رواية رحماء بينهم الفصل الثلاثون 30 - بقلم علياء شعبان
رواية رُحماء_بينهم
"كمثلِ الأُتّرُجةٍ"
]الفصل الثلاثون]
•~•~•~•~•~•~•
خرجت من القسم تهيم على وجهها في حالة مُزرية من بكاء متواصل إلى حيرة تأكل لحم راسها وهي تفكر في كل كلمة قالها بوجه عابسٍ تبعث منه رائحة الندم والعداوة، هبطت درج البوابة الخارجية وقبل أن تخطو خطوتين وجدت رأسها يدور بقوة فجلست فورًا على الدرج وهي تدعك جبينها الذي يؤلمها بشدة، وضعت وجهها بين كفيها وأجهشت ببكاء مريرٍ وكان لا طاقة لها على تصديق ما تردد على لسانه!!!
-إزاي؟؟ إزاي يارب؟؟ أنا تايهة يارب دلني!!
في هذه الثانية وجدت حارس المبنى يرد بلهجة شديدة:
-مينفعش تقعدي هنا يا آنسة.
أومأت ونهضت فورًا، ظلت تجوب الشوارع في انهيار وكأن روحها أصابها صدعُ هشمها إلى نصفين والنصفين تهشما إلى شظايا فتاة بلا هوية لا تعلم من هي أو ابنة من تكون؟؟ ترى رجلَ يمر عبر شرائط ذكرياتها كأنها تعرفه عن ظهر قلب ولكنها في الحقيقة لم تره من قبل!! ترعرعت بين عائلة بسيطة وفي لحظة مُفاجأة غير مُرتب لها تجد نفسها ابنة خُلقت من العدم لا تنتمي إلى هذه العائلة ولا غيرها، فتاةٌ بلا نسبة بلا هوية وكُل ما عاشته ما هو إلا سرابًا؟! حاولت التصبر على هذه الحقائق المؤلمة وهي تجلس أمامه حتى أنها لم تكُن تُصدق ما يتفوه به إلا حينما أخبرها بأمورٍ لا يعرف بها أحدُ، تذكرت حديثهما معًا وهي تسأله بجنونٍ داهم عقلها النهم حول معرفة كُل شئ عنها.
-إزاي؟! مش فاهمة؟؟ إنتَ بتحاول تعمل أيه؟ أنا جاية أدافع عنك وإنتَ بتحاول تعمل لي غسيل مخ؟!!
رمقها بنظرة جامدة وقال:
-أنا مش مُهتم أقنعك بأي حاجة لأنك من اللحظة دي خارج اهتماماتي.
وَميض تنظر بقوة داخل عينيه وتقول بلهجة مُتلعثمة:
-بس أنا عايزة أفهم معنى كلامك ليا؟!! إنتَ مين يا تليد؟ ويعني أيه ربتني وأنا صغيرة وليه إنتَ اللي تسميني مش أهلي؟؟ واصلًا لو إنتَ شخص مُقرب لبابا ليه مظهرتش غير في الأيام دي؟ وليه بابا مجابش سيرتك قبل كدا؟؟؟
كانت نظراته نحوها تتسم بالقسوة في فحواها حتى أنه تابع ببرود حول نهمها للحقيقة:
-امشي يا آنسة وَميض.. اعتبري اللي أنا قولته كلام فاضي وبمجرد ما أخرج من هنا هيحصل الطلاق واعتبريني شخص عابر وراح لحاله.
وَميض ببكاء مخنوق:
-بس إنتَ قولت إنك مش عابر.
اِفتر ثغره عن ابتسامة باهتة ورد:
-يا بنتي إنتِ مش طول الوقت شايفاني كداب، أيه اللي جد؟ مش معقول تصدقي كلامي دلوقتي يعني!!
وَميض وهي تسرع بالتقاط كفه قائلةً ببكاء مُنهار:
-أبوس إيدك لمرة واحدة بس ريحني، تقصد أيه بكلامك؟! يعني أيه إنتَ اللي أهلي مش هم؟! هو أنا مش بنتهم؟؟؟
ارتجفت نبرة صوتها في ألم عظيم، أراد أن يُريحها من كثرة التفكير فقال بصوت هادئ صلب:
-لأ مش بنتهم.. بنتي أنا..
سكت لوهلة ثم تابع:
-أقصد إنك في نظري بنتي قبل ما تكوني مراتي.. أنا اللي فرطت فيكِ لأني كُنت خايف المجتمع يحكم علينا بالأخوة لو عيشنا مع بعض في بيت واحد.. كُنت خايف على قلبي يفتن بيكِ والناس تسن سكاكينهم علينا ويفرضوكِ عليا أخت.. فرطت فيكِ علشان أعرف أعيش مشاعري ناحيتك من غير ملامة.. لكن عمي علام ومراته مش بيخلفوا.
