رواية رحماء بينهم الفصل الخامس و العشرون 25 - بقلم علياء شعبان
رواية رُحماء_بينهم
"كمثلِ الأُتُّرُجةٍ"
]]الفصل الخامس والعشرون]]
•~•~•~•~•~•
حملقت تنظر أمامها وهي تسير مُضطربة الخُطى لا تفهم بصورة واضحة ما قصده من قوله الانتقام من والدها وما شابه؟! اِغرورقت عيناها بالدموع وراحت تضع كفها على فمها في صدمة كبيرة، هل فتحت أبواب ونوافذ قصرها لشخصٍ سنوي الشر لها وعائلتها؟! لقد ألقت ثقتها في حجره تمامًا، هل ما سمعته حقيقة أم وهم؟؟ كاسب لديه ثأرًا مع والدها! وكيف لا يعرفه والدها إذا كان كذلك، ظلت تترنح في خطواتها غير مُهتدية نحو طرق مُعين ولكنها في النهاية وبعد وقت طويل من التفكير والصدمة قررت أن تهرول إلى أبيه وتُخبره بما سمعته؛ فعليه أن يعرف بنوايا هذا الغريب الذي نال ثقتهما ودعمها طوال الوقت، تحركت نحو بوابة المشفى الرئيسية وقبل أن تخرج منها سمعت المُمرضة تصيح فيها بنبرة مُرتعبة وتقول:
-آنسة سكون.. يا آنسة سكون!!
كانت في دُنيا غير هذه الدُنيا لم تستحي لندائها أو تشعر بسعي الأخيرة للتحدث معها إلا عندما وقفت المُمرضة أمامها مُباشرة وراحت تقول بوجه شاحبٍ وصوت مرتاب:
-آنسة سكون.. الحقي المريض اللي في أوضة 204.
زوت ما بين عينيها وتشدقت باختناق:
-ماله!
المُمرضة وهي تبتلع ريقها بصعوبة بالغة ثم تقول:
-من شوية دخلت عليه لقيته مربوط من إيده ورجله ومتكمم وبيحاول يصرخ ولمَّا شيلت الرُباط من على بؤه طلب مني أبلغك إنتِ وعثمان بيه فورًا.
سكون وهي تحملق فيها بصدمة وترد بصوت هادئ:
-نعم؟!! مربوط ومتكمم!
أومأت المُمرضة؛ فتراجعت "سكون" عن الذهاب وتوجهت مُسرعة إلى الدرج مرة أُخرى حتى الطابق ومنه إلى الغرفة التي ما أن دخلتها حتى رأت الفوضى تعُم المكان بينما يجلس هو بوجه شاحبٍ مُقيد اليدين والقدمين، سارت بخطوات مُتباطئة باتجاهه بينما أسرع يقول بصوت مخنوقٍ:
-سكون، إنتِ وعثمان بيه مش في أمان خالص.
لُجم لسانها عن الحديث وظلت مُحدقةً فيه كبلهاء لا تُجيد الإفصاح أو التعبير، بدأت تتخطى شظايا الزُجاج المنثورة على أرضية الغرفة إلى أن اقتربت منه ثم رددت بنبرة خافتة:
-مين اللي عمل فيك كدا؟!!!
اغمض عينيه بقوة قبل أن يصيح مُزمجرًا:
-أنا معرفش مين دول بس واضح جدًا إن في مُشكلة بينهم وبين عثمان بيه.
نظر إلى ساقيه وذراعيه وقال بسرعة:
-فكيني الأول.
ابتلعت "سكون" غِصَّة مريرة في حلقها ثم اقتربت أكثر منه وبدأت تنزع الحِبال عن أطرافه فيما تابع هو بنبرة ساخطة بعد أن تحررت ذراعيه:
-صحيح، واحد منهم حط لي جواب في جيبي وقالي لي أوصله لعثمان بيه.
أسرع بجذب الجواب من جيبه ثم أعطاه لها، بحركة سريعة فردت الورقة وبدأت تقرأ فحواها وهي تقول بشفتين مُستقيمتين بالكاد تتحركان:
-"ضربة البداية في رجالتك والضربة الجاية تخص أهل بيتك".
بدأت تدعك جبينها بتوترٍ حقيقي بدا جليًا له؛ فأسرع بالتحرك نحوها ثم قبض على كفيها وراح يقول بثبات:
-اهدي متتوتريش.
لمعت الدموع في عينيها وردت بصوت مخنوقٍ:
-إزاي بس؟! إحنا في كارثة حقيقية، ساعدني بليز يا كاسب بأي معلومة يمكن نقدر نعرف مين دول؟!
رمت الورقة على الأرض ثم وضعت وجهها بين كفيها وراحت تقول بنبرة متهدجة متزعزعة الاستقرار النفسي:
-إحنا ليه بنتحارب من كُل مكان؟!
-أه صحيح، سمعت واحد بيكلم واحدة في التليفون وبيقول لها تحت أمرك يا مدام نجلا.
رفعت رأسها فورًا ثم حدقت فيه بصدمة وقالت بتيه:
-نجلا!!!
أومأ في صمتٍ فيما بدأت تتنفس الهواء داخلها بقوة رغم ما يخالجها من شعورٍ بالحنق والاختناق؛ كما أنها شعرت بالخزي نحو "كاسب" بعد أن فكرت فيه بهذا السوء وهو الذي دافع عنها وعن والدها بحياته؛ إذن لقد كان الصوت ينتمي لشخصٍ آخر؛ ولكن هل بعض الخلافات العملية تتحول إلى ثأرٍ مرة واحدة؟! ما الثأر في إطاحة منافس تجاري من قِبل آخر قوي واكتساح سوق العمل؟! هل النجاح في مجالك والجلوس على عرشه يُشكل ثأر للجالسين خلف هذا العرش!!!
أخرجت زفيرًا ساخنًا ثم التفتت إليه وراحت تقول بنبرة مُختنقة:
-حقك عليا يا كاسب، أنا عارفة إنك من يومٍ ما اشتغلت معانا وحياتك في خطر طول الوقت وإنتَ ملكش ذنب في كُل دا أصلًا.
صمتت لوهلة مُطرقةً برأسها ثم قالت بنبرة هادئة:
-كاسب!!
طالعها بنظرة مترقبة مُهتمة بالتالي، تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقٍ وقالت:
-لو مش حابب تكمل معانا دا حقك ولازم نحترم قرارك وأنا معاك فيه، صدقني مش هزعل وربنا يوفقك في حياتك!
عَبِسَ وجهه وراح يرد على حديثها بكثير من العتاب:
-إنتِ عايزاني أسيبك في الظروف دي لوحدك؟! إنتِ وعثمان بيه محتاجيني زائد إني عُمري ما بدأت في طريق واستسلمت في نُصه، أنا اللي اختارت الطريق دا وعايز أكمل معاكِ فيه.
رمقتهُ بنظرة غامضة وارتسمت ابتسامة خفيفة على مُحياها جعلته يتراجع فورًا ويقول مُعدلًا على حديثه:
-عايز أكمل معاكم قصدي.
ابتسمت بخفوت ثم قالت بندمٍ:
-أنا آسفة!.
عقد حاجبيه وسألها باستغراب:
-على أيه؟!
أوجدت عيبًا في مُصارحته بأنها رغم خوفه عليها ووالدها قد شكت فيه وظنته خائنًا لهما، تنهدت ثم أردفت بإيجاز:
-حسيت إني محتاجة أقول كدا.
كاسب وهي يقرب كفيه من خاصتها ثم يربت عليهما ويقول بنبرة لينة:
-كُل حاجة وليها حل، بس حُزنك ممكن يشل تفكيري عن أي حل، متزعليش ودايمًا أنا موجود في ضهرك.
سحبت كفيها على الفور شاعرةً بخليط من الحرج والخجل ثم باغتته تقول بابتسامة خافتة:
-أشكرك.
قررت أن تتجاهل الكارثة التي يمران بها وقالت بتذكر:
-صحيح بابا جاب لك تصريح رسمي بالخروج بكرا الصُبح بس بعد اللي حصل دا هنمشي دلوقتي.
عقد حاجبيه وسألها باستغراب:
-هنمشي دلوقتي؟! إحنا مش هنقدم بلاغ ونقول فيه كُل اللي حصل؟!!
أومأت بحرج وأطبقت شفتيها باعتذار ثم قالت:
-للأسف مش هينفع على الأقل لما نعرف عدونا بيفكر في أيه؟!
كاسب بضحكة بسيطة ساخرة:
-بيفكر إنه يصفينا.
تهدجت صوتها وقالت باختناق:
-كاسب أنا لحد دلوقتي بحاول أقنع نفسي إن في حلول لأن مش معقول هنصفي أرواح ناس علشان بيزنس!، لازم هقابلها ولازم يكون في حل جذري للعبث دا.
كاسب وهي يضيق عينيه ويقول بدهشة:
-هو إنتِ تعرفي نجلا دي؟!!
أومأت ثم قالت:
-اتقابلنا مرة وحيدة.
ساد الصمت لدقيقة قبل أن تنهض في مكانها عازمة النية على الذهاب، تدلى عن الفراش هو الآخر ثم تعاونا في جمع حقيبته وذهبا من المشفى بأكملها وقد رفضا تقديم بلاغٍ وأن المسألة شخصية يمكن حلها وديًا، توجها إلى سيارة "سكون" وما أن وصلا إليها حتى قال "كاسب" رافعًا حاجبه في حيرة:
-مين هيسوق؟!
زفرت بامتعاض وقد فاتتها هذه اللحظة، طوحت بذراعيها وهي تقول بتذمر:
-عرفت ليه انا عايزاكِ تعلمني السواقة، علشان لحظة زيّ دي.
كاسب بحماسٍ:
-أوعدك أول ما أخف هخليكِ شوفيرة على أبوه.
سكون باستنكار وشفتين ملتويتين:
-شوفيرة؟! تصدق حلال فيك العلقة اللي أكلتها!
كاسب بلهجة حادة يرد:
-عندك، أنا ماتضربتش أنا اتربطت بس.
سكون بضحكة ساخرة:
-مالك بتقولها بفخر كدا ليه، اللي يشوفك يقول إنتَ اللي ربطهم.
كاسب رافعًا حاجبه مُجيبًا بثقة:
-الكترة تغلب الشجاعة يا ماما، أصل أنا مش هركليز يعني أنا بني آدم طبيعتي البشرية كسائر الناس مش من الخوارق.
سكون تستفزه بضحكة سمجة:
-حِجج فارغة علشان تبرر بيها موقفك.
كاسب مُستهزئًا بحنقٍ:
-أهو إنتوا يا معشر الحالمات اللي مخليين الواقع خَل، الواحدة من دول عايزة لمَّا يطلع حرامية على جوزها يتحول لأسد الليل الجامح يلفحها على ضهره ويقعد يزأر ويبين سنانه وأنيابه وفجأة الحرامية ويك ويك ويك وهاتك يا صويت وأول من يهربوا من قدامه يروح منزلها من على ضهره تاني بعد أداء المُهمة ويرجع بني آدم تاني وتمشي تتفشخر بيه قدام صحباتها.
رفعت أحد حاجبيها وقالت بتساؤل مُهتم:
-يعني لو طلع علينا حرامية دلوقتي إنتَ كراجلٍ شرقي مش هتدافع عني وتضربهم؟!
كاسب بثبات:
-هضرب واتضرب طبعًا.
أومأت توافقه الرأي ثم تأففت بتذمر وقالت من جديد:
-طيب إحنا دلوقتي هنعمل أيه؟! نطلب أوبر!
أومأ برأسه نافيًا ثم قال بحسم:
-ليه أوبر ونقف نستنى وملل، إحنا نوقف تاكسي ونتحرك.
وافقته تقول بثبات:
-تمام وأنا هكلم حد من القصر ييجي ياخد العربية.
ركبا سيارة أُجرة فعلًا، فجلس هو بجوار السائق فيما جلست هي بالمقعد الخلفي، سردت "سكون" لدقائق قبل أن تسأله باهتمام كبيرٍ لائمة نفسها على تقصيرها معه نحو هذا الأمر:
-أكيد طبعًا إنتَ واقع من الجوع دلوقتي!
كاسب مؤيدًا حديثها:
-فوق ما تتخيلي.
سكون بابتسامة هادئة:
-خلينا قبل ما نرجع القصر نروح أي مكان نتغدى ونهدى من ناحية الموضوع دا.
أومأ دون أن يتكلم، توقفت سيارة الأُجرة بعد عِدة دقائق أمام صرح عظيم فيبدو أنه مطعم ينتمي لهذه الطبقة التي لا يهمها أن ترمي أموالها الطائلة في الجلوس داخله لبضع دقائق وتناول وجبة لو تم إعدادها في البيت لا تُكلف رُبع المبلغ المدفوع فيها.
رفع أحد حاجبيه وترجل من السيارة وما أن وقفت بجواره حتى قالت بترحاب:
-تعالى يلا!.
ظل واقفًا في مكانه يتفحص المكان بنظرات ساخطة ثم توجه بنظراته إليها وقال بلهجة ثابتة:
-أنا مش هيناسبني المكان دا.
سكون بابتسامة خافتة:
-متشغلش بالك، أنا اللي عازماك.
رد بتجهم وحدة:
-لأ.
زوت ما بين عينيها في استغراب من إصراره الذي لا داعي منه؛ فأكمل قاطعًا عليها تفكيرها:
-أنا بقول نروح ناكل في مكان بياكل فيه عامة الشعب وكُل الناس.
قدرت "سكون" ضيقه كرجل شرقي يرفض أن تتولى امرأة قيادة أمر ما في حضوره، اِفتر ثغرها عن ابتسامة هادئة وتابعت:
-خلاص يا سيدي تعالى ندخل علشان أنا مُرهقة جدًا وتقدر تستلف مني المبلغ اللي إنتَ عايزه وأبقى رجعه ليا في أي وقت.
كاسب بوجه مُتجهمٍ:
-وأخد منك فلوس ليه؟ طب ما نقعد في مكان على أد فلوسي، نهاية الكلام لو حابه المكان دا فأنا هستأذن.
أومأت وهي تقول باستسلام:
-تمام تمام اللي تحبه يا كاسب، قولي بقى يا سيدي هتأكلني فين؟!
انفكت عُقدة وجهه وراح يقول بلهجة ثابتة:
-عند أحلى كبابجي يا ستي في الحُسين.
هدأ روعها قليلًا وهي تتحاور معه في حديث مُمتعٍ؛ فدومًا كاسب يثير داخلها رغبة في تجريب حياة البُسطاء ربما تحظى بسعادة لم تذوقها مذ أن وعت على هذه الحياة؛ فيُعاملها والدها دومًا على أنها سيدة كبيرة ذات عقلٍ مُفكر وأراء راجحة حكيمة ومن مثلها لا يجب أن يُخطىء سهوًا حتى، لم تعرف "سكون" كيف يكون النوم صافي الذهن أو الضحكة التي تخرج من أعماقها حقيقية وإيجابية، دائمًا ما تسأل نفسها كيف يكون الحُب بين اثنين يأثر كُلًا منهما الآخر على نفسه وكيف يكون النوم بعدما يفضي كُلًا منهما ما بداخله من حُزن وهم للآخر؟! ما هو شعور الأُنثى عندما ترى شغفًا يحيط بها ولمعة أعين تضوي من أجلها؟! يا تُرى كيف تكون الحياة الطبيعية البسيطة التي لا يستطيع أن يشتريها المال الوفير الذي تملك!
•~•~•~•~•~•~•
قررت الفتيات إراحة العُمال هذه الليلة؛ فذهبوا للنوم باكرًا فيما تولى الفتيات أمر لم المائدة وإعداد الشاي، كانت البهجة تطوف كفراشاتٍ الربيع على قلبٍ الجميع، ولكن لا بُد أن يكون من بين هذه الفراشات على الأقل بعوضة واحدة، خرج "تليد" مِن المِرحاض وتفاجأ بوقوفها في انتظاره، سار بخطوات ثابتة متجاوزًا إياها فوجدها تقول بأنفاسٍ ساخنة من فرط ما تشعر به من حقدٍ وبغضاء:
-عايز تكون إنتَ الوحيد البطل في قصة بنتي؟! أوعى تكون فاكر إني مش فاهماك، أنا عارفة كويس أوي إنك عامل فيها المُحترم ابن الأصول لحد ما تتجوزها وهتقول لها عن كُل حاجة علشان بس تبعدني عنها وتشوفني بتعذب في غيابها عني، لأنك شخص مش سَهل وقلبك مليان بالانتقام والخُبث.
رجع بظهره للوراء قليلًا حتى تواجها ثم قال بلهجة ثابتة توجز مقالها الطويل:
-كُلُّ يرى الناس بعين طبعه يا حماتي.
غادر من أمامها على الفور فأطبقت على أسنانها بغيظٍ ووجه يحتقن بدماء تغلي حقدًا وكراهية، لحظات وخرج "نوح" عليهم يحمل الدُف وبدأ يطرق عليه بالمطرقة في حماس ومرح وكذلك صاح عاليًا وسط ابتسامات الجميع بهذه المفاجأة التي لا يعلم بها سوى القليل:
-ادي الزين وادي الزينة.. قالوا الجنة هي جنينة وعلى الياسمينا نشوف أسامينا لو زفينا الزين على الزينة.
تابعت شروق تستكمل بفرحة كبيرة:
-حلوة عروسته.
تابعت مُهرة بفرحة كبيرة:
-واخدها نقاوة.
تابعت رابعة التي تتميز بالصوت العذوب والدافىء:
-عين حُسادها.. تزيدها حلاوة.
كانت "وَميض" تتناقل بنظراتها بينهم في دهشة اختلطت بمزيج كبير من الفرحة وما أزاد دهشتها ظهوره وهو يحمل في يده علبة مُستطيلة من اللون الفضي داخلها ينتصب جناحي طائر ما ناصعتا البياض وتوجد دبلتين داخل العلبة، سار "تليد" إليها ثم وضع العلبة أمامها وقال بابتسامة هادئة:
-مكنش فيه وقت نلبس الدبل يوم العقد فقولت نلبسهم في احتفال عائلي بسيط.
سليمان وهو يرمق ابنه بنظرات حنونة راضية عما يظهره من مشاعر قيمة وثمينة لشريكة أيامه:
-ربنا يرضى عنكم يا بني ويجمع بينكما على خير عاجلًا غير آجلٍ ويقر أعينكما بذرية طيبة مُباركة.
الجميع في نفس واحدٍ:
-أمين.
التفت إليها ومد كفه لها؛ فوقفت على الفور وراحت تضع كفها على خاصته، التقط خاتمها ثم وضعه حول إصبعها وسط زغاريد رابعة التي تأثرت بعاطفة كبيرة، نظرت للخاتم مطولًا قبل أن ترفع بصرها نحوه، أصاب قلبه سهمًا مسنونًا وهو يرى تعامد الشمس على عينيه اللاتين تلمعان في سحر يخالطه قطرات البراءة التي تتمتع بها، التقطت دبلته وقامت بوضعها حول إصبعه، فتفاجأت به يضع ذراعه على ظهرها ثم دفعها برفق إليه حتى تمكن من تقبيل جبينها، صفق الجميع بحماس ثم التفت "تليد" مرة أخرى إليهم وقال مُصرحًا:
-شقة عمي علام جاهزة دلوقتي يقدروا من بكرا يتنقلوا ليها وأنا شقتي في بيت الحاج على وشك الانتهاء، يعني لو الفرح على آخر الأسبوع يناسبك يا عمي علام ولا أيه؟!.
أومأ "علَّام" موافقًا إياهُ دون ذرة تفكير بالأمر وبصوت حاسمٍ رد:
-على بركة الله.
تجهم وجه "سُهير" وشعرت بالضيق من هذا الاستعجال، كذلك تجهم وجه "وَميض" الذي هرب الدم منه في لحظة خوف ورأت لو يتأنى والدها قليلًا حتى تعتاد ما هي مُقبلة عليه ولكنها خشيت أن يحزن والدها ويثور عليها بعد أن تكلما في هذا الموضوع وأنهيا الجدال فيه. تدبرت ابتسامة باهتة حتى لا تُلفت انتباه الآخرين نحو ضيقها واضطرابها، تكلم الشيخ "سليمان" قائلًا بلهجة مرحة ودودة:
-وقت سعيد ليكم يا شباب وأنا هاخد أستاذ علام ونقعد في المشتل لازم يدوق الشاي على الكانون.
تحرك "سليمان" بصُحبة علام وزوجته ورافقتهم "رابعة" كي تناول الشيخ العِدة وتكون بجواره إن احتاج لشيءٍ، بقى الشباب يجلسون حول الطاولة وهنا تكلم "تليد" بثبات:
-طبعًا في ناس منكم مش عارفة بعض وجه وقت التعارف، ضارب الدُف دا يبقى دكتور نوح.
قاطعه "نوح" قائلًا بلهجة صارمة تختلط بالهزل:
-بعد إذن أنت أحب أتكلم عن نفسي ومحدش يتكلم عني.
نظر للجميع ثم هندم ياقة قميصه بثقة قبل أن يقول بخفة ظل:
-دكتور نوح تخصص نسا وتوليد وتأخُر إنجاب وحقن مجهري وليلة كبيرة أوي والله المُستعان.
ضحك الجميع مبدون إعجابهم بطريقته الكوميدية الظريفة، إلا هي ظلت تنظر إليه في شرودٍ دون أن يتحرك جفنها أو ترمش أهدابها، استدار "عِمران" بوجهه لها وهو يُدرك تمامًا أن هذه الكلمات البسيطة أيقظت مشاعرًا مكبوتًا في أحشاء روحها، التفت مرة أخرى إلى "تليد" الذي تابع ينظر إليه:
-ودا بقى عِمران زوج شروق.
تنحنحت "شروق" في هذه اللحظة ثم تدبرت ابتسامة بسيطة وقالت تتوجه بحديثها إلى نوح:
-وياترى بقى يا دكتور نوح بييجي لك حالات كتير بتعاني من تأخر الحمل!!
نوح مومئًا بتأكيد:
-طبعًا بس في الحقيقة بيكون تأخر حمل من منظورهم هما كزوجين ولكنه طبيًا مش تأخُر، إمتى بنشخص الحالة على إنها تأخر حمل.
ركزت في حديثه بتركيز شديدٍ؛ فتابع يقول بهدوء:
-لمَّا يعدي سنة جواز قبل كدا ميبقاش اسمه تأخُر حمل يبقى اسمه استعجال لمشيئة الله لأن طبيعة الجسم بتختلف من واحدة للتانية، في جسم بيعتاد بسهولة على التغير اللي طرأ عليه فجأة وبيكون مُستعد لأي جديد وفي جسم تاني لازم ياخد وقته علشان يقدر ينتقل لمرحلة جديدة، فكرة استيعاب الجسم لبيئة جديدة عليه بتاخد وقت بيختلف من جسم لجسم في ناس جسمها بيتكيف في شهور وفي أجسام بتحتاج سنة واتنين وسنين.
أدرك الجميع اهتمامها بالأمر فتركوها تُشبع تساؤلاتها التي تركنها في جانب مُظلم داخلها، أومأت "شروق" ثم طرحت سؤالًا آخر:
-طيب لو عدى سنة ومحصلش حمل؟!
نوح بهدوء يغطي كافة التساؤلات التي تحوم في رأسها:
-طبعًا بنبدأ نتحرى في الأمر وبنكلف الزوج والزوجة بتحاليل مهمة وبنمشي معاهم خطوة بخطوة ولو خلصنا خطة العلاج الدقيقة واللي المفروض تُسفر عن حدوث حمل ولو لا قدر الله محصلش بردو دا بيكون اسمه حمل غير معلوم السبب ونسبته طبيًا 20% من الحالات اللي بتمر علينا.
أومأت برأسها مُتفهمةً دون أن تنبس ببنت شفةٍ، ضيق "نوح" عينيه ثم توجه إلى "عِمران" بالسؤال:
-متجوزين مِن مُدة طويلة؟!
عِمران ببسمة بسيطة:
-لسه في حيز السنة.
نوح يومىء بهدوء:
-اتمنى تنوروني في المركز يوم ونتكلم باستفاضة.
شروق بحماس:
-لو في عيادتك يكون أفضل!
نوح بضحكة هادئة:
-دعواتك يكون عندي عيادة الأول.
•~•~•~•~•~•~•
-إنتَ رايح فين؟! اللي بتعمله دا جنان!
أردفت "رويدا" بصوت مخنوقٍ بعد أن وصلت إلى العمارة التي تعيش بها وأصر "عُمر" على الصعود معها للتحدث إلى والدها، تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن يقول بلهجة حازمة:
-يا بنتي افهمي، زمان الزفت خطيبك بلغ والدك بكُل حاجة واحتمال كبير يكون مشوهك بالكلام وقايل عنك كلام محصلش، لازم على الأقل أبقى جنبك وافهم والدك الموضوع بوضوح!
ضغطت على شفتها السُفلى بفزع شديدٍ وبدأت أطرافها ترتجف مع كُل اتصالٍ من والدها، دق قلبها بعُنف وقررت ألا تجادله في شيء آخر واستسلمت لصعوده معها، تحرك الثلاثة نحو المصعد الكهربائي ليقودهم إلى الطابق الخامس وما أن وصلوا إلى باب الشقة حتى سمعوا صوتًا عاليًا يصدر من الداخل، فُزعت وشحب لون وجهها وهي تنظر إليه بنظرات هلعة مُستغيثة، أومأ لها بعينيه أن تهدأ ثم طرق الباب عدة طرقات وما هي إلا ثواني حتى فُتح الباب.
نظر للواقفين بحيرة سرعان ما تبدلت إلى غضب عارم ما أن رأى ابنته تحتمي خلف واحدٍ منهما، صاح بصوت جهوري وهو يتجاوز مقعد "عُمر" سعيًا للقبض عليها وإفراغ غضبه الذي تملكه تمامًا، بسط "عُمر" ذراعه يمنعه من الوصول إليها ثم قال بلهجة هادئة:
-بعد إذنك يا عمي خلينا نتكلم!
تراجع "مُرتضى" في الحال ثم رمقه شزرًا وهتف بلهجة حانقة:
-إنتَ مين أصلًا!!
حاول "عُمر" تمالك أعصابه الذي لا ينجح أبدًا في ترويضها أو كظمها ولكنه حاول تجاهل أسلوب الأخير إكرامًا لها وقال بلهجة حادة:
-أنا عُمر عثمان السروجي صاحب شركات السروجي الشهيرة للمُنتجات الغذائية، كُنت عايز أتكلم معاك بهدوء شوية، أيه رأيك؟!
ارتخى فكه فورًا وهرب الغضب من وجهه وتبدل بهدوء وراح يقول بلهجة اختفت الحدة منها:
-اتفضل.
عُمر وهو يردف بثبات:
-حضرتك اتفضل الأول وإحنا وراك.
دخل "مُرتضى" وهو يدعوهما للدخول إلى حجرة الضيافة ويوجههما نحو الطريق فيما هرولت "رويدا" نحو غرفتها بأطراف باردة لا تحملها وهي تُفكر في عقاب والدها لها والظفر بها فور رحيل "عُمر"، تبعتها والدتها التي لطمت وهي تقول بصوت مخنوقٍ:
-ليه كدا يا بنتي، أيه اللي إنتِ هببتيه فينا دا؟!!
رويدا وهي تقول بصوت مُتهدج:
-أنا عملت أيه يا أمي، أيه اللي وصل لكم عني يستدعي كل دا؟؟
الأم بصوت حانق:
-وهي في واحدة مُحترمة تعرف شباب وهي مخطوبة وعلى وِش جواز، خليتي سُمعتنا في الطين وخطيبك داير يقول للناس إنك خاينة ومش مظبوطة.
انهمرت الدموع من عينيها وصاحت بصوت مخنوقٍ:
-ربنا ياخده الزبالة وربنا ينتقم منه ويجيب لي حقي.. لأني معملتش حاجة لكُل دا وبعدين إنتوا السبب.
أجهشت بالبُكاء وراحت تصرخ مُنهارةً:
-قولت لك يا أمي إني بحب شخص تاني ومخبيتش عليكِ ورغم دا كله وقفتي في صف بابا علشان تخطبوني للحيوان دا بالعافية وخنقتوني في حياتي ومحسسيني إني حمل تقيل عليكم وعايزين تخلصوا مني بسرعة.
الأم بانفعال خفيف:
-علشان سِنك بيكبر وقطر الجواز مش بيستنى حد.
رويدا بامتعاض وضيق:
-قطر جواز أيه اللي بتتكلموا عنه، اللي يخليني أختار قرار مصيري زيّ الجواز من غير ما أتأنى علشان بس خايفة يفوتني!!.. قطر أيه دا اللي يخليني أظلم الأطفال اللي هجيبهم للدنيا باختيار أب قذر وحُثالة زيّ اللي كُنت هتجوزه واللي مع أول سوء تفاهم بينا يطعني في سُمعتي!!
الأم بنبرة أقل حدةً تتعاطف مع حُزن ابنتها في النهاية:
-ومين الشابين اللي قاعدين مع أبوكِ دول؟!!
رويدا بنبرة تحاول فيها أن تهدأ:
-دا عُمر.. جاي يفهم بابا سوء التفاهم اللي حصل.
رفعت الأم حاجبها وقالت بشكٍ:
-ويطلع مين سي عُمر؟!
رويدا بابتسامة خافتة:
-أكتر شخص حبيته في الدنيا، مش هي دي الإجابة اللي عايزة تتأكدي منها!
الأم بإدراكٍ فقد أخبرتها عنه من قبل:
-امممم عُمر حبيب القلب، وياترى حبيب القلب جاي يصحح سوء التفاهم ويتكل ولا في جديد عنده!!
أومأت "رويدا" وقالت بخجل:
-في إن شاء الله.
تحركت الأم نحوها ثم جلست بجوارها وراحت تضمها إلى صدرها وتقول بحب كبيرٍ:
-ربنا يكتب لك اللي فيه الخير وسعادتك.
رويدا ترد بسرعة:
-مع عُمر.
ضحكت الأم ضحكة خفيفة ثم ردت:
-طالما مع عُمر يبقى على بركة الله، بس لو نجح يقنع أبوكِ.
أومأت "رويدا" دون أن تتكلم، لحظات ورفعت عينيها تنظر إلى والدتها ثم قالت بتنحنح:
-يعني إنتِ يا ماما مش متضايقة من حالة عُمر وإنه قاعد على كرسي وكدا؟!!
الأم ترد بهدوء:
-يعني لو قولت لك متضايقة هتبطلي تحبيه، وبعدين الراجل ميعيبوش غير أنه يطلع عيل وملوش مبادئ.
ظلتا تتبادلان طرف الحديث حتى وجدتا الباب ينفتح فجأة ويطل والدها من خلفه ثم يقول بصوت حازم:
-عُمر طالب إيدك للجواز، موافقة؟!!!
رمقتهُ "رويدا" بذهول وصدمة وهي لا تستوعب بعد كيف أقنع والدها بهذه السهولة كما لو كان يشرب كوبًا من الشاي!!، أومأت برأسها إيجابًا ثم ردت بتلعثم:
-م مم موافقة.
•~•~•~•~•~•
-هي عايزة أيه الست دي؟! مش قادرة تتقبل خسارة جوزها ففكراه تار!!
صرخ "عثمان" بحدة، تنهدت "سكون" تنهيدة طويلة وراحت تهز رأسها وهي تقول باستغراب:
-أنا الحقيقة مش فاهمة هي بتعمل كدا ليه؟!!!
سكتت لوهلة ثم تابعت:
-معقول التنافس التجاري يوصل الناس للدرجة دي من العدوانية والكُره، دي قربت تتهمنا إننا السبب في موت جوزها!!
عثمان بتأييد:
-هي أكيد بتتهمنا بكدا فعلًا، إن جوزها مستحملش هزيمته قدام مصانعنا ومات.
سكون باندهاش:
-دي لو بتفكر كدا تبقى محتاجة تتعالج وحقيقي يا بابا إنتَ محتاج تاخد موقف شديد معاها.
أومأ "عثمان" مُتفهمًا ثم قال:
-أنا هحاول أرتب ميعاد معاها ونتكلم بوضوح يمكن أفهم هي عايزة أيه!
سكون باستفهام:
-إنتَ عُمرك ما قابلتها قبل كدا مع حمدي زهران!!!
عثمان يومىء سلبًا ويضيف:
-نهائي، هي أصلًا ممسكتش شغل الشركة غير لما تعب وكلفها بالمُهمة دي.
سكون بتفهم:
-تمام ياريت تقابلها في أسرع وقت.
صمتت للحظة ثم أضافت بابتسامة خفيفة:
-بس خلي بالك تنخدع في مظهرها لأن وشها فيه كمية براءة ولطافة مش بتشير أبدًا للي هتشوفه بعد كدا.
عثمان ببسمة مراوغة:
-امممم حرباية يعني وسريعة التلون؟!!!
سكون وهي تمط شفتيها بحيرة:
-مش عارفة يمكن دي طبيعتها مش مُدعية البراءة يعني!!!
•~•~•~•~•~•
تقطر جبينها عرقًا وهي تتنفس الهواء داخلها ثم تلفظه خارجها مرة أخرى بكُل ما أوتيت من قوة، ظلت هكذا حتى سمعت صوت بُكاء صغيرها، انفرجت أسارير وجهها وراحت تقول بنبرة وَهنة تتحدث فيها إلى الطبيب الذي أجرى لها عملية الولادة الطبيعية:
-ولد ولا بنت يا دكتور.. لو سمحت عايزة أحضنه!!!
كانت مُتلهفةً للمس الصغير الذي خرج من أحشائها للتو، ولكن تفاجأت به يقف أمامها ويحدق فيها بقوة وكراهية ثم يقول بصوت جهوري مُخيف:
-مش هتشوفيها تاني، اعتبري نفسك مخلفتيش.
راحت تهز رأسها وتصرخ باستغاثة أثناء خروجه من الغرفة:
-علشان خاطري متبعدهاش عني.. متاخدش بنتي مني!!!
هبت فزِعةً من نومها ثم جلست في فراشها وراحت تتنفس الصعداء بصعوبة بالغة وهي تمحو العرق الملتصق بجبهتها بينما تنظر للفراغ بعينين لامعتين تجول الدموع فيهما جراء هذه الذكرى المُخيفة والقاتلة بالنسبة لها.
يتبع
سؤال الفصل ♥️♥️
تتوقعوا مين صاحبة الحلم والاقتباس؟؟؟😍 هقرأ كل تعليقاتكم.
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية