رواية جعفر البلطجي الجزء (3) الفصل الحادي و الخمسون 51 - بقلم بيسو وليد
أُخفِي الهَوَى وَمَدَامِعِي تُبْدِيهِ،
وَأُمِيتُهُ وَصَبَابَتِي تُحْيِيهِ،
وَمُعَذِّبِي حُلْوُ الشَّمَائِلِ أَهْيَفٌ،
قَدْ جمعتْ كلُّ المَحَاسِنِ فِيهِ.
_ابن الفارض.
_____________________
قر’ارٌ واحدٌ يتخذه المرء في لحظةٍ مجنو’نة يجعل محور اللُعبة ينقـ ـلب في لمـ ـح البصـ ـر، قر’ارٌ إن لَم يتخذه لكان قاد نفسه إلى الهلا’ك بلا شـ ـك، حر’بٌ فُرِ’ضَت على الجميع خوضها بين عِدة صرا’عاتٍ مختلفة ووَجَبَ على المرءِ خوضها وربح المعر’كة حتى وإن كانت حياته ثمـ ـن الفوز بتلك الحر’ب..
لحظةٌ مجنو’نة حركت الكثير بداخل بني البشر، وكان صاحب القر’ار في هذه اللحظة هو الحـ ـكيمُ والمُتَعـ ـقل يعلم أين تَكمُن غايته ويسـ ـعى لها دون شـ ـك حتى وإن كانت في الشمال وهو في الجنوب الغربي..
<“د’فعةٌ صغيرة كان يحتاجها المرء فقط،
قر’ارٌ حاسـ ـم تم أخذه متأخرًا ليمضي متقدمًا.”>
كانوا جميعهم في صد’مةٍ مِن أمرهم، الجميع يستمع ويشاهد بصمتٍ يرون إلى أين ستخو’ضهم تلك الحر’ب المستمرة بين كلا الطرفين كان العمو’د الفقـ ـري بها “يـوسف”، هذا الشا’ب الذي منذ ظهوره هو وشقيقته الصغرى جعل الحر’ب تشتـ ـعل أكثر وأكثر دون أن ينتـ ـبه، كانت “شـاهي” تقف في هذه اللحظة مر’فوعةُ الرأس بزهوٍ بعد أن أنتصـ ـرت على غر’يمتها أخيرًا في هذه اللحظة بعد حر’بٍ دا’مت لسنواتٍ وسنوات فيها سَعَـ ـت هي لربحها وهز’يمة الطرف الأكثر فوزًا، الصد’مةُ حليفتها بكل تأكيد فهذه بالنسبةِ إليها أحلام العصرية وليس شيئًا وا’قعيًا قد تم أخذه وتطبيقه على أرض الوا’قع..
خَسِرَت الحر’ب ومعها خَسِرَت كُلُ شيءٍ بكُل تأكيد، خَسِرَت زوجها وخَسِرَت ولديها والعائلة، خَسِرَت الجميع في هذه اللحظة بلا شـ ـك، تحدث “عـماد” وقطـ ـع هذا الصمت القا’تل بينهم حينما قال بنبرةٍ با’ردة لا يهتم لأمرها:
_إكرامًا مِني وعشان أنا را’جل متر’بي وبفهم هتباتي الليلة دي هنا لأن الوقت أتأخر دلوقتي وبكرا الصبح تلـ ـمي شنطة هدومك وتروحي بيت أبوكي وورقتك هتوصلك وأنتِ قعدة هانم مكانك زي ما أتعودتي هنا وبالنسبة للنفـ ـقة والمؤ’خر هدفعهوملك عشان أنا را’جل بفهم فالأصو’ل لو كان واحد غيري كان زمانه ر’ماكي فنُص الليل عادي ولا كان دفعلك نفـ ـقة ولا مؤ’خر وقالك زي ما جيتي تروحي بس أنا مش كدا، ومش و’حش عشان أشو’ه صورتك اللي أنتِ بنفسك شو’هتيها لنفسك قدامنا كلنا، ولا أنا الرا’جل القا’سي اللي هيحر’م أُمّ مِن إنها متشوفش عيالها مع إني وا’ثق مليون فالمية إنهم مش طا’يقين يبصُوا فوشك بس أنا عشان برضوا بفهم هقعد معاهم وأكلمهم، بس ياريت بقى لو لسه جواكي ذرة حُبّ لأبنك الكبير تتلـ ـمي وتسيبي فرحته تكمل على خير، أنتِ د’مرتيلي واحد بس مش هسمـ ـحلك تد’مريلي التاني والأولاني اللي أنتِ د’مرتيه بعقـ ـليتك المر’يضة دي أنا هعرف أزاي أصـ ـلحه وأدا’وي جرو’حه وأوعدك يا “زينـات” إن “مـحمود” هينسى وهيتعا’فى مش عشاني، عشان خاطر نفسه.
كانت عبراتها تتسا’قط على صفحة وجهها في هذه اللحظة وهي تنظر أرضًا دون أن تتحدث فقد كانت هذه المرة المستمع وليس المتحدث، تسمع إها’نتها الغير مباشرة بفـ ـمٍ مغـ ـلق وتركت لعبراتها السقو’ط والبو’حُ عن ما يعجـ ـز الفم عن قوله، فيما أكمل حديثه بعد أن تحرك مِن مكانه وبدأ يدو’ر حولها بخطى هادئة قائلًا:
_دي كانت د’ماغك المر’يضة، شوفتي وصلتك لفين؟ كان فإيدك تكسبي عيلتي وتكسبي أخواتي وولادك و “شـاهي” و “يـوسف” و “مـها” وكُل دول، كان فإيدك تحببي الناس فيكي بس بدلًا مِن كُل دا أنتِ أخترتي طريق تاني خالص، سكة اللي يروح ميرجعش، أنا حـ ـقيقي مش بعاتب ولا بلو’م، أنا بحُـ ـطك قدام الأمر الوا’قع وبكشـ ـفك لنفسك لعلك تفو’قي مع إني أشُـ ـك بس مفيش داعي غير إننا نحاول، وعن نفسي كزوج سابقًا كُنْت بحبك، أيوه كُنْت بحبك وكُنْت راسم حياتي كلها معاكي بس أفعا’لك دي اللي بدأت تظهر مِن بدري بدأت تكر’هني فيكي، عايز أسألك سؤال خَطَـ ـر على بالي دلوقتي وتجاوبيني عليه بكل صراحة … أنتِ أتجوزتيني ليه؟.
أنهـ ـى حديثه ووقف أمامها مباشرةً وهو ينظر إليها ينتظر تلـ ـقي إجابتها التي يُيقن أنه لَن يأخذها مِنها ولَكِنّ في النها’ية لا بأس في أن يُحاول معها للمرة الأخيرة علّها تُصـ ـيب هذه المرة، أما عنها فقد كانت مازالت تنظر أرضًا دون أن تتحدث وعبراتها كالشلا’لات المنهمـ ـرة على صفحة وجهها لا تتوقف ولا تجد الإجابة المناسبة على سؤاله فهي دومًا تجـ ـهلها كيف لها أن تعلمها الآن وتُخبرهُ إياها؟..
أبتسم “عـماد” حينما تلقى الصمت إجابة على حديثه ليقول بنبرةٍ هادئة يرد عليها:
_أقولك أنا، أتجوزتيني عشان الفلوس، عشان تعـ ـيشي فالعِـ ـز اللي كان نفسك تعيـ ـشي فيه ومعرفتيش غير معايا، بس الفلوس والدهب وكُل اللبس الحلو دا يا “زيـنات” مكانش ييجي حاجة جنب حُبّي ليكي، أنا كُنْت بحبك بجد ومُستعد أعمل أي حاجة عشان خاطرك بس فالنها’ية عملتي أنتِ إيه؟ عملتي كل حاجة تخـ ـسّرك ولادك وجوزك وعيلته، كُله كر’هك يا “زيـنات” ليه تعملي كدا؟ أستفدتي إيه عرّفيني على الأقل أكون عارف إنك أستفدتي حاجة بعد دا كُله؟ عمومًا أنا نَهـ ـيتها خلاص، زي ما جيتي هترجعي ولو على عيالك أنا مش هقد’ر أحر’مك مِنهم ومش هاجي على ولا’دي عشان خاطرك لا ولادي عندي أهـ ـم مِن أي حاجة تانية حتى أهـ ـم مِنك أنتِ شخصيًا، ربنا يوفقك فحياتك يا بنـ ـت الناس سواء هتكملي لوحدك أو هتتجوزي شيء لا يعنيني، وياريت بعد ما تخرجي مِن البيت دا تكوني خرّجتي مرات أخويا وعيالها مِن د’ماغك وكفاية أوي لحد كدا.
أنهـ ـى “عـماد” حديثه معها وهو يُلـ ـقي نظرة أخيرة عليها، نظرة الود’اع، نظرة تحـ ـمل الكثير والكثير في ثناياها ولَكِنّ لَن ينفـ ـعه اللو’م بعد فوا’ت الأوان فقد سبق السـ ـيفُ العُزّ’ل وأنتـ ـهى الأمر، تركهم وصـ ـعد إلى غرفتهِ دون أن يتحدث بكلمة أخرى أسـ ـفل نظرات ولديه اللذان كانا يُتابعانه دون أن يتحدث واحدٍ مِنهم وهم في صد’مةٍ مِن أمرهم بعد أن أنهـ ـى والديهما علا’قته مع والدتهما، أقترب “أيـمن” مِنهما وهو يقوم بموا’ساتهما ومعهُ أخيه الصغير “جـاد” الذي كان حز’ينًا كذلك لأجلهما ولأجل عمّهِ الحبيب..
نظر “يـوسف” إليهما وهو يشعر بحالتهما الآن ولَكِنّ بدلًا مِن أن يوا’سيهما قرر الذهاب إلى عمّه ولذلك نظر إلى والدته وشقيقته قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_أنا هطـ ـلع أشوفه، أكيد مضا’يق دلوقتي ومش أحسن حاجة.
_وأنا كمان هاجي معاك، مش عايزة أفضل فمكان هي فيه.
هكذا جاوبته والدته بنبرةٍ هادئة وهي تنظر إليهِ ليتفهّم هو مشاعرها ولذلك نظر إلى زوجة إبن عمّه وقال بنبرةٍ هادئة:
_”نـسمة” خلّي “مـها” معاكم عشان متكونش لوحدها.
تفهّمت “نـسمة” حديثه ولذلك أخذت “مـها” وأجلستها معها قائلة بنبرةٍ هادئة مبتسمة الوجه:
_أكيد، وبعدين حد يقول للقمر دا لا برضوا كفاية حلاوتها كلها عمتي “شـاهي”.
أبتسموا جميعهم على حديثها ولذلك أجابتها “شـاهي” بنبرةٍ هادئة مغر’ورة:
_طبعًا يا بـ ـنتي هو أنا قلـ ـيلة يعني.
_أوه يا عيني يا عيني وأنا أقول الغـ ـرور والتكبـ ـر دا جاي منين أتاري “يـوسف” طا’لع نُسخة لعمتو.
هكذا مازحهم “جـاد” بوجهٍ مبتسم ونبرةٍ خـ َبيثة لتعـ ـلو القهقهات بينهم ليقول “يـوسف” بنبرةٍ ما’كرة:
_طبعًا يا’ض مش شايف عيون زر’قا وخُضـ ـر عايزنا منتكـ ـبرش ولا إيه؟.
أبتسم “جـاد” وقال بنبرةٍ ممازحة وهو ينظر إلى إبن عمّه:
_يا كبير براحتك مسمو’حلك تعمل أي حاجة بس فالمقابل تر’حمني.
أبتسم “يـوسف” وجاوبه بنبرةٍ هادئة وهو يتوجه إلى الأ’على قائلًا:
_أصبر بس أر’حم نفسي الأول وهر’حمك بعدها أحلى را’حة أتـ ـقل بس شوية على رزقك عشان لمَ بتصبر وتنول الحاجة اللي بتحا’رب عشانها بتكون لذ’تها أحلى.
تركه وصـ ـعد برفقة والدته إلى الأ’على ليزفر “جـاد” ويجلس على الأريكة قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_هنستنى، هنعمل إيه يعني غير إني أستنى، أما نشوف أخرتها يا “يـوسف” باشا يكش بعد الصبر دا كُله ألاقيك موَ’ديني ور’ا الشمس.
هكذا أنهـ ـى “جـاد” حديثه بقـ ـلة حيـ ـلة وهو لا يعلم إلى متى سيظل منتظرًا حتى يحصُل عليها وتُصبح زوجته فمازالت تلك الهو’اجس تراوده ظنًا أن ثمة أحدٍ آخر سيأتي لخطبتها والزواج مِنها دون عِلمُه هو..
أما عن “عـماد” فقد كان يجلس في غرفته بهدوء وهو شارد الذهن يُفكر هل ما فعله هو القر’ار الصحيح أم أنهُ تسرّع لأجل ولديه أم أنهُ أتخذ القر’ار المناسب، ثوانٍ وسَمِعَ طرقات خـ ـفيفة على باب غرفته ليستفيق هو مِن شروده وينهض متوجهًا نحوه بخطى هادئة ليفـ ـتحه ويرى إبن أخيه وزوجة أخيه أمامه، أبتسم “يـوسف” بسمةٌ خـ ـفيفة وقال ممازحًا إياه:
_كفا’رة يا عمّي، أنا قولتلك مِن بدري فُـ ـكك مِنها وأنا هنقـ ـيلك واحدة حلوة تدلعك مسمعتش الكلام شوفت حالك وصل لفين.
أبتسم “عـماد” وقد أبتعد عن مر’مى وقوفهما وهو يسمح لهما بالولوج قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_نعمل إيه بس يا “يـوسف” النصـ ـيب، وأديني طـ ـلقتها وخلصت.
تحدثت “شـاهي” هذه المرة بعد أن جلست على الأريكة الصغيرة بجوار ولدها قائلة بنبرةٍ هادئة:
_متز’علش يا “عـماد” دا نصـ ـيب وكان واضح إن الطلا’ق هو مصـ ـير العلا’قة دي، أنتوا كل شوية كُنتوا خنا’ق على الصغيرة قبل الكبيرة فمتز’علش وربنا هيعوضك خير، ولو على “عـامر” و “مـحمود” متشـ ـيلش همهم بكرا “عـامر” يستقر ويتجوز و “مـحمود” يتخـ ـطى ويعـ ـيش لمَ يلاقي بنـ َت الحلا’ل اللي تستا’هله ويستا’هلها.
زفر “عـماد” بعـ ـمقٍ بعد أن جلس على المقعد القابع أمام الأريكة وقال بنبرةٍ هادئة:
_الحمد لله على كل حال، أنا مش ند’مان ولا مضا’يق على نفسي قد ما أنا محر’وق على ولا’دي، بكل غبا’ء مِنها د’مرتلي الصغير وجوزته واحدة شبهها فكُل حاجة، بس برجع أقول دا مقد’ر ومكتوب، الحمد لله كُل اللي يجيبه ربنا كويس.
أخذ “يـوسف” نفـ ـسًا عميـ ـقًا ثم زفره بتروٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_بقولك إيه لأجل الأما’نة يعني أنا ما صدقت إنك طـ ـلقت البو’مة دي كانت جايبة النحـ ـس للبيت دا أنتَ تموف أون فظرف ساعة وتمـ ـحي الذكريات السو’دة دي مِن حياتك عشان تبدأ على نضـ ـيف كدا بكرا “عـامر” يتجوز و “مـحمود” يحـ ـصّله شوف نفسك أنتَ كمان أنتَ لسه صغير وشبا’ب ولو على الشعـ ـريتين البيـ ـض دول فدا بسـ ـبب “ويـلات” وعما’يلها السو’دا شَـ ـيّبتك بدري بس وعهد الله لسه زي القمر ومليون واحدة تتمناك.
خبـ ـيثٌ كعادته وما’كرٌ بطبعه، هكذا عَلِموا عنهُ منذ أن ألتقوا بهِ وبرغم ذلك كان قد تلقى الحُبّ والحنان مِنهم، نظر “عـماد” إلى زوجة أخيه وقال متسائلًا:
_الوا’د دا إبن أخويا بجد؟ الوا’د كان متر’بي عن دا اللي قاعد قدامي دا الخُـ ـبث والمكـ ـر فشخصية واحدة؟.
ضحكت “شـاهي” ر’غمًا عنها وهي تنظر إلى ولدها الذي كان ينظر إلى عمّه مبتسم الوجه لينظر لهُ “عـماد” قائلًا بنبرةٍ جا’دة متسائلة:
_ملاقيش عندك واحد حريف فصبغ الشعر؟ عايز أرجعهم سو’د تاني.
_يابا عندنا أحسن حلاق فالحارة كلها تدخله ستيني يخرجك عشريني.
هكذا جاوبه “يـوسف” بنبرةٍ جا’دة وهو ينظر لهُ ليجاوبه “عـماد” قائلًا:
_طب ما تظبطلي معاه كدا عايز أرجع عشريني صا’يع عشان أشوف حياتي صح بقى وارجع شـ ـقي زي زمان.
_بس قبل كل دا لاز’م تعمل حاجة واحدة مهـ ـمة أوي.
هكذا جاوبه “يـوسف” وهو ينظر لهُ نظرةٍ جا’دة ليسأله “عـماد” عنها ليأتي الرد مِن الآخر الذي أمسك بكفه الأ’يسر ونز’ع خاتم زواجه وأ’لقاه بإهما’لٍ وهو يقول:
_الدبلة المعـ ـفنة دي معادتش تلز’منا خلاص.
تفاجئت “شـاهي” بأفعا’ل ولدها ولذلك نظرت إليهِ وهي لا تُصدق ما تراه وتسمعه ليقول هو مكملًا حديثه:
_بكرا نازل أول يوم شغل فالشركة وهستلم المصنع أخلص وتيجي معايا وهخلي الوا’د “مُـنير” يروقك على الآخر و’اد إيده تتـ ـلف فحـ ـرير وعلى ضما’نتي متقلـ ـقش تقـ ـضي اليوم معانا وأوعدك هترجع وأنتَ طا’ير مِن الفرحة.
أبتسم “عـماد” وهو ينظر إليهِ ليرى أخيه الرا’حل بولده البكر’ي الذي يقبع أمامه، في كُل مرة يراه بها وكأنه يرى أخيه وليس إبن أخيه ولذلك ألتمعت العبرات في مُقلتيه وقام بضمه إلى د’فئ أحضانه وهو يُربت على ظهره برفقٍ دون أن يتحدث، فيما تعجب “يـوسف” لفعـ ـل عمّه وتأ’ثره بهذه الطريقة ولَكِنّ كما أعتاد مؤخرًا أنه تذكّر أخيه الر’احل ولذلك عاد يتأ’ثر بفُر’اقه ولذلك شعر “يـوسف” أيضًا بالأ’لم حينما شعر بالشو’ق والحنين إلى أبيه الرا’حل ليقوم بمبادلته عناقه دون أن يتحدث وكأنه أيضًا يُعانق أبيه وليس عمّه..
فيما كانت تتابعهما “شـاهي” وعبراتها تتسا’قط على صفحة وجهها دون أن تتحدث وهي ترى تأ’ثر الأثنين بحبيبٍ فا’رق الحياة وأصبح في السـ ـماء يراهم ولا يرونه، يسمعهم ولا يسمعونه، أبتعد “يـوسف” عن عمّه بعد بُرهةٍ مِن الوقت وهو ينظر بعينين باكيتين إلى عمّه الذي حاول تما’لُك نفسه وأز’ال عبراته عن صفحة وجهه بكفيه، أز’ال هو الآخر عبراته بهدوءٍ وقال بنبرةٍ باكية:
_هقولك على شعور بيرا’ودني كُل ما بشوفك ومعرفش هل هو طبيعي ولا لا، بس أنا مش عارف ليه كُل ما تجيب سيرتُه قُدامي وتقول إنه وَ’حَشَك ومش عارف تتخـ ـطى بُعـ ـده بحِّـ ـس بالغير’ة، بضا’يق أوي، يمكن عشان أنتَ قضـ ـيت معاه وقت أطول مِني، يمكن عشان أنا كُنْت لسه طفل صغير ٦ سنين طبيعي لمَ يفتر’ق عن أبوه ويكبر بعيد عنه وينساه؟ دا مجرد شعور مش كرا’هية بس أنا حا’سس إنه وَ’حَشني أوي، كان نفـ ـسي أشوفه لمرة واحدة بس وأنا كبير ومُد’رك مش وأنا طفل صغير، حتى الحلم مستكتره عليا، بتمنى بس حلم واحد ييجي يزو’رني فيه وياخدني فحُضنه، أنا بجد بز’عل أوي وبتو’جع عشان ملحـ ـقتش أشبـ ـع مِنُه وسابني ومشي بسرعة، ٦ سنين لطفل زيي قليلة أوي، هفتكر إيه ولا إيه ولا إيه أنا نفـ ـسي أفتكر شكله ومش قا’در عقلي مشلـ ـول بحاول ألاقي أي ذكرى عشان أحتفظ بيها ومش لاقي وكأنه را’ح وخد كُل حاجة معاه تخصه … وعهد الله أنا كُل يوم بتجـ ـلد مِن الذكريات وما عارف أهر’ب مِنها، بحاول أنسى مشهد مو’ته ومش قا’در كُل يوم بيجيلي أول ما بحُـ ـط راسي على المخدة عشان أبدأ أنام زي أي بني آدم بس مبيجيليش نوم وبفضل صاحي وشايفُه قدامي أزاي بيتطـ ـعن وأزاي هي قا’سية كدا..
قام بِبَتـ ـر حديثه وهو يتذكّر مشهد مقـ ـتل والده أمام عينيه، منذ أن جعله “ميشيل” يراه وهو منذ هذا الوقت ليس بخيرٍ، تراوده الكو’ابيس السو’د’اء والصر’خات العا’لية المستنجـ ـدة وشهـ ـقات المو’ت الصادرة مِن والده الذي أخذ الكثير مِن الوقت حتى فا’رقت رو’حه الحياة ورحلت عن عالمٍ أسو’د ملـ ـيء بالو’حوش والذ’ئاب الجا’ئعة، ترك عبراته تتسا’قط هذه المرة بضـ ـعفٍ أستو’لى عليهِ منحـ ـني الرأس باكيًا بحُر’قةٍ بعد أن شعر أن أمور الحياة أجمع تكا’لبت عليهِ..
سقـ ـطت عبرات “شـاهي” على صفحة وجهها وهي تستمع إلى حديثه المؤ’لم الذي أعاد فتـ ـح جرا’ح الماضي الد’امية مِن جديد لتستمر بالنز’يف دون توقف، آ’لمها قلبها حينما تذكّرت هذه الحا’دثة الأ’ليمة وكيف ودعها حبيبها قبل رحيله، كانت تظن أنها ستـ ـلحق بهِ ولذلك أستمرت بإمساك كفه ظنًا أنها سترحل معهُ ولَكِنّ كانت المفاجأة الكبرى حينما رحل هو وتم إنقا’ذها هي حتى تتعذ’ب طوال حياتها بتلك النقـ ـطة وهذا الرحيل الد’امي وتلك الحا’دثة الفـ ـجة التي مِن سابع المستحيـ ـلات أن تنساها..
كان “عـماد” يبكي متأ’ثرًا بعد أن لا’مس حديث الآخر قلبه وأهـ ـلكتهُ حالته المؤ’لمةُ تلك لينهض متجهًا إلى خزانتهُ الخاصة دون أن يتحدث يفـ ـتحها ليبدأ بإخراج عِدة أغراضٍ متعـ ـلقةٌ بأخيه، فيما قامت “شـاهي” بضم ولدها إلى د’فئ أحضانها موا’سيةً إياه بضعـ ـفٍ شـ ـديد تُريد مَن يقم بمو’اساتها كذلك، لحظات وعاد “عـماد” يُلاز’م مقعده لينظر إلى “يـوسف” بعينين باكيتين قائلًا بنبرةٍ باكية:
_دول حاجة أبوك الله يرحمه، بعد ما تو’فى بفترة روحت البيت وخدت حاجته كلها عشان تفضل ذكرى تفضل مفكراني بيه، هدومه، والبِدَل بتاعته، مسيبتش حاجة غير لمَ خدتها معايا، حتى و’صيته محتفظ بيها عشان لمَ ترجع أعمل بيها، مِن يوم ما سابنا ومشي وإحنا مش كويسين، بس بحاول أصّبر نفـ ـسي عشان أعرف أعـ ـيش، خُدهم جايز يو’اسوك شوية زي ما أنا بعمل.
أنهـ ـى حديثه وهو يَمُد يديه بالأغراض المتـ ـعلقة بأخيه لهُ، أبتعـ ـد “يـوسف” عن والدته وهو ينظر إلى أغراض أبيه التي كانت يُقدمها لهُ عمّه لبرهةٍ مِن الوقت قبل أن يأخذها مِنهُ بهدوءٍ وهو ينظر إليها متفحصًا إياها أسـ ـفل نظرات عمّه ووالدته، عادت تسقـ ـط عبراتها على صفحة وجهها مِن جديد، قرّب هو الملابس مِنهُ ليشتـ ـمها بعمـ ـقٍ ليشتـ ـم رائحته بها، برغم تلك السنوات الطويلة مازالت رائحته تُرافق ملابسهُ بلا شـ ـك..
أبعدها “يـوسف” قليلًا وهو ينظر إليها بعينين باكيتين ليضمها إلى أحضانه وهو لا يُصدق أنه أصبح يَـ ـملُك شيئًا كان يتعـ ـلق بوالده في يومٍ مِن الأيام ليسمع “عـماد” يقول بنبرةٍ هادئة:
_خليهم معاك، يمكن يبر’دوا نا’رك شوية، ودي صورة بتجمعكم مع بعض، أنتَ، و “مـها”، و “عـدنان”، و “شـاهي”، دا “عـدنان” الله يرحمه.
أنهـ ـى حديثه وهو يَمُد يدهُ بالصورة التذكارية التي أحتفظ بها منذ سنواتٍ إلى “يـوسف” الذي نظر إلى الصورة وهو لا يُصدق ليأخذها بسرعة البر’ق مِن عمّه ينظر إلى والده الرا’حل الحبيب غير مصدقٍ لِمَ يراهُ، كانت صورة تجمع أربعتهم سويًا، “عـدنان” يحـ ـمل “يـوسف” على ذراعه الأ’يسر ويضم زوجته باليد الأخرى إلى أحضانه والتي كانت تحـ ـمل “مـها” بذراعها الأ’يمن ويضحكون أربعتهم إلى الكاميرا، ألتمعت مُقلتي “يـوسف” بالعبرات وهو يشاهد أبيه، كان في صد’مةٍ مِن أمره لا يُصدق ما يراه..
لا’مست أنامله الصورة لتسير على وجه أبيه بشو’قٍ كبير يرى التشابه الكبير بينه وبين عمّه، نُسخةٌ مُصغرة لا شـ ـك في ذلك، نظر إلى عمّه الذي كان ينظر إليهِ طيلة الوقت ليراه يبتسم إليهِ بسمةٌ هادئة دون أن يتحدث ليترك هو أغراضه وينهض مر’تميًا داخل أحضان عمّه الذي أستقبله بترحابٍ شـ ـديد ضاممًا إياه إلى أحضانه دون أن يتحدث ممسِّدًا على ظهره برفقٍ وهو ينظر مبتسمًا إلى “شـاهي” التي قد فقـ ـدت السيـ ـطرة على نفسها وسمحت لعبراتها بالسقو’ط تشاهد وتستمع وتتأ’لم لحبيبٍ فا’رقها ور’حل بعـ ـيدًا.
_____________________
<“وبرغم بِما كان يُحيطهم مِن خُـ ـبثٍ،
كانت هناك رو’حٌ طيبة تطوف في المكان.”>
برغم الصعو’بات، وبرغم الخلا’فات، وبرغم السـ ـلبيات كان هناك سيد المواقف والقر’ارات الحا’سمة حاضرًا..
قر’اراتٌ تؤخد في لحظةٍ حا’سمة إما أن تُصـ ـيب هدفها أو لا تُصـ ـيب، كقنا’صٍ مبتدئ يحاول صيـ ـد أولى فر’ائسه منتظرًا إما نجاح ذلك أو لا، وبرغم أنهُ مبتدئٌ ألا أنهُ خـ ـبيثٌ وليس مِن السهل خد’اعه، لحظاتٍ حا’سمة تنتظر مَن بينهما المنتـ ـصر..
في صبيحة اليوم الموالي.
كان يقف في المطبخ يقوم بإعداد الفطور بدلًا عنها كي يذهب إلى عمله بعد إنقطا’عٍ دام لشهرين متواصلين، لَم يُحبذ إيقاظها ولذلك فضَّل هو إعداد الفطور كي يذهب دون أن يتأخر، ورده إتصالٍ هاتفي ليترك ما يفعله ويأخذ هاتفه يرى المتصل والدته ولذلك أجابها مسندًا الهاتف بكتفه ليعود إكمال ما يفعله وهو يتحدث معها مندمجًا في الحديث كعادتهِ..
أما عنها فقد كانت مستيقظة مستلقيةً على الفراش شاردة الذهن، تُفكر في عائلتها وماذا فعل زوجها حينما ذهب إليهم فعندما عاد لَم يُخبرها بشيءٍ وأكتفى بالصمت إجابة، أغـ ـلقت جـ ـفنيها قليلًا تحاول الهر’ب مِن قسو’ة عائلتها معها وتجـ ـبرهم عليها وأكثرهم والدها الذي منذ أن تزوج هذه الحر’باء المتلو’نة وقد تغيَّرت معاملته معها بشكلٍ ملحوظ، وكعادتها شعرت أنها لَن تستطيع الهر’ب مِن هذا كله إلا بحبيبها الذي كان دومًا صاحب القر’ارات الصحيحة في مثل هذه الأوقات الصـ ـعبة..
كان قد أنهـ ـى حديثه مع والدته وأنهـ ـى المكالمة التي أعتاد عليها مِنها في صبيحة كل يوم وعاد يُكمل إعداد الفطور، لحظات وولجت لهُ بعد أن بحثت عنهُ ولَم تجده لتراه يقف ويقوم بإعداد الفطور وقد تفهّمت لِمَ لَم يقم بإيقاظها كما المعتاد ولذلك تحدثت بنبرةٍ هادئة تجذ’ب أنتباهه إليها قائلة:
_”لؤي.”
ألتفت برأسه إليها ليراها تقف عند مقدمة المطبخ وتنظر لهُ بكل هدوء ليُلاحظ ضغـ ـطة كفيها ببعضهما البعض ونظرتها المهتـ ـزة التي كانت تحمل الكثير والكثير ليبتسم هو إليها بعد أن ترك ما يفعله وأشار إليها قائلًا بنبرةٍ هادئة حنونة:
_تعالي يا رو’ح “لؤي”.
دعوةٌ صا’دقة منحها إياها ليراها تُسرع في تلبيتها مر’تميةً داخل أحضانه الد’افئة تضع رأسها على صدره وتحاوط خصره بذراعيها دون أن تتحدث، لتشعر في نفس الوقت بذراعيه يحاوطونها كحـ ـصنٍ منـ ـيع ذو أسلا’كٍ شا’ئكة إن أقترب أحدهم مِنها يصعـ ـقه فورًا، مسـ ـح بكفه على ظهرها بحنوٍ وهو يُلثم رأسها بِقْبّلة حنونة ليقول بنبرةٍ هادئة بعدها:
_صاحية بدري أوي ليه النهاردة؟ أنا محبتش أصحيكي مخصوص عشان تعملي الفطار قولت مش مشـ ـكلة هعمله لنفسي النهاردة عشان مصحيهاش وهي نايمة النهاردة متأخر عن كل يوم.
جاءه جوابها حينما أنهـ ـى حديثه وهي تقول بنبرةٍ هادئة للغا’ية:
_معرفتش أنام يا “لؤي”، كو’ابيس و’حشة أوي مسابتنيش النهاردة كل شوية بصحى مخضو’ضة بسببها وأخا’ف، أول مرة تحـ ـصلي.
_طالما و’حشة متحكيهاش وأنسيها خالص، عادي بتحصل مع أي حد فينا مش شرط تكون حاجة و’حشة.
هكذا جاوبها بنبرةٍ هادئة حنونة وهو يمـ ـسح على خصلا’تها بكفه ليأتيه قولها ترد عليهِ:
_لا يا “لؤي”، أنا كُنْت عا’يشة فرُ’عب مش مجرد كو’ابيس لدرجة إني خو’فت أنام وفضلت صاحية لحد ما النوم غـ ـلبني بعدها ومكملتش ساعة وصحيت.
ربت على ظهرها بحنوٍ ثم أبعدها عنهُ قليلًا ونظر إلى عينيها حينما ر’فع رأسها برفقٍ كي تنظر هي كذلك إليهِ ليقول هو بنبرةٍ هادئة:
_كُنْت حا’سس بيكي ومعرفش إيه اللي مخليكي صاحية لحد التوقيت المتأخر دا، بس أول ما لقيتك نمتي أخيرًا شوفتك كمشا’نة وخا’يفة فعشان كدا خدتك فحُضني عشان تعرفي تنامي وتطمني إن في حد معاكي، أنا بصراحة مستغرب لأن أول مرة تحصل بس أكيد عقـ ـلك البا’طن كان مشغول بحاجة فعشان كدا هيئلك الكو’ابيس دي، أنسى يا حبيبتي وأهدي أيًا كان اللي شوفتيه فهو مش حـ ـقيقي كل حاجة زي الفُل أهي.
مسـ ـحت بكفيها على وجهها وهي تُحاول تنظيم و’تيرة أنفا’سها لتسمعه يقول بنبرةٍ هادئة متسائلة:
_تفطري معايا ولا هتدخلي تكملي نوم؟.
أبعدت كفيها عن وجهها ونظرت إليهِ قليلًا تُفكر أتوافق على تناول الفطور والهر’ب مِن تلك الكو’ابيس التي كانت تُلاحقها طوال الليل أم تعود إلى بحو’ر نومها مجددًا، ولَكِنّ ما بين الشتا’تين أختارت أن تتناول الفطور معهُ ولذلك عاد هو يُكمل إعداد الفطور مبتسمًا لتجلس هي على المقعد تنتظره بهدوءٍ لمرتها الأولى فما تفعله ينعكس على شخصيتها المعتادة، وبعد مرور القليل مِن الوقت كان يجلس معها ويتناولان سويًا الفطور لتنظر لهُ هي قليلًا ثم قالت بنبرةٍ هادئة متسائلة:
_سألتك قبل كدا عملت إيه لمَ روحت لبابا ومتكلمتش وسكت … إيه اللي حصل يا “لؤي”؟.
أنهـ ـت حديثها وهي تنظر إليهِ متر’قبةً رده عليها لتراه قد توقف عن تناول وجبة الفطور لدقيقة ثم عاد يُكمل قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_ولا أي حاجة، مفيش حاجة جديدة حصلت.
_”لؤي” بتخـ ـبي عليا ليه صارحني وقولي عملت إيه إحنا واخدين على الصراحة مع بعض ومبنخـ ـبيش عن بعض حاجة، أحكيلي.
أنهـ ـت حديثها بإصر’ارٍ تعهـ ـده هو دومًا فعندما تُعا’ند فلا تصمت إلا عندما تحصل على ما تُريده ولذلك زفر هو بعمـ ـقٍ ونظر إليها وقال:
_روحت مسـ ـحت بكر’امتهم الأرض، مرات أبوكي وهي وأبوكي نفسه، عملت اللي كان لاز’م يتعمل مِن بدري هـ ـددتهم وعرّفت أبوكي إني كُنْت بحترمه بس بعد اللي حصل وسكوته على اللي بيحصل دا أنا قولتله مش هحترمك تاني وأها’نتها هي ومرات أبوكي الشيطا’نة دي اللي قلّـ ـت أد’بها وقالت إني شيطا’ن بينكم بو’قع الكل فبعضه والحر’باية التانية بنت عمّك دي مسكتتش وخدت مرات أبوكي حا’مي ليها بس لأجل الأ’مانة “نـصر” متأخرش وبهـ ـدلهم كلهم وحلف ليطـ ـلقها.
تفاجئت “فاطمة” بما تسمعه أُذُنيها مِن زوجها الذي قـ ـصَّ عليها ما حدث بالتفصـ ـيل دون أن ينسى شيءٍ وهي كانت الطرف المستمع لهُ بإنصاتٍ حتى أنهـ ـى هو حديثه قائلًا:
_بس بصراحة برضوا صـ ـعبت عليا أول ما عرفت إنها مبتخـ ـلفش، كأن حد ضر’بها على د’ماغها بعـ ـصايا مبقتش مُد’ركة بعدها اللي بيتقال، ومرات أبوكي طبعًا مهتمش لا هي ولا أبوكي نفسه وسابوها وطلعوا، وأنا برضوا مبحبش أخر’ب بيوت حد خدته وأتكلمت معاه بهدوء وأقنعته ميطـ ـلقهاش ويحاول يسـ ـحبها مِن تأ’ثير الحر’باية دي وهو الحمد لله سمع كلامي وخدها ومشيوا، دا كل اللي حصل، بصراحة يعني وعلى بيا’ض كدا أنا مبحبش حد يضا’يقك بكلمة مبقد’رش أشوف دموعك ولا حتى هدوءك، خدت على “فاطمة” الشـ ـقية اللي صوتها بيفضل مسمع فالبيت طول اليوم، ز’علك ودموعك غا’ليين على قلبي يا “فاطمة” وأنتِ شخصيًا عزيزة على قلبي مبحبش أشوف الهدوء دا ولا حتى لو طلبت أنا دا مِنك، يو’لعوا كلهم معنديش أ’غلى ولا أعز مِنك واللي يضا’يقك بعد كدا بالشبـ ـشب وأنزلي بيه على د’ماغ اللي خلـ ـفوه زي ما عملتي مع “فـتوح” قبل كدا وجريتيه كل دا يا مفتر’ية.
أبتسمت أخيرًا بعد أن ألتـ ـمعت العبرات في مُقلتيها بعد أن لا’مس حديثه قلبها بكل تأكيد ليبتسم هو كذلك ويَمُد كفه يُز’يل عبراتها بإبهامه قائلًا:
_أيوه كدا هي دي “فاطمة” اللي أتعودت عليها، أضحكي على طول عشان يومي بيبقى فُل لمَ أسمع صوت الحجة وأشوف ضحكتك الحلوة دي.
نظرت لهُ بوجهٍ مبتسم لتنهض وتقترب مِنهُ بخطى هادئة لتجاوره في جلسته مر’تميةً داخل أحضانه وهي تضمه دون أن تتحدث ليبتسم هو أكثر ويقوم بضمها إلى د’فئ أحضانه يُلثم جبينها بِقْبّلة حنونة دون أن يتحدث فها هو يشعر بالرا’حة بعد أن رأى “فاطمة” قد عادت تضحك مِن جديد.
_______________________
<“وفي منتصف الظهيرة لَم يخـ ـشىٰ،
وجاء يقصد الشـ ـر لعائلتنا الصغيرة.”>
هدوءٌ يسو’د المنزل في صبيحة اليوم، نسمات الهواء البا’ردة تدا’عب الستار لتولج إلى داخل المنزل تنشر برو’دتها في المكان، رائحة الفطور المصري الشهير يفو’ح في أرجاء الحارة كما المعتاد وسا’كنيها يملؤو’ن هذا المتجر يكا’فحون لشراء الفطور كي يرى كل فردٍ مِنهم ماذا ينتظره اليوم، أصوات الأطفال الصغار يعلـ ـوا في الشارع يتسار’عون على أخذ الكرة وهذا يصدح صوته عا’ليًا مناديًا على صديقه وذاك يُنادي عا’ليًا لبيع منتجٍ ما..
أجواءٌ بسيطة أعتادوا عليها وأصبحت الأحب إلى قلوبهم فهذا ما تربوا عليهِ منذ الصغر وتلك كانت حياتهم البسيطة الخا’لية مِن الشـ ـر والخبـ ـث، أُناسُ طيبون القلب والرو’ح يتمنون الخير لبعضهم البعض، خرجت “نـورا” مِن المطبخ وهي تحـ ـمل صحنين تضعهما على سطـ ـح الطاولة الخشـ ـبية ثم عادت مِن جديد إلى الداخل وهي تُنادي على زوجها بنبرةٍ عا’لية قائلة:
_يا “حـسن” يلا الفطار جاهز !!.
خرجت مِن جديد وهي تضع صحنين آخرين ليخرج هو خـ ـلفها متكا’سلًا ليجلس على المقعد بكل هدوء دون أن يتحدث، فيما نظرت هي إلى صغيرها الذي كان يريد الخروج خارج الشقة ويُحاول فتـ ـح الباب لتقترب مِنهُ بخطى هادئة تميـ ـل بجذعها قليلًا نحوه تحـ ـمله قائلة وهي تُلثم وجنته الصغيرة:
_وبعدين فالشقا’وة دي بقى؟ هتخرج تروح فين؟.
تركته على أرضية الغرفة ثم جاورت زوجها وهي تنظر إلى ولدها الصغير مبتسمة الوجه ثم بدأت بتناول الفطور بكل هدوء دون أن تتحدث كذلك، دقائق مِن الصمت دامت قطـ ـعه “حـسن” بنبرةٍ هادئة حينما قال:
_أحتمال أتأخر النهاردة فالشغل، متستننيش على العشا لمَ أرجع هبقى أكل أنا.
نظرت إليهِ لثوانٍ معدودة ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
_بجد؟ ماشي.
أنهـ ـت حديثها ثم عادت تتناول الفطور بهدوءٍ شـ ـديد وهي تختلس النظر إليهِ بين الفينة والأخرى تراه يتناول الفطور بكل هدوء دون أن يتحدث بحرفٍ واحد، وبعد القليل مِن الوقت أنهـ ـى تناول الفطور لينهض عاز’مًا على الذهاب لغسل يديه وتبديل ملابسه للذهاب ليمنـ ـعه كفها الذي أمسك برسغه، وقف هو دون أن ينظر لها لتنهض هي وهي تنظر إليهِ بهدوءٍ شـ ـديد لتقول بنبرةٍ هادئة متسائلة:
_مالك يا “حـسن”؟ واخد جنب مِني ليه بقالك يومين؟ إيه اللي حصـ ـل أنا قولت يوم وهيعدي وهيكلمني، بس اليوم بقى يومين ومبتتكلمش معايا ولا بتحكيلي حاجة، هو أنا ز’علتك فحاجة وأنا مش واخدة بالي طيب سكوتك وتجنُبك ليا مش طبيعي.
_”نـورا” مش وقته عندي شغل وعايز أمشي.
هكذا جاوبها بنبرةٍ جا’مدة دون أن ينظر إليها لتقول هي في نفس الوقت ترد عليهِ:
_مش هسيبك غير لمَ تقولي في إيه يا “حـسن”، أنا مش عارفة بتعاملني كدا ليه وكأني هوا مش شايفني ولا حا’سس بيا، دا أنا فاليومين دول يا أخي بسبب سكوتك وتجا’هُلك ليا حـ ـسيت إني خد’امة عندك مش مراتك، تنزل عادي وتيجي وقت ما تحب وأنا مبتكلمش، بتيجي مِن بره تلاقي الأكل جاهز ومحطوط والهدوم متعـ ـلقة وغيرهم مغسول، حتى جز’مك بتلاقيها الصبح نضـ ـيفة، ويوم أجازتك دا المفروض نقضيه مع بعض برضوا بشتغله خد’امة بشيـ ـل الهدوم المر’مية مِن وراك وتبـ ـغ السجا’ير اللي بتشربها وبيبقى مر’مي على الأرض وكأن مفيش عيـ ـل صغير هنا بيحـ ـط أي حاجة جو’ه بوقه، أعملي شاي حاضر، أكو’يلي القميص عشان نازل عيوني، أغسليلي الچاكت حاضر، أنزلي هاتي مبقولش لا حتى لو هطـ ـلع وأنزل ٧ مرات كُله بس عشان خاطر حضرتك متسمعنيش كلمتين ملهومش أي ٦٠ لاز’مة حتى وأنا تـ ـعبانة مش قا’درة أتحرك بغصـ ـب على نفسي وبعمل عشان لو قعدت كل حاجة هتتقـ ـلب وهسمع كلمتين زي السـ ـم وكل دا ليه وعشان إيه؟..
ألتفت إليها وهو ينظر لها مستمعًا إلى حديثها دون أن يتحدث لتُطا’لعه هي بعينين ملتمعتين وأكملت تبو’ح عن ما يَكّمُن بداخلها قائلة بقهـ ـرةٍ:
_مبر’فضلكش طلب ولا بعـ ـصيك وبقول معلش هيحـ ـس دلوقتي بيكي، معلش أعذ’ريه راجع تـ ـعبان هيتكلم بكرا، وبخـ ـلق أعذ’ار كتير أوي عشان أصَبَر نفسي بيهم وأنتَ ولا حا’سس بأي حاجة بتيجي بتلاقي كل حاجة جاهزة ولا كأنه فندق ٥ نجوم، لا عُمرك حـ ـسيت بيا ولا بتـ ـعبي وو’جعي ولا حتى كلفت نفسك وسألت الخد’امة دي وقولتلها مالك … فيكي إيه مز’علك، إيه اللي وا’جعك، مَكُنْتش باخد مِنك أي حاجة ومطلوب مِني أسكوت وأحط جز’مة فبوقي ومتكلمش عشان الباشا راجع مِن الشغل مش طا’يق نفسه..
وبكل ثانية تَمُر تزداد المشا’حنات وتتو’تر الأجواء أكثر، تُخرج ما بداخلها بقهـ ـرٍ بعد أن فا’ض بها وأصبحت لا تقد’ر على تحـ ـمُل ذلك، وهو كان المنصت هذه المرة، سقـ ـطت عبراتها على صفحة وجهها وهي تُكمل حديثها بقهـ ـرٍ أكبر بعد أن أر’تفعت نبرة صوتها قليلًا قائلة:
_يا أخي دا أنا يوم ما طلبت مِنك تجيب بكتة بامبرز لأبنك وأنتَ راجع سمعتني **** كلام ورجعت مِن غير ما تجيبها وبرغم إن الوقت أتأخر أنا اللي روحت جيبتها عشان كان خلص وهو عمال يعيط ومش مر’تاح، كل دا وأنا بعديلك ومبشـ ـتكيش لحد وعا’يشة بس خلاص بقى أنا تـ ـعبت وطا’قتي معاك خلـ ـصت بره بوش معاهم ومعايا بوش تاني إيه يا أخي؟ حِـ ـس بيا شوية بقى أنا تـ ـعبت بدري، لا معاملة ولا أسلوب حياة دا أنتَ لو مستعبـ ـدني يا أخي هتعاملني معاملة أحسن مِن دي، أر’حمني شوية بقى، أر’حمني بدل ما ترجع فمرة تلاقيني مِن قهـ ـرتي مو’لعة فنفسي !!.
أنهـ ـت حديثها صار’خةً بهِ والعبرات تنهمـ ـر بشـ ـدة على صفحة وجهها لتتركه وتذهب بسر’عة البر’ق إلى غرفة صغيرها تصـ ـفع الباب خلفها بعنـ ـفٍ أسفـ ـل نظراته التي كانت تتابعها دون أن يتحدث، وفي الأسـ ـفل كانت “ثـريا” تقف في ردهة المنزل تستمع إلى ما يُقال حتى أنهـ ـت “نـورا” صرا’خها وصـ ـفعت الباب بعنـ ـفٍ لتشرد قليلًا فيما سمعته وقلبها يؤ’لمها عليها بكل تأكيد فقد لاحظت تغيُر ولدها معها منذ وقتٍ دون سبب ولَكِنّ لَم تَكُن تعتقد أن الأمر قد يتطو’ر بينهما إلى هذه المرحلة..
وبعد مرور القليل مِن الوقت..
خرج “حـسن” مِن البِنْاية متجـ ـهم الوجه أسـ ـفل نظرات والدته إليهِ لتسمعه يتحدث في الهاتف بنبرةٍ تملؤ’ها الضيـ ـق قائلًا:
_لا مش هتز’فت أجي، طـ ـلعوا حد مكاني النهاردة، سلام.
أنهـ ـى حديثه ثم أنهـ ـى المكالمة كذلك وهو يمسـ ـح بكفه الآخر على وجهه زافرًا بعمـ ـقٍ لتولج إلى داخل محلها دون أن تتحدث تاركةً إياه، جلست على المقعد وهي تُفكر ماذا عليها أن تفعل الآن وكيف ستحل هذا الخلا’ف الكبير بينهما بعد ما سمعته مِن “نـورا” عن تهـ ـديدها بإحر’اق نفسها فمِن الممكن أن تفعـ ـلها بسبب أفعا’ل ولدها التي إن أستمرت أكثر مِن ذلك ستُسـ ـبب كوا’رثٍ وعو’اقب و’خيمة، دقائق وولج إليها دون أن يتحدث وجلس على المقعد زافرًا بغـ ـضبٍ واضحٍ أسـ ـفل نظراتها التي كانت تتابعه..
دام الصمت بينهما قليلًا ثم زفرت بعمـ ـقٍ وقالت بنبرةٍ جا’دة:
_هات مفا’تيح الشقة عشان أطلـ ـعلها.
ثوانٍ معدودة ونظر إليها ليراها تنظر إليهِ بوجهٍ متجـ ـهم ليزفر هو بعمـ ـقٍ وبغضـ ـبٍ بائنٍ ليُخرج المفتاح واضعًا إياه على الطاولة دون أن ينظر إليها لتأخذها وهي تنهض قائلة بنبرةٍ با’ردة:
_هطـ ـلعلها خليك هنا عشان لو حد جه.
أنهـ ـت حديثها ولَم تنتظر إجابته لتتركه وتخرج أسـ ـفل نظراته التي كانت تتابعها دون أن يتحدث، مسـ ـح بكفيه على وجهه وكذلك على خصلا’ته وهو يُحرك قد’مه بعـ ـنفٍ يُفكر في حديثها الذي قالته منذ القليل مِن الوقت، فيما صعدت “ثـريا” إلى الشقة وفتحت الباب بهدوء وولجت مغـ ـلقةً إياه لترى المكان خا’ليًا مِن تواجدها والصحون على سـ ـطح الطاولة كما هي..
جاءها صوتها الباكِ مِن الداخل ولذلك تحركت نحو مصدر الصوت الذي كان يأتي مِن غرفة الصغير وعندما أستمعت إلى صوت بكاءها الذي كان محملًا بالقهـ ـر أ’لمها قلبها بكل تأكيد عليها وقد أعتر’فت أن ولدها قد تخـ ـطى الحد’ود بلا شـ ـك، تما’لكت نفسها وطرقت برفقٍ على باب الغرفة وقالت بنبرةٍ هادئة:
_”نـورا” أنا خالتك “ثـريا” يا حبيبتي أفتـ ـحي الباب عايزة أتكلم معاكي شوية يا حبيبتي.
أنتظرت قليلًا مِن الوقت على أملٍ أن تستجيب إليها وتفـ ـتح الباب وهي تدعو أن تفتـ ـحه وتستجيب إليها بخو’فٍ شـ ـديد، ثوانٍ وفُتِـ ـحَ الباب بالفعل لترى “ثـريا” أمامها، فيما نظرت إليها “ثـريا” مجـ ـحظة العينين حينما رأت حالتها المؤ’لمة تلك لتر’تمي “نـورا” داخل أحضانها تنخرط أكثر في البكاء المـ ـرير تبكي بقهـ ـرٍ وأ’لمٍ شـ ـديد بعد أن فقـ ـدت سيطـ ـرتها وطاقتها وكل شيءٍ معهُ، فيما ضمتها “ثـريا” وهي تُمسِّد على ظهرها برفقٍ وكذلك على خصلا’تها وهي تُحاول تهدأتها بشتـ ـى الطرق الممكنة.
______________________
<“بدايةٌ جديدة تبدأ سطورها،
وسعـ ـيٌ آخر في مكانٍ أفضل بداية.”>
وكان صبيحة هذا اليوم مختلفًا عن غيرهم، بعد أن عاد في وقتٍ مُتأخرٍ إلى منزلهِ والإر’هاقُ باديًا على تقا’سيم وجهه وعينيه المجهـ ـدتين اللتان كانت تحكي الكثير والكثير، قلبه ينز’فُ ولا يجد طبيبًا كي يداويه، حتى الحبيب كان كالمها’جر بهِ برغم أنه كان يحتاجها وبشـ ـدة في مثل هذه اللحظات ألا أن هذا الخلا’ف كان كالحصـ ـن المنيـ ـع بينهما، ولَكِنّ لا يُنـ ـكر أن شعوره بها كان وا’قعًا ملمو’سًا حينما شعر بها تضمه في جو’ف الليل إلى أحضانها، أستنكر الفعلين ولَكِنّ سطـ ـوة عقله كانت أكبر مِنهُ هذه المرة حينما قر’ر أن يستـ ـسلم لبحو’ر نومه بعد يومٍ مـ ـليءٍ بالأحداث العصـ ـيبة..
وقف أمام المرآة بعد أن أرتدى حُلته الكحـ ـيلة وهو يُهندمها لنفسه بعد أن عَلِمَ أنها لَن تُحادثه اليوم كذلك وستتـ ـجنبهُ طيلة اليوم حتى يذهب هو إليها، ولَكِنّ في نفس الوقت كان لا يقد’ر على التحدث والتبـ ـرير لها فقد أر’هقته ليلة أمس وبشـ ـدة بلا شـ ـك وجعلته مُتـ ـعبًا، صدح رنين هاتفه يعلو برسالة عبر التطبيق الشهير “واتساب” ولذلك أخذ هاتفه ينظر إلى المُرسل الذي لَم يَكُن سوى إبن عمّه “جـاد” الذي راسله برسالة ممازحة يقول فيها:
_أول يوم هصطبح فيه بوشك يارب بقى يبقى يوم حلو ومتنساش موضوعنا إياه بدل ما أعمل الصح معاك.
أنهـ ـى حديثه ضاحكًا ليبتسم “يـوسف” زافرًا بعـ ـمقٍ ثم راسله بأخرى يقول فيها:
_صَـ ـفي النيـ ـة الأول كدا وأبدأها على بيا’ض عشان ربك يكرم وملكش دعوة بالموضوع إياه قولتلك أنا هظبطها.
وقد راسله الآخر بأخرى يرد بها عليهِ حينما كتب فيها ضاحكًا:
_النـ ـية سـ ـليمة والقلب داعيلك والطبع أبيـ ـض يا ورد يَكش أنتَ تبقى على أتفاقنا بس ومتغـ ـفلنيش.
هذه المرة لَم تنـ ـفعه رسالة مكتوبة، بل يلز’مه مقطع صوتي مُسجّل برو’ح “جـعفر” الو’قح الذي يُلاز’مه دومًا قائلًا:
_يمين بالله لو ما أحتر’مت نفسك وبَطـ ـلت تنا’كش فيا على الصبح لأجي أد’غدغك ما هخليك نا’فع فحاجة، أتلـ ـم يا’ض بدل ما أجي أ’لمك أنا بمعرفتي متخليهوش يصحى عليك بقى.
وحينما أنهـ ـى تسجيله وأرسله أغـ ـلق هاتفه وتركه على طاولة الز’ينة وعاد يُهندم حُلته زافرًا بعمـ ـقٍ بعد أن و’قع في شتاتين بين الحُلة التي أشترتها إليهِ زوجته وبين حُلة أبيه التي أخذها مِن عمّه بجوار الأغراض الأخرى المتـ ـعلقة بأبيه، وأنتـ ـهى بهِ المطا’ف وهو مرتديًا حُلة زوجته لعلها تليـ ـن نحوه قليلًا..
وفي خارج الغرفة..
كانت تجلس على الأريكة وهي تستمع إلى المقاطع الصوتية التي أرسلتها إليها “شـاهي” منذ دقائق قِلة بإنصاتٍ شـ ـديد بعد أن تركتهما في صبيحة اليوم وذهبت إلى “هـناء” برفقة “أكـرم” حتى تُعطيهما مساحتهما الشخـ ـصية للتحدث وتهـ ـدأة الأمور بينهما، وقد جاء هذا المقطع الصوتي تقول بهِ:
_أنتِ هبلة عشان سمحتي للشيطا’ن يدخل ما بينكم والموضوع ميستا’هلش كل دا، الغـ ـلط كان عندك أنتِ يا “بـيلا” بس أنا طاو’عتك وقتها وجيت عليه وهو متكلمش عشان الموضوع ميكبرش على الفاضي، عمومًا مش هتكلم فتفا’صيل الموضوع لأنه أتنسى بس عايزة أقولك حاجة أتمنى إن “يـوسف” ميعرفش إني قولتهالك، “يـوسف” اليومين دول مش هيكون أحسن حاجة نفـ ـسيًا، إمبارح “عـماد” طـ ـلق “زينـات” وحصل كام تا’تش ضا’يقوا “يـوسف” كان أولهم إن أخته أتضر’بت بالقلم قدام الكل مِن “زينـات” بدون سبب أو في سبب إنها كشـ ـفتلها نفسها و “زينـات” دايمًا بتشوف نفسها ملا’ك بر’يء بجنا’حات، شوية شـ ـد وجذ’ب وكلمتين قالهم “يـوسف” يطـ ـفي بيها نا’ره مِن ناحيتها، بس مع تدخُل “عـماد” كان الموضوع خد مسار تاني خالص وأنتهـ ـت الليلة بالطلا’ق … لأول مرة أشوف “يـوسف” محر’وق على أبوه بالمنظر دا إمبارح، أبوه نقـ ـطة ضـ ـعف كبيرة أوي فحياته صـ ـعب نسيـ ـطر إحنا عليها..
وبتلقائية سقـ ـط بصرها على باب غرفتهما المغـ ـلق بعد أن أغـ ـلقهُ هو را’فضًا أن يجاوره أحدهم مفضلًا العُز’لة قليلًا، كانت متعجبةً في بأدئ الأمر ولَكِنّ الآن يبدو أن كل شيءٍ بدأ يتضح إليها حينما أستمعت إلى بقية الحديث حينما قالت “شـاهي”:
_”يـوسف” فتـ ـح موضوع أبوه إمبارح وكان مشتا’ق أوي لِيه وقال كلام يخلي اللي معند’هوش قلب ور’حمة يتو’جع، “يـوسف” خد حاجة أبوه إمبارح مِن عمّه مِنهم صورة تجمعني بيهم دي هتفضل نقـ ـطة ضعـ ـف لِيه وهتتعـ ـبه أنا عارفة كدا كويس بس مقد’رش أخُدها مِنهُ دا مصدق لقى صورة بتجمعه بيه كأنه بيدور على إ’برة فكو’مة قـ ـش كبيرة، “يـوسف” مش أحسن حاجة نفـ ـسيًا دلوقتي فرجاءًا يا “بيلا” تنسي أي حاجة وتعدي الموضوع لأنه مش مستحـ ـمل صدقيني إن حد ييجي عليه دلوقتي، فكري فيها تاني براحة وهتعرفي إني عندي حـ ـق فاللي بقوله لأنه أكيد محتاجلك أنا وا’ثقة مِن اللي بقولهولك دا، القر’ار قرا’رك دلوقتي يا تكملي عادي، يا تهـ ـد’مي كل اللي بينكم وتخلي الشيطا’ن يضحك عليكي.
أنهـ ـت حديثها وأنتهـ ـى المقطع الصوتي لتشرد هي في حديث والدته تسترجع بذاكرتها كيف كان حالُه ليلة أمس بعد أن فشـ ـل في أن يسقـ ـط في بحو’ر نومه لمرته الأولى في حياته بعد أن بدأ يرى والده كلما أغمض عينيه، سقـ ـطت في شتاتٍ مِن أمرها تسترجع ما حدث بهدوءٍ لتتذكر ركضه خلفها ومحاولته في إيضاح الحـ ـقيقة إليها وكانت هي مَن لا تُعطيه الفرصة حتى تكون هي على صواب وفي الوا’قع كانت سا’قطة في بئـ ـر الأخـ ـطاء، حر’بٌ نُشِـ ـبَتْ بداخلها الآن وتبعـ ـثر كل شيءٍ بداخلها في ثوانٍ قِلة..
وعنهُ كان جالسًا على طر’ف الفراش شارد الذهن وعينيه مثـ ـبتةٌ على الصورة التي كانت تمكث بين أنامله ينظر بشرودٍ إلى والده دون أن يتحدث وعـ ـقله كان كالمغـ ـيب عن العالم بِمَن فيهِ حتى أنه لَم يشعُر بها حينما ولجت إليهِ وأقتربت مِنهُ بخطى هادئة تجاوره وهي تنظر إلى الصورة تراه تائهًا بها كالشـ ـريد، مدت يدها ووضعتها على كتفه تُشـ ـدد مِن قبـ ـضتها برفقٍ عليهِ تنتـ ـشلهُ مِن شروده ذاك، وحينما لا’مس كفها كتفه كان بمثابة الضـ ـغط على زر الإنذ’ار لينهض بسرعة البر’ق وهو يُخـ ـبئ الصورة خلفه وينظر إليها مز’عورًا..
تفاجئت هي مِن هذا الفعل الغير متو’قع لتنظر إليهِ بتعجبٍ وهي تراه يهرُ’ب مِن لقاء الأعين التي فورًا تفـ ـضح صاحبها بكل ما يَكمُن بداخلهِ، توقفت أمامه مباشرةً وهي تنظر إلى عينيه ترى فيهما الحز’ن والضـ ـعف لمرتها الأولى، ترى الأ’لم يُصاحبه الوحدة، ترى الشخصية الأضـ ـعف مِنهُ لأول مرة، ألتـ ـمعت مُقلتيه بالعبرات دون إرادة وهو ينظر لها وكأنه يُخبرها أنه لَم يَعُد يتحـ ـمل كل ذلك، أتحـ ـدوا جميعهم عليه وما هو سوى بطفلٍ صغير يمكث خلـ ـف هذا الو’حش الذي يخرج لمو’اجهة صعا’ب هذه الحياة..
فَرَّ’قت بين ذراعيها تدعوه إلى الهر’ب مِن كل ذلك إلى أحضانها، دعوةٌ صا’دقة وأفواهٌ مُلـ ـجمة ونـ ـفسٌ مُعذ’بة تُنا’جي بالرحمة، تسا’رعت وتيرة أنفا’سه وتكا’ثرت العبرات داخل مُقلتيه لير’تمي داخل أحضانها يُعانقها بكُل قو’ته وبكُل آلا’مه وبكُل جو’ارحه، يُعانقها بقلـ ـبٍ ميـ ـتٍ وجـ ـسدٍ دا’مي ورو’حٌ مُعذ’بة، مسـ ـكينٌ وبداخله طفلٌ صغير أراد العيـ ـش حُـ ـرًا آ’منًا ومـ ـطمئنًا ولَكِنّ أَبَت الحياة أن تمـ ـنحه أبسط حقو’قه كأي إنسانٍ بسيطٍ مثله..
شـ ـدد مِن عناقه إليها وسمح لعبراته بالسقو’ط ليخرج صوته متأ’لمًا حينما قال مقهو’رًا:
_تـ ـعبان أوي يا “بيلا”، تـ ـعبان أوي مش قا’در أقسم بالله حا’سس إني همو’ت مِن و’جعي وقهـ ـرتي مش متحـ ـمل صدقيني.
يا ويلتاه مِن قهـ ـر الر’جال، لمرتها الأولى تراه بهذه الحا’لة الصـ ـعبة فبرغم ما رآه لَم يصل إلى تلك المرحلة يومًا، ولَكِنّ ماضي والده وفر’اقه عنهُ أخرج أسو’أ وأضـ ـعف شخصيةٌ بهِ، حاوطته بذراعيها وهي تمـ ـسح بكفها على ظهره برفقٍ بعد أن ألتـ ـمعت عبراتها داخل مُقلتيها بعد أن آ’لمها حديثه بكل تأكيد ولا’مس قلبها، شـ ـددت مِن ضمتها لهُ محاولةً موا’ساته بأقل الطرق المعروفة فهي لا تَمـ ـلُك غيرها الآن..
_أهدى يا “يـوسف”، أهدى اللي بتعمله دا غـ ـلط، هو دلوقتي فمكان أحسن مِن هنا ومر’تاح، بس مش مبسوط طول ما أنتَ كدا فكرك يعني هو مش بيشوف ويحـ ـس بيك بالعكس، هو عا’يش جواك ودا مخليك مش قا’در تكمل ولا تشوف حياتك عشان حُز’نك عليه أكبر مِن شو’قك لِيه، أهدى يا “يـوسف”، أهدى يا حبيبي.
أنهـ ـت حديثها وهي تمسـ ـح بكفها على ظهره وهي ترى حا’لته تسو’ء شيئًا فشيء ولذلك أصبحت لا تعلم ماذا عليها أن تفعل الآن، سقـ ـط بصرها على هاتفه المتواجد بجوارها على طاولة الزينة ولذلك أخذته وهي تقم بفتـ ـحه والولوج إلى سجل المكالمات لتبحث عن رقم “شـاهي” ثم وقبل أن تقم بمهاتفتها تراجعت في الثانية الأخيرة وقررت الإتصال بعمّه “عـماد” الذي قابلها أولًا منتظرًا جوابه الذي لَم يَطُل وكان يُجيب لتضع هي الهاتف على أذنها قائلة بنبرةٍ حاولت جعلها طبيعية رغم إهتز’ازها:
_أزيك يا عمّي أنا “بيلا”، بخير الحمد لله، لا هو بصراحة أحتمال ميجيش النهاردة.
قصَّـ ـت عليهِ ما حد’ث دون أن تُخـ ـبئ شيئًا عليهِ وأخبرته كم هو يُعا’ني ويتأ’لم لتُنـ ـهي حديثها بقولها إليهِ:
_لو ينفع تديني مكان المقا’بر فين على الأقل يزوره يمكن ير’تاح شوية ونا’ره تهدى، حا’لته صـ ـعبة ومش قا’در يتخـ ـطى مِن ساعة ما خد حاجته وجه بيها وهو مش أحسن حاجة ونفـ ـسيته مد’مرة، لا لا هخلّي حد مِن أخواتي أو “سـراج” يروح معاه، تمام ثانية واحدة.
أنهـ ـت حديثها وهي تُبـ ـعد الهاتف تُمسكه بكفها الآخر ثم أخرجت هاتفها مِن جيب سترتها وقامت بفـ ـتحه لتتركه وتأخذ هاتف “يـوسف” قائلة:
_قولي المكان فين بالظبط.
وبالفعل أخبرها “عـماد” عن المكان بالتفصـ ـيل وقد دَوَنت هي العنوان على هاتفها ثم شكرته لتسمعه يقول:
_طمـ ـنيني عليه أول بأول وطالما هو بالحا’لة دي خليه يجيلي عشان يتـ ـلهي بأي حاجة وميسمـ ـحش لعقـ ـله يفر’ض نفسه عليه.
_حاضر، هبـ ـلغك على طول شكرًا لحضرتك.
أنهـ ـت حديثها معهُ ثم أغـ ـلقت المكالمة وتركت هاتفه كما كان وأخذت هاتفها تنظر إلى ما دَوَنَتهُ لتقم بعدها بمهاتفة زوج شقيقته حينما تذكّرت أن أشقاءها ليسوا في الحارة الآن تنتظر إجابته التي لَم تَطُل لتقول:
_أزيك يا “سـراج”، بخير الحمد لله طـ ـمني على “مـها”، دايمًا، “سـراج” أنتَ فالبيت مش كدا؟ محتاجة مِنك خدمة ضـ ـروري … عايزاك تجيب العربية وتاخد “يـوسف” على مقا’بر عيلته، حا’لته مش أحسن حاجة نفسـ ـيًا دلوقتي وأنا وا’ثقة إنه مش هيهدى غير لمَ يروح يزوره ويقعد معاه، هبعتلك اللوكيشن على الواتساب بس متتأخرش، ماشي مستنياك.
أنهـ ـت حديثها معهُ وأغـ ـلقت المكالمة وهي تُفكر أما فعلته هو الصواب أم لا؟ ولَكِنّ في كُل الأحوال كان هو الخيار الوحيد أمامها حتى يهدأ زوجها قليلًا وتبر’د نير’انه المـ ـلتهبة التي تحر’قه..
وبعد مرور الوقت.
كان “سـراج” ذاهبًا إلى المقا’بر بعد أن ذهب وأخذ صديقه الذي أبدل ملابسه والآن يجلس صامتًا لا يتحدث منذ أن تحركوا مِن الحارة وحتى هذه اللحظة، كان يختلس النظر إليهِ بين الفينة والأخرى وهو يرى صديقه في أسو’أ حالاته بكُل ما تحمـ ـله الكلمة مِن معنى، شارد الذهن بصره مُثـ ـبتًا على النافذة والعبرات تلتـ ـمع داخل مُقلتيه، آ’لمه قلبه عليهِ بلا شـ ـك ليضع كفه على كف صديقه مشـ ـددًا مِن قبـ ـضتهِ برفقٍ على كفه دون أن يتحدث يوا’سيه بأبسط الطرق فلا يُريد أن يتركه في نفس الوقت بهذه الحا’لة المؤ’لمة..
وبعد مرور الوقت وصلوا إلى المكان المنشو’د ليتوقف “سـراج” بالسيارة وهو ينظر إلى صديقه الذي حرك مُقلتيه أخيرًا ينظر إلى اللا’فتة الكبيرة وإلى المكان حوله ليعلم أين جاء الآن، ترجل صديقه السيارة وألتفت إلى الجهة الأخرى ليفتـ ـح إليهِ الباب ويدعوه للنز’ول دون أن يتحدث ليُلبي مطلبه دون أن يتحدث هو الآخر ليُغـ ـلق “سـراج” سيارته ويعود لمجاورته وهو يحاوطه بذراعه يقم بحـ ـسه على السير ليتحرك “يـوسف” دون أن يقاو’م وكأن النفـ ـسُ كانت تُريد وتميـ ـلُ إلى المجيء..
ولجا سويًا لينظر “يـوسف” حوله بعينين تا’ئهتين ليرى اللا’فتة الكبيرة المُـ ـعلقة والتي تحمل أسم عائلته _مد’افن المُحمدي_ تحرك برفقة صديقه إلى الداخل وهو يرى العديد والعديد مِن المقا’بر تحمل أسماء مختلفة على أبوابها، أقترب مِنهما حا’رس المقا’بر وهو يقول:
_خير يا باشا أؤ’مر.
نظر لهُ “سـراج” وقال بنبرةٍ هادئة متسائلة:
_قبـ ـر “عـدنان المُحمدي” فين بالظبط؟.
_شوف يا باشا هتمشي شوية أول يميـ ـن فتاني شما’ل فتالت شما’ل هتلاقيه أول واحد فالصف.
هكذا جاوبه حا’رس المقا’بر ليشكره “سـراج” وينظر بعدها إلى صديقه الذي كان ينظر حوله ليقول بنبرةٍ هادئة:
_تعالى يا “يـوسف” أمشي.
تحرك الآخر معهُ دون أن يتحدث وعقله شاردًا وتا’ئهًا ليسير “سـراج” وهو يحاوط صديقه مو’اسيًا إياه لدقائق قِلة حتى وصلوا إلى المقـ ـبرة المنشو’دة، توقف “سـراج” ومعهُ توقف “يـوسف” وهو ينظر إلى المقـ ـبرة ليرى أسم والده يُزين بابها ومعهُ تاريخ الو’فاة الميلادي والهجري، تركه “سـراج” يفعل ما يُريد وهو يقف مكانه يشاهده بهدوءٍ شـ ـديد، فيما جلس “يـوسف” على رُكبتيه أمام مقبـ ـرة والده وهو ينظر إلى بابها وأسمعه المكتوب ليستمع في هذه اللحظة إلى أصوات طفولية صا’رخة وضاحكة وصوتٌ آخر يضحك وهو يُلا’عبه..
صوته ير’ن في أُذُنيه كالأنغام الصا’خبة دون توقف، بدأت عبراته بالسقو’ط على صفحة وجهه تزامنًا مع ملا’مسة أنامله إلى أسم أبيه لتصيـ ـبه قشعر’يرة قو’ية تضر’ب جسـ ـده وقد فقد السيطـ ـرة على نفسه في هذه اللحظة التي فيها أستوعب العقـ ـلُ أنهُ أمامه مباشرةً يجلس برفقتهِ وجسـ ـده مد’فونًا أسـ ـفل الأرض، تسارعت و’تيرة أنفا’سه بشكلٍ تدريجي حتى بدأ في البكاء دون السيـ ـطرة على نفسه وهو لا يعلم متى سينتـ ـهي هذا البكاء وتلك الآ’لام وذاك النز’يف الذي لا يتوقف، أستـ ـسلم إلى الضـ ـعف وترك نفسه تلُـ ـذ بمر’ارة الأ’لم والفُر’اق، ترك نفسه للماضي، ترك عـ ـقله يُصور لهُ الجر’يمة مِن جديد، ترك نفسه ينزُ’ف علّ هذا النز’يف ينتـ ـهي وتنتـ ـهي معهُ جميع أو’جاعه وحيا’ته، ولربما هو الآن كذلك، لربما مـ ـيتًا.
_________________________
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية جعفر البلطجي ) اسم الرواية