أسرعت بوضع كفها على فمها وعيناها جحظتا في صدمة من تصريحاته، دموعها أشعلت فتيل قلبه ولكنه رأى أن معرفتها بالحقيقة باكرًا أهون عليها من جهلها بكُل شئ عن حقيقتها التي ستعلم بها عاجلًا كان أو آجلًا، اقشعر قلبه واهتز لانهيارها حتى أنه ود أن يضمها بقوة رغم كُل شئ أصابه مذ أن عرفها ووثق قربه منها بعقد قرانهما، همَّ أن يتكلم مواسيًا إياها ولكن رجولته التي تأذت من تصرفاتها النزقة منعته وفي هذه اللحظة دخل الضابط إلى الغرفة مرة أخرى وقال بحزم:
-آنسة وَميض وقتك انتهي، اتفضلي، عايزين نكمل استجواب أستاذ تليد!
لم تزح مقلتيها عنه حتى أنها لم تصبر على سؤاله بانكسارٍ:
-أنا بنت مين؟!!
رمقها بنظرات مُشفقة ولكن الضابط صرخ فيها أن تخرج بينما تابعت هي ببكاء واستجداء:
-رُد علشان خاطري، وحياة أغلى حاجة عندك!!
أسرع الضابط بمناداة العسكري الذي يقف ماكثًا أمام باب الغرفة والذي قام بدفعها برفق حتى خرجت معه وهي تردد بإنهاك:
-أنا مين؟؟؟
أُغلق الباب فور خروجهما لتنهار قواه فورًا ويضع وجهه بين راحتيه في اختناقٍ كبيرٍ، لحظات وطلب الضابط دخول صديقه ليُدلي بشهادته حول التسجيل المُسرب وما أن دخل "نوح" حتى تابع "تليد" بالتقاط أنفاس:
-نوح روح ورا وَميض.. ما تسيبهاش لنفسها!!
أومأ بتفهم وبدأ يُدلي بشهادته التي لم تختلف البتة عن كلام وَميض التي أفصحت به قبل قليل وفي النهاية استأذن مُقدرًا مشاعر صديقه المُرتجفة خوفًا على حبيبته.
عـــــادت من شرودها وهي تجد فتاة تقف أمامها وتحتضن مجموعة من علب المناديل التي تبيعها وتكسب منها قوت يومها، رمقتها الفتاة بحُزن جلى في لمعة عينيها تضامنًا مع وَميض ثم قالت بصوت طفولي هادئ:
-إنتِ ليه بتعيطي!!
كمن جذبها عنوة إلى جنباته وأخبرها أن تفرغ ما في جعبتها من طاقة سلبية دفينة فأجهشت بصوت أعلى تبكي بحُرقة فيما أسرعت الصغيرة بوضع العلب جانبًا ثم التقطت واحدة منهم وأخرجت منها منديلًا وراحت تقربه من جفن الأخيرة تمحو العَبرات الساقطة منها وهي تقول بتأثر:
-متزعليش، كُل حاجة هتكون كويسة.
لم تهتم "وَميض" بكونها تتحدث إلى طفلة صغيرة فكُل ما كان يهمها في هذه الأثناء أن تتدفق أوجاعها للخارج حتى تهدأ قليلًا، قامت بالتقاط المنديل من الصغيرة وراحت تكفكف دموعها وهي تقول بصوت مُتألم:
-بس أنا زعلانة.. أنا مش عارفة أنا مين ولا مين أبويا وامي!
الفتاة بحُزن تربت على كتف وَميض برفق:
-أنا عارفة مين أبويا وأمي وبردو زعلانة؛ لأنهم مش راضيين يخلوني أتعلم ولا أكون زيّ باقي البنات.
توقفت "وَميض" عن البكاء في محاولة للتريث والتفكير بعقلانية حتى وصلت إلى حل منطقي وهي أن تتوجه إلى والديها وتطلب منهما الحقيقة دون مواربة!
•~•~•~•~•~•~•
-صحتك زيّ الفل يا شيخ سليمان، عايزك بس تهدى والاستغفار كُل حاجة هتتحل.
أردف الطبيب متحدثًا إلى سليمان الذي ينام في فراشه في إعياء وما أن وجدتهم "سكون" على هذه الحالة حتى استغاثت بكاسب الذي جاء ومعه الطبيب في الحال، فركت "سكون" كفيها وهي تقول بقلقٍ:
-يعني هو كويس يا دكتور!!
الطبيب بتأكيد:
-شوية هبوط في الدم تسبب في الإغماءة دي ولكن العلاج اللي أخده هيريحه تمامًا.
كاسب بامتنان:
-شكرًا ليك يا دكتور، شرفتنا.
قام "كاسب" باصطحاب الطبيب للخارج بينما جلست "مهرة" بجوار الفراش وبدأت تتابع وضع حالته بنفسها وقررت أن يظل تحت عينيها حتى يستعيد عافيته، فيما ظلت "شروق" تتحرك في الغرفة ذهابًا وإيابًا وقلبها يلتاع قلقًا على صديقتها حتى أنها تواصلت مع والديها ولم تكُن بالمنزل وهي لا تعلم ما الذي حدث بعد لقائهما وأين ذهبت؟!.. فيما أخذت سكون موقفًا مُضادًا لشقيقتها وأصبحت ناقمة على تصرف "وَميض" الطائش وتسببها في سجن ابن عمها وتعب الشيخ ونومته في الفراش، زوت "سكون" ما بين عينيها في غيظ وراحت تقول وهي تتوجه بحديثها إلى شقيقتها:
-عايزة أفهم إنتِ مالك قلقانة عليها كدا ليه؟! إنتِ مش شايفة هي عملت أيه في عمي وتليد؟!!
احتل الحزن قسمات وجه "شروق" التي فضلت الصمت عن إجراء نقاش غير مُجدي مع شقيقتها وهي تعلم تمامًا عدم حبها للأخيرة، التفتت "مُهرة" إليها ثم قالت بلهجة ثابتة:
-أنا مش مقتنعة إن اللي عمل كدا وَميض.
سكون وهي ترفع حاجبها وتسأل باستغراب:
-أمال مين؟؟
مُهرة وهي تمط شفتيها في حيرة:
-مش عايزة أظلم حد بتخميناتي ولكن والدة وَميض مش بتحب أستاذ تليد خالص وأعتقد التصغف دا ميطلعش إلا منها!
سعل "الشيخ" بإجهاد ثم نظر إلى "مُهرة" وقال بهدوء:
-عايز أقعد.
أسرعت "مُهرة" بالتقاط كفه تعاونه على الاعتدال في نومته حتى تحليه فيما أسرعت "سكون" إليهما وراحت تضع وسادة خلف ظهره حتى يشعر براحة تامة أثناء جلوسه، تنهد "سليمان" تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن يقول بصوتٍ خافتٍ:
-وَميض متعملش كدا أبدًا بلاش نظلم البنت، دا حتى تليفونها كان من تليد.
مُهرة وهي تشهق بتذكرٍ:
-فعلًا.. تليفونها لسه مع تليد يبقى إزاي هي اللي سجلت الكلام ونشغته على النت؟!
سكون بضيقٍ وانفعالٍ:
-بالاتفاق مع سُهير العقربة أكيد!!
أومأت "مُهرة" سلبًا وهي تقول بنفي قاطعٍ:
-العقغبة ممكن لكن وَميض متعملش كدا ولا تتفق على الأذى.
في هذه اللحظة، دخلت "رابعة" تحمل صينية الفطور بين يديها، توجهت بها نحو الشيخ "سليمان" ثم وضعتها على الفراش بجواره وهي تقول بصوت حزين:
-جبت لك حاجة تسند بيها نفسك يا شيخ، إنتَ من ساعة ما صحيت ومفيش لُقمة دخلت معدتك!
أومأ سلبًا في حزم وقال:
-مش جعان يا ست رابعة وبعدين أنا هستنى تليد لمَّا يرجع وناكل كلنا سوى.
نظرت الفتيات إلى بعضهم البعض في حُزن فيما أكمل حديثه مُتفائلًا مُبتسمًا في هدوء:
-تركت ابني في معية رب العباد وان شاء الله يرجع لي سالم من كُل مكروه.
تصنعت "سكون" الابتسام ثم التقطت كفه وقبلته وهي تقول بهدوء:
-هيرجع بإذن الله يا عيوني ولكن إنتَ لازم تاكل حاجة تسندك لأننا منعرفش هيرجع إمتى وعلشان لما ييجي يلاقيكِ بصحة كويسة؟؟؟
سليمان بابتسامة بسيطة:
-هيرجع الليلة، طمع في رحمة ربنا بقلبي.
الجميع في نفس واحدٍ:
-إن شاء الله.
•~•~•~•~•~•~•~•
جاءت "سهير" على صوت ارتطام باب الشقة بقوة، دخلت "وَميض" إلى الشقة دون أن ينبس ببنت شفةٍ واكتفت أن ظلت تنظر إليهما بعينين حمراوين تُدينهما، تحركت بخطوات هادئة نحو الأريكة ثم جلست عليها في صمتٍ وفي هذه اللحظة جاء "علَّام" مهرولًا ناحيتها وهو يقول بقلقٍ:
-كُنتِ فين يا بنتي قلقتيني عليكِ، لسه كُنت بلبس ورايح القسم لتليد.
سهير وهي ترمقها بحذر ثم تقول:
-شكله كدا مطول في القسم.
رفعت وَميض عينيها نحو سهير ترمقها بنظرات جامدة قبل أن تقول بصوت متحشرج من كثرة البكاء:
-طبعًا هو دا اللي إنتِ عايزاه مش كدا؟ لأنك خايفة منه مش كدا؟!!
رفعت "سهير" حاجبها وسالت باستغراب:
-خايفة منه؟!
أومأت وهي تقول فورًا:
-أه، خايفة يصارحني بالحقيقة اللي مخبينها عليا!!
التفتت "سهير" بنظراتها الجاحظة إلى زوجها الذي ابتلع ريقه بصعوبة بالغة وقد توقف عقله حول ما سوف تصرح به من أسئلة، تلعثمت "سُهير" وهي لا تزال تنفي ما فهمته من حديث "وَميض" فقالت:
-حقيقة أيه؟!
ابتسمت "وَميض" بسخرية وهي تقول بصوت مكلومٍ:
-لسه بتجادلي يا سهير هانم!!.. لسه عاملة نفسك مش فاهمة.. حاضر.. هسأل السؤال بوضوح أكتر.
صمتت لوهلة قبل أن تصرخ ببكاء وهي تحول بصرها بينهما:
-أنا مين؟! ومين أهلي؟! وليه أنا مش معاهم؟ وتليد أيه علاقته بطفولتي؟!!
في هذه اللحظة، لطمت "سُهير" وِجنتيها بقوة ليأتيها الدرس على هيئة سهم أطلقته هي لإصابة خصمها فارتد إليها مرة أخرى والتصق بمنتصف صدرها، حاولت أن تُبعده عن سبيل ابنتها بإيذائه فانقلب السحر على الساحر، ارتجفت أطرافها وهي ترى نظرات "وَميض" الحادة مُعلقة بهما، تنهد "علَّام" في استسلام ثم تكلم:
-اهدي يا وَميض وأنا هفهمك كُل حاجة.
سُهير وهي تصرخ برفض:
-تفهمها أيه، وَميض بنتي أنا ومحدش هياخدها مني، اوعي تسمعي كلام الارهابي دا!! بيحاول يضللك!
وَميض وهي تصرخ باختناق:
-أنا مش لعبة علشان ياخدوني منك أو من غيرك، كفاية تلعبوا بحياتي ومشاعري، أنا ميـــــن؟!!!!
تحرك "علَّام" نحوها ثم ضمها إلى صدره وهو يقول بصوت مُتهدج أوشك فيه على البكاء:
-أنا آسف، حقك عليا يا بنتي، كُنت خايف عليكِ من الحقيقة.
فتحت "وَميض" عينيها المملؤتين بالدموع تنظر إليه ثم قالت:
-يعني أنا مش بنتكم!!
علَّام بنبرة منكسرة:
-ربنا مأنعمش علينا بالذرية يا بنتي بس كافأنا بنعمة وجودك في حياتنا ويعلم ربنا إني محبتش في الدنيا قدك، أنا أبوكِ اللي رباكِ يا قلب أبوكِ.
ما أن أفرغ علَّام الحقائق من فمه حتى سقطت سهير أرضًا جالسة على رُكبتيها تضرب فخذيها بعُنف شديد، أجهشت "وَميض" بالبكاء وهي تقول باستجداء:
-علشان خاطري قول لي مين أهلي، وليه أنا مش معاهم؟؟ وحياتي عندك يا بابا!!!
ضمها "علَّام" إلى صدره ثم جذبها حتى جلست على الأريكة وقال بصوت حزين:
-لمَّا عرفت إن مليش نصيب في الذرية رضيت بقسمة ربنا وقولت الحمد لله ويشاء القدر إن الشيخ سليمان يقول لي إنه عنده بنوتة جميلة أوي مش عارفين مين أهلها وإنها عايشة معاه في البيت من فترة طويلة واقترح عليا اتكفل بيكِ وأربيكِ أنا لأن زوجته كانت متوفية وقتها ومش عنده حد يعتني بيكِ غير ابنه اللي كُنت روحه وقتها والآخر نفس فيه مكنش عايز يفرط فيكِ.
»-أدي له البنت يا تليد.
طالعهُ "تليد" بنظرات مترجية لامعة ثم نحى بصره إليها وراح يتأملها لوقت طويلٍ ربما يشبع من رؤيتها قبل أن يُفلتها من بين يديه كأنها سراب لم يلمسه في الحقيقة، توجه بها إلى "علام" الذي شعر بيأس الفتى وهمه ولكنه تناولها منه بحذر يتأمل براءتها في سعادة متطايرة من معالم وجهه، تراجع "تليد" خطوتين قبل أن ينكس رأسه في عجز من إقناع والده عن العدول عن هذه الفكرة.
تكلم "سليمان" بعد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ فقال:
-البنت اسمها (أُترُج) وعندها سنتين وتاريخ ميلادها هتلاقيه في الورقة اللي في الشنطة دي.
ناوله الحقيبة ثم تابع بإيجاز:
-شنطة لبسها ولعبها.
علَّام يهز رأسه بموافقة أكيدة:
-متقلقش مفيش أي حاجة من المعلومات دي هتتغير يا شيخ سليمان.
سليمان وهو يبتسم بخفوت:
-فيك الخير يا بني.
أظهر "علام" ابتسامة واسعة تنم عن امتلاكه للدنيا في هذه اللحظة ثم قال بتوتر تجاه الموقف الجديد عليه:
-مراتي مستنية على أعصابها وبتحضر لها الأوضة من ساعة ما بلغتنا، ربنا يرضى عنك يا شيخنا زيّ ما رضيتنا وأثلجت قلوبنا.
ابتسم "سليمان" بهدوء ثم قال بثبات:
-دي بُسرة، اعتبرها هدية مني لك، اكرم مثواها وانبتها على الصالح بس يا علام، لو فعلًا مش عايزني أندم على القرار دا.
علَّام يرد مُمتنًا:
-أوعدك مش هخذلك يا شيخنا.
وقف يستمع إلى حديثهما بانفطار قلب ضعيف أصابه الصدع بسهولة، ظل رأسه مُطرقًا وقد بسر وجهه بألم دفينٍ إلى أن سمع صوت "علَّام" يصيح بحسم وابتهاج:
-استأذنك يا شيخنا!!.
أومأ "سليمان" في صمتِ فذهب الأخير وخرج من البيت، سال دمعه المحبوس فور تجاوز "علَّام" لعتبة البيت فجرى ورائه ليجده يركب السيارة بسرعة وهنا خرجت منه صرخة مدوية وهو ينظر إلى السيارة تتحرك مُبتعدة، هرول على الفور خلفها مادًا ذراعه أمامه عازمًا النية على اللحاق بالسيارة وإبلاغ الرجل بتراجعه عن الأمر، بكى شاهقًا وهو يجري بسرعة البرق عله يسترجع حلمه الذي يبتعد كُل ثانية عن مرأى عينيه.
-استنى.. رجعها تاني.. رجع لي أُترُج.
لم يلتفت أحدُ إلى صوت صياحه المكلوم وبكائه المنهار حيث رأى أنه يحارب وحده للحصول على «صغيرته الضائعة»، أخذ صدره يعلو ويهبط في قوة وخفقان عالي ليجد نفسه يتعرقل فجأة ثم يسقط على الأرض بقوة لترتطم رأسه بحجر كبير أدى إلى إصابة حاجبه بشِق بليغ ينزف الدم منه بوفرة فأسرع "سليمان" به إلى العيادة الطبية وقام بتخييطه قبل أن يتلوث الجرح أو ينتكس.»
فاق "علَّام" من هذه الذكرى المؤثرة التي رجت قلبه ولم تفارق ذاكرته للحظة حتى أنها كانت السبب الاقوى في تزويجه "وَميض" بدون تردد أو خوف حول مُستقبلها المجهول، ابتعدت "وَميض" قليلًا عنه ثم سألته باختناق:
-يعني أنا كُنت عايشة مع عمي سليمان وتليد قبل ما تاخدوني!!
أومأ إيجابًا فنكست ذقنها بآلام عدة لا تفارق جسدها كله، تنهدت تنهيدة طويلة قبل أن تقول بصوت واهٍ:
-عمي سليمان يعرف أهلي!!
أومأ آسفًا حول جهله بإجابة هذا السؤال واكتفى بأن ضمها إلى صدره مرة أخرى وقبل جبهتها بحب كبيرٍ بينما
توجه بصره إلى "سُهير" يرمقها بنظرات حادة يعزم النية من خلال هذه النظرات على أمورٍ كثيرة خاصةً بعد تأكده أن ابنته ليست الفاعلة ولم تقُم بإيذاء تليد أو تلويث سمعته وتأكد أن زوجته هي من فعلت وأن تليد لم يقل الحقيقة إلا بعد أن فاض به وكانت هذه المكيدة التي افتعلتها زوجته رحيمة به وبالجميع فلم تُصب إلا صاحبها وشكر الله في نفسه أن ابنته علمت الحقيقة التي ود بشدة أن يُخبرها بها وتمنعه زوجته في بُكاء واستجداء، في هذه اللحظة قرر أن يصطحب "وَميض" إلى غرفتها وطبطب على قلبها ببضع كلماتٍ جعلتها تهدأ ثم طلب منها أن تسترخي في الفراش قليلًا وأن يكون للحديث بقية، أغلق ضوءَ الغرفة ثم خرج.
انتظرت خروجه من الغرفة وتأكدت أنها أصبحت وحدها تمامًا، كفكفت دموعها بظاهر كفها ثم نهضت مرة أخرى وهي تتجه إلى خزانتها ثم فتحتها على الفور والتقطت صندوقها المُقرب إليها، قامت بحمله إلى أن وضعته بجوارها على الفراش ثم فتحت القفل وبدأت تنظر إليه للحظات قبل أن تمد يدها داخله وتلتقط الدُمية المخيطة بشكل مُنمق من قميص رجالي أنيق ثم قفز إلى عقلها الميدالية التي سقطت من جيب سترته المُطرز عليها حرفه والتي تُكملها ميداليتها، نظرت مُجددًا داخل الصندوق ثم التقطت الميدالية الخاصة بها وراحت تتأملها بحيرة وتيه؛ فكل الدلالات تؤكد حديثه الصادق معها، الميدالية ورؤيتها له في الماء واعترافه بهذا الموقف وهذه الدمية بين يديها؟؟؟.. أسرعت بوضع كفها على صدرها الذي ينبض في حُرقة ولأول مرة لا تستطيع التمييز حول الشعور الذي ينبض داخلها، لا تعلم ولكنها رقت لرقة قلبه حتى أنها تود الآن أن ترتمي بين ذراعيه وتبكي لأنه الوحيد الذي سيفهم عليها ولكنها هذه المرة لن تستغرب معرفته الجيدة بها؛ فهو من تربت على يده وأحبها رغم الفقد.. رغم كل شيء حال بينهما، تشعر بندمٍ يلتهم خلجات نفسها كُلما نظرت إلى هذا الصندوق وهذه الدمية، هبت واقفةً في مكانها ثم توجهت إلى الدولاب مرة أخرى وقامت بإخراج السُترة التي دسستها عن الأعين حتى تعرف صاحبها، أسرعت بارتدائها ثم أخذت الدمية والميدالية وخرجت فورًا من الغرفة.
توجهت إلى غرفة والديها ثم طرقت الباب بقوة وما أن فتحه والده الذي ظهرت على ملامحه معالم الضيق وبدا أنهما يتشاجران ولكنها لم تعد تبالي بشىء، رفعت الدُمية أمام وجه "علَّام" ثم سألته بمشاعر مُرتبكة:
-مين عمل لي دي؟! هو صح!!!
اِبتلع ريقه على مضض وهز رأسه دون أن يتفوه بكلمة، هرولت من أمامه حتى توجهت إلى باب الشقة وخرجت على الفور دون أن تأبه لندائه أو سؤاله عما تفعله أو أين وجهتها.
•~•~•~•~•~•~•~•~•
بقى "تليد" حاليًا في غرفة الضابط المسؤول عنه طوال اليوم لعدم وجود أدلة تدينه وجرت التحريات عنه على أكمل وجه كما أن ملفه الشخصي نظيفًا لا يشوبه شائبةً وبدأت التحريات تستخلص أن الأمر ليس سوى مكيدة للإيقاع بشخصية مرموقة مثله من أجل مصالح شخصية ولكن براءته جاءت في وقتها تمامًا حينما وصلهم التسجيل الحقيقي وتأكدوا أن ما قاله "تليد" نصًا موجود في التسجيل وإن الأمر كان يتعلق بالعائلة وليس كما نُسب له.
-اتفضل يا أستاذ علَّام، استريح!
تنهد "علَّام" بهم كبيرٍ وهو يجلس على المقعد المواجه لمقعد "تليد"، التفت ببصره إلى الضابط حينما سأله عن كيفية الحصول على التسجيل:
-تليفون المدام عندي كان مُخترق يا طارق باشا وبالصُدفة لقينا التسجيل على تليفونها.
قطب "طارق" ما بين حاجبيه ثم رد باستنكار:
-وبالنسبة للتسجيل اتسجل لوحده ولا المدام اللي سجلته؟!
نكس "علَّام" رأسه بإحراج واكتفى بالصمت فيما تنحنح "تليد" بعد أن فهم الأمر فقال بثبات:
-زيّ ما قولت لك دي مشاكل عائلية وإن الموضوع مالوش علاقة لا بسياسة ولا إرهاب فيما يخص والدة مراتي فدي أمور هتتحل بشكل عائلي وأنا مُتنازل ومش ناوي أخد أي إجراء.
تفهم "طارق" للوضع الذي يعيشه الاخير ومدى الجدية التي ملأت حديثه، حاول علَّام إنقاذه بكُل ما أستطاع وقدر له تليد ذلك ولم يُحاول أن يُعرضه للمساءلة أو الحرج، أنهى تليد كافة الإجراءات وأعتذر منه الضابط مُعللًا أنها وظيفته ولا يمكن التهاون في القرارات الصادرة له وقد تفهم "تليد" وجهة نظره وتوجه مع نوح وعلام خارج القسم، وقف الثلاثة أمام سيارة "نوح" فيما التفت "تليد" ببصره إلى "علَّام" وقال بصوت هادئ:
-شُكرًا يا عمي.
علَّام بحُزن:
-أنا اللي آسف يابني على كُل اللي عيشته بسببنا!
تليد بثبات:
-متعتذرش، كل حاجة وليها سبب، أنا عايز أبلغك بقراري وياريت تفهمني!
خمن "علَّام" ما يود الاخير قوله، اضطربت أنفاسه وشعر بالحزن يلتهم قلبه فيما تابع "تليد" بصوت مخنوقٍ:
-أنا كلمت المأذون وجهز ورق الطلاق.. واقفين على الامضاء بس.
تدبر "علَّام" ابتسامة واهية ثم ربت على كتف الاخير وقال بصوت مخنوق:
-حقك يابني.. مقدرش ألومك.
تليد بتنهيدة حارة:
-بكرا إن شاء الله!
أومأ علَّام باستسلام ثم أستأذن وغادر في الحال.
تنحنح "نوح" ثم تابع بصوت هادئ:
-تليد، إنتَ واثق من القرار دا؟!!
تليد بلهجة حازمة:
-مية بالمية يا صاحبي.
ساد الصمت بينهما للحظات ثم تابع تليد مرة ثانية:
-يلا بينا على المزرعة.
نوح بصوت ثابت وهو يركب السيارة:
-لا هوديك الشقة تغير هدومك علشان مينفعش الشيخ يشوفك بالمنظر دا وبعدين نروح على بيت المزرعة.
همَّ "تليد" أن يعترض فقطع همهماته صوت نوح يقول مُجددًا:
-أنا كلمته وقولت له إنك خرجت، متقلقش عليه، مُهرة وشروق وسكون وخالتي رابعة معاه.
ركب "تليد" إلى جواره ثم زفر بإنهاك وقال مُستسلمًا:
-تمام.. أنا فعلًا محتاج أخد دُش سُخن وأفوق.
تنحنح "نوح" للحظات قبل أن يتكلم بملامح ثابتة يلوم صديقه من خلالها:
-تليد.. فكر تاني قبل حوار الطلاق دا.. إنتَ روحك فيها!
تنهد "تليد" تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن يقول بحنقٍ:
-فكرت ولقيت إن مبقاش ينفع أتجوز واحدة مش عايزاني.
نوح بامتعاضٍ يحتج:
-طيب ما هي طول عمرها مكانتش عايزاك ورغم دا أتجوزتها، أيه اللي أختلف!
تليد بثبات:
-اللي أختلف إني كُنت غلطان وبصلح غلطي، طاوعت قلبي وتمسكت بكلام عمي علام ولقيته فرصة أحقق بيها حلمي معاها، قلبي مش بيكبر يا نوح.. لسه واقف نموه عند اللحظة اللي أخدوها مني فيها.. أول مرة أدوق طعم الحُب كان على إيديها وأول مرة أدوق الغدر كان على إيديها بردو.
نفح "نوح" بضيقٍ وقال:
-بس وَميض مغدرتش بيك، إنتَ عارف كويس أوي إن مش هي اللي عملت كدا، إنتَ ناسي إن فونها معاك.
تليد بابتسامة باهتة:
-غدرت بيَّا لمَّا أحلت لنفسها تكلم راجل أجنبي عنها وهي على ذمة راجل تاني، كان لازم أفهم إنها متنفعش من ساعة ما كانت عايزة تبات مع راجل غريب عنها في بيته لوحدهم.
أوقف "نوح" السيارة على الفور حتى أصدرت صريرًا عاليًا ثم قال بحنقٍ:
-حرام عليك يا تليد.. متبقاش إنتَ والزمن عليها.. بلاش كلامك دا لأن معناه مش حلو خالص ومش تليد اللي يفكر في بنات الناس كدا.
اقشعر قلبهُ فأغلق عينيه فورًا وهو يشعر بألم ضارٍ يغزو مُنتصف قلبه وبصوت مهزوز رد:
-اتكسرت.. عارف يعني أيه راجل يتكسر ولا لأ!.. عارف يعني أيه أعيش عمري كُله على ذكرى بنت وأول ما أطولها تضربني بالسكينة في قلبي!!!!
لَمعت العَبرات في عينيه فقاوم مشاعره المُضطربة صامدًا ينظر إلى النافذة فيما قرب "نوح" كفه وراح يربت على كف الاخير وهو يقول بتفهم:
-أنا فاهم كُل كلمة بتقولها.. بس أنا عارف بردو إن راحتك مش في الطلاق.. إنتَ أعقل من إنك تشوف الحل في الطلاق وأتمنى تدور على حل فيه راحتك وراحتها!!
تليد بأسف وحُزن:
-ربنا الميسر إن شاء الله.
في هذه اللحظة، توقف "نوح" أمام العمارة فترجل تليد من السيارة على الفور ثم قطب حاجبيه وهو ينظر من نافذة السيارة ثم يقول باستغراب:
-ما تنزل يابني.. إنتَ مستني عزومة ولا أيه؟!
نوح بتنحنح:
-عقبال ما تاخد دوش أكون جبت حاجة ناكلها وراجع.
تليد باستسلام:
-ماشي.
توجه إلى العمارة وقرر أن يستقل المصعد الكهربائي هذه المرة رغم تفضيله صعود الدرج على قدميه، بدأ يدعك جبينه في إرهاب وتعب وما أن انفتح المصعد حتى وجدها تجلس أمام باب الشقة في حالة مزرية تمامًا، خرج من المصعد واقفًا أمامها فالتقت أعينهما للحظات وكلًا منهما يرسل مراسيلًا عدة بنظراته، كانت عيناها تلمعان بانكسارٍ والمٍ بينما نظر هو إلى سُترته التي ترتديها والدُمية التي تحتضنها فقال في دهشة:
-إنتِ بتعملي أيه هنا؟؟
ظلت جالسةً في مكانها بينما تنهمر الدموع على وِجنتيها وهي تقول بشهقات يتقطع لها نياط القلوب:
-سامحني يا تليد.
انتفض قلبه بين ضلعيه مع كُل دمعة تذرفها، تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن يقترب من باب الشقة ثم يفتحه وهو يقول بثبات:
-ارجعي بيتك يا آنسة وَميض، إن شاء الله بكرا هننفصل، أنا بلغت والدك بالميعاد.
هبت واقفةً في مكانها وهي تقول بترجي:
-بس أنا عايزة أكمل معاك.. صدقني بقى مش أنا اللي سربت الريكورد.. والله العظيم يا تليد ما أنا!!
تليد بلهجة شديدة:
-ومش إنتِ بردو اللي كلمتي راجل غريب ومعملتيش حساب للراجل اللي إنتِ على ذمته؟!!
لم يمنحها فرصة الرد فدخل الشقة ثم قال بلهجة ثابتة:
-ارجعي البيت يا وَميض ونامي براحة تامة واحلمي بحريتك اللي هتنوليها بكرا.. افرحي إن الإرهابي مش هيبقى موجود في حياتك تاني.
هرولت خلفه داخل الشقة، أولاها ظهره فور انتهاء كلامه يضع مفاتيحه وهاتفه على الطاولة فوجدها تلتصق بظهره وتلف ذراعيها حول خصره بقوة وبنبرة باكية تقول:
-مش قادرة أقاوم كُل الوجع دا لوحدي.. خليك جنبي!
ثارت نفسه شوقًا إلى قربها منذ سنوات حتى أنه يتوق للصفح وبداية صفحة جديدة تمامًا ولكنه لم يتعلم التهاون في حق قلبه الذي هان عليها، دعك جبينه بحيرة وهو يشعر بأنفاسها المضطربة ترتفع وتخفض بالقُرب من أذنيه، أسرع بوضع كفيه على راحتيها المُتشبثتين على خصريه في محاولة لإبعادهما، دفع راحتيها عنه ثم استدار بوجهه ناحيتها وقبل أن يتفوه بكلمة وجدها تحتضنه بكُل ما أوتيت من قوة وهي تدفن وجهها في صدره مُرددة بصوت مُتقطع من شدة البكاء:
-أنا حاسة باليُتم يا تليد.. احضني زيّ زمان.. ادعمني لأني مش قادرة أقاوم الوجع!
ابتعدت عنه قليلًا ودموعها تسقط أنهارًا ثم رددت وهي تلتقط كفه ثم تضعه على قلبها:
-هنا بيوجعني.. متسيبنيش لنفسي وللوجع يا تليد.. أنا خايفة.
•تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية