رواية رحماء بينهم الفصل السابع و العشرون 27 - بقلم علياء شعبان
رُحماءُ_بينهم.
"كمثلِ الأُتّرُجةٍ".
]]الفصل السابع والعشرون]]
•~•~•~•~•~•~•~•
كرر اتصاله بها عدة مرات وفي كُل مرةٍ لم يكُن يتلقى منها إجابة؛ فأحسن الظن بها وحسبها قد نامت خاصةً أن الساعة تجاوزت مُنتصف الليل وقد تأخر كثيرًا في طريق وصوله للبيت بسبب الازدحام المروري وتكدس السيارة متلاصقًا بجوار بعضها دون حركة تُذكر، تنهد بهدوء وهو يترك هاتفه جانبًا بعد أن استلقى في فراشه ينفض عنه عناء يوم شاق في العمل خاصةً أنه قرر أن يذهب إلى بيت المزرعة التي يقيم فيه والده حتى يستطيع الالتقاء بها صباح الغد لأن شقة الزوجية تقبع في الطابق الثاني من هذا البيت؛ فقد أحب كثيرًا ألا يترك والده وحيدًا بل يبقيا إلى جواره مؤنسين له.
في هذه اللحظة طُرق الباب طرق لطيف وما أن قال بصوت هادئ:
-ادخل يا حج!
فتح "سُليمان" باب الغرفة بهدوء ثم ظهر أمام ابنه بوجهه البشوش قائلًا وهو يحمل بين يديه صينية بها كوبين من الشاي:
-قولت ندردش شوية قبل ما تنام وعملت لك كوباية الشاي اللي بتحبها.
طبطب "تليد" على المكان الفارغ بجواره وهو يقول بترحيب كبير:
-في وقتك والله يا حج، أنا فعلًا كُنت محتاج أتكلم معاك شوية.
سليمان وهو يضع الصينية على الفراش بينهما ويسأل باهتمام:
-وأنا حسيت إنك محتاج تحكي لي اللي في قلبك فجيت جري، خير يابني؟
تنهد "تليد" تنهيدًا ممدودًا بعُمقٍ قبل أن يقول بوجه عابسٍ:
-تفتكر يا أبويا اللي أنا عملته دا صح؟!!
سليمان باستفسار أكثر:
-اللي هو؟!!
تليد باختناق:
-جوازي من أُترُج أو بمعنى أدق جوازي من وَميض، إنتَ أكيد فاهم قد أيه إحنا مُختلفين وقد أيه هي شخصية مُتناقضة ومش بتفكر في أي تصرف قبل ما يخرج منها، شخصية مُتهورة ومُنفتحة زيادة عن اللزوم، لدرجة أنه انتابني فقدان الأمل لوهلة في إني ممكن أغيرها في يوم من الأيام!!
قرَّب "سليمان" كفه من كف ابنه ثم ربت عليه وهو يقول بدعم:
-ربنا خلقنا علشان نصحى كُل يوم بأمل مُتجدد لكُل دقيقة هنمر بيها في يومنا، أنا عُمري ما وقفت لك في أي قرار أخدته علشان عارف الأستاذ تليد السروجي بيفكر إزاي وإن قلبه أبدًا عُمره ما كان سيد قراراته أو سلطان على قلبه، بس المرة دي يابني حسيت إنك عاوز القُرب منها تحت أي ظروف أو عواقب وبالتالي أنا طاوعتك لأني شوفت فيك طاقة قوية جدًا على تغييرها.
سكت لوهلة ثم أكمل:
-ولما طلب مني وعلَّام إننا أولى بيها لأنه خاف عليها من فتنة الدنيا؛ فكان من الواجب عليا أشجعك في الخطوة دي، البنت السكينة سرقاها ولسه صغيرة يابني، دورك إنك تستحمل وتوجهها ولو شايف أي قرار تاني غير الاستمرار في الزيجة دي عرفني!!!
أطرق بأنفاسٍ مُختنقة وهو يقول:
-مش شايف غير إني بحبها، أنا كُل يومٍ بديها عُذر، كُل يومٍ بكون حزين عليها، كان نفسي تفضل ببراءة زمان.
سليمان بابتسامة ودودة:
-مش كُل بيئة شبه التانية، الإنسان خُلق بريء بالفطرة بس بيشرب ويتشكل من بيئته اللي مالوش ذنب فيها، لو كان بإيديها الاختيار طبيعي هتختار تكون أفضل مما هي عليه، واوعى تنسى إنها شاربة غصب عنها من والدتها الله يهديها!!!
تنهد "تليد" وخرجت منه زمجرة مشحونة بالغيظ وهو يقول:
-أهي أمها دي زارعة فيها بلاوي، دا هي لوحدها مشكلة عويصة بمجرد ما بتشوفني بحس أنها هتتحول تنين وهتطلع نار من بؤها، ست والعياذ بالله على الغل اللي ماليها.
سليمان بضحكة هادئة:
-يابني قول الله يهديها، هي بس غيرانة على بنتها منك.
تليد بنفي قاطعٍ:
-تؤ، على الإطلاق، دي خايفة أُترج تعرف الحقيقة مني.
التقط "سليمان" كوب الشاي ثم ناولهُ للأخير وهو يقول بهدوءٍ:
-أنا ببرأ ذمتي من كُل تصرف وكُل خطأ عملوه مع البنت؛ لأني كُنت صاحب نية حسنة لما ادتهم البنت علشان يدوقوا نعمة الأطفال وتنور بيتهم ولكن يشهد الله إني نهيتهم من تغيير اسمها وإنسابها لهم أو الكذب عليها بشأن هويتها الحقيقية.
تجرع "تليد" عدة رشفات من الكوب قبل أن يسأل مُتوجسًا:
-تفتكر أُترُج من حقها تعرف كُل حاجة عن نفسها ولا الصمت في صالحها أكتر؟!!
تنهد "سليمان" مُردفًا بثبات:
-لو كُنا نعرف أهلها أو حتى هويتها الحقيقية يبقى وَجب علينا نقول لها؛ لكن أيه الفارق اللي هيحصل لما تعرف بماضيها المأساوي ونضرم آلام كتيرة جوا روحها؟!!.. من وِجهة نظري المتواضعة اترك كُل الأمور لوقتها وربنا يلهمنا بالحل.
رفع "تليد" كفه ثم ربت على كتف والده وبعد ذلك قبله وهو يقول بحُب جارفٍ:
-الحمد لله على بيئة صاحبها تقي القلب رقيق المشاعر لين الطباع.
سليمان بضحكة عريضة:
-وهكون عكس الكلام دا لو زعلتها في يوم أو حسستها إنك خارج من بيئة أفضل منها وإنها أقل منك تدينًا ، "كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ".
اِبتسم بهدوء ثم استكمل حديثه الذي لاقى إعجاب ابنه الذي حفظ توصياته عن ظهر قلبٍ خوفًا عليه أن يقع في وِزر عظيمٍ نتيجة تباهيه بالتدين واحتقار من هم على دراية أقل بعلوم دينهم:
-عاملها بالمعروف يابني حتى لو كانت صعبة الإرضاء حادة الطبع فبالاحتواء هتتغير؛ فالله يهدي من يشاء.
تليد بضحكة عريضة:
-ادعي لي يا حج، أنا داخل معركة قاسية مع تنينة مُجنحة.
الشيخ "سليمان" بضحكة رزينة:
-الله يكون في العون يا وَلدي، المهم لازم تصحى بدري علشان تستقبل مراتك ووالدتها ونفطر مع بعض قبل ما يطلعوا الشقة يشوفوا اللي وراهم!
تليد بتفهم:
-من النجمة يا حج، هقوم أفرش لأمها الورد على مدخل البيت كمان.
سليمان وهو يضحك ناهضًا عن الفراش:
-لأ يا خويا مطلبناش منك تفرش ورد لحد، استقبلهم باِبتسامة حلوة ومش لازم تبين إنك مش طايق الست الوالدة، ساير أمور حياتك يا تليد.
تليد بتنهيدة طويلة تنم عن استسلامه لرغبة والده:
-حاضر، عيني لأوامرك يا حج.
سليمان وهو ينحني إلى ابنه قليلًا ثم يُقبل جبهته:
-تصبح على خير يا حبيب.
تليد وهو يلتقط كفه ثم يُقبله:
-وإنتَ من أهل الجنة والخير يا غالي.
•~•~•~•~•~•
-أيه يا بنتي لسه صاحية؟! أنا قولت إنك نمتي؟!
أردف "وِسَام" يسألها بتعجب وهو يفرك عينيه فقد تأهب للنوم ولكنها أيقظته باتصالها، تابعت بنبرة حانقة تقول:
-استنيت لمَّا بطل يرن عليا وتأكدت إنه نام علشان أو لقاني ويتينج مش هيبطل برطمة ونصايح حمضانة من بتاعته، إنتَ نمت ولا أيه؟!!
أجابها بصوت ناعسٍ:
-كُنت بحاول أنام، المهم كلمتي تامر!
وَميض بابتسامة نصر على ثغرها:
-تم الأمــــر بنجاح وقال لي إنه من بُكرا هيبدأ تنفيذ الخطة.
وِسَام بهدوء:
-تمام بس أتمنى الخطة دي تيجي بفايدة قبل الفرح، مش قدامنا غير هم يومين!!
وَميض بثبات:
-ما أنا قولت له إني معنديش وقت ولو أنجز في يوم واحد هراضيه.
أجابها بإرهاق:
-تمام أوي.. هروح أنام بقى ونكمل كلامنا بعد ما ترجعي من عش الزوجية!
ضغط على كلماته الأخيرة بطريقة ساخرة؛ فتابعت هي بنبرة حانقة:
-سخييييييف، يلا سلام.
ضحك "وِسَام" ملء شدقيه ثم أغلق المكالمة فورًا، ارتجفت أطرافها وهي تشد الغطاء عليها وكأنها تحتمي به من مجهولٍ قادمة عليه ولا تعلم عن تفاصيله شيئًا، تقلبت على جنبها الأيسر ولاحت صورته أمام وجهها يُخاطبها بلهجته الباردة الصارمة أن تعتدل وتنام على جنبها الأيمن وإلا عاقبها عقوبة قاسية، تراءت لها صورته مُقطب الحاجبين يسحبها عن الفراش ثم يدفعها إلى الأرض ويبدأ في ربط ساقيها معًا لأنها فضلت النوم كما تُحب، ظنت أنها ستعيش حياة روتينية نظامية بحتة وأن كُل نفس يخرج منها محسوب عليها وسوف تُجر في هذه الحياة مسحوبة من عُنقها محبوسة في قفص يُدعى الزواج ولن ترى الحرية مرة أخرى!!
اِبتلعت غِصَّة مريرة في حلقها وهي تزوي ما بين عينيها وكأنها تعارك نفسها مُرددًا بنبرة حانقة:
-طب هنام على الجنب اللي يريحني بقى، محدش له حق يدخل في نومي.
لحظات وتحول صمتها وعنادها إلى بكاء كلما جاءتها فكرة زواجها منه الذي يقترب ولا يفصلها عنه سوى يومين، أجهشت بالبكاء خوفًا ووجلًا من مصير لا تعلم خباياه وكيف يفعل والدها هكذا شيء بها؟ وَدت لو تستطيع الفرار بعيدًا والنفاد بجلدها من هذا السجن المروع ولكنها خشيت أن يتأذى والدها جراء ما فعلت أو يُصيبه مكروه.
قررت في هذه اللحظة أن تُغلق عينيها وتغُط في سُبات عميقٍ ولا تُفكر في أشياء تُروعها حتى تستيقظ.
•~•~•~•~•~•~•~•
-يعني إنتَ يا عُمر بجد جاي إنتَ وأهلك عندنا؟!!
أردفت "رويدا" بانفعالات مُرتبكة جدًا وهي تستمع إلى تصريحه عبر الهاتف، اِفتر ثغره عن ابتسامة مُنشرحة وهو يؤكد بصوت ليِّن:
-بإذن الله خلال يومين هنكون عندكم وبكرا الصُبح هتصل بوالدك أبلغه بنفسي.
أنهى كلامهُ ولكنه لم يجد ردًا منها، قطب ما بين حاجبيه ثم لفظ اسمها بتوجسٍ:
-رويدا! روحتي فين؟!!
تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقٍ ثم ردت بهدوء:
-بحاول أستوعب كلامك وهل فعلًا بعد سنة مُعاناة إحنا هنكون لبعض ومع بعض؟؟؟
عُمر يُجيبها بصوت مُفعم بالحُب والأمل:
-بعد ما كُنت حاسس إني خسرتك بحمد ربنا كُل دقيقة إني استرديتك من تاني، أنا كُنت غلطان لمَّا خوفت أصارحك بحقيقتي بس التجربة دي أثبتت لي إن في ناس كتير أهل للثقة والخير لسه جوا قلوبهم زيك.
رويدا بأنفاس عالية تقطع عليه كلامه:
-بس أنا خايفة.
عُمر باستفهام:
-من أيه؟!
رويدا بثبات:
-الفرق الطبقي بينا؟! معقول بسهولة أهلك تقبلوا زواج ابنهم الوحيد من بنت بسيطة؟!
عُمر بلهجة شديدة قليلًا:
-تقبلهم ليكِ من عدمه هيفرق معاكِ في أيه؟!!.. إنتِ معاكِ أغلى حاجة ممكن يملكها ابنهم.
سكتت عن الكلام حالما تنفس طويلًا وهو يقول بثبات:
-إنتِ واخدة قلبي وإنتِ مقاومتي في الحياة وبفضلك بعد ربنا أنا حاسس إني عايش الدنيا بكُل جوارحي ومشاعري وقوتي مش عايش مدفون بالحيا، أعتقد كُل دي أسباب تخليهم مُتقبلين وجودك في حياتي.
اِغرورقت عيناها بالدموع واختنق صوتها وهي تقول بمشاعر عطوفة مُحبة:
-ربنا يقدرني وأكون إضافة قوية لحياة أفضل ليك، يمكن مش هتصدقني لو قولت لك إنك أول راجل أقابله في حياتي وأحس برجولته في تصرفاته وكلامه واهتماماته واحترامه لنفسه وللست اللي معاه، متعرفش أنا قد أيه كُنت مُفتقدة وجود راجل في حياتي يعوضني عن كُل اللي فات من عُمري مع أهلي.
أنهت جملتها وتابعت تقول بسرعة بضحكة باكية:
-أنا مش مُتخيلة إن في راجل بيحارب علشان أكون له وإني عايشة في جو كُله أكشن لمُجرد بس إنه يحميني، أنا للحظة كُنت مُتخيلة إنك هتعمل لي مُشكلة في المطعم وهتسيبني!.. إنتَ موت كُل قناعاتي بعدم وجود رجالة جدعة في الحياة دي.
انطلقت منه ضحكة قصيرة بينما تابعت هي بسعادة غامرة:
-من حقك تضحك، بس أنا عيشت حاجات كتير تخليني أفقد إيماني بالرجالة تمامًا.
-أنا بحبك!!!
قطع حديثها بهذه الكلمة، تخضبت وِجنتاها رغم أنه لا يقف أمامها ولكنها خَجِلت كثيرًا من مفاجأته لها، تنفست الهواء داخلها ثم تابعت بنبرة مهزوزة من شدة الخجل:
-أنا كمان بحبك.
•~•~•~•~•~•~•
»في صبيحة اليوم الموالي»
-مدام نجلا!.. معاكِ عثمان السروجي.
أردف بنبرة ثابتة فيما تابعت بصوت راسخٍ:
-أه أهلًا، اتفضل؟!
قطب ما بين حاجبيه في غيظٍ وانفعالٍ من طريقتها الباردة والمُتجاهلة معها، أبلغها باسمه وتتظاهر بعدم اهتمامها وكأنه ليس بينهما موعد، حاول كظم غيظه لحين التوصل إلى اتفاق وسيط وتكون هذه المرة الأخيرة التي يتحاور معها بشكل وديٍ قبل أن ترى الوجه الاخر له، تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ ثم قال:
-إدارة الشركة بلغوني إن الميعاد هيكون النهاردة بعد ساعة!!
نجلا بضحكة خبيثة متوارية:
-بالظبط، عارف الأرض اللي أخدتها منك بعد ما اتفقت عليها؟!
ضغط أسنانه بغيظٍ ناريٍ ولكنه حاول إبقاء لهجته هادئة رزينة:
-أكيد.
نجلا ببرود:
-نتقابل هناك بعد ساعة، باي.
أغلقت فور انتهاء حديثها، تنهد تنهيدة نارية وهو يتوعد لها بالقاسي المُميت ولكن صبرًا حتى يستطع ركلها من أمام طريقه.
قرر في هذه اللحظة أن يرتدى حِلته ويختار ربطة عُنقه بعناية كعادته رغم تقلُب مزاجه ولكن هذا لا يمنعه من الاهتمام بأناقته فيبدو شابًا ثلاثيني قوي البنيان يتمتع بجسد رياضي فاتن، أنهى ما يفعله ثم خرج من المكتب بسرعة كي يلحق بالموعد ويرى ما هدفها من استدعائه إلى هذه القطعة خصيصًا كما أن لديه الفضول لرؤية هذه المرأة القوية التي تتحدى اسمًا يلمع في سماء التجارة ومعروف عنه القوة والنفوذ!
-بابا!.. خارج فجأة يعني؟!
أردفت "سكون" بتلك الكلمات وهي تخرج من المطبخ وتحمل صينية بين كفيها، رمقها "عثمان" بثبات ثم قال:
-عندي اجتماع مهم برا الشركة لمدة ساعتين.
رفعت حاجبها ثم قالت بتخمين:
-اممممم، أعتقد نجلا؟!
أومأ دون أن ينبس ببنت شفةٍ، نزل ببصره إلى الصينية ثم قال بلهجة صارمة:
-واخدة الصينية دي ورايحة فين؟
سكون باستغراب من سؤاله:
-رايحة عند كاسب.
تنشق الهواء داخله بانفعالٍ وقال:
-هو أنا مش قولت لك مية مرة الشغالة تهتم بيه وبلاش القُرب اللي مفيش داعي له دا!!
زمت "سكون" شفتيها ثم أضافت بنبرة ثابتة:
-بابا، كاسب أنقذ حياتنا ومن حقه علينا إننا نكرمه في بيتنا لحد ما يتعافى ونحاول نرد له الدين دا ولو بـ10% اهتمام وتقدير.
عثمان وهو يحرك رأسه يمينًا ويسارًا في غضب:
-مفيش فايدة من الكلام معاكِ.
أسرعت "سكون" بالوقوف على أطراف أصابعها كي تطول وجهه ثم قامت بطبع قُبلة طويلة على خده وهي تقول بابتسامة عريضة:
-متعقدش الدنيا، صباحك فُل يا باشا.
تأفف وهو يتحرك من أمامها إلى خارج القصر، اِبتسمت بهدوء قبل أن تنظر إلى الطعام الذي أوشك أن يبرد ثم أسرعت في سيرها خارج بوابة القصر ومنها إلى الشقة الصغيرة القابعة في الحديقة والتي تُستخدم لاستقبال ضيوف العُمال والعاملات بالقصر، وقفت أمام الباب وبدأت تطرقه بقدمها عدة مرات ولكن دون إجابة فقررت وقتها أن تنادي عليه عله يستمع إلى صوتها الي يناديه ولم يرد أيضًا، قطبت حاجبيها باستغراب وفي النهاية قررت أن تضع الطعام بالأرض ثم تستخدم المفاتيح البديلة التي بحوزتها لفتح الباب، قامت بحمل الطعام مرة أخرى وما أن دخلت إلى الشقة حتى وجدتها فارغة تمامًا، أسرعت بوضع الصينية على طاولة الطعام ثم خرجت على الفور وهي تبحث عنه بعينيها في الحديقة هنا أو هناك، ظلت تجوب الحديقة وتبحث عنه في كل زاوية بالقصر إلى أن أبصرت خياله يتحرك داخل الصالة الرياضية القابعة خلف القصر، تنفست الهواء بارتياح كبير وهي تدخل الصالة بهدوء وما أن رأته حتى تابعت بدهشة:
-أيه اللي إنتَ بتعمله دا يا كاسب!!!.. إزاي تشيل أوزان حديد وكتفك لسه مُصاب؟!
أنزل الوزن بالأرض ثم رمقها تقترب منه فردد بنبرة لاهثة:
-الحمد لله أنا كويس النهاردة وبعدين أنا بدربه يرجع لطبيعته وبدأت بأوزان خفيفة.
حملقت "سكون" إلى قطعة الحديد ثم تابعت بذهول:
-دا كُله وزن خفيف؟!!
اِفتر ثغره عن اِبتسامة عريضة أسفرت عن ضربة أصابت مُنتصف رأسها؛ فلأول مرة تراه يبتسم اِبتسامة واسعة وللحق إن ابتسامته جذابة قد أثرت لُبها حتى أن ابتسامته جعلتها تلتفت بانتباهها إلى عضلات ذراعه الضخمة المُتناسقة وارتفاع عضلات صدره عن مستوى باقي جسده رغم أنه يرتدي سُترة صيفية دون حمالات في هذه الأجواء الباردة إلا أنها استطاعت أن تتعرف على اهتمامه بلياقته البدنية وصحته.
-ها، يا حجة!!!.. إنتِ يا أمي!
-نعم!
صاح بها حينما وجدها قد شردت تتطلع فيه بينما تابعت هي بتوتر وإحراج لتجده يُتابع بابتسامة عابثة يتحداها من خلالها:
-معنى كلامك إنك متقدريش تشيلي الوزن الأهبل دا؟؟ وأنا اللي كُنت فاكرك أُنثى رياضية!!
التوى "شدقها" وراحت تقول بنبرة متحدية مُنفعلة:
-لأ طبعًا أنا أقدر أشيل الأوزان دي بكُل سهولة، أنا بتكلم إنه وزن تقيل على كتفك المُصاب يعني وكدا.
رفع حاجبه ثم قال بإعجاب من جراءتها:
-اووووه، عندي فضول أشوف أستاذتنا وهي امرأة رياضية!.. تعالي.. تعالي.
اِبتلعت ريقها بصعوبة بالغة وهو يضعها في موضع صعب، أخذت تلوم نفسها وهي تلبس وشاح الشجاعة أمامه رغم ثقل الوزن الذي ادعت أنه خفيف عليها، تقدمت منه ببطء شديد بينما وضع "كاسب" الوزن أمامها على الأرض وأشار لها أن تحمله كي يتعرف على شجاعتها ولياقتها البدنية، قررت أن تتحداه وأن الأمر ليس بالصعب ومن هنا أسرعت بضم راحتيها على العامود الحديدي ثم بدأت ترفع الوزن عاليًا وقد برزت عروقها وبدأ جبينها يتصبب عرقًا، تمكنت من رفعه قليلًا وقبل أن تفرح بهذا الإنجاز وجدت الوزن يسقط أيضًا مرة أخرى وتسقط هي معه، في هذه اللحظة صرخت وكبتيها تصطدمان بالأرض قائلةً:
-أيييييييييي.
انطلقت ضحكة عالية من فمه وهو يجثو على رُكبتيه بجوارها ثم يقول بضحكة عابثة:
-سلامتك من الأي يا آنسة سكون.
رمقته بنظرات نارية وهمَّت أن تنهض من مكانها إلا أنها لم تستطيع من فرط الألم الذي ألمَ بفقرات ظهرها؛ فتابعت بأعين دامعة:
-مش قادرة أحرك ضهري بسببك.
شعر أن دموعها قاربت على الانفجار وأنها تُعاني ألم حقيقي، على الفور قام بوضع ذراعه خلف ظهرها وبالذراع الأخير التقط راحتها ثم عاونها على النهوض وهو يقول بنبرة لينة:
-أنا آسفة، كُنت عايز أهزر معاكِ حقك عليا.
أنهى كلامه ثم رفع كفها نحو فمه وراح يُقبله بهدوء وهو ينظُر داخل عينيها مُباشرةً، رمشت بتوتر كبير وخجل ولكنها أطرقت تبعد نظراتها عن خاصته ثم ابتسمت بمشاعر مُختلطة بين سعيدة، خجلة ومستغربة من تصرفه!
•~•~•~•~•~•~•~•~•
-يعني أيه المدام مش جاية؟! أنا بقول لك إني عندي ميعاد معاها!!
صاح "عثمان" بنبرة مُنفعلة وهو يتحدث إلى المهندس المسؤول عن بناء قطعة الأرض، مط المهندس شفتيه باستسلام ثم قال:
-خلاص حضرتك تقدر تكلمها بنفسك وتتأكد.
كور "عثمان" قبضة يده بانفعال كبيرٍ وراح يتصل بها للمرة الذي لا يعرف عددها منذ أن وصل وهي لا تُجيب على اتصالاته؛ ولكنها هذه المرة أجابت بصوت بارد جدًا:
-أيوة يا عثمان، خير؟
حدق في الفراغ وهو يقول بحنقٍ:
-عثمان؟؟؟ إنتِ فين يا مدام نجلا، أنا بقالي ساعة مستنيكِ!!
تداعت أنها آسفة له فقالت بحُزن مُصطنع ولكن السخرية تبدو في كلماتها بوضوح:
-اووووه بعتذر منك يا عثمان، بس جالي شوية برد فجأة وقررت إني هقعد في سريري النهاردة.
عثمان بحدة:
-وليه مبلغتنيش!!!!
نجلا بتأفف حانقٍ:
-إنتَ هتحاسبني ولا أيه؟.. يلا سلام.
أغلقت الهاتف في وجهه فورًا بينما أخذ يصول ويجول المكان في غضب وغيظ دفعه أن يؤكل هيكل السيارة بقوة وبعدها دخل السيارة وأمر السائق أن يتحرك على الفور، فار فائرهُ من تصرفها المتمادي معه حتى أنه قام بعمل بحث باسمها عن طريق جوجل لكونها زوجة شخصية مشهورة فربما لها صور تجمعه بها أو يتمكن من رؤية صورة لها؛ ولكن محركات البحث لم تسفر عن صورة وحيدة لها فكانت جميع الصور تخص زوجها فحسب، ضغط "عثمان" أنيابه ثم قال بنبرة مخنوقة:
-مفيش ولا صورة ليكِ!!!!.. إنتِ إنس ولا جنس ولا أصلك أيه؟؟؟
•~•~•~•~•~•~•~•
-الله، أما شوية فول بالزبدة البلدي عجب.
أردف "نوح" بنبرة حماسية وهو يلتقط لقيمة من طبق الفول القابع على الطاولة فيما قام "تليد" بردعه وهو يقول بغيظ:
-يا فاضحنا إنت استنى لما الكُل يتجمع على السُفرة.
ضيق "نوح" ما بين حاجبيه ثم قال بمزاح:
-إنتوا هتذلونا علشان هناكل عندكم لُقمة!!
سليمان وهو يبتسم بهدوء:
-ما تشوف مراتك اتأخرت ليه يا تليد يابني؟!
وقبل أن يتكلم وجد الفتيات يطرُقن بوابة المنزل، أسرع "تليد" بفتح البوابة وهو يستقبلهم بابتسامة مشرقة، سلم على زوجته ثم ابنة عمه شروق واكتفى بأن وجه اِبتسامة باردة إلى سهير وهو يقول بثبات:
-اتفضلوا الفطار جاهز.
سهير وهي ترد بسرعة كبيرة:
-لأ شُكرًا إحنا واكلين في بيتنا قبل ما نيجي.
تليد بنبرة ثابتة يتوجه بحديثه إلى وَميض:
-أكيد مش هتزعلوا الحاج سليمان وهو واقف من بدري في المطبخ علشان يعمل لكم كل الفطار دا!!
وَميض وهي تنظر للشيخ سليمان بود ثم تقول:
-أنا هفطر مع بابا سليمان أكيد.
انفرجت أسارير وجهه ما أن نعتته بوالدها؛ فهو يُدرك تمامًا أنها تحبه وترتاح له مهما كان بينها وبين زوجها، رمقتها "سُهير" بنظرة قوية بينما أسرعت "وَميض" ومعها "شروق" إلى المائدة وتبعهم الباقي، في هذه اللحظة جاءت "مُهرة" تُخبر الشيخ بمجيء ضيفه إلى المزرعة كما أن "وَميض" دعتها لترتيب الشقة معهن، ألقت التحية ولم تنضم لهم لأنها تتناول الفطور بصحبة والدتها في وقتٍ أكبر من هذا، قررت "سهير" الصعود إلى الشقة واقترحت "مُهرة" أن تذهب معها ولكنها لم ترد وتوجهت إلى الدرج فورًا.
تعجبت "مُهرة" من تصرفها الفظ ولكنها لم تبالٍ بها كثيرًا فهي معروف عنها سوء تصرفها مع الجميع، دخلت إلى الشقة وتبعتها مُهرة وفي هذه اللحظة تكلمت "سهير" بلهجة ودودة على عكس طبيعتها:
-ما تعملي لنا كوبايتين شاي حلوين زيك كدا يا مُهرة!!!
زوت ما بين عينيها وردت بانصياع:
-ماشي.
تحركت "مُهرة" على مضض نحو المطبخ فيما أسرعت "سُهير" بفتح باب الشقة من جديد بحركة هادئة جدًا، وفي هذه اللحظة قررت "مُهرة" أن تضغط على الغلاية الكهربائية ثم تسترق البصر إلى الأخيرة وتراقبها قليلًا عن بعد، استغربت "مُهرة" وهي تراقبها من خلف حائط المطبخ حينما نظرت نحو باب المطبخ قبل أن تفتح باب الشقة ثم تُخرج شيء ما من داخل حقيبتها، كان شيئًا ذا لون أحمر يشبه بهار الزعفران موضوع في علبة بلاستيكية صغيرة وقبل أن تبدأ في سكبه أمام عتبة الباب راحت تنظر مرة أخرى باتجاه المطبخ فأسرعت "مُهرة" بالاختباء قبل أن تراها ثم بدأت فعلاً في نثر اللون أمام عتبة الباب وحاولت أن تجعله متواريًا عن العين ومُلاصقًا لقطعة الرخام الطويلة التي تقبع أمام باب الشقة، فتحت "مُهرة" فمها على وسعه ورغم أنها لم تتعرف بدقة عما تفعله هذه المرأة إلا أنها شعرت بخطر مُحدقٍ في الأمر.
دق قلبها بعُنف وأسرعت على الفور بالتقاط هاتفها وقامت بإجراء اتصال به، لم يكُن صوتها يخرج من حلقومها في بادئ الأمر ولكنها جاهدت أن يكون خافتًا يتضح له وحده.
-نوح، الحقني!!!
هب عن طاولة الطعام ثم ابتعد عن الجميع قليلًا وقال بوجلٍ:
-مالك؟ فيكِ أيه؟!!
مُهرة بأنفاسٍ مختنقة:
-الست دي مُخيفة جدًا يا نوح، دلقت حاجة قدام باب الشقة وأنا مش ميتاحة!
نوح بدهشة:
-اهدي متخافيش، أنا هبعت لك الشيخ سليمان.
مُهرة بخوفٍ:
-ماشي.
أغلقت على الفور ثم أنجزت إعداد الشاي وانطلقت بالأكواب إلى الصالة فوجدتها جالسة على إحدى الأرائك في صمت تامٍ، تنحنحت "مُهرة" ثم قالت بتلعثمٍ:
-اتفضلي الشاي يا طنط!
أسرعت بالجلوس على الأريكة المقابلة وقررت التزام الصمت حتى مجيء الباقية، مرت لحظات وسمعت أصواتهم تصعد الدرج، أسرعت "سهير" بفتح باب الشقة وما أن وجدتهم يأتون من بعيد حتى قالت بنبرة ودودة:
-في عاداتنا أول اتنين لازم يدخلوا الشقة وهي بتتجهز هم العريس والعروسة، وكمان العريس قبل العروسة، تعالي يا تليد يابني!
همَّ "تليد" أن يتقدم إلا أن ذراع والده أوقفه وفي هذه اللحظة تكلم "سليمان" قائلًا بصوت هادئ:
-مفيش حاجة اسمها عادات، في حاجة اسمها الاستعانة بالله لمُباركة البيوت، محدش هيدخل لازم الأول أقرأ الرقية الشرعية لمُباركة البيت وحماية الزوجين وإن شاء الله يعمروه في طاعة الله.
رمقتهُ "سهير" بنظرة جامدة لا تعابير فيها، بينما وقف الجميع خلف الشيخ "سليمان" وأمام باب الشقة وبدأ الشيخ يقرأ الرقية الشرعية بصوته العذب ويضع بين يديه دلوًا من الماء، كانت لحظات ساكنةً تمامًا حتى بدأت "شروق" تنتفض بجسدها كله وتتراجع للخلف وهي تضع كفيها على آذانها، لاحت الأنظار لها في دهشة واستغراب وبينما هي تتراجع في ضيق واختناق سقطت على الأرض مُغشيةً عليها....!!!!!
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية