدواء الذي تتناوله بفضول ليطمئن على حالتها ، فوجده مُسكنًا لكثير من الألآم منها آلام الحيض وغيرها ، فتنفس الصعداء وهو يخرج من المرحاض قائلًا :
-متأكدة انه برد ولا في حاچة تانية وأنتِ مش عاوزة تقـولي !!
-بردت والله ، متشغلش راسك ..
حك ذقنـه وهو يرمقها بنظرات المكر التي تحاوط أعينـه :
-طب قومي صلي معاي العشـا تاني وأرقيكِ لتكوني واخدة عيـن !!
ما أكمل جملته فتعرقلت قدمه بطرف السجادة متأوهًا :
-يااالله !! قل أعوذ برب الفلق !
فزعت من مرقدها ملهوفة :
-في أيه !!
-عين ، عين مقمـرة احتلت سمائي يا رقية !
تأرجحت عينيها بتوجس :
-مين حسدك بس !! تيچي أرقيك طاب !!
-شوفي أنتِ !! مش كِده يا رقيـة بس على مِهلك عليّ أنا لساتني عريس مخشتش دُنيا !! المهم دعك مني وشأني ؛ أنتَ كيـف حالك !
-زينة عقول لك ، وأنتَ مكبر الموضوع ليه تعالى أما ارقيـك ..
-دعي الرُقية لصاحبها ..
فتبسـم بوجهها قائلًا :
-صليتي!
ردت بخجـل وهي تتراجع للوراء وتهز رأسها يمينًا ويسارًا :
-لا .. قصـدي مِش عصلي !! بس هنام طوالي أهو وهصحى زي الفل ، كنت عيانة قوي العصر ووو
أمسك بمرفق كي يوقف رحيلها :
-نامي على سريـرك ، كي لا يستفـرد بكِ الشتاء بعد !
-وأنتَ ! هتنام فين ؟!
-هنام چارك ، اظن أن استفرد بكِ أهون من أن يستفرد بكِ برد الشتـاء !!
لطخ الخجل وجنتيها :
-وه!!! لا البرد أهون !
-أنا لا أمرضك لكن البرد يُمرضك !!
اندست تحت لحافهـا هاربة من سطوه :
-لا أنا عاوزة أمرض ، متشغلش بالك .. تِصبح على خير …
استغفر ربه سرًا ثم اندلعت منه تنهيدة ساخنة حرقت هواجس رأسه التي بختها بها الحيـة واقترب منهـا جالسًا على رُكبتين ليزيح الغطاء عن وجهها متصلص النظر لشعرها اللامع من كثرة نعومته ، تبادلت أعينهم المتوجـة ببيادر الحُب لتتهامس:
-فيه أيه !!
وضع رأسـه فوق جبهتها وهو يقـول بلطف :
-ألف لا بأس عليكِ ..
ثم بلل حلقه وأتبع معتذرًا :
-أسف عن أي تصرف صدر مني في غير أوانه ! لكن ما دخلي بهِ ، والله صب الشوق أحر من صبابـة أغسطس.
-شوق لميـن !!!
-لأمي .. لأمي ، صفية عارفاها !!
تلونت ملامحه بزهو الشوق المتوق إليها فارتعشت برهبة من ذلك النور المنبعث لها وحدها ، تمسكت كفوفها الصغيرة باللحاف والخجل يلتهمها ويتراكض الح :
-شيـخ هلال بلاش تبص لي كِده !!
كسا الحب ملامحه وهو يغازلها بملامحه بعد ما ارتاح قلبه من شكوكه ؛ قائلًا :
-أخبريني كيف للعين أن تتطلع في حقل الجمال ما دام الجميل يربكه نظرتي !
بللت حلقها الذي جف من وهج كلماته وأنفاسـه المحرقة بقلبـها :
-كبرت الموضوع ليه !! قصدي أقول لك عاوزة أنام .. تصبح على خير ..
اومئ رأسه متفهمًا حالتهـا ثم اكتفى بطبع قُبلة طويـلة على جبينها وقال متيمًا بشوق مدفون :
-تصبحي على الخير ونعيمه يا دكتـورة .. ربنا يهديكي !!
-يهديني لفيـن !!
-لطريقي !!
••••••••••
~القـاهرة .
تتشاجر "هيام" مع الأطباق بيدها لتفـرغ طاقـات الأسئلة التي تفتـقر الرد بداخلها حتى وصل صوت ضجيج الصحون لمسامع أخيها الذي يرتب شاله على كتفيه ، فاقتحم المطبخ قائلًا :
-ما علـى مهلـك يا هيام ديه مش مطبخ أبونا !'
-هطق يا هارون !! شايفاك عتغرز وأنا مش قـادرة ألحقك ولا أفوقك !'
أجابها ببـرود :
-ديـه ليـه يعـني !!!
جزت على فكيها بضيق:
-ليه !! هارون أنتَ كُنت هتطبق على روح وِلد عمك رفاعي لما بس قال أنه رايد بنت ماهياش من دَمـنا !! جرى لعقلك أيه شقلب حالك وكيانك !!
شبح ابتسامة متمـردة بدت على ملامحـه :
-عشانه چبان ، خاف من الموت وساب البت اللي رايدها !! الشعور القايد في قلبي ديه لو كان فـ قلبه قلبي وسابه يبقى حمار ومايستاهلش البت !!
-خايفة عليك يا أخوي !! أنتَ من ميتى عتفكر بقلبك دي !! دانت أبو العقل كُله !
-وعقلي مش هيفرط في البت اللي هچبته بردك يا هيام ، أهدى وأفردي بوزك دي ، أخوك عريس ولا أنتِ واخدة عرق من صفيـة وعاوزة چنازة تشبعي فيها لطم .. فكي لغـاية ما أشوف ليلة ..
زفرت بضيق:
-طـب يا أخوي ، طب ربنا يسترها والله قلبي ماهو مطمن بس ماشي ..
رفع سبابته محذرًا :
-هيام ، چوازتي من زينة دي كارت محروق ، ليلة ما تشمش خبر !! سامعة!!
انصرف هارون من المطبـخ تحت نظرات أخته المحترقة عليه وهو يطلق صفيرًا هادئًا لا يتناسب مع عصف المـوقف ، فتـح الشُرفة بأحد الغرف المجاورة وأخرج هاتفـه ليسجل رسالة صوتيـة لنادية بعد ما دس بطاقة المحاماة بجيبه ليقول بصوته الزئير :
-اقسم بچلالة الله لو المحضر اللي مقدماه ما اتسحب لـهلففك محاكم مصر كُلها ، من بكرة البلد كُلها هتعرف أن دكتورة نادية أبـو العلا معتخلفش وبالدليل ومش بس إكده دي حاولت تقتل البت اللي طالعه تقول أنها بتها عشان حتة أرض خايبة ، ورب العزة لهخليكِ تتمنى الموت ولا هطوليـه … أنت وقعتي مع اللي مبيحرمش مخلوق في الحـق !!!
ثم أرسل رسالتـه الصوتيـة وقفل هاتفـه ووضعـه بجيبـه وفارق الغُرفـة متجهـًا نحو الغرفة التي تختبئ بها " ليلة " ، دق الباب مرتين فهتفت ليـلة بصوتها المبحوحٍ :
-تعالـي يا هيـام ..
هتف من وراء الباب قبل أن يفتـحه :
-بس أنا هارون ، مِش هيام !!
رج الاسم قلبها وهي ترفع رأسها الملطخـة بالعِبرات :
-عايز مني أيه تاني !!
فتح الباب بهدوء وتسلل منه فوجدها تتكور بزاوية الأريـكة دافنة وجهها بمعصمي يدها وآثار الدموع جفت على وجنتها، دنى منها متحيرًا :
-وبعدهالك عاد!!
-أنتَ عايز أيه تاني !! هاااه .. مش كفاية اللي حصل لي !! مش كفايـة كده!!
ثم تدلت أقدامها لتُلامس الأرض هاتفة:
-هارون يا عزايزي أنت أفهم بقا ، أنا مش عايـزة اتچوزك !!ولو وافقت ده بس عشان الورطة اللي أنتَ فيها.
جلس بجوارها بهدوء:
-بس أنا عاوز ..وبكيفي .
أجابته بنفاذ صبر :
-وأنا لا .. مش عايزاك ..الله!!
-ليه يعني !!
لكت الكلمـات بفاهها :
-عشان !! عشان هتجوز شريف أنا خلاص أديتهم كلمة ..
رد ساخرًا :
-بليهـا وأشربي ميتها ، ولا بلاش ميتها دي مية عِكرة وأحنا مش ناقصـين !!
عاتبته بجزل طفولي:
-أنتَ كده هتطلعني صغيرة ومش أد كلمتي!!
رفع حاجبه بدون أي اندهاش:
-وأيه الجـديد !! طول عمرك صغيـرة ومش كد كلمتك!؟والدليل أهو ، فچاة نسيتي مين هو هارون !!
رمقته بسخرية وهي تمحو أثر الدمع من على وجهها :
-اااه ، شكلي اتعلمت منك !!
شبح ابتسامة خفيفة بدّ على وجهه:
-أنتِ كُل الزعابيب دي عشان خاطر شريف أبو العلا!! أومـال لو كان شريف منيـر كُنتِ هتعملي أيه !!
أغمضت عيونها بوهنٍ وهي ترفع وجهها للسقف :
-بردو بتهزر !! ليك نفس تهزر وأحنا في الظروف دي !! انا واحدة حياتها كلها ادمرت حتى … حتى حلقتي اللي مكسرة الدنيا وكل الناس بتتكلم عنها أنا مش قادرة أفرح بده!!
ثم أغرورقت الدماء بعينيها من جديد وقالت بندم :
-أنا كان نفسي بس أوصل رسالتي لشخص واحد وهو أنت!! فجأة لقيت نفسي قدام ملايين من الناس !! أنا اتورطت وورطتك معايا وورطت مامتي !! أنا مكنتش متخيلة أن كُل ده هيحصل !!
مسك ذقنها بأصبعيه وولى وجهها الباكي إليه:
-ينفع تبطلي تفكيـر وتقومي تغسلي وشِك ديه !! عم حسن والمأذون على وصول !!
-أنتَ مالك بتتكلم كأننا عرسان بجد !! أحنا بنعمل كده عشان بس أخرجك من ورطة أنت مش لاقي لها حل!!
ارتدى قناع العجز المزيف:
-مفيش في يدي حل غيره!! لو أنتِ عندك ألحقيني بيه!!
اعتصر الحزن قلبها وهي تسأله:
-يعني أنت بس هتتجوزني عشان متتحبسش!
احتل الحب جوارحه وهو يجفف دموعهـا بإبهاميه وبتعمق بعينيها الذابلة :
-أنتِ هتفضلي عاملة نفسك مش شايفة لغاية ميتى ! فكرك واحد زيي هيخاف من الحبس!! فكرك مش عارف أن أمك هتعمـل إكده ، آكيد مش هتعدي على محامي زيي!! ومتوقع الحركة اللي هتعملها أمك ومع ذلك كملت !!
لقد فاض صبرها منه:
-هاه بقا هو ده اللي عايزة أعرفه !! كملت ليـه!! وعشان أيه؟! عشان واحدة قلبك رفضها !!
اندفع بوجهها معترفًا :
-عشان واحدة قلبي رفض الكل وماقبلش غيـرها.
دلو مثلج انسكب فوق رأسها إثر انفعاله ، اعترافه ، هيئته التي تتصبب عرقًا ، لهفة صوته في إعلان حبه بطريقـة ضمنيـة ، خفف قلبها من مكانه وهي تسأله ببكاءٍ الصدمة :
-الواحدة دي تبقـى أنا !!!
غير مسار الحديث مؤجلًا اعترافه حتى تصبح ملكًا له أمام العالم :
-ليلة ، شايفة جزاة معروفي معاكِ أني اتحبس !! وأنتِ في يدك الحـل !!
ردت ساخرة وهي تتجرع آهات الامل المهشمة بصدرها بحرقة:
-لا ميصحش ، كِده هابقى ناكرة للجميل في نظرك طبعًا !! هو ده كل اللي هامك! طيب يارب تتحبس العمر كله ، وأنا خلاص مش مكملة ….
هنا اقتحمت " هيام " الغـرفة لتخبـر أخيها بقلق:
-أخوي ، الباب عيخبط .. عم حسن والمأذون شكلهم وصلـوا ….
••••••••••
"كنتُ دومًا أهفو إلى ماهو أبعد من وجودك ، كُنت اتوق إلى شعورٍ يمنح الدفء لجزءٍ من من قلبي أعتاد برد الوحـدة ، إلى صوتك خاصة عندما ينطق حروف اسمي ، إلى ارتداد شروق شمس تزورنا ونحن ما لبسنا كُنا رفاق للقمر طوال إلليـل ، إلى حكمتك ونصح الدائم لي أنك تفهمني من إيماءة واحدة بدون حاجة لتخرج الكلمات مني .. وبعد أعوام وأعوام ها أنا أمسك بين يدي ورقة الملكيـة ، ورقة إثبات ملكيتي لك لآخر العمر .. ها أنا أنعم في كنف الرحمـة والحُب كما وصفه قاضي الحب ، ها أنا أصبح ملك رؤوف القلب وصاحبه الأول ؛ شعور جميلٌ حد الرعب …
فتح رؤوف باب شقته الجديدة التي أجرها اليوم ، وبعد يوم طول قضاه برفقة نجاة وأبنها وفاتحته التي كانت بعقد قرآنهم ، ثم باشر تفاصيل يومهم بالتجول بالمولات والمتجرات التجاريـة وغيـره ..
كان يحمل صغيرها على كتفـه وبيده بعض الحقائب التي ابتاعها لهما منذ قليل ، وكانت تتبع سيره وبيدها الكثير والكثير من الحقائب وما خطت قدمها أعتاب الشقـة الجديدة القريبة من مكان عملـه ، وانغلق علي الحبيبين بابًا واحدًا .. تسلل رؤوف برفق لينيم صغيـرها وشرعت هي في تفقد الشقة المتكـونة من ثلاثة غُرف وصالة كبيرة إلى حدٍ مـا .. تركت الحقائب من يدها وأخذت تتجول بالمكان وأول ما قادتها قدمها إليه كان المطبـخ .. تسللت بهدوء لتتفقد أثاث الراقية والبسيطة وما تاهت في تفاصيله ، استدلت على خريطة شقوق يده التي حاصرت خصـرها بغتــةٍ .. فشهقت بصوت مكتوم :
-رؤوف !! عتعمل أيه !!
هام في تفاصيل حِجابها وهو يضمها إليه قائلًا :
-تعرفي أنا حلمت بالحضن ديه كام سِنـة ! اف ، طلع أحلى ما حلمت تِصدقي!
حاولت التملص من قبضته القوية متمتمة :
-رؤوف ، مازن يصحى بَعِد يدك بلاش الحركات دي !!
تغلغل في تفاصيلها أكثر وكأنه أراد إثبات ملكيتـه لها لآخر العُمر :
-مازن وأم مازن هيناموا الليلة دي في حضني ، تفتكري هعوز أكتر من كِده أيه !!يا بختي .
-رؤوف !! أنا هنام فـ أوضـة مازن وأنتَ هتنام في الأوضـة التانيـة .. مفيش الحديت ديه .
-تعالي نتفقوا اتفاق عشان شكلك هتغلبينـي !!
-طب هو الاتفاق ماينفعش غير وأنتَ مأنكشني كِده !!چرالـك أيه !!
-بالظبط ماصدقت قفشتك ،و ما ينفعش غير وأنتِ تحت يـدي كِده وحاسس بنبض قلبك … اسمعيني !!
تبسمت بارتياح وهي ترفع جفونها لعنـده :
-عاوز تقول أيه !!عيب الحركات دي على فكرة ديه مش اتفاقنا .
-عاوز أقول أني هنفذ كُل حاچة تحتاجيها حتى ولو كان لبـن العصفـور هچيبهولك ، إلا ..
تنهدت بخفوت والحب يبرق من ملامحهـا :
-هااه إلا أيه عاد !!
رد بحزمٍ :
-إلا أنك تعلميني أحبك كيف !! أنا هحبك على كيفي وأنتِ تقـولي آمين !! سبيني أعوض سنين غيابك عني !
خفق قلبها بتـوتـر :
-رؤوف ، أنتَ اتچننت !!
-بيكِ !!
ثم تحمـس قائلًا :
-تعالي أفرچك على أوضتنا ، هتعچبك قوي ..
خيم فطر الخوف على ملامحها :
-رؤوف !! استنى أنا خايفة ، زمانها البلد مقلوبة علينـا..
-تتقلـب وهي من ميتى كانت معدولـة !! المهم مش عاوزك تخافي من حاچة وأنا معاكِ .. أنا عحمي بلــد مش هحمـي مرتي وحبيبـة قلـبي .. !!
ما كادت أن تتحرك خطوة فصادفت مازن الواقـف أمام باب المطبخ يفرك بعينـيه قائلًا :
-أمـا أنا خايف ، تعالي نامي چاري !!
تحررت من يد رؤوف وهي تهرول لصغيرها بعد ما أرسلت له نظرة اعتذار :
-تعالى يا قلب أمك ، هنام أنا چارك .. قول لعمك رؤوف تصبح على خير ….
عض رؤوف على شفتـه متنهدًا :
-وأنتَ من أهله يا مازن أنتَ وأمك …
ثم دمدم متحسرًا :
-دي عين هاشم ورشقت..كان لازمًا تتسحب من لسانك وتقوله !!
•••••••
”ما لي وما للدُّنيا، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظل تحتَ شجرةٍ ثمَّ تأتي الريـح وتقتلعهـا من جذورها ، هذا هو سُلم حياتي باختصار ، خطواتي هزائم تُلتـى فوق قلـبي وعمري "
كانت تتوسط ذلك الفراش للذي يحويها دافنـة وجهها بين ركبتيها وتبكي بدون صوت تنتحب من شدة القهر ، دخل "هارون" من الباب بعد ما أخذ حمامه الدافئ وبدل ملابسـه الصعيدية لـ الرياضية السوداء التي ابتاعها قبل ساعات ، فلم يسمح لأخته أن ترافقها هذه الليلة ، فضل أن يتولى أمرها بنفسـه لقد زالت الحواجز بينهما .. ترك الباب خلفه مواربًا ثم تقدم إليها بمهـلٍ وهو يتأكد من قفل النوافذ كي لا تَبـرد .. كي لا يستفـرد بها صقيع الجو فيُضنيها أكثر يكفي ما سكن الهم بدواخلها .
جلس بجوارها وأخذ يمسح على ظهرها بضميـر مرتاح أنها أخيرًا بقيت له وملك يده بدون أي عتاب لصوت الضميـر القاتلة التي تبعده عنها .. نادى باسمها هامسًا :
-ليــلة ..
رفعت وجهها الشاحب والمبلل :
-نعم ..
-الدموع دي مش قولتلك مش عاوز أشوفها !! قولتلـك طول ما أنتِ معاي متعتليش هم ؟ مش طمنتك واتفقنا يا بت الناس!
دمدمت بخفوت :
-عايزني أعمل أيه يعني !! خلاص كُل حاجة راحت ، حاسة إني في كابوس ..
ثم أحست بصقيع البرد فمسحت على كتفيه برعشـة :
-كل حاجة في حياتي غلط ، أنا بحاول افتكر يوم واحد بس الدنيا صالحتني فيه ، مش فاكرة !! حتى أنتَ كنت مفكرة أني خلاص لقيت الشخص المناسب لكن أنتَ كمان خذلتني وكسرتني ، ده سوء اختياري صح !! مش كده ؟! انا اللي غبية وبمشي ورا قلبي من غيـر تفكير .. ولما اتجوز ؛ اتجوز علشان أنتَ متتحبسش !! شفت سخرية الزمن مني ومن قلبي!!
شدها برفق كي تقترب منه ، فدارت كزهرة عباد الشمس نحو مصدر طاقتها الأساسي عاقدة ساقيها وهي تكفكف دموعها ، تولى مهمـة إزالة الحزن عن ملامحها وسألها برفق وهو يعانق عينيهـا :
-أنتِ للدرچة دي شيفاني وحش!! طب قلبك مصدق الاتهامات اللي شغالة تحرقي بيها صدر هارون ديه من الصُبح !!
ارتعشت اكتافها وهي تنفي عملها:
-معرفش .. قلبي ده مش هسمع كلامه تاني خالص ، عشان هو اللي بيوجعني .. هو السبب في كُل حـاجة بتحصل لي !!
-معاي أنا وبس لازمًا تسمعي صوت قلبك .. عارفة ليـه !!
-ليـه!! ليه اشمعنا أنتَ !
أشار لقلبها بسبابته :
-عشام هو الوحيد اللي هيقول لك هارون مش إكده ، وهارون بردك مش اللي يوعدك بوعد وهو مش عارف هينفذه ميتى !! هارون لو فتح لك قلبه هتلاقي نار قايدة بتاكل فيه ، ميغركيش كلامي لانه عمره ما كان يشبهني ولا يشبـه الـ چواي .. أنا اتعودت على كِده !
عارضته معاتبة :
-أنتَ لو بتتكلم بجد كان لازم أعرف أنا كل ده! مش أحنا كُنا صحاب ؟ أنا مكنتش بخبي عنك حاجة ، أنتَ أهو اللي بتخبي!! كان لازم تبقى صريح معايا من البداية .. وحتى لما اتجوزتني اتجوزتني عشان مضطر لكده !! يعني مش عشان قلبك عايز ده !!
هز رأسه ولأول مرة يتفوه مندفعًا بدون تفكير ولكن بمنطوق قلبه قال :
-الراجل غير ، الراجل بفعله مش بقوله يا ليلة أنا اتربيت كِدِه ، أنا كُنت عكلمك في المحمول وبنضحكو وفي نفس الوقت قصاد باب المجلس داخلهم نناقشوا حوار چواز الدم من قبل حتى ما تقوليها كنت مقرر .. كنت مفشكل چوازتي مع زينة من اليوم اللي سألتيني فيه فين دبلتك .. من اللحظة اللي قلبك دق فيها في صدري!! فِكرك محستهاش !!
تلهفت لسماعـه بدموعٍ متأملة ومتألمـة :
-طيب وعملت أيه مع المجلس بتاعكم غيرت حاجة ؟!
رد بأسف:
-حاولت ألغيه الدِنيا اتقلبت .. اتورط أبوي يقول إني هتجوز زينة معرفتش اكسر كلمته رغم أني مش قاري اللي في راسـه .. لما جيتي البـلد كانت المشاكل حاطة فوق كتافي !! مكنتش قادر حتى اتكلم معاكي عارف أني هتهزم قَصادك ، مشيتك لغاية ما أعرف هعمل أيه !!
سرت بجسدها رجفـة العشق التي احتلتـها وهي تسأله بآهات مكتومـة :
-يعني أنا كنت صح !! يعنـي اللي حسيتـه أنتَ كمان كنت حاسس بيـه ومستني تظبط أمورك !! طيب ليه ما قولتش كده !! ليه مدتنيش أمل واحد أعيش عليـه ..
اعتدل في جلستـه ممسكًا بكفوفهـا المرتعشـة ، رفعهما لمستوى ثغرها ، فانحنى بشفتيـه المذمومة ليطبع فوق كل واحد منهم قُبلة طويلـة ، قبلة من نسيج خيوط العنكبوت التي تصنع ملجأ ومأوى لقلوبهـما ، قبلـة تنسج الوصال الأبدي بينهمـا .. فأبلغها الجواب بأسمى المعاني وأرقهـا .
فجأة تغيرت درجة حرارة كفها المثلج ليتحول لقبضتيـن ملتهمبتين كأن بداخلهم جمر ولست قُبل .. أحست بخشونة شفتيه التي ابتلت من نهرها .. أنفاسه تتدفق لعروقهـا بدون إذن حتى توقد القلب مع كفوفها ..
ظلت في غيبوبة السحر حتى فرغ وهو يراقب أعينها المهزوزة ويقـر ملكيته إليها:
-من اليوم أنتِ مراة هارون العزايـزي مش عاوزك تخافي من مخلوق خلقه ربنـا ..فاهمة؟ وكُل اللى چيه عليكِ هطفحه سنين عمره الباقية !! وديه وعدي ليكِ .
شدت كفوفها بارتباك :
-ولا حتى منـك !!
كسر جفاء الحديث بينهم بابتسامـة خفيفة :
-لا مني لازمًا تخافي ..
-يعني ايه !! أنتَ ناوي تزعلني تاني ؟!
-لا ما أنت هتخافي بس على زعلي .. يعني دموعك دي لما أشوفها بتچنن اللي چابوني بكون عاوز أكسر الدنيا بناسها وأجيبها تحت رچليكِ ..
تسربت ابتسامـة الرضا لقلبها بابتسامة أمنـة بطيف وجوده مغيرة مجرى الحديث:
-هي هيام فين !! مش سامعة صوتها؟
-نامت ..
أومأت بقلق تسلل لقلبها تود الهرب من أمامه :
-وأنتَ مش هتنام ! قصدي هتنام فين الشقة أوضتيـن بس!!
استغل حيلـه الماكرة لقضاء أطول وقت ممكن معهـا :
-قولت أچي اطمن عليكِ و أنومك وهقوم أنام في الصالة متقلقيش .
احتلت الغرابة ملامحها :
-تنومنـي !!
-مستغربـة ليـه !!
ثم تراجع للوراء مستندًا على ظهر الفراش صانعًا بركبتيه زاوية قائمة فجذبها برفق مثلمـا كان يفعل أبيها من قبـل ويداعب خصلات شعرها ، رغم خجلها الشديد إلا أنها استسلمت لعرضه لأنها في حاجة شديدة لتستشعر الأمـان .. لبت طلبه بهدوء وسندت رأسها على ركبته كحمامـة سلام تنكمش أمنة في موطنها بعد ما تحرر بعد أعوام من الخوف والتحليق العبثي.. شد الغطاء فوقها تغلغلت أناملـه بين خصلات شعرها برفق ، انسكبت دمعـة من عينيها على بنطالـه فأحس بارتعاشها ، مسح على جبينها وقال :
-نامي ومتفكريش في حاچة ..
تركت جفونـها للنـوم وترك يدها تتنقل بين جذور شعرها بحُرية وهو يربط برأس الأفكار المُشتتة :
-يعني أيه لو رچعت الصعيد لناسها هيقتلوها !! ومين ناسها اللي ضحوا في بتهم ورموها !! طب وأيه علاقة أبوي بنادية !! وأيه الأمانة اللي عيدور عليهـا !! وأبوي عرف منيـن اسمها !! كان عينادي عاوز يثبت لروحه حاچة أنا مش فاهمها !! وچاب منين الثقة اللي يقول لي هچوزهالك !!
قفز الفكر القانوني برأسه الذي يخبره :
-معقـول تكون هي نفسهـا الأمانـة اللي عند رفعت الچوهري وعيدور عليها أبوي !! يعني ليـلة تبقى عزايزيـة من دمي ولحمـي !!
زفر بامتعاض وهو يعتاب نفسه :
-چرالك أيه يا هارون !! أنتَ هتتچنن !! عتدور على حچة تقضي على اللي عملته !! فوق ومتستسلمش لأوهام ، الحرب قويـة !! ولازمًا تكون كِدها سيبك من الأوهام والحچچ دي…..
ثم تمتم لنفسه :
-وكمان أيه حوار هاشم واللي عمله !! بس ارچع له !! لكني هعاتبـه كيــف وأنا محروق بنفس النـار بتاعته !! يارب حِلها من عنـدك !!
كان يفكر في مصيرها المجهول تارةً ويتأملها طورًا يدقق في الياسمين المنثور فوق ملامحها و يسيل منها دمُ الليل أَبيضَ . يستشق رائحتها ضعفـه وبغيتـه ، حيث كان يتبع الطريق لقلـبه مثل لدغة أَفعى .
ذلك الشعر البنـي ، الأشبه بأوراق الخريف المتساقطة .. رغم كونه أول إمراة يلامسها بل كان يروضها ببراعة بخبرة رجل حاصل على الدكتوراة بأمور النساء ، كان قلبه يتبـع صدح مشاعرها قبل أن تئن بهـا ..
مرت قرابة السـاعتين حتى تراجع رأسـه للوراء وغفت لدقائق معـدودة لن تطول إثر فزعها من النوم وهي تصـرخ مناديـة على أبيهـا برعبٍ ، فتح جفونه على صوتها مذعورًا :
-ليـلة مالك !! ليلة متخافيش ديه آكيد كابوس !!
كانت ترتعش كقطعة قماس متهريـة في مهب الرياح وهي ترتمي بحضنه لتخبره برعبٍ :
-الراجل جيه تاني .. جيه تاني عايز ياخدني من بابي …
دار ليناولها قرصًا مهدئًا وكوب الماء :
-طب اشربي واهدي !! خدي ..
تجرعت جرعتها من الدواء وهي تنتفض تحت يده التي تُسقيها الماء ، ارجع الكوب مكانه وسألها :
-شوفتي ايه !!
-حلم بيتكرر كتير أوي معايا ، من وأنا صغيرة ، في راجل بيجي في المنام شكله غريب بيكون عايز ياخدني من جدو أو بابا معرفش ليه ، وبيقولهم دي بنتي أنا .. وكل مرة بكون خايفة وتايهه ومش عارفة الراجل ده عايز مني أيه !!
ثم بثت شكواها إليه :
-هارون أنا ليه بيحصل معايا كُل ده !! أنا تعبت خلاص مش قادرة !! تعبت من كتر ما أنا بنام خايفة ! حتى النوم مش عارفة ارتاح فيه !
قبـل جبينها بعد ما تأكد من حديث العم حسن وإعترافه بعدم نسبها لعائلة الجوهري .. ضمها لصـدره وأخذ يربت على كتفها بحنان ذاخر وهي مستسلمة ، لا يزور الخوف أو الخجل قلبها ، بل كانت كالطفل الصغير الذي يستشعر كل الروائح باحثًا عن أمه من بينهمـا ، سُلبت من عالمها برمته وأوجاعها التي حطّمت أصولها وهو يقرأ على رأسها فاتحة الكتاب كي تهدأ بين يديه حتى غرق الاثنان في نوم عميق وكلاهما متشبثًا بالآخر …… كل منهما وجد ضالتـه آخيرًا ..
••••••
~صبــاحًا .
تسللت "زيـنـة" في الخفاء وبعيدًا عن أعين الحرس لتخرج من دوار الحج خليـفة وتواصل سيرها لمقـر المجلس الذي يبعد مدة قدرها ربع ساعة سيرًا على الأقدام ، لتقـف أمام شيوخ وكبرائهم لتشكو ظُلمتها :
-أنا زينـة بت صالح الطحاوي ، هارون العُمدة بتاعكم هملني ليلة دُخلتي وطلع رمـح على البت البحراويـة ، أنا عاوزة چوزي وعاوزاه يبعـد عن البت دي قبل ما تبُخ سمها في راسها وتغويـه ونخسروا عمدتنـا وكبيرنا … أنا عاوزة چوزي يرجع لي …….
•••••••
يتبع …..
•تابع الفصل التالي "رواية آصرة العزايزه الجزء الثاني 2" اضغط على اسم الرواية