رواية رحماء بينهم الفصل الثالث و العشرون 23 - بقلم علياء شعبان
رُحماء_بينهم
"كمثلِ الأُترُجَّةِ".
]]الفصل الثالث والعشرون]]
•~•~•~•~
وقفت أمام المرآة وحالة من التذمر تسيطر عليها بل وتتفاقم، عدلت هندامها الخاص بالشركة رغم أن اليوم هو إجازتها ولكنهم وجدوا عملًا لها كي يعكروا صفو اللحظات السعيدة التي خططت لها بشأن اليوم، قبل قليل فرغت من تلقي اتصال من الشركة يُخبرونها بضرورة القدوم في الحال، لم تكن تفهم سبب استدعائهم لها إلا عندما ألحت في السؤال حول سبب مجيئها وأخبروها بأن الشركة اليوم تستقبل مُستثمرًا تُركيًا جاء حديثًا من بلده وينوي تنفيذ بعض المشروعات في مصر بالتعاون مع شركة (حمدي زهران) وحسب ما ورد في ملف سيرتها الذاتية فإنها حاصلة على شهادات مُعتمدة من مراكز شتى مُخصصة لتعلم اللغة التُركية.
انتهت من وضع غطاء رأسها ولم يكن لديها الوقت الكافي لوضع مساحيق التجميل فتدبرت أمرها باستخدام أحمر الشفاه وكحل العينين ورأت أن هذا كافيًا ويجب عليها الإسراع قبل بدء الاجتماع، تعجبت من كونها ستعمل ذات يومٍ شيئًا غير مجالها، لم تكن غاضبة لأجل هذا بل مُتحمسة للغاية أن تقوم بشيء جديد ولكن ما أثار حنقها هو اختيارهم ليوم عطلتها بالتحديد.
ارتدت حقيبة كتفها ثم ترجلت بسرعة خارج غرفتها ليقابلها والدها أثناء دخوله من باب المنزل عاقدًا حاجبيه مُتسائلًا باهتمام:
-رايحه فين يا وَميض، مش النهاردة أجازتك من الشغل؟؟
تنهدت بضيق يتعمق داخلها وقالت:
-رايحه الشغل لأن ببساطة مش مكتوب عليا أرتاح، الشركة كلموني علشان محتاجيني مُترجمة في اجتماع النهاردة مع المُستثمر التركي.
علام بابتسامة هادئة وكلمات مُشجعة تابع:
-وماله بالعكس إنتِ لازم تفرحي، دلوقتي وجودك في الشركة بقى بصفتين؛ صحافة وترجمة يعني مش هيعرفوا يستغنوا عنك أبدًا.
ضحكت "وَميض" وردت بكلمات هزلية:
-يعني هم الأتراك داخلين طالعين علينا يا بابا كُل يومٍ، يلا Yakında görüşürüz
علام بتذكر لهذه الكلمات التي كان يتعلمها مع ابنته في تلك الأوقات كنوع من مُشاركتها النجاح وتقديم الدعم فهي التي لطالما حلمت بالذهاب إلى تُركيا والعيش هناك، تكلم بثقة وهو يودعها:
-متأخريش علشان عزومة بالليل يلاgörüşürüz
خرجت ووصدت باب الشقة خلفها، ابتسم ودعا في نفسه لها بالتوفيق، يعيش علام الآن أكثر اللحظات رضاءً عن أفعاله لقد نجح في أن يضعها في يدٍ لن تكسر براءتها يومًا ولن تُحني قامتها البتة، لقد نجح في مهمته التي عاش لأجلها وهي أن يجعلها تعيش حياة كريمة من بعده وليحصل ما يحصل بعد ذلك؛ فهو الآن قد أتم ما أُرسل لأجله في هذه الحياة
•~•~•~•~•~•
-سعيد إنك بخير وإن إصابتك كانت سطحية الحمد لله، أنتَ بقى ليك مَعزة خاصة في قلوبنا كُلنا، أنا عُمري ما هنسى لك تضحيتك دي علشان أُختي.
أردف "عُمر" بنبرة مُتأثرة وهو يقبض على قبضة الأخير الذي ابتسم بودٍ وقال:
-أنا معملتش غير واجبي ولو أي حد مكاني أكيد كان هيعمل كدا.
عُمر ببسمة خفيفة:
-حلو التواضع دا، المهم عايزينك تقوم بالسلامة وقاعدتك في المستشفى متطولش.
انبسطت عُقد حاجبيه وهو يقول بتذمر:
-هو أنا مش خارج النهاردة ولا أيه؟!
عُمر بضحكة هادئة يرد:
-في أيه يا عم إنتَ، هو إنت واخد رشة ميه من مُسدس لعبة، أحمد ربنا إنك اتحركت والرصاصة استقرت تحت الجلد وما اخترقتش عمودك الفقري لا قدر الله، طبيعي هتحتاج كام يوم علشان الجرح يلم وبعدها ههتخرج
كاسب وهو يتأفف باختناق:
-أنا ماليش في جو المستشفيات دا، أنا عايز أرجع بيتي.
عمر بتفهم:
-هم كام يوم وتخرج وأنا وسكون يوميًا هنكون عندك يعني مش هتحس بخنقة ولا حاجة.
بالكاد اقتنع كاسب بما قاله الأخير ولانت صفحة وجهه المتجهمة وهو يومىء مُستسلمًا، أطرق برأسه قليلًا وساد الصمت للحظات لم تطل، رفع رأسه مرة أخرى ثم تنحنح قبل أن يتوجه بالسؤال للأخير:
-بما إننا بقينا صحاب فأنا حابب أسألك عن حاجة!
عُمر بترحاب يجيب:
-أكيد اسأل!
تنحنح "كاسب" في باديء الأمر شاعرًا بالحرج ولكنه أصر أن يطرح سؤاله فقال:
-حالتك دي من يوم ما اتولدت ولا حادثة؟!
التوت شفتي "عُمر" قبل أن يشرد للحظات ثم يعود إلى واقعه ويرد بنبرة مُتحشرجة:
-حادثة من سنتين ومن بعدها وأنا مش بقدر أمشي.
كاسب وهو يقول بندمٍ:
-أنا آسف إني اتدخلت في خصوصياتك وقلبت عليك المواجع!
عُمر بودٍ يقول:
-إحنا خلاص بقينا صحاب ومفيش بينا الكلام دا.
افتر ثغر "كاسب" عن ابتسامة عريضة وراح يقول بفكاهة:
-حلو أوي بما إنك ادتني تصريح أسأل براحتي فاستحملني بقى.
انطلقت ضحكة من بين شفتي الأخير وأومأ مُصرحًا له في صمتٍ بينما تابع "كاسب" مُستطردًا بترقب:
-كنت في يوم سمعت بالصدفة آنسة سكون وهي بتقول لك مترميش نفسك في الخطر وبصراحة وقتها كان عندي فضول أعرف همك وأحاول أساعدك فيه بدون أي خساير، يمكن كنت حاسس بالمسؤولية ناحيتك وقتها!
تطلع إليه "عُمر" لبعض الوقتٍ وتأرجحت نظراته ما بين متعجبة منه ومُعجبة به؛ إنه أول شخص يهتم لأمره دون مصلحة تعود عليه بعد أمه وشقيقاته ولا سيما أصدقائه ولكن كل هؤلاء يخشون عليه السوء لأنهم مقربون له بينما هذا الشخص يفعل ذلك ولا يوجد بينهما ما يجبره على هذا التصرف، عقد "كاسب" ما بين عينيه وقال قاطعًا عليه شروده:
-مالك، سرحت في أيه؟ لو مش عندك الرغبة إنك تقول فبراحتك، أنا كُنت حابب أكون جنبك.
عُمر بابتسامة هادئة يقول:
-بحب بنت وتفكيري الغبي خلاني خسرتها، أنا حاليًا بحاول أستردها والموضوع شوية صعب بعد ما اتخطبت.
حدق "كاسب" فيه بذهول ثم قال:
-اتخطبت!!.. الخطوبة معناها نُقطة في آخر علاقتكم يا بني.
صمت لوهلة ثم تابع بشك:
-ما يمكن تكون بتضحك عليك ومفهماك إنها اتخطبت علشان تاخد خطوة إيجابية في علاقتكم؟!، لحظة، أنا هعرف بنفسي، جاوب إنتَ بس على الأسئلة دي.
أنصت له "عُمر" في اهتمام بينما تابع الآخر بحس مخابراتي وسأل:
-قالت لك كُل يوم بييجي لي عريس وبرفضه واخترع سبب لحد ما خلصت الأعذار عندي!
عُمر بنفي:
-لأ
كاسب مُستكملًا:
-طب قالت لك أنا أتقدم لي 55 مُهندس و45 ظابط وقفلت المية بس أنتَ في عيني بيهم كلهم وعلشان كدا لازم تيجي تخطبني من الحاج بكرا؟!!!
عُمر يومىء سلبًا مرة أخرى ويقول:
-لأ
حك "كاسب" ذقنه بأطراف أصابعه ثم تكلم بتفكير عميقٍ:
-اممممم، يبقى أكيد قالت لك ابن خالتها رجع من السعودية ومعاه خشروميت ناقة وجمل وقدمهم مهر لأبوها ولازم تتصرف علشان أهلها ضاغطين عليها وشكلها هتقبل!
عُمر بابتسامة عريضة:
-بردو لأ.
رفع "كاسب" حاجبه وقال بحنق:
-أمال؟!
عُمر بهدوء:
-اتخطبت بجد مش أفلام لأني تحريت في الموضوع وعملت دا لمَّا كذبت عليها وكُنت بختبر صدق مشاعرها ناحيتي.
هتف "كاسب" بشك:
-اختبرتها إزاي؟!
أطرق "عُمر" شاعرًا بالذنب والندم وقال بصوت مخنوقٍ:
-كذبت عليها وطول السنة بكلمها بهوية شخص تاني غير وكمان خبيت عليها حالتي الصحية.
كاسب رامقًا إياه في صدمة:
-بتهزر!
عُمر بنفي:
-دي الحقيقة، للأسف.
كاسب باستفهام مُهتم:
-والعمل؟!
عُمر بنبرة خالطها الكثير من القوة والإصرار:
-مش هستسلم، لازم نكون مع بعض من تاني.
أسرع كاسب بالربت على كفه ثم قال بحسم:
-مش هسألك إزاي بس أحب أقول لك إني معاك في أي وقت تحتاجني فيه.
رمقه "عُمر" بنظرات شاكرة واكتفى بابتسامة تحتوي على الكثير من الأمل والثقة.
•~•~•~•~•~•~•
بدأت دقات قلبها تتسارع وراحت تلتقط أنفاسها بصعوبة فبالكاد وصلت على موعد بدء الاجتماع، استفسرت عن غرفة عقد الاجتماعات بالشركة فهرولت إليها على الفور وهي تخشى غضب مسؤولي الشركة من تأخرها رغم أنه غير مُتعمد منها، طرقت على باب الغرفة ثم فتحته بتوجسٍ شديدٍ وفي الحال ازدادت ضربات قلبها حينما رأت أشخاصًا ذوي هيبة يلتفون حول طاولة الاجتماعات إنه أمل جلل بالنسبة لها حتى أن جسدها بدأ ينتفض وجاهدت ألا يلحظ أحد تذبذب كُل ذرة بها، استأذنت بالدخول وهي تتدبر اِبتسامة باردة بينما تدعو الله في نفسها أن تتذكر ما تعلمته من قبل خاصة أن دراسة للغة كانت قبل أربع سنوات ولم تمارسها بعد ذلك، تمنت أن يمر اليوم على خير وتخرج من هذه الغرفة مجبورة الخاطر.
أومأ "نجلا" لها بابتسامة هادئة؛ فهذه المرأة لها قوة خارجة تكمن في فهم طبيعة البشر وحركات أجسادهم وقد تمكنت من قراءة توترها التي تظن نفسها تخفيه، اندهش مجرد أن رآها، طالعها "تليد" بنظرات مُتفاجئة فلا يعلم بعد ما عملها في غرفة الاجتماعات وفي هذه اللحظة وقعت عيناها عليه يجلس على الجهة الأُخرى من الطاولة، أطبقت جفونها للحظات تحاول ألا تستسلم وبعدها تحركت نحو "نجلا" التي تكلمت بهدوء:
-آنسة وَميض موجودة معانا بصفتها المُترجمة.
رفعت "نجلا" بصرها إلى الأخيرة وأسبلت أهدابها قليلًا ترمي إليها رسالة فحواها أن تهدأ، أشارت بعينيها إلى المقعد المجاور لها، ففهمت الأخيرة وأسرعت بالجلوس، وكذلك هو لقد أدرك الصراع الذي يقبع داخلها ما بين الثبات والانهيار أمام هيبة الموقف، تكلمت "نجلا" لبدء الاجتماع في الحال وقالت تتحدث إلى "وَميض":
-بلغيه بنتشرف بالتعامل معاه وجاهزين نسمع مقترحاته.
أومأت "وَميض" فورًا ثم التفتت إليه وتدبرت ابتسامة بسيطة وقالت:
Sizinle anlaşmaktan mutluluk duyuyoruz ve önerilerinizi duymaya hazırız”
أومأ الرجل بابتسامة واسعة ثم قال:
- Onur benim hanımefendi, siz harika, güzel ve zeki bir insansınız
(الشرف لي سيدتي انت انسانة رائعة، جميلة وذكية)
.
عقدت "نجلا" ما بين حاجبيها دون أن تنبس ببنت شفةٍ؛ هي فقط انتظرت حتى تتحدث إليها الأخيرة التي تنحنحت وهي تقترب من أذن "نجلا" ثم تقول بصوت خافتٍ:
-مُتأكدة إنه جاي يستثمر هنا!!
حدقت فيها بدهشة وقالت بشك:
-أه، هو قال حاجة عكس دي!!
وَميض بنبرة حادة قليلًا:
-عارفة الجملة الطويلة العريضة اللي قالها دي مدح فيكِ، دا جاي يعاكس يا نجلا هانم!!
انفرجت شفتي الأخيرة ولكنها تمالكت نفسها في اللحظة الأخيرة وهمست لها بخفوت:
-ترجمي المهم بس ولا كأنك سمعتي حاجة.
أومأت "وَميض" بتفهم ثم تحولت بنظراتها إليه وقالت بهدوء بكلتا اللغتين كي يفهم الطرفين فحوى الحديث الدائر:
-أخبرنا عن خططك للاستثمار في مصر؟!
(Bize Mısır'a yatırım yapma planlarınızdan bahsedin!)
هز رأسه ثم بدأ يقول بتركيز شابكًا أصابع يديه معًا:
Mısır ve Türk yemeklerini birleştiren bir restoran zinciri
-)خطته هي سلسلة مطاعم بتجمع بين الطبقين المصري والتركي)
ترجمت للعربية في الحال بينما تابع هو مُضيفًا:
Projenizin uygulanmasında ürünlerini kullanmak için fabrikalarınızdan daha iyisini bulamayacağım.
ابتسمت له "وَميض" بهدوء ثم تجولت بنظراتها بين الحاضرين وترجمت:
-)لن نجد أفضل من مصانعكم كي نستخدم منتجاتها في تنفيذ المشروع).
أومأت "نجلا" بثبات ثم تابعت بترحيب:
-بلغيه أننا مُرحبين بمشروعه.
التفتت إليه وقالت:
Mısır'a hoş geldiniz, projenizi burada memnuniyetle karşılıyoruz.
ابتسم بسعادة ثم توجه بالنظرات إلى "نجلا" وقال:
Teşekkürler güzellik
)أشكرك أأ....)
توقفت فورًا عن ترجمة الكلمة التالية ولكنها اقتربت من أذن الأخيرة ثم قالت بهمس:
-أيتها الجميلة.. بيقول.. أشكرك أيتها الجميلة.
صمتت هُنيهة ثم قالت:
-مبقاش وَميض بنت علام يا نجلا هانم لو مكانش الراجل دا جاي يستثمر مشاريع ويشقط في نفس الوقت.
رمقتها "نجلا" بامتعاض وقالت:
-dirty mind.
رفعت "وَميض" حاجبها ثم ردت بتحدٍ:
-ماشي هنشوف.
في هذه اللحظة، لاحظت اقتراب الرجل منها، تعجبت كثيرًا من تصرفه ولكنها أدركت رغبته في إخبارها أمرًا يتسم ببعض الخصوصية، اقترب أكثر من أذنها الأمر الذي أثار حنق الأخير الذي لم يعجبه ما يدور منذ بداية الاجتماع، هبَّ واقفًا في مكانه ثم توجه إليهما بينما همس الرجل يقول:
Bugünkü akşam yemeği davetimi kabul edecek misin?
وما أن انتهى الرجل من حديثه وقبل أن تخبر الأخيرة بما قاله وجدت "تليد" يتابع بلهجة مُنفعلة من خلفها:
-قولي له يحافظ على المسافة بينه وبينك يا مدام وَميض!!
التفت كُلًا من "نجلا" و "وَميض" فوجدناه ينظر إلى الرجل بعينين غاضبتين وهنا تكلمت "نجلا" بهدوء:
-أنا مُتأسفة جدًا يا أستاذ تليد، بس أعتقد أنه شخص عفوي بطبعه، من فضلك مش عايزين نخسر مُستثمر زيه.
تليد بثبات:
-بلغيه بكلامي يا وَميض حالًا!
ابتلعت ريقها على مهل قبل أن تنظر إلى الرجل وتقول:
- Lütfen aramızdaki mesafeye saygı gösterin
هز رأسه وأجاب باعتذار:
- Tabii ki özür dilerim.
نظر الرجل إلى تليد أثناء تقديم اعتذاره؛ فأومأ الأخير مُتقبلًا، اقتربت "وَميض" من الأخيرة وقالت:
-أخينا دا بيعزمك على العشا علشان تتكلموا على انفراد في مستقبلكم.
حدقت فيها "نجلا" بغيظ فتنحنحت الأخيرة تقول:
-قصدي مُستقبل الشركة، أرد أقول له أيه؟!
نجلا بثقة متناهية:
-اقبلي ولكن هتكوني معانا لأني مش هفهم اللي بيبرطمه دا!
وَميض بابتسامة صفراء:
-وبالنسبة للكائن المتوحش اللي هيفترس الراجل دا؟! أقنعه يوافق إزاي؟ دا من رابع المُستحيلات.
نجلا بتنهيدة سريعة:
-هحاول أكلمه.
وَميض بحسم:
-تمام ولكن أجلي حوار العشا دا لبكرا علشان النهاردة صعب.
نجلا بثبات:
-بلغيه.
التفتت إليه وقالت بإيجاز:
- kabul ediyorum ama yarın
الرجل بتفهم:
- çok güzel
أنهت "نجلا" الاجتماع وكان "تليد" أول من نهض من مكانه، تحرك نحوها ثم التقط كفها وقبض عليه قائلًا بهدوء:
-بعد أذنك يا نجلا هانم!
أومأت "نجلا" مُتفهمةً لغضبه وتركته كي يهدأ حتى تستطيع إقناعه بحضور زوجته معها أثناء موعد العشاء وهي لا تعرف حقًا كيف تحظى بموافقته وهو الذي ثار وانتفض من مجرد تقلص المسافة بين الرجل وبينها، ابتسمت بخفوت من طريقة حبه لها وغيرته عليها وللحظة تذكرت زوجها الحبيب الذي كان يحنو عليها ويصب عليها من العشق صبًا، سارت معه داخل الشركة يدًا بيدٍ وسط نظرات الفتيات الساخطة عليها خاصةً بعد انتشار خبر زواجه منها، سار واثق الخطى وهي تجاوره حتى خرجا من بوابة الشركة، قادها إلى سيارته ثم فتح الباب لها؛ فركبت دون أن تجادله، استدار وركب من الجهة الأُخرى وما أن أغلق الباب حتى تابع بنبرة تعبق بحرارة عميق وهو يضغط على دواسة البنزين:
-اللي عملتيه من شوية دا غلط يا أُترُج، كان لازم تلزميه حدوده بذوق، استنيت تعملي دا بس محصلش.
تنفست الهواء بغضب خفيف قبل أن تلتفت له وتقول بحنقٍ:
-إنتَ ليه مُصمم تقول لي أُترُج؟! أنا مش أُترُج، أنا وَميض، إنتَ إمبارح كاتب كتابك على بنت اسمها وَميض!!!
تليد بلهجة حادة:
-بتغيري الموضوع ليه؟!
وَميض بثبات:
-مش بغيره بس حقيقي طفح الكيل وأنا كُل يوم أسمعك بتناديني باسم مش اسمي.
تليد يتساءل بهدوء:
-ليه مش بتحبي الاسم دا؟!
وَميض بحنقٍ:
-علشان مقابلتش حد في الدنيا بالاسم دا وملقيتش حد يتقبله معايا أو يحبه معايا.
تليد وهو ينطلق بالسيارة قائلًا بهدوء:
-إن ميبقاش في حد في الدنيا باسمك فدا بنسميه تفرد واختلاف، بس الغريب إنك قررتي تتشابهي مع غيرك وافتكرتي التفرد دا صفة مذمومة.
التوت شفتيها وهي تقول بامتعاض وسخرية:
-هتمسك ليه باسم مش لاقية له معنى؟! أيه التفرد وأنا بسمع كل يوم التنمر على اسمي؟!
تليد بابتسامة هادئة:
-الأترج نوع فاكهة (طبعًا هنا مفيش أي ميزة)، فاكهة وصى بيها الرسول (هنا بقى الميزة)، النوع دا من الفاكهة بيشفي ناس كتير من أمراض مناعية وغيرها، طعمه بيكون مُر بس حلاوته في مداواة الناس، فكرة إنك تكوني ترياق لآلام ناس تانية.
عقدت "وَميض" ما بين عينيها بدهشة غريبة، هذه المرة الأولى التي تستمع فيها إلى معنى هذا الاسم ويروقها الأمر، اِفتر ثغرها عن ابتسامة باهتة ثم قالت:
-مش هنكر إن شرحك للاسم عجبني بس وقتها مكنش فيه اللي يقول لي الكلام الداعم دا وكُنت خلاص تعبت من التنمر.
تليد بابتسامة عريضة:
-يبقى لازم تحبيه من تاني وتتقبلي فكرة إني مش هنادي عليكِ غير بيه!
تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تقول باستسلام:
-اعتبرني تقبلت.
رفع "تليد" أحد حاجبيه ثم عاد إلى حديثه الأول وقال:
-نرجع لخلافنا!!
وَميض وهي تلوي شدقها غيظًا وتقول:
-أنا مُجرد مُترجمة مش جاية أعلم الراجل أسلوب الكلام مع الغير وبعدين إنتَ مكبر الموضوع أوي، ليه التطرف دا؟!
أوقف "تليد" السيارة على الفور فأحدثت صريرًا عاليًا ثم التفت نحوها وقال بنبرة مُنفجرة حادة:
-مرة تقولي لي دجال ومرة مخاوي ودلوقتي مُتطرف، أيه التطرف في إني عايز يكون في مسافة بينك وبين أي أجنبي؟! هي الطبيعة البشرية للرجل عامةً بعيدًا عن الدين المفروض تكون زيّ ما أنا بفكر ولا زيّ ما إنتِ بتفكري؟!
وَميض بانزعاج وصوت عالٍ:
-وهو أيه الحلو في إنـنـ....
توقفت عن الكلام مجرد أن قبض بقوة على ذراعها وصاح مُحتدًا بالغضب:
-هششش.. صوتك عالي ليه؟! إنتِ المعايير الأخلاقية والدينية عندك يا أترج هانم في ذمة الله.
صمت هنيهة يتطلع بقوة داخل عينيها ثم يقول بحدة:
-بس مفيش مُشكلة نرمم المعايير المنهدمة عندك من تاني بس لو مستوعبتيش ههدها على دماغك، تمام!!
حاولت أن تبتلع ريقها على مهلٍ وراحت تنظر إليه بوجلٍ شديدٍ من تحوله وبنبرة مُتحشرجة بالكاد تخرج منه قالت:
-لو سمحت متكلمنيش بالأسلوب دا.
حرر ذراعها فورًا وجاهد في تغيير نبرة صوته حتى لانت قليلًا ثم قال:
-في شرائع في الدين لا جدال فيها ومش كُل متزود في أمور دينه بالنسبة لحضرتك مُتطرف، دا أول درس مُستفاد، تمام؟!
اِغرورقت عيناها بالدموع وراحت تقول بنبرة مُتهدجة تنهي الجدال فيها معه:
-تمام.
عاود اقتياد السيارة مرة أخرى وسط تشبثها بالصمت التام، شعر بالندم كثيرًا حينما استفزته فأفرغ ضيقه عليها، عاتب نفسه ورأى أنه كان عليه أن يبقى مُحافظًا على رباطة جأشه معها؛ فهو على علم كامل بأنه سيستنفذ جل طاقته وهو يبني فكرها المُنحرف والمُتساهل مرة أخرى، كما أنها لا تهون عليه مُطلقًا، فكر مليًا في طريقة تجعلها تنسى حُزنها منه ويتصافيان، خطر على باله ذلك المشوار الذي أجله لوقت لاحقٍ ليُدرك أنه حان وقته، أخرج هاتفه ثم أجرى اتصالًا وقال:
-إزيك يا عمي علام، أُترج معايا، بستأذنك إنها هتروح معايا مشوار مهم وهنرجع سوى على المزرعة.
وافقه "علَّام" فورًا؛ فتابع تليد مُنهيًا المكالمة:
-شكرًا يا عمي، مع السلامة.
تحولت بنظراتها إليه وراحت تقول بنبرة وجلة:
-هتاخدني فين؟!
تليد وهو يقول بهدوء:
-إنتِ خايفة مني ولا أيه؟! أعتقد إني جوزك!!
أجهشت بالبكاء فورًا وراحت تقول بشهقات متقطعة مخنوقة:
-غصب عني، جوزي بس غصب عني، لكن أنا مش عايزاك علشان ببساطة بخاف منك.
كمن تلقى رصاصة على حين غُرة، انتفض قلبه بوخز مُتكررٍ ثم قال مُستنكرًا:
-بتخافي مني؟!.
وَميض باختناق وعينين تنهمر منهما الدموع:
-ومش قادرة أتقبل فكرة إن واحد معرفوش بقى في يوم وليلة جوزي، مش هنكر إني طول الوقت حاسه إني عيشت تجربة سابقة معاك حتى لو كانت لحظات، بس دا ميمنعش إني معرفكش!!.. لو سمحت رجعني البيت!!.
مسح جبهته بأطراف أنامله مُتفهمًا خوفها، حاول أن يهدأ ثم قال بنبرة ودودة وهو يلتقط كفها بتلقائية:
-طيب هوعدك وعد، لمَّا نوصل للمكان لو حسيتي نفسك مش مرتاحة بلغيني فورًا وأنا هرجعك البيت، متخافيش وإنتِ معايا، تمام متعرفنيش بس تأكدي إني مش الشخص اللي يأذي!
رمقتهُ بعينين حمراوين تفيضان بالدموع ولكنها بدأت تتجاوب مع حديثه وتتوقف عن البكاء، أسرع بتقريب أنامله من جفنها وبسرعة مسح العَبرات الساقطة أسفله، ركز في طريقه وكانت هي في حالة جيدة من السكينة والهدوء حتى وصل بها إلى مكان عبارة عن مبانٍ حديثة قيد الإنشاء لا يسكن بها أحدُ حتى الآن، نزل من السيارة فورًا ثم استدار حتى فتح الباب المجاور لمقعدها، تبدلت ملامحها في هذه اللحظة من السكون إلى الرهبة إلا أنه مدَّ كفه فاردًا إياه نحوها وقال بهدوء:
-متخافيش، أنا جنبك.
بتردد كبير دام للحظات قامت بوضع كفها على خاصته، ضغط عليه برفق ثم ترجلت من السيارة وهنا قال "تليد" بابتسامة عذبة مراوغة:
-تمام، دلوقتي هغمض لك عينك.
وَميض بتوترٍ خفيف:
-ليه؟! وأيه المكان دا!!!
تليد بحماس كبيرٍ:
-عامل لك مُفاجأة.
تنهدت باستسلام، وضع كفيه على عينيها ثم سارت أمامه تتبع ارشاداته حول خطواتها إلى أن وصل بها إلى المكان المنشود وهنا تابع بلهجة ثابتة:
-مُستعدة تشوفي المُفاجئة؟!
وَميض ببعض الحماس مُتناسيةً الخلاف الذي نشب بينهما قبل قليلٍ:
-تمام.
أبعد كفيه على الفور، بدأت تحرك أهدابها عدة مرات حتى اتضحت الرؤية من جديد، حدقت في البناية القابعة أمامها بفم مفتوح وعينين مُتسعتين وبنبرة مندهشة أردفت:
-دا شبه قصر ديزني لاند!!!
ظلت مُحدقة بالمبنى في شيء من الانبهار، لم يكُن المبنى بحجم القصر بالطبع، إنه بيت صغير صُمم على الطراز نفسه حيث اتسم بكثرة المآذن المخروطية عليه وكثرة نوافذه وكِبر حجم البوابة أيضًا ولكنه مازال قيد الإنشاء فلم يكن مطليًا حتى الآن؛ ولكنه أجمل ما رأت بعد قصر ديزني لاند التي لطالما أحبته وكانت تتخذه حُلمًا في طفولتها وتتمنى زيارته فلم تكن تخلو كراسات رسماتها منه كما كانت تحلم بزيارة تُركية أيضًا عندما كبرت، أردف "تليد" مُجيبًا بابتسامة حانية:
-دا بيتنا، صممته مخصوص على شكل قصر ديزني علشان إنتِ بتحبيه.
استدارت تمعن النظر في عينيه ثم قالت بابتسامة هادئة:
-بابا اللي قال لك مش كدا؟!!
تليد يومىء إيجابًا:
-بالظبط.
زوت ما بين عينيها في حيرة وأكملت:
-بس أنتَ لحقت تشتري الأرض وتصممه في أيام؟!
حك "تليد" رأسه في دهشة من سؤالها ولكنه تابع بثبات كعادته:
-كان بيت عادي وزودت له بعض الإضافات فالموضوع مأخدش أيام.
عادت تنظر للمبنى بحب كبيرٍ وسعادة لم يتخيل أن يراها فيها وهما معًا خاصةً أن هناك فجوة كبيرة بينهما، لمعت العبرات في عينيها وهي تقول بتأثر وسعادة:
-يعني دا البيت اللي هنعيش فيه؟!
تكلم "تليد" وهو يستدير مواجهًا إياها، تطلع إلى عينيها بتركيز كبيرٍ ثم أكمل:
-أيوة ولكن مش أول أيام جوازنا؛ لأن البيت دا هيتبني على مراحل وأوقات إنتِ اللي ههتحدديها
عقدت حاجبيها وسألت بحيرة:
-إزاي؟!
تليد باستكمال:
-إنتِ اللي هتحددي البيت دا هيتبني في شهور ولا سنة ولا سنتين ولا سنين.. بصي يا أُترُج أنا وهبت البيت دا هدية مني ليكِ بشرط واحد.
سألته بإشارات من عينيها دون أن تنبس ببنت شفةٍ؛ فتابع:
-هساعدك تحفظي القرآن ومع كُل جزء هتختميه هنكمل خطوة في تجهيز قصرك، قولتي أيه؟!
تهللت أسارير وجهها فورًا فبالرغم من سعادتها برؤية هذا البيت الجذاب والمميز إلا أنها تشعر بسعادة أكبر لأنه فكر أن يُعينها على شيءٍ ترغبه وبشدة ولكن سرعان ما تحولت معالم وجهها إلى ملامح باهتة وفقدت عزيمتها وهي تقول بضيق:
-بس أنا حاولت كتير أحفظه وبلاقي صعوبة في حفظه!!
تليد وهو يرفع سبابته أمام وجهها ويقول بحزم:
-اوعي تطاوعي شيطانك، دي مُبررات من عنده هو، أنا واثق إنك أد التحدي.
تنهدت بحماس وأومأت مُتفهمةً، فيما أكمل بهدوء مادًا كفه لها:
-تحبي نتفرج عليه من جوا.
دون تفكير وضعت راحتها على كفه وانطلقا معًا للداخل، كانت تسير بين أروقة البيت بشعور مُميز يشبه ذاك الذي كان يراودها في طفولتها كلما تخيلت أنها إحدى أميرات ديزني، ظلت تجول المكان بمرحٍ كأنها كُتلة تشع طاقة إيجابية وحماس وبنبرة طفولية تردد صداها في المكان الفارغ صاحت:
-دا أحلى مكان شوفته في حياتي.. إنتَ مش مُتخيل أنا إزاي فرحانة.
سبقته تهرول بين أروقة المكان فاردةً ذراعيها بفرحة غامرة أنستها الوعد الذي قطعته بينها وبين نفسها أن تبقى أمامه مُتجهمة الوجه كي تبني سورًا عملاقًا بينهما، وصلت إلى صالة كبيرة يوجد بها الكثير من النوافذ فأسرعت نحو واحدة منهم وظلت تنظر عبرها بمرح ثم أكملت بينما يراقبها هو بنظرات عاشقة:
-ياااااه لو نزرع الجنينة دي ورد كتير وشجر مانجا.
كانت ابتسامتها تتسع بشكل كبير ولكنها بدأت تزم فمها تدريجيًا حينما شعرت بأنفاسه قريبة منها جدًا، لحظات وشعرت به يحيط خصرها بكلا ذراعيه ثم يهمس بجانب أذنها قائلًا بنبرة هائمة واستسلام تام لما يخبئه من بعض الحقائق:
-مكانش حلم.. كل اللي شوفتيه وحستيه كان حقيقي.
زوت ما بين عينيها تحاول مسك طرف الخيط من أوله وسرعان ما برقت بعينيها وراحت تلتفت له حتى التصقت به وتلاشت المسافة بينهما تمامًا، تطلعت إلى قسمات وجهه بجنون خامد تنتظر أن ينطق بما تريده وانتظرت إجابته طويلًا، أراد أن يريحها من هذا السؤال حتى تنحل هذه الأزمة بينهما وتنجلي بعض الحقائق، رفع أصابعه يلامس بشرة وِجنتها الناعمة بينما بقيت مُتسمرةً في مكانها تنتقل ببصرها ما بين شفتيه وعينيه إلى أن نطق في النهاية بنبرة ساقطة في بحور عشقها:
-أنا اللي خرجتك من البحر.. أنا هو.
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية