Ads by Google X

رواية رحماء بينهم الفصل الثالث 3 - بقلم علياء شعبان

الصفحة الرئيسية

 رواية رحماء بينهم الفصل الثالث 3 - بقلم علياء شعبان 

(رُحماءٌ بينهم)
                                "كمثلِ الأُترُجَّةِ"
الفصل الثالث
••••••••••••••••
"وميضٌ قلبه خافتٌ، يتسرب رويدًا من حوله؛ إلا أن قوة إصراره تتشبث بقبس نورها الأخير وعنوة سوف تسطع في حياته من جديد".
•••••••••••••••
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلُ المؤمنِ الذي يقرأ القُرآن كمثلِ الأُترُجَّةِ؛ طعمها طيبٌ وريحها طيبٌ".

تنهد بحنين عند ذكره للنبي وشفيع الأُمة أجمع، هذه الكلمات الافتتاحية التي يبدأ بها كُل حلقة تُعرض من برنامجه، كان يجلس على كرسيه بوقار لطيف وتُسيطر على ملامحه الرجولية الخشنة مجموعة من الخِصال الطيبة؛ كالرصانة التي بها يتربع على قلوب الكثير من محبيه؛ عذوبة ابتسامته التي تشي عن حياة مليئة بالمسؤولية قد عاشها في صِغره؛ كذلك نبرة صوته العذبة النقية التي لا يشوبها ذرة قسوة أو نشاز.

كان "تليـــد" أبي النفس في صغره عزيز المقام في شبابه؛ فلم تخرج من بين شفتيه كلمة نابية أو جارحة ولم يقتحم حيوات الناس إلا للصلاح حتى حيــــاتها؟ لم يقتحمها يومًا على الإطلاق ولم يفكر في فرض ماضيه معها على معايشة حاضرهما سوية؛ يخشى الكثير في حضرتها وهو الذي لا يعرف الخوف طريقًا إلى نفسه المُستقرة الزاهدة؛ ولكنه يخشى أن يكون قد دَق قلبها وهذا الافتراض بمثابة سورٍ كبيرٍ وضخمٍ قد شُيد بغرض فراقهما للنهاية.

تنحنح بخشونة قبل أن يُخبر مُستمعيه عن موضوع الحلقة ثم ثواني وقال:
-حلقة النهاردة عن زينة الحياة الدنيا؛ المال والبنون، يا ترى ربنا مديك حاجة منهم بس ولا عندك الاتنين! وراضي عن حياتك في النهاية! وإزاي تكون حامد لنعم ربنا وإن كانت قليلة؟؟؟؟.
سكت لبُرهة قبل أن يبتسم برزانة ثم يضيف:
-أنا واحد من الناس اللي إتولدت وحيد أبويا وأمي؛ كان نفسي في أخت أو أخ، بس ربنا عوضني بأبويا كان ليا السند والأخ لدرجة إني حسيت بالشبع ناحية المشاعر الأخوية لأن قدر يملى الخانة دي والحمد لله ربنا عوضني بيه وعوضني بحفظ القرآن وإني أكون من حملته.

تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ ثم أكمل:
-اللي عايز أقوله إن ربنا وارد جدًا يحرمك حاجة نفسك تواقة ليها لأنه هيجازيك بالأحسن والأفضل منها، يمنحك الله أو يمنعك لأسباب إلهية هو العادل فيها.

بدت كمومياء مُحنطة وهي تحدق في شاشة التلفاز بجميع حواسها أو تبدو نملة ذات قرون استشعار عجيبة تُخبرها بأن ظنونها صحيحة!، حاولت استرجاع ذلك المشهد في غضون ثواني حتى أقسمت في نفسها أن هذا هو ذاك!! لقد كان قريبًا جدًا منها قبل أن يغشى عليها، تنهدت باستنكار ثم غمغمت في حيرة وجنون سيطرا على فكرها المُذبذب؛ ولكنها لا تزال تحدق به وهي تقول في خبيئة نفسها بأنها قد فقدت وعيها وليست ذاكرتها كيلا تقدر على معرفته!!!!.

-لسه بتبحلقي فيه؟؟؟
انتبهت لكلام والدتها الممتعض، استدارت برأسها صوبها وبدت في عالم آخر ولكنها قالت بصوت هاديء غلفه الحيرة:
-إنتِ مش مصدقاني يا أمي؟؟.

رمقتها "سُهير" من طرف عينها ثم أردفت بنفي:
-لا مش مصدقة طبعًا يا وميض.

أخرجت "وَميض" زفيرًا مُتأففًا وهي تتوقع وصم الجميع لها بالجنون إن أخبرتهم بالأمر، "فواحد مثله تمتلىء حياته بالأعمال هل يخرج إلى الشارع بهذه البساطة ويرمي بنفسه في الماء أيضًا من أجل إنقاذها؟ لابد أنها تتخيله!"، سيكون هذا تعقيب الجميع إن فكرت للحظة أن تبوح بما رأته تحت الماء ولكنها الوحيدة المُتأكدة من تواجده في تلك اللحظة وسوف تسعى جاهدة كي يصدقها الناس؛ ولكن هل في تصديقهم لها إجابة واضحة على سؤالها؟!!.

ظهرت اِبتسامتها الساخرة من جانب فمها وراحت تنظُر للشاشة مرة أخرى في اللحظة التي جاءهُ فيها مُكالمة هاتفية من أحد مُعجبيه يقول بنبرة فضولية متحمسة للرد:

-يا شيخنا أنا معنديش سؤال بخصوص موضوع النهاردة، أنا بس عايز أسألك عن حاجبك المقطوم دا؟ آسف إني بتدخل في حاجة متخصنيش ولكن الشباب الأيام دي بقت بتلعب في خلقة ربنا عن قصد تحت مُسمى الموضة وقطمت الحاجب دي واحدة من أشكال الموضة اللي ظاهرة حاليًا.

ابتسم "تليد" بثبات قبل أن يومىء مُتفهمًا لصدق نيته فيرد بإيجاز:
-دي حادثة اتعرضت لها وأنا صغير.

توقف عن الحديث لثواني ثم أضاف بقلب مُلتاعٍ من فرط الحنين لتلك اللحظات التي سبقت هذه العلامة الدائمة في وجهه:
-تقدر تقول إنّي كُنت بجري ورى أحلامي وملحقتهاش.

كانت تُراقب تفاصيل وجهه باهتمام بالغٍ رغبةً في الوصول إلى حدس صحيح مائة بالمائة ولكنها تراخت عن أسبابها الأساسية نحو التطلع فيه وبدأت تقرأ لمعة عينيه المتوارية خلف مظهره الخارجي المتبلد من شدة الثبات؛ إلا أنها لمست وجعًا انتشر في جسده كماسٍ كهربائي سريع لم يُضعف من قوة ضحيته بل مر مرور الكرام في غضون ثانية.

لا تزال محدقةً في تفاصيله فيما تلعثمت "سُهير" وراحت تختلس النظرات إليها في توتر تارة وأخرى تنظر إلى شاشة التلفاز بامتعاض وضيق وما أن دققت النظرَ في عينيه حتى تذكرت ذلك المشهد الذي مرت عليه سنوات كثيرة إلا أنها لا تنسى تفاصيله الصغيرة قبل الكبيرة.

أغمضت عينيها في حنق وهي تنظر من نافذة غرفتها ثم تستدير صوب زوجها وتقول بصوت منفعل حاد:
-بقول لك أيه يا علام، شوف لك حل مع الولد ابن الشيخ سليمان دا!!!.
علام وهو ينتبه لغليان نبرتها المُحتقنة بالغيظ ثم يسأل باهتمام وهو يزيح عنه غطاء الفراش:
-ماله بس؟؟؟
صرخت فيه باستنكار:
-إنتَ مش شايف إنه كُل يوم يقف لنا على بوابة البيت ومش بيمشي غير لمَّا يشوف وَميض!!!.

زفر بحنق قبل أن يقول مُعاتبًا:
-يا ستي سيبيه يشوفها هو يعني هياكلها؟ مش كفاية إنك غيرتي اسمها اللي كان مختاره ليها!!!.

هتفت بسخرية واضحة:
-وإنت يعني رضيت إني أروح أغيره في السجل، مستكتر عليا أناديها باسم عِدل، دي بنتي وأنا من حقي أناديها بالاسم اللي يعجبني.
علام وهو يرميها بنظرة جامدة ثم يقول معترضًا:
-لا مش حقك لأن دا شرط من شروط الشيخ سليمان وبعدين مش كفاية إنه خلانا نعيش مشاعر عُمرنا في حياتنا ما كُنا هنعيشها؟؟؟؟
حدقت فيه "سُهير" دهشةً ثم تهدج صوتها وهي ترد بضيق:
-إنتَ بتعايرني علشان مبخلفش يا علام!!!.

علام وهو يومىء سلبًا ثم يتوجه صوبها سعيًا لإرضائها بكلمة طيبة تمحو أثر كلماته السلبية التي لم يكُن يقصدها على الإطلاق:
-مش دا قصدي يا سُهير، بس مش عايزين نجحد فضل الشيخ سليمان علينا بعد فضل ربنا!.
التوى شدقها ثم قالت بنفاد صبرٍ:
-والعمل مع ابنه؟؟
علام يطلق تنهيدة سريعة ويرد:
-ولا أي حاجة، هيزهق وهيمشي من نفسه، متحطيهوش في دماغك إنتِ بس.

(على الجانب الآخر)
نظر الصغير صوب نافذة غرفتها بعينين متلهفتين لرؤيتها ولكنه تنهد بخيبة أمل حينما رأى ستار الغرفة مازال مُسدلًا حتى الآن، قرر أن يبقى قليلًا علها تظهر أمامه على حين غُرة فيُشبع ناظريه برؤيتها كي يستطيع إكمال يومه الروتيني المُمل فقد باتت قوته الخارقة التي بنظرة واحدة إليها تعينه على كُل سيء يتعرض له.

لم تمر دقيقتان حتى وجد "سُهير" تخرج من باب المنزل الذي يحيط به حديقة صغيرة، كان تمسك بكفها الصغير وقد صففت شعرها على شكل قطتين رقيقتين ثم قادتها إلى أرجوحة بلاستيكية قابعة في جنب قريب من البوابة وفي تلك اللحظة التقت عينه بعين "سُهير" التي نبج صوتها وهي تقول بنبرة ذات مغزى تغيظه وتُعاديه من خلالها:
-وَميض حبيبتي، العبي هنا وأنا هعمل لك السندويتشات وأرجع.
رمقتهُ بنظرة جامدة مُتشفية بينما توارى عن عينيها الحادتين خلف السور وراح يتنهد بوجعٍ بعدما فطن بالرسالة التي أرسلتها له هذه السيدة، أطرق في حزن من تبجحها وإخلالهم بالوعد وقد رأى في ذلك كارثة تتنافى مع كُل الأخلاقيات التي تربى عليها وأولها؛ صون الوعد المقطوع عليه!.

-مامااااااااا؟؟
اتسعت عيناها وهي تلتفت إلى "وَميض" ثم تقول بنبرة خافتة تيقظت لندائها مؤخرًا:
-أيه يا حبيبتي؟
وَميض بنبرة مُتأففة تُكرر جملتها:
-كنت بقول بما إني بقيت كويسة خلينا نمشي!.
تنهدت "سُهير" باستسلام ثم قالت بصوت يغلفهُ الشرود:
-ماشي، نمشي.

تنفست "وَميض" الصعداء وهي تشعر باقتراب حريتها وكأنها تعيش في سجن وليست مُستشفى، استدارت برأسها حتى وقعت عيناها على تلك السُترة فأمسكت بها بتروٍ وهي تنوي معرفة صاحبها المجهول في أقرب وقت!!!.
••••••••••••••
جلس على كرسيه في ساحة الانتظار يترقب نداء الموظفة له سامحةً له بالدخول إلى مكتب "عثمان" الذي دخل إلى اجتماع طارىء مُنذ ساعة ولم ينته منه بعد، تنهد بقلق بلغ مبلغه منه يسأل نفسه حول استدعاء الأخير له في أمر عاجلٍ رغم أنه يلتقي به في القصر كُل يوم ويمكنه وقتها أن يخبره بما يشاء؟؟.. تأفف بصورة متوارية حتى لا يظهر ضيقه أمام الموظفة ثم استدار برأسه صوبها وقال بتوتر:
-متعرفيش عثمان بيه عايزني في أيه؟!.

هزت رأسها بنفي قاطعٍ فارتخت قسمات وجهه بقنوط ثم عاد يسألها متوجسًا:
-طيب متعرفيش الاجتماع دا هيخلص إمتى لأن بنتي في المستشفى ولازم أروح لها!!!.

رمقته بنظرة عابرة قبل أن تركز ببصرها على الأوراق القابعة بين كفيها وترد بإيجاز:
-مش باقي كتير.

أومأ يتصبر بكلماتها، باعد بين ساقيه قليلًا ثم نكس رأسه ناظرًا للأرض بشيء من الحسرة وهو يضع كفيه على رأسه، لم يكن بإمكانه أن يترك كُل شيء خلفه ويهرول إلى ابنته فمنذ أن عمل في منزل "عثمان" وكُل تحركاته تؤَدَى بمقدار وبإشارة منه ولا يمكنه أن يثور أو يحتج وإلا انقطع عيشه وبات مرميًا على أرصفة الشوارع ومعه امرأتين!!

تكلمت موظفة الاستقبال أخيرًا تحثه على التوجه إلى مكتب "عثمان" فأومأ يشكرها في صمت ثم خطى نحو الغرفة خطوات مترددة ثقيلة، وصل إلى عتبة الباب فطرقه بحذر ليأتيه صوتها يأمره بالدخول في الحال.
-مساء الخير يا عثمان بيه، خير إن شاء الله!

أومأ "عثمان" له ثم رد باقتضاب:
-أهلًا يا علَّام ومش خير خالص.

ابتلع ريقه على مهل مصدومًا من هذه الإجابة المُبهمة فيما أشارت "سكون" بذراعها نحو الكرسي ثم تناولت طرف الحديث عن والدها:
-اقعد يا عمو علام!.

شكرها بخفوت ثم جلس حيث أشارت وبقيت نظراته مُسلطة على وجه "عثمان" الغاضب، توتر "علام" وهو يستفسر متوجسًا عن السبب الذي يستتر وراء جملته السابقة:
-في حاجة حصلت مني ضايقتك يا عثمان بيه!!

عثمان بصوت محتقن حاد:
-بنتك وَميض.
اندهش "علام" مع انبساطية واسعة بين حاجبيه وهو يقول بقلق:
-بنتي! مالها وميض؟؟
سكون وهي تجيبه بصوت ثابت بعد أن استدارت تواجه نظراته:
-وَميض عاملة لنا مشاكل مع شركائنا وبتكتب أخبار مغلوطة علشان تسوء سمعتنا بيها، هو دا جزاء المكان اللي رباها وكبرها!.
تندى جبينه عرقًا من الصدمة ثم تابع في حيرة:
-وهتعمل كدا ليه يا سكون هانم؟؟؟ أكيد في حاجة غلط؟؟

عثمان وهو يتنهد بقوة قبل أن يحذره بأسلوب نمق:
-بنتك بتلعب مع ناس كُبار أوي يا علام وعيها وعقلها.

سكون تسحب طرف الحديث إلى ملعبها فتقول بابتسامة باردة:
-أظن إحنا مجبناهاش الشركة هنا وشغلناها في أقرب قسم لشهادتها علشان في الآخر تعكر الجو بينا وبين الشركا وتسبب لنا خساير قبل ما تكون مشاكل.

كانت عيناه تتنقلان بينهما في تيه وحيرة وهو لا يُدرك بعد ما السبب الذي دفع ابنته على أذية مكان أكل عيشها وأناس بمثابة أهل لها؟!!.. ابتلع غِصَّة مريرة في حلقه فأكملت سكوت بثبات:
-هي قدامها خيار واحد حاليًا يا تشتغل في شركتنا بس وتعقل يا تترفد وتختار شغلها التاني وساعتها إحنا مش مسؤولين عن أي مشاكل هتقع فيها وأعتقد وقتها العلاقة بينا متسمحش إننا نحميها حتى!!!.

أومأ مُستحيًا من تصرف ابنته المُخزي وقد عجز عن الرد حتى ولم تخرج منه سوى كلمة واحدة وهو ينهض في مكانه:
-بعد إذنك يا عثمان بيه!.
••••••••••••••
ودعها "عِمران" ذاهبًا إلى عمله بعد أن ردد على مسامعها وصاياه العشر والتي تبدأ بكوني هادئة وتنتهي باستخدامي شراستك عند الضرورة مراعية ألا تكون متوجهة نحو أمه فمهما كان؛ لها منهما كُل التقدير والاحترام وتبقى في النهاية والدته.
جاءها اتصالًا من والدتها عقب خروج زوجها، تحرك قلبها من مكانه أول أن رأت رقم والدتها فردت متعجلة في لهفة حقيقية:
-ماما، وحشتيني!.
أتاها صوت "نبيلة" تقول بشوق مثيل:
-مش أكتر مني يا نور عيني، عاملة أيه في حياتك؟ عِمران كويس معاكِ وكُل اللي في البيت؟!!.

عضت "شروق" على شفتها السفلى في حيرة من أمرها وسؤال واحد يدور في عقلها؛ هل من الصواب نقل صورة سيئة عن عائلة زوجها لوالدتها؟؟ أم تلتزم الصمت وتُكثر المديح والثناء في أسلوبهم الرقيق معها؟ شردت للحظات فتابعت "نبيلة" بصوت متوجس قلقًا:
-اتكلمي يا شروق، في حد بيضايقك؟.
أسرعت تنفي ظنونها وهي تقول بصوت هاديء غلبت عليه سعادة مُصطنعة لإتقان الموقف:
-لا بالعكس، والدة عِمران بتحبني أوي وبتعاملني زيّ بنتها وكمان كُل أهل البيت يتحبوا.
نبيلة وقد أُثلج قلبها بطمأنينة أقاويلها فتابعت تستفسر:
-وعِمران؟؟
شروق بثناء حقيقي انبلج من وسط بستان عشقها المستقر بين أضلعها:
-زوجي وحبيبي اللي بحمد ربنا كُل يوم عليه، عارفة يا أمي؟؟.
التزمت "نبيلة" الصمت تترقب القادم فقالت "شروق" بوداعة تشي بقدر عظيم من السكينة النفسية التي تملأ فؤادها:
-عِمران دعوتك الحلوة ليا اللي كُنت بسمعك تدعي بيها كُل يوم.
سكتت لبُرهة ثم أضافت بهُيام:
-مش ندمانة إني حاربت أفكار بابا السلبية عنه، مش ندمانة إني اختارت أكون معاه.
نبيلة تجيبها بصوت ثابت:
-فات شهور على الكلام دا يا شروق، المهم إنك عملتي اللي عايزاه واتجوزتي عِمران واختارتي تكملي اللي باقي من عُمرك في قرية بعيدة.. بعيدة أوي عن أهلك.

شروق وهي تبتلع غِصَّة أدمت قلبها الحزين على انقطاع التواصل معهم بشكل دائم واختلاس والدتها للمكالمات بينهما في غياب والدها:
-آسفة يا أمي، أنا مكنتش هبعد فعلًا بس شغل عِمران كُله هنا، إزاي هفرض عليه حياة مش بتاعته وألوي دراعه زائد إنه مكنش هيوافق نعيش في القصر زيّ ما شرط بابا عليه، لأن نفسه عزيز ومش قابل الفكرة من الأساس.

نبيلة تتنهد بصبر ثم تردف:
-كل دا انتهي الكلام فيه، المهم إنك كويسة.
شروق بصوت حزين تقول:
-وهبقى كويسة لو بابا رد على اتصالاتي أو بس كلمني، أنا معملتش حاجة لكُل دا، أنا اتجوزت اللي بحبه بالأصول!!
نبيلة بتفهم:
-سيبيه على راحته يا شروق، الزعل دا مسألة وقت وهتنتهي.

اطمأنت عليها وتأكدت أن ابنتها تعيش لحظات سعيدة ثم أغلقت على الفور، تنهدت "شروق" باشتياق لكُل شيءٍ في القصر؛ تشتاق إلى أبيها وهو يختلس النظرات إليها أثناء جلوسها في غرفتها من أجل الاطمئنان عليها، دعاء والدتها لها بالزواج السعيد، صوت شقيقها الصاخب أثناء تلقيها نكتة سمجة من نكاته والتي لا يضحك أحدٌ عند سماعها سواه وكذلك سكون التي حاربت معها من أجل إتمام هذا الزواج وكانت سندًا لها في كُل حين حتى أنها الوحيدة التي تسأل عنها بشكل يومي والتي تُطلعها على كافة أسرارها؛ ولكنها لم تُخبرها بعد عما حدث لها اليوم فلم تتح الفرصة لها كي تتصل بها.
حسمت أمرها بإجراء اتصال بشقيقتها ولكنها وجدت الباب يدق دقات خفيفة فالتفتت إليه بأنظارها ثم قالت متوجسةً:
-مين؟!
أتاها صوت إحدى العاملات بالمنزل تقول بصوت هاديء:
-الحاجة تماضر عايزاكِ في البرندا يا شروق هانم!

زوت ما بين عينيها في حيرة ما أن تلقت الأمر ثم أجابتها بصوت خفيض:
-حاضر، نازلة وراكِ.
غمغمت باستغراب قبل أن تتجه إلى المرآة وترمق هيئتها بنظرة سريعة راضية؛ تتميز "شروق" بالشعر المموج رغم نعومته وشدة لونه الأسود ولكنها ارتدت الحجاب مؤخرًا إرضاءً لزوجها الحبيب وطاعةً له حتى تحول الأمر من تصرف فُرض عليها إلى حب في كافة أوشحة رأسها الرقيقة.

تنهدت بعمقٍ تتهيأ نفسيًا لكافة ألوان الطاقة السلبية والكلمات القاسية التي سوف تلقاها بعد قليل، أدارت مقبض بابها على مضض ثم خرجت منه حيث تجلس الأخير التي ما أن وقفت "شروق" أمامها حتى أردفت بصوت جافٍ:
-النهاردة ميعاد راوية سلفتك عند الدكتور.

ابتسمت "شروق" مجاملة وهي تنظر إلى "راوية" التي تجلس بالتواء بجوار الأخيرة وتضع يدها خلف ظهرها مُتأوهةً بصوت خفيضٍ، ارتدت ببصرها نحو "تماضر" ثم قالت بصوت هاديء:
-ربنا يتمم لها على خير يا ماما ويقومها بالسلامة.
تماضر وهي ترمقها بحدة ثم تقول:
-أنا مبقولكيش الكلام دا علشان تدعي لها، أنا بقول لك علشان تروحي معاها للدكتور.
توتر هدوئها النفسي جراء كلمات الأخيرة التي تتعمد إيذائها بشتى الطُرق؛ فلِمَ عليها الذهاب في وجود زوج "راوية" وكثير من أهل البيت؟ هل لأجل معايرتها كما تقول عنها كُل يومٍ وتغتابها مع العاملين بالمنزل!
انقبض صدرها وسيطرت الغصة على حلقها فزادته مرارة، تنحنحت بهدوء ثم شرعت تقول في خفوت:
-بس أنا مستأذنتش عِمران!.
تماضر بلهجة صارمة:
-بس كبيرة البيت ادتك الإذن!!
شروق مُتشبثةً برأيها:
-بردو لازم أقول له، هطلع ألبس وأنزل على طول.

تحركت من أمامهما على الفور بوجه عابس في حزن، نعم تتمنى للجميع كُل الخير ولكنها لا تتلقى منهم مثقال ذرة من خير؛ فراوية وتماضر لا تختلفان كثيرًا عن بعضهما وهدفهما الوحيد والأوحد هو إذلالها وبث شعور العجز داخلها بكونها لا تقوى على حَمل لقب [أُم].
••••••••••••••••••• 
توسط ساحة المعركة الرياضية التي تُمثل له واجب يومي لا ينقضي يومه إلا بسرقة ساعة على الأقل لتفريغ طاقته السلبية كما أنه مُحب لرياضة كُرة السلة وقد لعب في دوريات محلية وحاز على العديد من الجوائز قبل إصابته، ثبت الكُرة بين كفيه ثم نظر إلى صديقه بتحدٍ وراح يسير بمقعده مُستخدمًا أحد ذراعيه في تحريكه إلى أن وصل أمام الشبكة وبدأ يرمي الكُرة بكُل ما أوتي من قوة حتى أصابت الهدف بجدارة، التفت إلى صديقه ثم قال بزهوٍ مازحٍ:
-كالعادة، مفيش مُقارنة لا في الأداء ولا في النتيجة.

افتر ثغر "حسان" عن اِبتسامة خفيفة ثم مشى صوبه قائلًا باستسلام:
-للأسف دي الحقيقة، بس هييجي يوم وهحطم كُل الأرقام والصورة هتتقلب.
انفرجت شفتيه وهو يقول بسخرية:
-موت يا حمار، بقالك سنتين بتقول نفس البؤين دول ومش بشوف منك غير كلام بس.

ابتسم "حسان" بخفة ثم وضع قبضتيه على ظهر الكرسي وراح يدفعه أمامه وهو يقول بنبرة فضولية:
-بتكلم عِمران وشروق ولا زيّ عمي عثمان!!!.

عبس وجه "عُمر" بضيق تبين في قسمات وجهه، لم يرد على السؤال بل أطرق في سكون إلى أن تحدث "حسان" من جديد مستنتجًا رده:
-طبعًا لا، مبتسألش على أختك ولا صاحبك!!
أضاف "عُمر" بمشاعر مُخزية:
-أختي اختارت تبعد عني عايزني إزاي أسأل عنها وهي اللي بايعة؟؟.
حسان يصيح مُستنكرًا:
-يا بني دي أُختك يعني لحمك ودمك وعِمران صاحب عُمرك، ولا نسيت السنين اللي قضيناها مع بعض إحنا التلاتة، دا مكنش في حد يقدر يوقع بينا أو يصدق إننا في يوم هننسى صداقتنا ببعض.
تنهد "عُمر" بضيق شديدٍ ثم أجابه:
-صداقتنا كانت قبل ما يبعد أختي عني.
حسان يرد مصدومًا من تفكيره ووجهة نظره الغير مُبررة:
-دا على أساس إنك مكنتش تعرف بحبهم من أول يوم، هو مخباش عنك حاجة وكان دُغري من أول دقيقة وإنتَ كُنت مرحب بالموضوع، رأيك اتغير 180 درجة علشان اختارت تعيش معاه بعيد عنكم ويستقلوا بحياتهم!!.

عُمر يصيح مُحتجًا:
-إنتَ عارف كويس أخواتي بالنسبة لي أيه، بعدهم عني بيحسسني إن ضهري متعري خاصةً بعد الحادثة، دا هم رجليا الاتنين يا حسان.
حسان وهو يومىء مُتفهمًا ثم يقول بصوت هادئ:
-عِمران مش بس صاحبنا دا أخونا وعشرة سنين، لازم تتصافوا ونرجع زيّ الأول ومتكسرش بخاطر أختك، هي أكيد مستنية مكالمة منك من شهور!!!.

نكس "عُمر" ذقنه بخزي كبيرٍ مُعترفًا داخل خبايا نفسه أنه قد أخطأ في معاداة صديقه وبقاء الود بينه وبين شقيقته، تنهد بهم ثم قال بصوت خافت:
-ماشي.
ابتسم "حسان" بانتصار ثم توجه بأسئلته في اتجاه آخر:
-المهم، عامل أيه مع رويدا؟
مط شفتيه ثم قال بصوت فاتر:
-مفيش جديد، بنحاول أيامنا كُلها متكونش شبه بعض.
حسان بنبرة ذات مغزى يُصرح:
-بس إنتَ اللي في إيدك تحارب الروتين دا؟؟؟
قطب "عُمر" ما بين عينيه مُستفسرًا في فضول:
-إزاي؟!
توقف "حسان" عن دفع الكرسي ثم استدار لمواجهته وبصوت نصوح أكمل:
-عدا سنة يا عُمر، لازم تتقابلوا، من حقها تعرف حقيقتك بدري علشان تقرر موقعها هيكون فين في حياتك!!

•••••••••••••
قاربت على الوصول إلى المزرعة وهي تحمد الله أن سيارتها المتواضعة لم تقل بأصلها معها وأدت وظيفتها للنهاية ولم تتعطل كعادتها في منتصف الطريق؛ ربما لأنها شعرت بوضع صديقتها الطارئ فيجب عليها الوصول إلى المزرعة في غضون الربع ساعة لإنجاز ولادة مُستعجلة ومُتعسرة لواحدة من الماعز بالمزرعة، وصلت السيارة إلى أول الشارع الطويل الذي يفضي في نهايته إلى المزرعة ثم توقفت راضخةً للزحام المروري في الشارع، تأففت بضيق وحاولت أن تتصرف بحركة بديهية فقررت أن تعود بالسيارة للوراء ثم تنحدر يمينًا وتسلك طريقًا فرعيًا يكون أقل زحامًا من هذا، ضغطت على دواسة البنزين لتتحرك السيارة خطوة أكبر من التي أرادتها فتصطدم بسيارة أخرى.

ضمت شفتيها بذهول كبيرٍ وعينين جاحظتين ولحظات وسمعت صوت صاحب السيارة الثائر في غضب لتتوقع مجيء شرطي المرور إليها في الحال، دق بأصابعه على زجاج السيارة، فابتلعت ريقها على مهل ثم استجابت بفتح النافذة فوجدته يقول بلهجة حادة وعلى صفحة وجهه ملامح مُكفهرة:
-بطاقتك يا آنسة.
تكلمت بحذر تقول:
-صدقني مكنش قصدي أخبطه.
الشرطي بنبرة حانقة يهدر فيها:
-أمال تسمي اللي حصل دا أيه؟.
حاولت الدفاع عن نفسها فقالت بصوت مبحوحٍ:
-هو اللي زنق عليا.
رفع الشرطي أحد حاجبيه ثم تابع بصوت ساخر:
-وكمان مش لابسة كمامة!!.

أغمضت عينيها تخمن كم المحاضر التي ستدون ضدها فقالت بأسف ويأس:
-طاغت مني.
الشرطي يكشر من صعوبة تحصيله على جملتها المُبهمة:
-نعم!!!
أدخل يده في جيبه ثم أخرج ورقة وقلم وعاد ينظر إليها من جديد.
-اسمك أيه يا آنسة؟!
سألها بلهجة حادة، فتوترت وهي ترد مُتلعثمةً:
-مهغة.
زم شفتيه مُستنكرًا ثم صاح:
-اسمك مُهجة؟؟.
أومأت برأسها تنفي إجابته ثم ضمت أصابعها تحثه على استيعاب حروف اسمها الذي سبب لها أزمة عصيبة من يوم ولادتها:
-لأ، مُهغة! بالغاء!!!
تأفف الشرطي بانفعال ثم كز على أسنانه قائلًا بحنق:
-يا ستي إنتِ اسمك أيه دلوقتي، متعصبيناش بقى!!!

تنهدت بفقدان أمل حول إدراكه للاسم فقالت بتذمرٍ:
-حضغتك، أنا اسمي مهغة... مهغة.. الاسم دا مسبب لي أزمة طول حياتي.. أنا بنهاغ منه!!!.
ارتخت شفته السُفلى قاطبًا ما بين حاجبيه ثم استوعب أخيرًا ما تود قوله فتابع بتوجس:
-حضغتك!!! وكمان بتنهاغي!!
سكت لبُرهة يعاصر الصدمة ثم هتف بابتسامة خفيفة:
-إنتِ اسمك مُهرة!!!!!
تنفست الصعداء ثم أومأت تؤكد تخمينه:
-الحمد والشكغ لله، أيوة اسمي.... اسمي اللي إنتَ قولته دا بالظبط.
وفي غضون ذلك، رأت "تليد" يهتف آتيًا من بعيد متوجهًا صوبهما ومعه صديقه:
-خير يا حضرة الظابط؟؟؟
رمقهُ الشرطي بنظرة عابرة وقبل أن يلتفت لها مرة أخرى رجع ينظر إليه في ذهولٍ كبيرٍ ثم يقول بلهجة مُنشرحة:
-أيه دا؟؟ الشيخ تليد!!.
بادلهُ "تليد" ابتسامة خفيفة ثم قال مؤكدًا ظنونه:
-أيوة، أنا الشيخ تليد وآنسة مُهرة شغالة في المزرعة عندنا.

أومأ الشرطي بتفهم ثم أكمل:
-لا يبقى عفونا عنها ولو إنها غلطت غلط كبير، خبطت العربية اللي وراها وكمان مش لابسة كمامة.
مُهرة ترمقهُ بجانب عينيها ثم تكرر مُبررها بحذر:
-ما قولت لك طاغت مني.
تليد وهو يومىء برأسه عدة إيماءات خفيفة ثم يتابع:
-بعتذر لك بالنيابة عنها.
التوى شدقها بغيظ فقالت بصوت مُنفعل:
-بحاول أشغحلك من بدري إني دكتوغة بيطغية في مزاغع الشيخ بس إنت مش مديني فغصة.

تدخل "نوح" في الحديث قائلًا بصوت هاديء رغم ما يتوارى خلف طياته من هزل:
-آسفين يا فندم، زيّ ما قالت لك بالظبط إن الكمامة طاغت منها وإنها دكتوغة بلطجية قصدي بيطغية وعفا الله عما سلف.

ابتسم الشرطي بتوترٍ ثم قال وهو يتودد إلى "تليد":
-إحنا بقى نتصور صورة مع بعض.
تنحنح "تليد" بخشونة ثم وقف بجواره ليلتقط الأخير صورة سريعة ثم يترجل كُلًا منهما إلى سيارته، رمقتهُ "مُهرة" بنظرة حانقة وهي تنطلق بسيارتها حتى وصلت إلى بوابة المزرعة ففُتحت من قبل بوابها في الحال لتدخل السيارتان وراء بعضهما، ركنت "مُهرة" السيارة على جنب ثم ترجلت منها وهي تهرول إلى الغرفة المُخصصة للطوارئ في المزرعة فيما اتجه الشابان إلى المجلس الذي يجلس فيه "سليمان" الذي ما أن رأى ابنه حتى باعد بين ذراعيه ليرتمي الأخير بينهما قائلًا بصوت مشتاق:
-حبيبي يا شيخ، دي الدقايق اللي إنتَ مش فيها ملهاش طعم.
ربت "سليمان" على ظهره ثم قال بحبورٍ:
-ربنا يحلي أيامك وينور دروبك يا بني.
-وأنا يا عمي؟!
افتر ثغر "نوح" عن اِبتسامة عريضة ثم اتجه صوبهما وراح يزيح "تليد" قائلًا بغيظ:
-ما كفاية يا عم الحلو، هو أنا مليش نفس أحضن أنا كمان.

ضحك الشيخ بسعادة غامرة وهو يسحب "نوح" إلى جنباته ثم يضمهما سوية، في هذه اللحظة جاءت "رابعة" تلك السيدة الأربعينية ذي الوجه البشوش تقول بنبرة منشرحة:
-نورتوا المزرعة كلها يا شباب.
التفت الجميع لها فشكرها "تليد" بصوت هادئ:
-تسلمي يا خالة.
نوح وهو يغمز لها بمرحه وشقاوته المُعتادة:
-حبيبتي يا خالة رابعة يا عسل يا أُم الدكتوغة.

ضحك "سليمان" ضحكة مُتحشرجة اختلط بها سعال خفيف وهو ينهره بصوت لين:
-تأدب يا ولد.
رابعة بضحكة لطيفة تقول:
-ماشي يا دكتور نوح ولا إنتَ علشان تخصص بني آدمين بتستعلى على بنتي؟؟؟.
نوح بمزاح لطيف يُجيبها:
-بالعكس، دي روح المُنافسة بين الأطباء، مُنافسة طيبة.

مشت "رابعة" خطوتين ثم جلست بحوار الموقد الحجري وراحت تقول بحماس يظهر حينما يجتمعون كلهم في جلسة روحية كهذه فأردفت بثبات:
-عقبال مُهرة ما تخلص عملية الولادة اللي معاها أكون أنا عملت لكم سندوتشات زبدة بالعسل وشوية شاي على الكانون.

نوح يصيح بصوت سعيد مُمتن:
-والله إنتِ اللي زبدة على عسل يا خالة.

ضحك الكُل في لحظة دفء تحوم حولهم، صدح هاتف "تليد" فقرر أن يتمشى قليلًا كي يتمكن من الرد بأريحية مُبتعدًا عن مزاح صديقه خاصة أن المكالمة واردة من داخل شركة (حمدي زهران) للصناعات الغذائية.

ابتعد "تليد" فيما تنحنح "نوح" بمراوغة ثم قال بحسم:
-هروح الحمام صد رد كدا وأرجع.

سار مُبتعدًا في مكر وحماس كبيرين حتى تسلل إلى الحديقة الخلفية التي يقبع فيها المشتل الخاص بالنباتات والفواكه؛ فالمزرعة تنقسم إلى جزأين؛ مشتل الخضروات والفواكه ومزرعة المواشي، تسحب على أطراف أصابعه حتى وصل إلى النافذة التي تطل على الغُرفة المُخصصة لعلاج مرضاها من الأبقار والماعز، كانت مُكدسةً بمجموعة من العمال بينما تقف هي في المنتصف وفي يدها مِعزى كبيرة حان موعد ولادتها، بدأت "مُهرة" تسحب الصغير من رحم والدته ببُطء وحذر والعرق يتصبب على جبينها من القلق والحيطة وبعد لحظات عصيبة قاسية تمكنت من استخراج الصغير سالمًا وفرح العاملون بالنتيجة ثم شكروها وأخذوا المعزى وصغيرها وغادروا الغرفة، أخذت شهيقًا سريعًا ثم جففت العرق بطرف سترتها قائلاً بخفوت:
-الحمد لله، دقايق صعبة وعدت.
ألقت بجسدها على كرسيها ثم تنهدت براحة قبل أن تنتفض على صوت رجولي يقول بهزل وسخرية:
-لأ شاطرة.
حدقت بتوجس قبل أن تلتفت صوب النافذة ثم تقول بغيظ:
-بتعمل أيه هنا؟؟؟
اِبتسم بثبات ثم رد:
-كُنت بتفرج على دكتوغتنا الشاطرة، وبالمرة أبلغك بخبر حلو أوي.
رفعت أحد حاجبيها ثم سألته بصوت هاديء:
-خبغ أيه؟؟؟؟
تكلم هو بنبرة ذات مغزى:
-تخيلي جبت عربية نوعها أيه؟!.
مطت شفتيها بجهلٍ ثم قالت:
-نوعها أيه؟؟؟؟
تصنع فقدانه الذاكرة حول اسم السيارة فقال بنبرة سادرة:
-اممم، تصدقي نسيت، هي حاجة بحرف الفاء!
رأرأت بعينيها في تخمين ثم قالت:
-فيات!!
أومأ سلبًا فحاولت التخمين مرة أخرى وهي تقول بفضول:
-فغاغي!!!!
انتظر أن تقولها فانفلتت ضحكة صارخة من بين شفتيه ما أن خرجت الحروف من بين شفتيها، فهو لم يأتِ بسيارة جديدة ولم يكن ينسى اسم هذه الماركة ولكنه يحب جمًا أن تنطق كُل الكلمات التي تحتوي على حرف الراء كي يتنمر على حديثها باستمتاع شديدٍ.

كزت على أسنانها بغيظٍ شديدٍ، نزعت سُترة العمل عن جسدها باندفاع ثم خرجت بسرعة جارفة من الغرفة وتوجهت إلى مجلس الشيخ "سليمان" وتبعها هو، وقفت أمام "سليمان" ثم عقدت ذراعيها أمام صدرها وبصوت حانق مُستنكر سألت:
-يا شيخ سليمان، قولي أيه هي عقوبة التنمغ على خلق الله؟!

أومأ "سليمان" باستسلام من اعتقاده بأن نوح كبر وصار رجلًا وقد عقل!!، ابتسم بهدوء رغمًا عنه ثم تابع:
-يابني مالك ومالها بس!!!.
نوح يتصنع الوداعة والبراءة:
-صدقني يا حاج معملتلهاش حاجة، هي اللي أغشة ملحتي.
أشارت "مُهرة" صوبه باستخدام سبابتها ثم قالت بانفعال خفيف:
-شوفت!
التحق "تليد" بهم فورًا بعد أن أنهى حديثه عبر الهاتف فوجد صديقه يجلس بجوار "سليمان" بينما تقف "مُهرة" أمامهما بأسلوب ساخط ومُحتج فتأكد أن صديقه بالتأكيد أثار حنقها واستحق ما سوف تفعله به.
انفرجت شفتي "نوح" بضحكة عريضة قبل أن يقول مُستسلمًا:
-خلاص يا شيخ، أوعدك إني مش هتنمغ عليها تاني بس بشرط!!!.
صاحت بانفعال تقول:
-إنتَ هتتشــ… .
صمتت عن استكمال جملتها عندما وجدت أنها سوف تُضيف كلمة جديدة له في قاموس تنمره عليها، فيما تابع "نوح" بصوت حاد ثابت:
-تقول "مصاحبش الفرافير حتى لو راكبين فراري!".

كانت "رابعة" أول من خرجت ضحكتها في الجلسة، فهي تُحب "نوح" جمًا لشدة تعلقه بصديقه وتعلق صديقه به ولا تشعر بالضيق من مزاحة اللطيف مع ابنتها؛ لأنها تعلم صفاء نيته وسجيته الطيبة بجوار رجولته الشرسة التي عاصرتها في أكثر من موقف حينما تعرض لها مجموعة من الرجال أثناء جلوسها بالمزرعة مبعوثين من قبل "عثمان السروجي" لبث الفوضى في المكان وجعله غير صالحٍ لكسب الرزق للعمال فيتركوا الشيخ سليمان ويطلبوا دعمه وتشغيله لهم فوقفت "رابعة" كالسد المنيع في وجههم ومعها صغيريها اللذين لم تنجبهما؛ تليد ونوح.
تدخل "سليمان" قائلًا بنبرة سلسة:
-أما إنك ولد غير مؤدب صحيح.
مُهرة وهي ترمقه بنظرة عدائية مُتحدية:
-أصلًا مش هيحصل.
نوح وهو يمط شفتيه غير مُباليًا:
-خلاص براحتك.

تنهد "تليد" بأريحية كبيرة لا يجدها إلا وسط هذا التجمع المُريح، أسرع بالتقاط كف والده ثم قال بثبات:
-شركة حمدي لسه مكلميني دلوقتي!.
رمقهُ "سليمان" بدفء ثم تابع مُدركًا للسبب:
-بيكلموك بخصوص الشراكة تاني!!.
أومأ "تليد" إيجابًا فقال "سليمان" بصوت هادئ:
-يا بني حمدي راجل مُحترم وكُل إصداراتنا بتروح لهم والشراكة بينا مش هتكون بنسبة كبيرة أعتقد 20% علشان بس كُل واحد فينا يضمن ولاء الطرف التاني.

أغمض "تليد" عينيه محتارًا قبل أن يتابع:
-بس أنا شغلي واخد كُل وقتي وشراكة يعني دوشة ومشاكل في الشركة وحوار.
سليمان وهو يربت على كفه بمؤازرة لكُل رأي يصطف في صالحه:
-خلاص أطلب إنك تتولى وظيفة بسيطة في الشركة ووقتها مش هتحتاج تبقى موجود هناك كتير.
التفت "تليد" إلى صديقه ثم سأل في حيرة:
-وأيه الدور اللي مش هيحتاج مني تواجد كتير في الشركة؟؟؟
رأرأ "نوح" بعينيه للحظات ثم لمعت في عقله فكرة فقالها بحماس:
-تكون رئيس قسم الـ HR ودورك فيه يكون اختيار الموظفين الجُدد بقسم الدعايا والإعلان ودي دورية بتحصل كُل سنة.

مُهرة تؤيده بدعم:
-صح جدًا وكونك غئيس يعني مش هتشغل بالك بكُل اللي هيقدموا، إنت بس هتعمل مقابلة للعدد اللي هيتصاعد للمقابلة الأخيرة.
رفع "نوح" أحد حاجبيه ثم قال بصوت مراوغ:
-متسرقيش أفكاري يا سيادة الدكتوغة!
مُهرة ترد عليه وهي تنظر بشموخ:
-دكتوغة بيطغية من فضلك.
نوح يتحداها بشموخ مثيل:
-لو إنتِ دكتوغة بيطغية فأنا دكتوغ بشغي يا دولة!!!!!

ضحك "تليد" بتسلية من جنونهما؛ ولكنه بقى محتارًا فحك جبهته بتردد واضحٍ أمام الجميع ولكنه في النهاية استسلم للأمر الواقع فقال بهدوء:
-تمام.
••••••••••••••
-مكنش ينفع يا بنتي.. مكنش ينفع اللي إنتِ عملتيه دا!.
أردف "علام" بصوت مبحوحٍ من فرط الحُزن، تنشقت "وَميض" نفسًا طويلًا ثم ردت بصوت حانق:
-لأ ينفع يا بابا ولو رجع بيا الزمن هعمل كدا تاني وتالت، اللي مش فاهماه إزاي عثمان بيه يعرف الراجل دا؟؟ طيب هو عارف إنه بيهرب حبوب مُخدرة في علب أدوية!!!

استدار "علام" صوبها بعد أن كان مُعربًا عن رفضه النظر إليها لمَّا تعرض له من موقف مُحرج كانت هي السبب فيه؛ ولكنه حدق فيها قائلًا في صدمة:
-حبوب مُخدرة!!!
أومأت "وَميض" إيجابًا ثم أردفت بتشتت:
-مش فاهمة إزاي عثمان بيه عارف كدا وساكت؟!.

علام وهو يتوسم فيه جهله بالأمر فيقول بنبرة يُحسن فيها الظن بالأخير:
-مش يمكن ميعرفش السبب اللي خلاكِ تكتبي كدا في الجورنال!!!
وَميض وهي ترد بضيق شديدٍ:
-سواء يعرف أو ما يعرفش يا بابا فأنا خلاص تعبت من أسلوب التجبي اللي بيتعاملوا بيه معانا ومع أول غلطة يفكرونا بخيرهم اللي مغرقنا، أنا قررت أسيب الشركة!.

لطمت "سُهير" على صدرها ثم أردفت باستهجان لهذه الفكرة السيئة:
-تسيبي الشركة اللي بيطلع لك منها مُرتب حلو!!!
وَميض وهي ترد بتحدٍ وثقة:
-هدور على شغل في شركة تانية ومعايا خبرة أحطها في عين التخين!!!!!
يتبع

 •تابع الفصل التالي "رواية رحماء بينهم" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent