رواية دموع مؤجلة واحتضان أخير الفصل السابع و العشرون 27 - بقلم شمس حسين
حيرة قلب
في يوم كنت قاعدة في مكتبي، مركزة في الشغل اللي قدامي و كالعادة كنت مضغوطة، فجأة، رن تليفوني، بصيت لقيت أشرف بيرن، رديت عليه: “أيوا”، قالي: “إزايك يا شمس؟ أخبارك إيه؟”، قلت له: “الحمد لله، إنتَ إيه الأخبار؟”، قالي: “الحمد لله، كنت بس عايز أطلب منك طلب”، ضحكت وقلت له: “خير؟”، قالي وهو متوتر شوية: “خير والله، أنا بس كنت عايز رقم نور”، قلت في نفسي: “رقم نور؟” وقتها تأكدت من كل إحساسي، لأني كنت حاسة من أول يوم نور وأشرف اتقابلوا فيه مع بعض، إن في حاجة بدأت تظهر بينهم، قلت له وأنا لسه مستمرة في الضحك: “وإنتَ عايز رقم نور ليه؟”، قال بهدوء: “بصراحة، أنا عايز أغير ديكور العيادة بتاعتي، وبما إن نور مهندسة ديكور، فكرت إنها ممكن تساعدني”، حسيته اتوتر شوية، وده زاد شعوري بالضحك أكتر، وقلت له: “ديكور؟ آه… ليه بس؟ مانا شايفة إن العيادة كويسة ومش محتاجة تغيير يعني”، خلصت كلامي وفضلت أضحك، لقيته اتوتر اكتر وقال بعصبية لذيذه: “يا ستي، أنا عايز أغير الديكور، انتي مالك، الله… وبعدين الديكور مهم جدًا في راحة المريض النفسية، اسكتي بقى، انتي متعرفيش حاجة، نور هي اللي هتساعدني، خليكي إنتي في الخرسانة بتاعتك”، ضحكت وبعدها قلت له: “طيب، هبعتلك الرقم حاضر”
وقفلت معاه وبعت له الرقم، بعدها كلمت نور وعرفتها، لكن من غير ما ألمح لها اللي أنا حسيته، كنت فرحانة جدًا إن الأمور هتبتدي تتغير في حياتها هي كمان، لأن أشرف شخص بجد كويس.
فجأة، وانا قاعدة لقيت رنا داخلة المكتب بسرعة كعادتها وبتتكلم وهي بتنهج وكأن حد بيجري وراها، اه علفكرا البنت دي طلعت مجنونة بجد بس بصراحة بحبها، المهم لقيتها بتقولي بسرعة زي البرق: “شمس! تعالي بسرعة، عايزاكي”، رديت عليها بهدوء: “خير يا رنا، في إيه؟”، قالت بلهفة: “في مشكلة”، فضلت محتفظة بهدوئي علشان عارفه إن زي ما حصل قبل كده، المشكلة مش هتكون كبيرة، فقلت لها: “مشكلة إيه؟ قولي هنا، علشان عارفة إن مش هيطلع في حاجة كبيرة، وهتتعبيني على الفاضي زي كل مرة”، لكن المرة دي كانت رنا مختلفة، صوتها كان متوتر بجد، وقالت بسرعة: “لا بجد، المرة دي مشكلة… لأ، دي مصيبة! كل المهندسين نزلوا المواقع، وفاضل بس موقع المركز التجاري، والتصميم الأخير مش موجود، بتاع إحداثيات المكان، عشان هو مع ريان، وريان إجازة علشان تعبانة، وأنا كنت نسيت أخده منه، مش عارفة أعمل إيه! لو عمي أيمن عرف… إنتي عارفة ممكن يعمل فيا إيه”، فضلت ساكتة شوية وأنا مركزة في كلامها، كنت هادية زي العادة، قلت لها: “في نسخ لكل مشروع في الأرشيف يا رنا، والإحداثيات هتلاقيها هناك”، قالت لي بسرعة: “تعالي هاتيها بسرعة، وأنا هروح أوديه بنفسي”،
روحت معاها الأرشيف، وبدأنا ندور مع بعض على الملف، فجأة، لمحته في مكان عالي على رف بعيد، بصيت حواليا لقيت كرسي طويل شوية منغير مسند، وقفت عليه بحذر، لكن قلبي كان بيدق أسرع من المعتاد، خليتها تسندني علشان أقدر أوصل، ورفعت نفسي خطوة خطوة لحد ما جبت الملف من فوق، وأنا لسه باصه لفوق، فجأة، اختل توازني بشكل مفاجئ، وده حصل في اللحظة اللي رنا كانت مشغولة بتصميم لفت انتباهها، وده خلاها تسيب الكرسي و تروح عند التصميم، وأنا لسه متعلقة بالرف، وفي لحظة واحدة، جسمي طار في الهوا، حاولت أمسك نفسي، بس كان الوقت فات، ووقعت على الأرض، وقعت بشكل مفاجئ، جسمي حسيت بيه وهو بيصطدم بالأرض، وكان الصوت عالي جدًا، كأن كل حاجة توقفت في لحظة، حتى رنا اللي كانت بعيد عني، جريت عليا بسرعة لما شافتني وقعت، وقالت: “شمس! انتي كويسة؟”، قلت لها وأنا بتألم :” تقريبا أيدي اتكسرت”.
لما وقعت، رنا بدأت تصرخ بصوت عالي، وأنا كنت حاسة إن جسمي تقيل ومش قادرة أتحرك، كل اللي قدرت أعمله إني كنت بسكت فيها: “اهدي يا رنا، أنا كويسة”، بس هي كانت منهارة، وده خلاها تزيد توتري، بعد لحظات، كل الناس في الشركة تقريبًا جريت ناحية الصوت اللي جاي من الأرشيف، منهم أحمد، بشمهندس أيمن، وصالح، كلهم وقفوا على الباب مش فاهمين إيه اللي حصل، وعينيهم كلها عليا وأنا قاعدة على الأرض، ماسكة دراعي ومش قادرة أتكلم من الألم، رنا كانت قاعدة جنبي، بتعيط زي الأطفال، وأنا عمالة أقول لها: “اهدي يا بنتي، مش أول مرة أقع يعني”، لكنها كانت بتعيط أكتر، المشهد كان غريب، لدرجة إني حسيت إنه كوميدي أكتر من أنه درامي، أحمد أول ما شافني، نظرته كانت مليانة خوف وقلق، جري ناحيتي بسرعة وقال: “شمس، إنتي كويسة؟”، بصيت له وأنا بحاول أتمالك نفسي: “أيوا، إيدي بس اللي تقريباً اتكسرت”، رغم إني كنت بحاول أظهر إني قوية، بس الألم كان شديد، وده خلاه يمسكني بهدوء ويقول: “متقلقيش، هنروح المستشفى حالًا”، خرجنا بسرعة، وفجأة تليفوني رن، كانت ماما، حسيت إنها كانت متوقعة إن في حاجة حصلت لي، أحمد رد عليها، وحاول يطمنها بكلام هادي، بس واضح إن توترها كان أكبر، بعد شوية، وصلنا المستشفى، وبعدها ماما وصلت، دخلت وهي متوترة جدًا، وملامحها كلها قلق، أول ما شافتني، قالت: “حرام عليكي يا شمس، أنا مبقتش قادرة أتحمل القلق عليكي كل شوية، اقعدي من الشغل ده بقى!”، في اللحظة دي، بشمهندس أيمن كان واقف بعيد، لكنه قرب أول ما شاف ملامح ماما وهي متوترة جدًا، قال بصوته الهادي اللي فيه نوع من الطمأنينة: “متقلقيش يا مدام، شمس كويسة الحمد لله، الدكتور قال إنه مجرد شرخ بسيط وهترجع زي الأول خلال أسبوعين”، ماما بصت له وكأنها بتحاول تستوعب كلامه، لكنها قالت وهي صوتها متأثر: “بنتي من يوم ما اشتغلت عندكم وهي ما بين حوادث ومشاكل، وأنا خلاص مش قادرة أتحمل القلق ده أكتر، أنا مليش غيرها”، بشمهندس أيمن حاول يطمنها أكتر، وقال بإبتسامة صغيرة: “متفهم قلقك جدًا، بس صدقيني، هي كويسة، والدكتور طمنا إنها هتقوم بالسلامة بسرعة، وعلى العموم، أنا هخليها تاخد إجازة لمدة أسبوعين عشان تستريح، وعلشان حضرتك تطمني إنها بقت كويسة”، الكلام ده كان له تأثير واضح على ماما، لأن نبرة صوته كانت واثقة وهادية، ودي حاجة خلتها تهدي شوية، أحمد كمان كان واقف جمبي و بيبصلي بعد ما استوعب قرار عمه أيمن و الإجازة، أنا كمان بصيتله و مكنتش مصدقة إني مش هقدر اشوفه لمدة أسبوعين، قطع نظراتنا لبعض، الدكتور لما دخل وطمن ماما، وبعدها رجعنا البيت، وانا مش بفكر غير في حاجة واحدة بس “إجازة أسبوعين!”.
«أحمد نجم»
لما سمعت الصوت جريت علطول، كان واضح إن في حاجة كبيرة حصلت، دخلت الأرشيف لقيت شمس قاعدة على الأرض، ماسكة دراعها، ورنا جنبها منهارة وبتعيط كأن الدنيا وقعت، بصراحة، عيوني راحوا ليها علطول، كانت هادية بشكل غريب، وكأنها بتحاول تمسك نفسها، لكن الألم كان واضح عليها جدًا، لما قربت منها وسألتها انتي كويسة وأنا بحاول مبانش متوتر بصت لي بنظرة خلتني أحس إن الموقف أكبر من مجرد سقوط عادي، وقالت بصوت واطي: “أيوا، أيدي بس اللي تقريبًا اتكسرت”، الكلام ده وجعني أكتر من أي حاجة، فكرة إنها بتحاول تبان قوية وهي في الحالة دي كانت صعبة عليا، مسكتها بهدوء علشان نروح المستشفى ورنا كانت لسه بتعيط، كنت بحاول أسيطر على الوضع، خرجنا بسرعة، وأول ما ركبنا العربية، موبايلها رن، شفت إسم مامتها بيظهر على الشاشة، وقلت لها: “أنا أرد؟” هزت رأسها بالموافقة، رديت عليها وحاولت أطمنها: “مساء الخير يا طنط، أنا أحمد… شمس كويسة الحمد لله، إحنا في الطريق للمستشفى”، بس واضح إن كلامي مكانش كفاية، القلق كان واضح في صوتها لما قالت: “أنا جاية حالًا!”، لما وصلنا المستشفى، الدكتور قال إن حصلها شرخ و هتحتاج جبيرة لمدة أسبوعين بس هي كويسة، حسيت وقتها إني هديت شوية، وبعد لحظات مامتها وصلت، كانت متوترة جدًا، في اللحظة دي، عمي أيمن كان واقف بعيد وبيتابع، لكنه قرب بخطوات هادية و حاول يطمنها بطريقته المعتادة، شفت في نظرات مامتها إنها بدأت تهدي شوية بعد قرار الاجازة، لكن أنا كنت واقف مكاني، مش مصدق القرار ده، إجازة أسبوعين؟ شمس مش هتيجي الشركة لمدة أسبوعين؟، لما شمس ومامتها رجعوا البيت، فضلت واقف شوية لوحدي، بعدين روحت على مكتب عمي وقلت له وأنا مش قادر أخبي ضيقي: “إجازة أسبوعين ليه يا عمي؟”، عمي بص لي وقال بابتسامة صغيرة: “أحمد، إنت مش شايف مامتها كانت قلقانة إزاي؟ الست كانت بتقول لها تقعد من الشغل خالص، كنت عايزني أعمل إيه غير كده؟ هي صعبت عليا بصراحة”، حاولت أرد، بس لقيته قاطعني و قالي بتلميح:” معلش استحمل اسبوعين بدل ما كانت تقعد خالص”، و سابني و مشي و انا فاهم كل تلمحياته، كلامه كان منطقي، بس أنا كنت حاسس إن الإجازة دي طويلة جدًا، أسبوعين؟ هيعدوا إزاي من غير شمس في الشركة؟.
«شمس»
أول ما نور عرفت اللي حصل، جت لي تاني يوم علطول، كانت خايفة عليا، بس أول ما شافتني كويسة قلبتها هزار وضحك، وأول حاجة قالتها وهي داخلة: “أنا هسميكي حوادث والله، على كل اللي إنتي عاملاه فينا ده!”، أنا ضحكت معاها، وفضلت أحكي لها كل اللي حصل، قلت لها وأنا بضحك: “كله كوم ورنا كانت كوم تاني، قاعدة جنبي مش عارفة أهديها ولا أهدي نفسي، البت بتعيط وساندة على رجلي اللي أنا واقعة عليها!”، كنت بحكي وهي بتضحك ومتخيلة المشهد، بعد شوية، ماما دخلت علينا وهي شايلة صينية العصير، بصّت لنا وقالت: “اضحكوا اضحكوا، ما هو أصل الموضوع يضحك أوي!”، أنا ونور بصينا لبعض وغمزنا، نور فضلت مكملة هزارها وقالت بطريقة كأنها بتلمّح: “أكيد طنط كانت قلقانة عليكي أوي يا شمس!”، أنا كملت على نفس الخط وقلت: “معاكي حق والله، كانت قلقانة جدًا، الحمد لله إن بشمهندس أيمن كان هناك وطمنها”، ماما وقفت تبص لنا وفهمت إحنا بنلمّح على إيه، فمسكت المخدة وضربتنا بيها وهي بتضحك: “وانتي كمان هتعومي على عوم صاحبتك التانية دي ولا إيه؟”، وسابتنا وخرجت، وأنا ونور انفجرنا من الضحك، نور بعدها قالت وهي بتحاول تهدى نفسها: “عارفة، لو اللي بتقولي ده حصل بجد، أنا هزغرط في الشارع!” رديت عليها وأنا بضحك: “وأنا هرقص، والله العظيم هرقص!”، بعدها قلنا “يارب” في نفس الوقت، أنا قلبتها جد وقلت: “يارب يطلع إحساسي صح يا نور، ماما تعبت أوي وكانت مظلومة جدًا في الحكاية دي، وإن شاء الله ده يكون العوض اللي تستحقه”.
وأنا قاعدة مع نور بنهزر ونضحك، فجأة قلت لها: “ااه، نسيت أسألك… عملتي إيه مع أشرف امبارح لما اتصل بيكي؟”، نور ردت وهي بتتكلم كأن الموضوع عادي جدًا: “آه، اتصل و روحتله في العيادة، شفت المكان وأديته شوية ملاحظات، واتفقنا نبدأ شغل من أول الأسبوع”، أنا كنت ببصلها وهي بتتكلم، بعدين قلت: “يا نور، أنا مالي بالعيادة! أنا قصدي عليكم إنتوا، اتكلمتوا في إيه؟ حسيتي بإيه؟ فيه حاجة كده ولا مفيش؟”، نور فهمت قصدي، وضحكت وهي بتهز دماغها وقالت: “لا يا شمس، اللي في بالك ده مش وارد خالص بصراحة، أنا مش جاهزة لده دلوقتي، كل مرة جربت فيها قبل كده، الدنيا كانت بتبوظ بطريقة تخلي الواحد يتشائم، فخلاص، أنا كفاية عليا إن أشرف يكون صديق وبس”، بصيت لها وحاولت أقنعها: “طب ما يمكن المرات اللي فاتت مكانتش هي الصح، يمكن دي تكون التجربة اللي مستنياها، وأشرف شكله معجب بيكي علفكرا، ليه متديش لنفسك فرصة؟”، نور قعدت تبص لي بدهشة وقالت: “إيه ده؟ إيه ده؟ شمس هي اللي بتقول الكلام ده؟! بركاتك يا عم أحمد!”، أول ما سمعت اسم أحمد، حسيت بشوية ارتباك، وقلت بسرعة: “أحمد؟ أكيد دلوقتي فرحان إنه خلص مني!، إجازة أسبوعين بحالهم”، نور ضحكت وقالت: “وإنتي مين قالك كده؟”، رديت وأنا بضحك: “ما هو واضح أهو، مكلمنيش من امبارح”، نور زادت في التريقة وقالت: “يا لهوي! يوم واحد بس مكلمكيش واتجننتي كده؟!”، اتوترت وقلت لها: “على فكرة مش زي ما أنتي فاكرة! إحنا أصدقاء وبس، يعني… مفيش أكتر من كده”، نور بصت لي وهي مبتسمة وقالت: “أصدقاء بس؟! عليا أنا برضو؟!”، فضلنا نضحك سوا، بس جوايا كنت عارفة إن كلام نور مش بعيد عن الحقيقة اللي بحاول أهرب منها.
اخر اليوم بليل متأخر شوية كنت قاعدة على السرير، ماسكة الموبايل في إيدي، وكل شوية أبص عليه، بصراحة كنت مستنية أحمد يرن أو حتى يبعت أي رسالة، بس مفيش ولا حس ولا خبر، قلت يمكن مشغول، بس جوايا كنت متضايقة، مش عارفة ليه، فجأة الموبايل نَوَّر، وقلبي دق بسرعة، فتحت الرسالة بسرعة، لقيته كاتب: “صاحية؟”، قبل ما ارد عليه، كان شاف إني قريت الرسالة مستناش، ورن عليا علطول،
رديت بسرعة، وقبل ما أتكلم قال بصوته اللي كان هادي أوي: “لسه صاحية ليه لحد دلوقتي؟”،
قلت له وأنا بحاول أتصرف عادي: “مش جايلي نوم”، قال لي بنبرة فيها هزار: “ليه؟ بتفكري في مين؟”، ضحكت ضحكة خفيفة وقلت: “مفيش، عادي يعني”، وقبل ما يكمل، قلبت عليه السؤال: “طب إنت إيه اللي مصحيك لحد دلوقتي؟”، قال لي: “أنا لسه مروحتش البيت اصلا”، استغربت وسألته بسرعة: “إيه؟ ليه كده؟”، رد بصوت تعبان: “في المكتب، بخلص شوية شغل، اصل في واحدة كده أخدت إجازة وسابتلي كل الشغل عليا”، ضحكت وقلت له: “معلش بقى، أنا تعبانة!”، قال لي بنبرة كلها حنية: “ألف سلامة… لسه حاسة بوجع في إيدك؟”، قلت له: “يعني شوية، باخد مسكن وبيخف الحمد لله”، سكت شوية، وبعدين قال بصوت مختلف خالص، مليان خوف واهتمام: “لما شوفتك واقعة في الأرض خوفت عليكي أوي”، حسيت بالتوتر وقتها وسكت، مكنتش عارفة أرد أقول إيه، هو كأنه حس، فغيّر الموضوع وقال بابتسامة خفيفة في صوته: “طنط لسه قلقانة عليكي؟”، قلت له: “لا، هديت شوية الحمد لله”، قال لي: “يعني في أمل تخفض الإجازة شوية؟” ضحكت وقلت: “للأسف لا، مفيش أمل، مضطر تشيل الشغل لوحدك في الأسبوعين دول”، رد عليا بهزار: “هو على الشغل يعني؟” قلت له وأنا بضحك: “أومال إيه؟”، ضحك وقال: ” بعدين هقولك… يلا هسيبك تنامي دلوقتي”، قلت له: “تصبح على خير”، قال لي: “وانتي بألف خير”، قفلت الخط، وابتسمت وأنا ماسكة الموبايل، وبعدها حسيت بنعاس، ونمت وأنا حاسة براحة لأول مرة من فترة طويلة.
مر أول أسبوع من الإجازة ببطء شديد، وكل يوم كان أحمد بيتصل بيا، حتى لو مكالمة صغيرة قبل ما ينام، كان كل مرة يسألني عن حالي ويطمن على إيدي، وطبعًا مكانش بيفوت فرصة يرمي كلمتين هزار يخلوني أضحك من قلبي، كنت بحس إنه بيحاول يعوض غيابي عن الشغل بالكلام معايا، وده كان مريحني جدًا، أوقات كان يقولي إن الشغل ضغط عليه جدًا، وأوقات تانية كان يحكيلي عن مواقف بسيطة حصلت في الشركة، كنت بضحك على كلامه، بس في نفس الوقت، كنت حاسة إنه وجوده المستمر ده بيديني إحساس مختلف، إحساس إن في حد بيفكر فيا بجد، أما أنا، فكنت بعد كل مكالمة أقعد أفكر، يا ترى كل ده اهتمام عادي؟ ولا وراه حاجة تانية؟ كنت بحاول أشيل الفكرة دي من دماغي وأقنع نفسي إنه مجرد صديق بيطمن مش اكتر.
وفي يوم وأنا قاعدة في البيت مع عيلة ماما، لقيت موبايلي بيرن، كان أحمد، رديت: “الو؟”، قاللي بصوت هادي: “انزلي أنا تحت عند البيت”، أنا اتخضيت، قلتله: “إيه؟ بتعمل إيه هنا؟”، قال: “هكون بعمل أي؟، جايلك!”، قلتله وأنا متوترة: “هو أي اللي جايلك جاي تعمل إيه يعني؟”، ضحك وقاللي: “طب ما تنزلي ونفهم، ولا اطلع لك أنا فوق واشرحلك!”، رديت بسرعة: “أنت بتتكلم جد؟ مينفعش، اخوالي كلهم فوق والعيلة كلها هنا! أوعى تطلع، أمشي من هنا بسرعة!”، رد عليا وهو مستغرب: “يعني أنا جاي الطريق ده كله وفي الآخر تقوليلي أمشي؟!”، كان واخد الموقف بطريقة عادية، لكن كنت مرعوبة لو حد شافه، قلتله وأنا بحاول أهديه: “مش هينفع، صدقني، أمشي”، فاجئني وقال: “طب أنا جايبلك حاجة حلوة معايا، أروح بيها ولا أعمل إيه؟”، قلتله: “بجد؟ إيه هي؟”، رد بخبث: “بصي من البلكونة وانتي تعرفي”، اتوترت أكتر، بس فضولي خلاني أقوم بسرعة للبلكونة، بصيت تحت، لقيته واقف وماسك في إيده كمية كبيرة من غزل البنات كأنه شاريها كلها من الراجل اللي بيبيعها، عيني نورت من الفرحة وقلت: “أنت عرفت منين إني بحب غزل البنات؟!”، قاللي وهو مبتسم: “بعدين هقولك”، رديت وأنا متضايقة بنص ضحكة: “هو أنا كل أما أسألك حاجة تقول بعدين؟ إيه الحكاية دي؟”، ضحك على عصبيتي الطفولية وقال: “طيب، دلوقتي هعمل إيه بكل الغزل ده؟”، أنا فكرت بسرعة، شفت ابن خالي الصغير بيلعب تحت، وقلتله: “ادِّيه للواد اللي هناك ده وهو هيجيبهولي”، وبعد شوية طلع ابن خالي شايل غزل البنات، أخدته منه وأنا متوترة، لقيت ماما بصت وسألتني: “مين اللي جابه ده؟”، قلت بسرعة: “آه، نور بعتتهولي مع أخوها”، ماما استغربت وقالت: “إيه ده؟ هو أخوها رجع من السعودية إمتى؟”، غمزتلها بسرعة من غير ما حد ياخد باله وقلت: “رجع يا ماما من كام يوم”، ماما فهمت عليا بسرعة و سكتت وأنا حاولت أنهي الموضوع بسرعة، و وزّعت غزل البنات على أطفال العيلة كلها، وأخدت أنا كمان واحدة، و دخلت الأوضة وأنا ماسكة الغزل في إيدي زي طفلة صغيرة، كنت فرحانة جدًا، مش بس بالغزل، لكن بالفكرة نفسها، كنت قاعدة على السرير، ماسكة غزل البنات، وبضحك لوحدي، أحمد عرف إزاي؟ وياتري اهتمامه ده معناه إيه؟ مش عارفة، بس اللي أعرفه إن اليوم ده كان مختلف، ومليان تفاصيل صغيرة جميلة خلت قلبي يدق أسرع.
«أحمد نجم»
“هي كانت غايبة عن الشركة بس موجودة في دماغي طول الوقت…”، من أول يوم هي خدت فيه الإجازة، وأنا حاسس إن الدنيا في الشركة اتشقلبت، مكانها كان فاضي بطريقة غريبة، كنت بدخل المكتب وألاقي الكرسي بتاعها فاضي، وده كان يضايقني أكتر ما كنت متخيل، الشغل اللي كنا بننجزه مع بعض بقى تقيل عليا بشكل مش طبيعي، ومهما حاولت أركز وأخلص اللي ورايا، كان دايمًا فيه حاجة ناقصة… شمس.
في الأول كنت بحاول أهرب من الإحساس ده وأقنع نفسي إنه عادي، بس كل مرة كنت أحس بغيابها أكتر، كل تفصيلة صغيرة كنت بشوفها في المكتب كانت بتفكرني بيها… ورقها اللي دايمًا يكون مرمي على المكتب، الكوباية اللي كانت بتحط فيها الشاي بلبن، وحتى طريقة كلامها اللي كانت بتخلي أي حاجة روتينية تتحول لضحكة.
كنت بقضي ساعات طويلة في المكتب علشان ألهي نفسي بالشغل، بس مكنش ليه أي طعم من غير وجودها، حتى زمايلنا كانوا بيتكلموا عنها كل شوية، وده كان بيخليني ألاحظ أكتر قد إيه هي كانت مؤثرة على الكل، مش عليا أنا بس.
الحاجة الوحيدة اللي كانت بتخفف عليا غيابها هي مكالمات كل يوم، بس بصراحة مكنتش كفاية، كنت عايز أشوفها، أسمع صوتها وهي قدامي، وأحس إنها موجودة في نفس المكان اللي أنا فيه، كل يوم كنت بقول لنفسي هانت خلاص، بس صبري كان بيقل مع الوقت.
لما فكرت أروح عند بيتها، كنت بعمل كده من غير تفكير، كنت عايز أشوفها، حتى لو من بعيد، وانا جاي في الطريق لما شوفت الراجل اللي بيبع غزل البنات افتكرتها وهي متلهفه عليه، كنت عارف انها بتحبه، علشان كدا اشتريت الغزل منه كله، طول الطريق و انا رايح لها كنت بفكر: “يا ترى لما تشوفني هتفرح؟ ولا هتزعل مني إني جيت من غير ما أقول؟”.
ولما شفتها على البلكونة وهي بتضحك وفرحانة بغزل البنات، حسيت أن يومي اكتمل، فهمت وقتها…. الضحكة دي، النظرة دي، هم دول اللي كانوا ناقصين في يومي، شمس هي اللي كانت مدياني إحساس إن كل حاجة في الحياة ليها معني.
اول يوم في تاني اسبوع من إجازتها، كنت في المكتب الصبح، ما بين ملفات كتير ومكالمات أكتر، لحد ما صالح جه وقاللي: “بالمناسبة، في اجتماع مهم النهاردة الساعة 3″، رفعت عيني من على الملفات وقلتله: “اجتماع إيه؟!”، قاللي:
“إحنا هنناقش تفاصيل تصميم مشروع القرية السياحية اللي لسه مقدمينه، فاكر؟”، فجأة افتكرت إن المشروع ده تقريبًا قايم كله على شمس، هي اللي كانت ماسكة تفاصيله من أول يوم، لقيتها فرصة، وقمت بسرعة وطلعت على مكتب عمي أيمن، فتحت الباب وقلتله وأنا واقف: “هو فعلا يا عمي اجتماع القرية السياحية انهاردة؟”، قاللي بهدوء: “ايوا…الساعة 3، ليه؟”، قلتله: “وإيه العمل دلوقتي؟ شمس في إجازة، وحضورها في الاجتماع ده مهم جدًا، كل التفاصيل الفنية معتمدة عليها!”، أيمن فجأة استوعب وقاللي: “صح، نسيت خالص إنها في إجازة… طب وهنعمل إيه؟”، قلتله وأنا ماسك الموبايل: “مفيش غير إننا نكلمها ونحاول نخليها تيجي”، قاللي وهو متردد شوية: “تفتكر هينفع؟ طب ووالدتها؟”، غمزتله وقلت: “لو رفضت، كلمها حضرتك، محدش هيعرف يقنعها غيرك!”، ضحك وقاللي: ” صدق انك قليل الادب امشي يلا من قدامي”، حاولت أهديه و انت لسه بضحك و بعدها مسكت الفون و رنيت على شمس، وبعد شوية ردت: “أيوة يا أحمد؟”، شرحتلها الموقف كله: “بصي، في اجتماع مهم الساعة 3، والمشروع اللي هنناقشه شغال كله على شغلك، لازم تكوني موجودة”، قالتلي بتوتر: “هنزل إزاي بس؟ ماما مش هترضى، دي تقريباً حبساني”
قلت لها وأنا بحاول أهديها: “طيب، روحي كلميها حالًا وقولي لها إن ده ضروري جدًا، وأنا معاكي، لو رفضت أنا هتصرف”، سكتت شوية وبعدها قالتلي: “طيب، هحاول”، بعد دقايق رجعتلي وهي بتقول: “ماما رفضت تمامًا، بتقول إنتي في إجازة وعما عارفين كدا”، قعدت أفكر لحظة، لكن عمي أيمن خد الموبايل مني فجأة وقاللي: “سيبها عليا أنا”، بصيت له وأنا مستني أشوف هيقول إيه، كلم والدتها بطريقة مهذبة جدًا وشرح لها أهمية وجود شمس في الاجتماع، وأكد لها إنها مش هتتعب، وإن الموضوع مش هيطول، فضل يحاول معاها بكل الطرق، لحد أما وافقت أخيرًا، رجع لي الموبايل وقاللي وهو مبتسم: “أهو، يا سيدي، اتصرفنا!”.
«شمس»
أول ما ماما وافقت، فرحت جدا و قمت بسرعة علشان اجهز، وقفت قدام الدولاب، و قررت البس حاجة عادية مش فورمال كالمعتاد، اخترت حاجة بسيطة وهادية: دريس صيفي كحلي سادة، تحته شميز أبيض، طرحة كحلي، كوتش أبيض، وشنطة صغيرة بيضا، مع الحامل اللي كنت حاطة فيه دراعي المكسور، خرجت من البيت و وصلت الشركة قبل الاجتماع بدقايق، دخلت وأنا حاسة بشوية توتر، بس اللحظة دي اتبدلت بسرعة لما شفت الناس بيقوموا ويسلموا عليا بابتسامة وترحيب، حتى أحمد كان واقف، ونظراته ليا مليانة حاجة مش عارفة أوصفها،
لما الاجتماع بدأ، دخلت في الشغل علطول كنت مركزة جدًا، وكل تفكيري كان في النقاشات اللي بتتقال، وفي نص الإجتماع تقريباً لقيت تليفوني بيرن، كنت نسيت اعمله سايلنت قبل ما ادخل، اعتذرت فورا و مسكته لقيت ان اسم “مرام” اختي بيظهر على الشاشة، استغربت ثواني وبسرعة كنسلت المكالمة، وعملت الفون سايلنت، بس كان كل شوية الفون بينور و بيظهر نفس الاسم…، فضلت افكر هي ليه ممكن تكون بترن عليا بعد الوقت ده كله، بس حاولت انفض دماغي من اي افكار حاليا و رجعت اركز في الاجتماع، بعد لحظات دخلت سارة وبتقول:
“بشمهندس أيمن….الطرد اللي قلت عليه وصل، وجبته فورًا”، أيمن رد عليها: “كويس جدًا، شكراً يا سارة”، لما خرجت، صالح سأل: “إيه ده يا عمي؟”، رد وهو بيقلب في الظرف: “الطرد ده من الأكاديمية الأمريكية، بيبعتوا فيه نتيجة الدورة اللي شمس كانت بتاخدها”، رنا سألت باستغراب: “وإيه علاقة الأكاديمية بالشركة؟ مش النتيجة تخص شمس وخلاص؟وهي نجحت، باعتين لنا ليه النتيحة”، أحمد وضّح وقال: “اللي بيطلع الأول في الأكاديمية دي بيبقى موهوب جدًا، إحنا بنحاول نوصل له بسرعة قبل ما الشركات الأجنبية تخطفه”، كل ده وأنا كنت قاعدة مكاني براجع التصاميم اللي قدامي نمش مركزة اووي في كلامهم، لقيت خالد سألني فجأة: “يا شمس، متعرفيش مين اللي طلع الأول؟”، رديت بسرعة: “لا والله، بس الدورة كان فيها ناس كتير شاطرة جداً”، أيمن بدأ يفتح الظرف، ولما قراه، بان على وشه إنه متضايق جدًا وقال بغضب: “للأسف، الشركة الأجنبية الفلانية قدمت عرضها الأول”، بعدها بدأ يفتح الظرف التاني، والقاعة كلها كانت ساكتة ومستنية، صالح قال له: “شوف الرقم الأول، ونكلمه حالاً”، لكن أيمن فجأة ابتسم، ورفع عيونه ليا وقال بهدوء: “مش محتاجين رقمه… الشخص الأول قاعد معانا”، الكل بصلي باندهاش، وأنا رفعت عيني ومش فاهمة، سألت:
“أنا؟!”، أيمن ابتسم وقال بثقة: “أيوة يا شمس، إنتي اللي طلعتي الأولى في الدورة”، كانت لحظة مش قادرة أستوعبها، وقفت فجأة، وأنا شبه مصدومة، الفرح كان مالي قلبي، ودموعي على وشك النزول، الكل كان بيبصلي بابتسامة، وأيمن قال: “كان عندي إحساس إنك موهوبة جدًا، وفعلاً كنت صح”، أحمد كان قاعد بيبصلي بنظرات كلها فخر وسعادة، نظرات بتقول كل الكلام اللي مش قادر يقوله، أيمن كمل وقال: “دلوقتي عندك عرض كبير من الشركة الأجنبية دي، وأنا مش هقدر أجبرك على حاجة، القرار قرارك انتي يا شمس، وانا معاكي في أي حاجة”، بصيتله بكل امتنان وقلت: “مستحيل أسيب المكان ده، أنتم السبب في اللي أنا فيه، ولولا مساعدتكم مكنتش وصلت لأي حاجة”،
أحمد قال بابتسامة مليانة دفء: “شمس، النجاح ده بتاعك، إحنا مجرد وسيلة، لكن إنتي اللي بتتحكمي في الموهبة اللي جواكي”، فضلوا كلهم يهنوني و كلهم كانوا فرحانين بيا بجد، وانا مكنتش مصدقة.
بعد ما الاجتماع خلص وخرجت، كنت على وشك أمشي، لكن أحمد وقفني وقال بهدوء:
“شمس، ممكن تيجي مكتبي شوية؟ عايز أكلمك في حاجة”، وافقت، وطلعنا على مكتبه، المكان كان هادي جدًا، وأحمد كان واقف جنب مكتبه، عيونه مليانة مشاعر مش عارفة أفسرها، بدأ كلامه بابتسامة دافية وقال: “بصراحة، أنا فخور بيكي جدًا، نتيجتك في الدورة دي مش حاجة سهلة، والنجاح ده دليل على شغلك واجتهادك، أنا فرحان إنك معانا، وشايف إنك تستحقي كل حاجة حلوة”، كلامه كان جميل، كنت فرحانة بفرحته بيا، لكن فجأة تغيرت نبرة صوته، وبقت جدية أكتر وقال: “بصي يا شمس، أنا هكون معاكِ صريح جدًا، العرض اللي جالك من الشركة الأجنبية ده فرصة كبيرة، ولو قررتي تقبلي وتروحي، أنا هكون أول واحد يدعمك”، الكلام فاجئني، حسيت كأنه بيدفعني بعيد، قلت له وأنا بحاول أفهم: “عادي يعني لو مشيت وسافرت برا مصر؟”، رد بثبات: “شمس، دي حياتك ومستقبلك، الفرصة دي ممكن تغير حاجات كتير، وأنا شايف إنك تستحقيها، القرار في إيدك”،
حسيت بشعور غريب، كأن كلامه بيحطم حاجة جوايا، كنت متوقعة منه ردود أفعال مختلفة، يمكن تشجيع إنه يخليني أفضل هنا، لكن كلامه كان عكس ده تمامًا، حسيت بدموعي بتلمع في عيوني، لكن حاولت أمسك نفسي، قلتله بصوت هادي: “طيب… ماشي هفكر في الموضوع، عن اذنك أنا ماشية”، خرجت من مكتبه وأنا تايهة، كل كلمة قالها كانت بتتكرر في دماغي، ومعاها سؤال واحد: هل المشاعر اللي كنت حساها دي كانت غلط؟ ولا أنا فاهمة كل حاجة بشكل غلط؟ يمكن أحمد فعلاً شايفني مجرد زميلة شغل… أو حتى صديقة، كنت مدايقة ومش قادرة أفهم ليه كلامه حسسني إنه بيدفّعني بعيد، كأن نجاحي هو الحاجة الوحيدة اللي تهمه، مش أنا.
يتبع….
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية دموع مؤجلة واحتضان أخير) اسم الرواية